لطفي عيسى
تثير هذه العجالة القضايا المتصلة بالمنهج في حقل العلوم الإنسانية، محاولة التدقيق في طبيعة الإجابات التي قدمتها نماذج المقاربة الانتروبولوجية لتجاوز الحدود الموضوعية للمقاربات التاريخية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى فترتنا الراهنة.
ما طبيعة الدور الذي يمكن أن تلعبه العلوم الإنسانية إذا ما أخفقت في توضيح ما يشوب العلاقات البشرية من مواجهات غالبا ما خضع بروزها أو تلفيقها إلى مقاصد ملتبسة، مؤدية إلى مصادمات دامية ومجازر مروّعة تحت غطاء الدّفاع عن مبادئ مختلفة أو متعارضة ؟
تتلخّص تساؤلاتنا حول هذه المسألة المعرفية في كيفية التدرّج في إحداث هذا الحقل المعرفيّ الجديد والمتميّز؟ هل يعود ذلك إلى جاذبية المعاينة من خارج المجال المعرفيّ التاريخيّ أو ما يستقيم نعته بـ le privilège de l’extraterritorialité ؟ أو لأنّ ممارسة الأنتروبولوجية ضمن حقل المعرفة التاريخية يساعد على تبسيط موضوع التناول، حتى وإن طبع التعقيد شكل المقاربة ؟ ثم إلى أيّ مدى ساهم مفهوم “الغيرية” وهو ركيزة أساسية في نشأة المعرفة الأنتروبولوجية في تطوير المعرفة التاريخية، علما أنّ هذه الأخيرة تشتغل على غيرية مزدوجة زمنية وسوسيولوجية ؟ ما هو الدور الذي عاد للأنتروبولوجية عامة وللأنتروبولوجية التاريخية تحديدا في تطوير البحوث الإنسانية المنجزة ببلدان الجنوب ؟ هل شكّلت تلك المعرفة وعدا واقعيا بمزيد التعمّق في تعقّل الخصوصيات الدقيقة لتلك المجتمعات ؟ ثم هل يمكن للمقاربات المعوِّلة على نماذجها أن توفّر أدوات جديدة تسمح بالتعرف على الماضي انطلاقا من فهم الحاضر والسيطرة على أدقّ تفاصيله ؟
ساهمت التصوّرات المنهجية النظرية التي صاغها “فرنسوى دوس François Dosse” ضمن مقال له حمل عنوان: ” الأسئلة الملقاة من قبل تعدّد نماذج التأويل في العلوم الإنسانية Questions posées par la pluralité des modèles interprétatifs en sciences sociales “، وهو مقال يعرض جملة من التساؤلات تتصل بكيفية فهم حالة تأرجح النماذج التحليلية المتصلة بالعلوم الاجتماعية حاضرا، وبكيفية الانتقال من التفسيرات الأحادية إلى الاعتراف بتعدّد أبعاد التأويل وبقضية التمثلات في علاقتها بتعدد التأويلات المتصلة بالذاكرة، في وضع الأمور ضمن نصابها.
استهلّ “دوس” مقاله بالإشارة إلى حضور تماثل مربك بخصوص نماذج التأويل ضمن حقل الدراسات التاريخية والأنتروبولوجية والسوسيولوجية حاضرا، وهو تماثل ناتج عن إعادة اكتشاف تلك العلوم لطابعها الإنسانيّ وابتعادها عن مفهوم السببية أو العلّية المتحدّر عن العلوم التجريبية. مشيرا إلى اعتبار “ماكس فيبر Max weber” الأسس المنهجية التي ينبني عليها البحث التاريخيّ غير قابلة لإعادة إنتاج نفسها لأنها خاضعة لإحداثيات مكانية وزمنية متفردة، لذلك لا تنفتح تلك الأسس إلا على تحديات تأويلية تضع نتائج العلوم التاريخية والاجتماعية عامة ضمن إطار ما هو قابل للوقوع.
