بقلم: د. سوسان جرجس
“حجر الصبر” رواية جريئة، تكسر التابو الأكثر حظرًا في مجتمعاتنا الشرقية، رواية تنسج لوحة الجسد الأنثوي المقموع في مجتمع بطريركي مغلق؛ جسدٌ أنثويّ تنتهك حرمته حرب مقدّسة يصنعها المؤمنون دفاعًا عن إلههم المزعوم…
“حجر الصبر” رواية ممتعة، فيها يتجاوز الروائي الأفغاني عتيق رحيمي الخط الاجتماعي الأحمر ليحكي بلغة الناس وتعابيرهم الأكثر خدشًا للحياء، قصة الجسد الأنثوي المملوك من قبل الرجل.
معاش الجسد الأنثوي ومنظومة القيم البطريركية
منذ الصفحات الأولى يتبيّن لنا أنّه في مثل هذه المجتمعات البطريركية المغلقة وفي حال الزيجات التي ينعدم فيها مفهوم الشراكة، تعاني المرأة غالبًا حرمانًا جنسيًا بالمعنى الأشمل للكلمة، فما نقصده بالحرمان هنا ليس حرمان العلاقة الجنسية بل الوصول إلى الرعشة.
ففي الصفحة 12 وخلال عناية المرأة بزوجها المصاب برصاصة في عنقه، الفاقد تماما للإحساس نقرأ “ارتفعت يدها عن صدر الرجل لترقى إلى عنقه، غاصت أصابعها أولا في شعر لحيته الكثة، حيث بقيت مدة نفس أو اثنين، ثم ظهرت لتمتد إلى الشفتين، وتلامس الأنف، والعينين، والجبهة ولتندسّ أخيرا في شعر رأسه الكثيف المتسخ…”، وفي الصفحة 58 نقرأ (عشر سنوات قد مضت على زواجنا، غير أني لم أشاركك في شيء إلا أخيرا… تلامس يدها شعر الرجل…لم أقبّلك من قبل قط… تقبّلُه).
وضمن الخط التصاعدي للرواية نقرأ قُبيل النهاية مقطعًا شديد الجرأة يبيّن وصول المرأة للذة الجنسية مع زوجها المصاب بفعل الإحساس الأنثويّ الحاضر بقوة وبفعل الفاعلية الجنسية الأنثوية عوضًا عن الإيلاج الذكوري الذي لا يمنح المرأة حقها من المتعة ما دامت منفية من الفعل، مُلقاةً في إطار المفعول به، وهكذا نقرأ في الصفحة 103 “تدسّ يدها بين ساقَي الرجل… وتختفي يدها الأخرى بين فخذيها هي” الى آخر المقطع “وتغدو أنفاسها متقطعة، فلاهثة، فقصيرة، فصافرة…. صرخة، تأوهات“.
إن وجود المرأة وكينونتها في المجتمع البطريركي، التقليدي، المغلق ضمن الرواية هي- وعلى حدّ قول سيمون دي بوفوار- رهنٌ بدخولها مؤسسة الزواج حيث يتمّ التعامل معها باعتبارها بضاعة تستملك، لا شريك ضمن عقد ثنائي الطرف، فها نحن نقرأ في الصفحة 48 “أمك، بصدرها الضخم، جاءت إلى بيتنا لتطلب يد أختي الأصغر مني سنّاً، ولم يكن هذا دورها للزواج، كان دوري أنا، وقد أجابت أمك ببساطة: طيب هذا ليس مهما، لتكن هذه إذاً…. وصوّبت سبابتها نحوي”.
إنّ حياة المرأة/ البطلة سواء في أسرتها الأبوية أو الزواجية تجعلها دائمة التعرّض للصدمات على الصعيد الجسدي عامة والجنسي خاصة، مما يجذر في شخصيتها الخوف ويجعلها دائمة التهيؤ لابتكار آليات الدفاع عن كينونتها ووجودها.