ونتبيّن أن تجاوز النماذج البنيوية التي سيطرت على مناهج البحث حتى أواسط سبعينات القرن الماضي، وهي نماذج ترتبت على توافق أدوات التحليل في الألسنية مع التوجهات المنهجية لعلم الاجتماع والأتنولوجية، مستأنسة في نفسها القدرة على استكشاف ما تم إخفائه، قد ترتب عليه خلال الثمانينات توجّه نحو اعتماد نماذج تحليل بديلة تعطي للعروض التاريخية الأولوية على حساب الموقع الذي احتلته التوجهات البنيوية سابقا. فتمّ بذلك ردّ الاعتبار للفعل المعلن أو المُعبر عنه بشكل صريح وإعلاء التساؤلات المتّصلة بالمشاغل التاريخية والمرتكزة على الاهتمام بالتاريخ السياسيّ بتجديد تناوله، إن على صعيد المنهج أو على صعيد المصطلح والرمز. غير أنّ النموذج النقديّ الذي استندت عليه تلك النقلة قد حركته قراءة أنتروبولوجية متشائمة ترى في المصالح المادية السبب الوحيد لتشكُّل حصول الفعل، لذلك تحوّل تعقّب حضور تلك المصالح إلى مظنة أساسية دفعت بالباحثين إلى استغراق كامل جهدهم بغرض كشفها واستنقاص مختلف الفاعلين المتخفين وراء آليات تشغيلها.
والظنّ وفقا لما بينه نفس الباحث أنّ تعويل الشواغل المنهجية على تشغيل أدوات النقد لفهم العناصر المكونة للفعل التاريخي قد نزعت بالمعارف الإنسانية باتجاه رفع تحدّي البحث الميداني التجريبيّ وإعادة النظر في الخطوط الفاصلة بينها من خلال ربط علاقات سلمية بين الفلسفة وبقية العلوم الإنسانية، مع التركيز على ما يربط بين هذين الحقلين من وشائج تجعل من تلك المعارف الإنسانية تواصلا للبحث الفلسفيّ بطريقة مختلفة.
ساهم هذا التوجّه في إكساب أنظمة تأويل الخطاب مكانة أساسية وسمح بإيلاء البراهين المقدّمة من قبل الفاعلين موقعا متميزا، والإقلاع تبعا لذلك عن مصادرتها أو دحضها باستجلاب براهين أكثر وجاهة وفعالية منها.
ويبدو نموذج البحث في الإنسانيات راهنا أقرب إلى الإقرار بمكانة التأويل في فهم كيفية بناء الفعل من خلال إعادة زيارة شبكة المصطلحات والدلالات اللغوية وثيقة الاتصال بالفعل، على غرار “النوايا” و”العزائم” و”الرغبات” و”الدوافع” و”الأحاسيس”. لذلك تحوّل مدار البحث من الاشتغال بالبناء الاجتماعيّ الناجز إلى تفكيك مركباته بتفحص مختلف الأدوات الناظمة لمعيش الأفراد وكذلك مختلف الأشكال المتناثرة لحياتهم الجماعية. لذلك استعار “دوس” ما أورده غيره من الباحثين بخصوص تعريف طبيعة العلاقة الرابطة بين التأويل والحدث، مبيّنا أن هذا الأخير “يقتضي تخيل عالم أو اثنين قابلين للوجود وفقا لمضمون السرد ووضع تلك العوالم في حالة فعل بتشغيل أدوات التأويل ضمن المجال المفتوح أمام النص بغرض إدراك ممكن الوجود، والتفطن تبعا لذلك بأن تفحص قاعدة الفعل تسمح بالتعرف على حقيقته بشكل أفضل من الاكتفاء بالتركيز على وصف قيمته.”1
وفقا لهذا المعيار بيّن “دوس” أن لا شيء ضمن تأوّلنا للفعل البشري محسوم قبليا وأنّ جميع الوضعيات قابلة للتأويل وفق مجموعة من التوصيفات الممكنة، لذلك يجدر بالباحث التعامل مع الواقع وفقا تعقيداته المتضمنة للعديد من الطبقات المترابطة والمتداخلة تلك التي لا يمكن أن يحصرها أيّ وصف. لذلك تخضع عملية البحث التاريخيّ وفقا لما أقرّه “ميشال دي سرتو Michel de Certeau” إلى نظام تركيب معقّد ومزدوج يلغي تشغيله ادّعاء أيّ موضوعية دون أن يترتّب على ذلك بالضرورة فقدان ذلك النظام لأفقه العامل دوما على الكشف على الحقيقية واستكناه الواقع. فالكتابة التاريخية لا تعدو أن تكون ضربا من الخيال العلميّ المزدوج الذي يتّخذ ضمنه السرد شكلا منطقيا معقلنا يستند في عرضه إلى مجموعة من البراهين دون أن يعفيه ذلك من الوقوع في سلبيات التلفيق 2.
تعرض الكتابة التاريخية للماضي بغرض دفنه ويلعب “قبر التاريخ” دور مزدوجا، فهو يجلّ الأموات بغرض إقصائهم عن عالم الأحياء. فتدبّر وقائع الماضي من خلال معاودة زيارتها يشكل في الحقيقة محاولة لفتح مجال أمام الحاضر يسمح له بوضع بصمته على الماضي وتوجيه عملية تأويله وفقا لحاجيات أو متطلبات الآن والساعة. فالتاريخ ضرب من الكشف المتجدد الذي يلعب ضمنه المؤرخ الباحث دور الوسيط كي يسعفنا في الانتقال من رؤية تأولية قديمة إلى تصوّر تأويليّ جديد يتّسم بالالتصاق بحاجيات معيشنا الحاضر ونسقه أيضا.
وتستند التوجهات الجديدة في قراءتها للمصادر على عملية تفحُّص دقيق لمدلول خطاب تلك المدوّنات، لذلك تعرض علينا تلك المصادر نفسها بطريقة مختلفة عن تلك التي ألِفها البحث سابقا. وتحرص المقاربة التأويلية، إذا ما فهمنا جيدا عرض “فرنسوى دوس” للتحولات الطارئة على مناهج الكتابة التاريخية حاضرا، على التموقع ضمن مجال الفعل محاولة القطع كليا مع أيّ سببية أو علِّية حاسمة. ويخضع بناء الفعل ضمن هذا التصوّر إلى تفحّص كيفية تدرّج السرد في عملية تركيب حبكة الخبر المشكِّل للحكاية أو للرواية التاريخية. كيفية انتظام السرد إذن، هي الوسيط الذي يعطي وجودا واقعيا ملموسا لعلاقة البشر بالزمن.
تنبني تساؤلات المؤرخ وفقا لهذه الرؤية على فهم كيفية تركيب الحدث وتمثله من خلال تفكيك بنائه الخطابيّ. ويتعيّن على المؤرخ ضمن هذا الإطار المنهحيّ التعرّض بالدرس إلى طبيعة المحيط الذي عاين تشكّل مختلف مبادرات الأطراف المعنية بتجسيم الحدث أو صنعه أثناء ظرفية ما، مما يسمح بتصور فرضيات تفسيرية لمختلف ردود أفعالهم ولطبيعة الحلول التي قاموا باستنباطها إزاء إكراهات الواقع المعيش أيضا. فعملية “التحليل الموضعيّ l’analyse situationnelle ” وفقا لما أورده Alain Boyer تجعل من تفسير التصرفات البشرية العاملة على تكثيف المحاولات الرامية لتجاوز عقبة ما، هدفا أساسيا لمقاربتها 3. لذلك فإنّ نظرة مختلف الفاعلين لذات المرتفع الجبليّ مثلا يمكن أن تتّسم بكثير من الاختلاف والتباين، فنظرة السائح الذي يرغب في التعرف عليه ليست مماثلة لتلك التي يكوّنها المتسلّق الذي يرغب في رفع تحدّي بلوغ قمته أو العسكريّ الذي اضطرّ إلى مكابدة أوعاره أو المزارع الذي يحاول التلاؤم مع طبيعته القاسية. تُؤثّر إكراهات الموقع إذن، وبأشكال مختلفة على مبادرات الأفراد وكيفية تعاملهم مع الواقع الذي يحيونه، إذ كلما تميّز المجتمع بتفتُّحه، استطاعت مختلف الكفاءات الفردية أن تجد لتصوراتها موضعا داخل المجال الواسع للاحتمالات القابلة واقعيا للتجسيم. لذلك يـجدر بالمؤرخ الكشف أولا، وعبر البحث المتقصي في أحداث الماضي، على مختلف تلك المجالات القابلة للتجسيم، حتى تتضح له الدوافع الواقعية التي أدت بالفاعلين إلى اتخاذ قرار دون آخر أو الالتزام بتوجّه ما دون غيره. كما يتعين عليه توضيح القوانين والضوابط و”المواضعات الاجتماعية” الموجّهة لاختيارات الفاعلين، دون تجاهل الاستفادة مما سمته الدراسات السوسيولوجية حاضرا بـ”أفق تشكل النوايا l’horizon intentionnel” أو تحديد مستوى عقلانية تصرف الأفراد دخل مجموعة ما، وذلك بغرض توضيح الانعكاسات الاجتماعية غير المقصودة لمبادرات الأفراد المقصودة 4 .