لقد عاشت البطلة في أسرة أبوية مفككة، فقيرة، “جاهلة”، معنّفة ذكورياً، فها نحن نقرأ في الصفحة 52 (كان أبي يعود إلى المنزل مجنونا ثائراً ويبحث عن أيّ ذريعة ليضربنا، كان يضرب أمي أيضاً)، ولم تكن تحظى بأيّ نوع من أنواع التربية الجنسية ما أثّر سلباً في حياتها الزوجية عامة والجنسية خاصة، فعن ليلة زفافها تقول في الصفحة 29 (تلك الليلة، كنت في الحيض… لم أقل لك شيئاً، وأنت ظننت أنّ الدم كان دليلا على بكارتي)، ثم تتابع في الصفحة نفسها (ما كان ينبغي أن يأتيني الحيض، لم يكن في ميعاده، لكن حصل ذلك قبل أوانه بأسبوع، ومرده حكما إلى الشعور بالجزع والخوف من لقائك”.
وفي الصفحة 51 تتحدث البطلة عن طفولتها المضطربة، وخاصة والدها الذي لا يملك أدنى عاطفة أبوية فتقول “كنت أراه يقبّل تلك السماناة، لكن لم أره مرة وهو يقبّل أمي”.
إنّها تنشئة اجتماعية تترك الفتاة عرضة للصدمة والخوف والسكوت والخضوع ما ينجم عنه أمراضًا نفسيةً كثيرةً، من أبرزها البرود الجنسي، الكبت، الشذوذ، وغيره.
تُبرز الرواية نظرة المجتمع الذكوري للمرأة كجسد، كموضوع لا كذات إنسانية، حيث يتمّ التعامل معها على أساس وظائفها البيولوجية المتمثلة بالتمتيع الجنسي للرجل والإنجاب مع التأكيد على أهمية العذرية البيولوجية باعتبارها قيمة ورمزا للشرف الذكوري.
فعن أهمية البكارة في ليلة الزفاف يرد على لسان البطلة في الصفحة 30 “ولقد تساءلت عمّا كان ليحدث لو لم أنزف دمًا ذلك المساء… لكان ذلك كارثة حقاً”.
أما فيما خصّ المتعة الجنسية مع الزوج فإنّ البطلة لم تعرفها مطلقًا، اللذة الجنسية حق أطّره الرجل لنفسه، لدرجة أنّ المرأة نفسها أصبحت تعتبر هذا التفاوت أمرًا طبيعيًا مردّه إلى الاختلاف في التركيبة البيولوجية لكل من الجنسين، ففي الصفحة 88 جاء على لسان البطلة “حتى عندما كنت أراك أنتَ الوحيد الذي يلتذّ لم يكن ذلك يغيظني، بالعكس كان يسرّني، وكنت أقول إنّ هذه هي طبيعتنا، وإنّ هذا هو الفارق بيننا، أنتم الرجال تلتذون ونحن النساء نسرّ بتلذذكم”.
إذا كانت التمتيع الجنسي هو ما ينتظره الرجل من المرأة إلا أنّ وجودها ومكانتها كزوجة وحيازتها للسلطة لا يمكن أن تتحقق إلا بترميز الجسد الأنثوي بالأمومة، وإذا كانت الخصوبة مفهومًا محايدًا جندريًا، فإنّ العقم مفهوم لصيق بالجسد الأنثوي مع كل ما يترتب عليه من نتائج اجتماعية في المعاش اليومي للمرأة، فعن عمتها تحكي البطلة في الصفحة 72 قائلة “مضى عامان على زواجهما ولم تنجب له ولدًا… كانت عمتي عاقراً… لا تصلح لشيء، عندئذ أرسلها زوجها إلى الريف عند ذويه لتخدمهم”.
وإذا كان على العمة أن تغيب كإنسان نتيجة غياب وظيفتها الإنجابية، فإنّ المأساة تتجلى بشكل أكبر في حياة البطلة التي تجد نفسها مضطرة لخيانة ذاتها وجسدها وزوجها العقيم حتى تضمن عدم تطليقه لها، فنقرأ في الصفحة 107- 108 (هاتان البنتان ليستا ابنتيك… لأنك أنت من كنت عاقراً… كان الجميع يعتقد أنني أنا العاقر، وكانت أمك تريد منك أن تتخذ زوجة أخرى، وماذا يكون مصيري أنا؟؟).. عقب هذا التساؤل وهذا القلق توضح البطلة طبيعة الحل الذي توصّلت له (إعلم أنّ هذا الحكيم لم يكن سوى قواد عمتي، زاوجني مع شخص عصبوا عينيه، وكانوا يغلقون علينا في الظلام الدامس، لم يكن مسموحا له بأن يكلمني أو يلمسني.. من جهة ثانية، لم نكن عاريين أبداً، كنا ننزل سراويلنا فقط…).
وهنا لا بدّ من التوقف عند تفاصيل هذه العلاقة الجنسية ومدلولاتها، فعوضًا عن استخدام كلمة “تزوجني” فلان أو “ضاجعني” تم استخدام فعل “زاوج” (زواجني فلان مع فلان)، وهو ما يستعمل عادة للكلام عن تزاوج النباتات أو الحيوانات، وهذا ما يجعل الأشخاص مغيّبين ضمن العلاقة الجنسية. وإذا تتّبعنا تفاصيل تلك العلاقة سنراها تحصل في الظلام الدامس، الرجل معصوب العينين، غير مسموح له بأن يكلّم البطلة أو يلمسها، حتى إن كلاً منهما لم يكن عاريًا أبدًا، إنما كانا ينزلان سراويلهما من أجل إنهاء فعل التزاوج بنيّة الحمل والإنجاب (حتى لا يطلقها زوجها، ص 30).
صورة المرأة: تمثلاتها ورموزها
يكشف النص أن نظرة المجتمع للمرأة هي باعتبارها جسدًا يتملّكه الرجل ويكون له وحده حق كشفه وحجبه، ففي إطار علاقة البطلة بزوجها نقرأ في الصفحة 93 (لكي تطلب مني أن أتغطى كنت تصرخ: استري لحمك… في الواقع لم أكن سوى قطعة من اللحم).
إنّ جسد المرأة على حدّ تعبير “لحسن حداد” (Lahcen Haddad) هو وعاء للرموز؛ إنّها رمز الصبر والتضحية، هي من تتنكر لذاتها فداءً للآخرين، لقد كشف النص مرات كثيرة عن صبر البطلة وتضحياتها، خاصة تجاه ابنتيها وزوجها الذي كانت تأمل أن يستفيق من غيبوبته ويعود الى الحياة. فضلًا عن ذلك فالمرأة هي الصورة الأكثر تمثيلًا للعناية والاهتمام بالآخرين، فنقرأ مثلاً في الصفحة 17 (بحركة سريعة وماهرة نزعت المسبار من ذراعه، وسحبت إبرة الحقن، ثم نظفت الأنبوبة وأدخلتها في الفم الفاغر، ودفعتها حتى بلغت القناة الهضمية بعدها سكبت محتوى الكأس في كيس الحقن، وضبطت تعاقب القطرات، وتحققت من المدة الفاصلة في ما بينها، لكل نفس قطرة).
يكشف النص عن تمثّل المجتمع للمرأة باعتبارها كائنًا ضعيفًا، ناقصًا دون رجل، حتى أضحت المرأة نفسها مقتنعة بهذا التصوّر الذي بات جزءًا لا يتجزأ من “هابيتوسها” الجسدي والفكري، فنقرأ مثلاً في الصفحة 56 (فعلت كل شيء من أجل أن لا تتخلى عني، من دونك، ما كان ليبقى لي أحد، ولغدوت منبوذة من الجميع).
إن التمثل أعلاه هو ما يهيّئ لتمثل آخر يتجلّى في الصورة النمطية للمرأة باعتبارها رمزًا الدهاء والمكر، وإن كان ذلك آلية سلطوية أنثوية لمواجهة السلطة الذكورية المحمّلة بدلالات العنف، بمعنى آخر فدهاء البطلة نوع من الذكاء أو الكذب الإيجابي للخلاص من قمع وعنف السلطة الذكورية، ففي الصفحات 68- 70 تمثّل دهاؤها أمام المسلحين الذين دخلوا منزلها بأن ادّعت أنها تكسب قوتها من بيع لحمها (أي أنّها بغي)، وذلك كي لا يغتصبها المسلحون، وذلك (بتحليلها) أنّ اغتصاب مومس من قبل هؤلاء الرجال لا يرضي غرورهم الفحولي لأنهم سيكونون في وضعية تبادل (اللذة مقابل المال)، حتى إنّ المومس هي من تسيطر في العلاقة الجنسية وتقودها وذلك بعكس انتهاك بكارة فتاة ورفع راية النصر فوق أرض ليست مشاعًا.
يتضح من خلال الرواية أنّ جسد المرأة، وبالتحديد عضوها التناسلي رمز الشرف (شرف رجال الجماعة)، وهذا ما نلاحظه في الصفحة 19 إذ نعرف أن إصابة الرجل هي بسبب شجار مع آخرٍ ينتمي الى معسكره كان قد شتمه عبر شتيمة العضو الجنسي لوالدته. من جهة أخرى يلمّح الكاتب بذكاء إلى تمثّل المجتمع (والمرأة ضمنًا) لجسد المرأة باعتباره نجسًا خاصة عندما يتخضّب بدمه اللاإرادي الذي ترى فيه الباحثة الأنتربولوجية “فرنسواز إيريتييه” (Françoise Héritier) سببًا لخوف الرجال على مرّ العصور، فها نحن نقرأ تصوّرات المرأة للحيض في الصفحة 29- 30، حين راحت تتذكر كيف سمحت لزوجها بمضاجعتها أثناء الحيض (وهو لم يكن يعلم) مستمتعة بشماتتها منه بأنها “نجّسته”.
السلطة الأنثوية والجنس
يحرص الكاتب بين الحين والآخر على تبيان مدى ما تمتلكه المرأة من سلطة خلال العلاقة الجنسية، وذلك لكشف خطأ الاعتقاد السائد من أن الرجل هو الفاعل ضمن هذه العلاقة، في حين أنّ المرأة مفعولٌ بها، إنّ المرأة تبعًا لما يسرده الكاتب أكثر إدراكًا للغة الجسد، وهي بالتالي الفاعل الحقيقي الذي يقود العملية الجنسية إلى النجاح ويضفي عليها مزيدًا من “الايروتيكية”، فإن تمّ مصادرة دورها خلال العلاقة الجنسية ستكون هذه الأخيرة عملية ميكانيكية (آداتية) لا تستمتع بها المرأة مطلقًا، وغالبًا لا يستمتع بها الرجل أيضًا، ففي صدد كلام البطلة عن علاقتها الجنسية مع زوجها نقرأ في الصفحة 87 ما يلي “كنت أعتقد أنه هكذا يجب أن يكون، كما كنت تفعل، أنت، لكن غالبًا ما كنت ألاحظ أنك لم تكن مسرورا… بعد سنة اكتشفت أنّ السبب يعود إليك، فأنت لا تعرف أن تعطي شيئاً”، ويتابع الكاتب سرده المشوّق ليصل إلى النقطة الأساسية التي تقلب الأدوار في العلاقة الجنسية حيث المرأة هي المعلم/ الفاعل الذي يدرك أسرار الجسد وما على الرجل في هذه الحالة سوى أن يسلّم نفسه وجسده لهذا المعلم كي يصل به نحو النجاح والمتعة فنقرأ في الصفحة 92 (هذا الصبي جعلني أفكر فيك أيضًا، يمكنني أن أؤكد مرة أخرى أنه أخرق مثلك، عدا أنه ما زال في بداياته، ويتعلم بسرعة! أما أنت فلم تتغير أبداً، يمكنني أن أقول له ماذا يفعل، وكيف يفعل… لو كنت قد طلبت منك كل هذا… يا إلهي! لهشّمت وجهي، ومع ذلك فهذه أشياء بديهية يكفي المرء أن يصغي إلى جسده).
“الجماعة الدينية” والجسد الأنثوي
إنّ التعامل مع الجسد الأنثوي في رواية “حجر الصبر” كان من قبل جماعة اتخذت من الدين غطاءً لشنّ حروبها (الداخلية والخارجية) بغية الاستئثار بالسلطة.
يكشف النص عن قراءة ذكورية انتقائية يقوم بها رجال الدين ازاء النصوص الدينية، ويهدف البعض منها إلى ترسيخ صورة نمطية للمرأة تتجلى في دونيتها ونجاسة جسدها، فها نحن نقرأ في الصفحة 15- 16 على لسان الملا (اليوم هو يوم دامٍ، لأنه في يوم ثلاثاء نزفت حواء دمًا نجسًا للمرة الأولى، فيه قتل أحد ابني آدم أخاه…).
في حين تهدف بعض خطبهم الانتقائية إلى تحريض الناس على القتال، وذلك خدمة لرجال الدين المتواطئين مع رجال السياسة، ففي خطبة للملا نقرأ في الصفحة 27 (أعزائي المؤمنين، كما كنت أقول لكم دائمًا، إن الأربعاء يوم، كما جاء في الحديث الشريف، لا تصح فيه الحجامة، ولا العطاء، ولا الأخذ، ولكن حديثًا رواه ابن يونس يقول فيه بجواز الجهاد فيه، واليوم يمدّكم أخوكم، القائد المحترم بالسلاح لكي تدافعوا عن شرفكم، وعن دمكم، وعن عشيرتكم).
يبيّن الكاتب أنّ تلك الجماعات التي تدّعي أن ما يجمعها هو رابطة الإخوّة الدينية ما هي إلا جماعات مسلحة مشوّهة لا ينتظم أعضاؤها في بنيان متراص متعاون ولا هي جماعات ملتزمة أخلاقيًا وسلوكيًا، بل تحكمها قيم هدّامة ناجمة عن الجهل والانغلاق الثقافي والفوضى الاجتماعية ورغبة الاستئثار بالسلطة [لا القيم الدينية البانية للفرد والمجتمع].
فها هي البطلة في صدد كلامها عن أولئك الإخوة (في الدين) تكشف لزوجها بعضاً من أسرار جسدها الذي طالما رغب أعضاء تلك الجماعات في انتهاكه، فتقول في الصفحة 46 “إخوتك لطالما رغبوا في مضاجعتي”. ولا يتوقف أمر هذه الجماعات في تعدّيها على النساء البالغات إنما يتجاوزون ذلك ليعتدوا على القصّر ويمارسون الشذوذ دون أن يتوانوا عن ادعاء الفضيلة والالتزام ففي الصفحة 97- 98 تستنكر البطلة غاضبةً شاتمةً المسلّح حينما عرفت أنه يحتفظ بالصبي من أجل ملذاته الخاصة التي يمارسها بسادية ووحشية. وفي الصفحات 36- 40 تذكر البطلة كيفية دخول المسلحين الى حيّهم حيث طردوا السيدة العجوز واقتحموا منزلهم عبر النافذة فداسوا بنعالهم الرجل المصاب الفاقد لوعيه كما سرقوا ساعته ومحبسه ثم راحوا يتندرون عن امرأة مفترضة لهذا المنزل وذلك من خلال تقاذفهم لرافعة النهدين التي وجدوها. ومن أجل إبراز التناقض والفوضى الفكرية والحياتية التي تعيشها هكذا جماعات نقرأ على سبيل المثال في صدد الكلام عن المسلحين أنفسهم في الصفحة 40 ما يلي “يلمح … القرآن على الأرض، ويسرع نحوه، فيرفعه ويسجد، مقبّلًا الكتاب فيما يردّد صلاة من خلف طرف عمامته”.
التداعيات النفسية لأسرار الجسد الأنثوي
إن أول ما يصف به الكاتب أفعال البطلة في الصفحة 2 هو التسبيح والصلاة وقراءة القرآن؛ إطارٌ عام يوحي بالإيمان، لكن شيئًا فشيئًا تتقدّم الرواية لنستمع الى شكوى البطلة ونشعر بتوترها حتى من التسبيح نفسه، كما نلاحظ في الصفحة 20- 21 أنها باتت تعاني اضطرابًا إيمانيًا وصل بها حدّ العتاب والتشكيك.
من جهة أخرى، نرى أنّ الرواية بكاملها ارتكزت على كشف أسرار الجسد، فعلى امتداد الصفحات قامت البطلة بكشف ذكريات طفولتها، حياتها العائلية، خطوبتها، زواجها وحملها… وما تركته فيها كل تلك التفاصيل المعاشة من آثار سلبية على الصعيد النفسي. لقد عاشت البطلة حياة أسرية عنيفة خالية من التربية الجنسية، بعدها تمت خطوبتها بغرابة تامة في غياب العريس، فضلًا عن أنّ الزواج أيضًا كان بغياب العريس وبحضور خنجره فقط: رمز العنف، ورمز العضو الذكوري المكلّف بتمزيق غشاء البكارة. عقب ذلك بقيت العروس بدون زوجها 3 سنوات، ممنوعة من الكلام مع صديقاتها خاصّة المتزوجات، تنام مع حماتها التي تسهر على عفتها، وهذا كلّه ولّد لديها كبتًا وخوفًا وعدم قدرة على المبادرة أو المواجهة، فكانت على سبيل المثال لا تصل إلى لذتها مع زوجها، بل بمداعبة نفسها كما تقول في الصفحة 88 “ذات ليلة، فاجأتني، كنتَ نائماً، وأنا أداعب نفسي مديرة ظهري لك. ربما استيقظتَ على لهاثي، فانتفضتَ وسألتني عما أفعل. كنت ملتهبة ومرتعشة….”.
لم تكن مشاكل البطلة النفسية متوقفة على علاقتها الجنسية بزوجها، إنما هي أكثر امتداداً من ذلك، هي أزمات نفسية بدأت منذ الطفولة وانتهت بنهاية البطلة. فعن طفولتها نلاحظ أنّ الشعور بالحرمان والظلم الشديد من قبل والدها ولّد لديها رغبة بالانتقام منه وقتله (وإن رمزيًا)، وهو ما لاحظناه في حديث البطلة عن سماناة أبيها التي أطلقتها من القفص كي يلتهمها الهر مدفوعة بالرغبة في الخلاص والانتقام.
كما أن العلاقة المأزومة التي عاشتها المرأة مع زوجها ساهمت في جعل حياتها مترعاً للأسرار، وقد عانت لاحقًا من التيه بين كبتها أو التخلص منها وهو ما ألقى بها في أتون الاضطرابات النفسية. ونلحظ ذلك عقب محاولتها للتخلص من زوجها بسحب أنبوبة الماء المحلى- المملح من فمه وتركه دون عناية خوفاً من نفسها ومنه في كشف عالم أسرارها وذلك في الصفحة 54. عقب ذلك تشعر براحة نفسية، ويؤرقها هذا الشعور الغريب في الصفحة 59 فتضطرب نفسيتها وتنعدم لديها القدرة على معرفة الذات، أهي مجنونة؟ مجرمة؟ أم ممسوسة؟….لكن الكاتب في الصفحة 60 يقرر أن يكون أكثر شفافية وصراحة مع القارئ فيوضح له وعلى لسان البطلة التي رأت والدها يقبّلها في المنام، أنّ ما شعرت به من راحة هو نتيجة تحررها من حكاية السماناة القديمة التي استطاعت ان تكشف سرها لزوجها المصاب والفاقد لوعيه. حتى إنها باتت ترى علة وجود زوجها على قيد الحياة هو الاستماع لها ولأسرارها.
حينما نصل الى منتصف الرواية نجد أنفسنا مرغمين على استرجاع العنوان: “حجر الصبر” الذي كان قد لفت نظرنا منذ البداية. وإذا كنا منذ الصفحات الأولى قد رأينا دلالات الصبر في عناية المرأة بزوجها المصاب برصاصة في عنقه، وعنايتها بابنتيها، وصبرها كما صبر العجوز وكل من في الرواية على آثار الحرب الهمجية، إلا أنّ ما لم نكن نفهمه هو مدلول الحجر ورمزيته.
لقد كان عتيق رحيمي روائيا ذكيا بأن ترك القارئ في غموض وحيرة لمعرفة سر هذا الحجر، وكانت اللحظة المناسبة لذلك هي في منتصف الرواية تماما، في اللحظة نفسها التي فهمت بها البطلة ماهية الحجر المقدّس/ حجر الصبر الذي كلّمها عنه والد زوجها. إنه حجر سحري على حدّ قولها “تضعه أمامك ….تشرع أمامه في الشكوى والنواح على كل مصائبك، كل عذاباتك، كل آلامك، كل بؤسك…. كل ما لا تجرؤ على البوح به للآخرين… وأنت تكلمه، وتكلمه، والحجر يصغي إليك، يمتص كل كلماتك، وأسرارك، إلى أن ينفجر ذات يوم، ويتفتت” (ص. 61- 62)…. لتكتشف البطلة في هذه اللحظة أن زوجها المصاب، الفاقد الوعي، الصامت صمت القبور هو حجر صبرها الذي لا بد أن يتفتت (فيُبعث) ليتقبّل عالم أسرارها مثلما تتقبّل هي جسده الغائب الحاضر.
الخاتمة
تبدأ الرواية حياة المرأة بالتضحية، وتنهيها بالتضحية، ففي حين كانت البطلة تكلّم زوجها في الصفحة 108 بـ “أنا أكشف معاناتك وصبرك. أنا صوتك! أنا نظرك! أنا يداك”، كان هو في الصفحة 109 قد انبعث بفعل إرادتها من تحت الرماد، لا ليصون عالم أسرارها كما تمنّت، بل لكي يقتلها دون احساس بالرأفة والشفقة لأنه عَلِم أسرارها الهادمة لهويته “الفحولية” والمؤكدة على عدم قدرته على تملّكها وتملّك جسدها.
كاتبة المقال: د. سوسان جرجس : كاتبة وباحثة في مجال الأنثروبولوجيا من لبنان. تركز اهتماماتها على الدراسات الجندرية.
تعليق المحرّر: تتكلم رواية حجر الصبر للروائي الفرنسي/الأفغاني عتيق رحيمي، عن معاناة المرأة ضمن مجتمع ذكوري يعيش حربًا عبثية، ذات الثيمة نسج على منوالها مواطنه خالد حسيني [رواية “ألف شمس مشرقة” كمثال]، هي ثقافة قد نشترك معها بخصائص ما، لكننا نختلف عنها باختلاف الظروف والمؤثرات! بالطبع ليس هناك من مأساة أعظم مما تعيشه الأنثى في مجتمعات تمارس تجاهها وأدًا حرفيًا أو معنويًا (البنت يا جيزتها يا جنازتها). وهذه الرواية قد تكون خطوة في تمكين الأنثى (والذكر) من تدبّر تداعيات النمط السائد، عساه التغيير (البطيء)، ينطلق…
ملاحظة: نالت الرواية جائزة غونكور عام 2008، وتحولت إلى فيلم عام 2012.