ويستند “دوس” إلى قراءة “روجي شارتي Roger Chartier” لفهم التطورات الطارئة على المعالجة التاريخية تلك التطورات التي يمكن اختزالها في ثلاثة مستويات فارقة هي:
الإعراض على التوجّهات الكلية ضمن القراءة التاريخية ومعالجة الواقع بالتعويل على مجالات ضيقة ملموسة على غرار الحادثة والرواية وتفاصيل الجوانب المعيشة.
التخلي على اعتبار الخصوصيات الإطار الأوحد للبحث وتعويضها بالتركيز على عوامل أكثر تواتر واستقرار.
التخلي على افتراض حضور توازي بين الموقع الاجتماعيّ والمهني للأفراد وطبيعة الذهنيات أو التمثلات التي يحملونها.
ساهمت هذه التطورات في تركيز القراءة التاريخية على الصيرورة الافتراضية لبناء المعنى كنتيجة لما سمّاه “شارتي Chartier” بالتقاء “عالم النصّ” بـ”عالم القارئ”، محددا مجال البحث حاضرا عند نقطة التقاطع بين دراسة تاريخ الممارسات الاجتماعية المتباينة وتاريخ التمثّلات الهادف إلى فهم مختلف أشكال التملّك، وهي أشكال تعرضت لمدلولها بكثير من التفاصيل أبحاث كل من “نوربير إلياس N. Elias” و”ميشال دي سارتو M. de Certeau”.5
كما ساهم هذا التوجّه بلا جدال في إعادة تركيب حالة الصراع التي خضعت لها مختلف التمثّلات، وتوضيح الرهانات الرمزية للمواجهات بين مختلف الفاعلين الاجتماعيين. ويرتكز البحث في مجال التمثلات على عدّة بوابات أو فرضيات نذكر من بينها خاصة علاقة نظام التمثلات بالذاكرة وفقا للتصوّر المنهجيّ الذي أتاحته نتائج أبحاث”بيار نورا Pierre Nora” من خلال مقاربته لتاريخ فرنسا عبر تفحّص ما نعته بـ”مواقع الذاكرة”.6 فقد تبنّى “نورا” مقاربة تاريخية تقدّم قراءة أفقية lecture transversale لمختلف فتراته انصبّ اهتمامها على مفهوم مركزيّ مثله ما نعته الباحث بـ”العلامة أو البصمة Trace” تلك التي تربط الماضي بالحاضر حاملة مدلولا ماديا أو لا مادي. لذلك يبدو اهتمام البحث التاريخي المختص حاضرا، واعتبارا لمختلف التطوّرات التي كنا بصددها، مُنّصبا على تفحّص المصير الذي يمكن أن تلقاه أيّ ذكرى ضمن الشبكة المتحركة والمعقّدة للتمثلات الذهنية لمختلف الفاعلين. فهل يعني ذلك أنّ المعرفة التاريخية قد انحصرت في نوع من “الافتراقية الثقافيةun éclectisme culturel ” لتعدّد التأويلات ؟ أو في ضرب من تجميع العناصر المتناثرة لـ”مركَّبة Puzzle” تُنسب إلى مرحلة ما بعد الحداثة ؟ يبدو هذا الانزياح غير فابل للحصول شريطة أن يعمل الباحث على الفصل بطريقة سليمة بين مدلولي الهوية والوفاء المكونين للذاكرة من ناحية، وبين تشوّف المؤرخ الدائم للوصول إلى الحقيقة. كما أن عدم الاتفاق حول محصلة البحث التاريخيّ وسرعة التجاوز الذي تعرفه نتائج البحث في هذا التخصّص حاضرا، قد يشكّلان إذا ما تملينا الموضوع من زاوية مغايرة مكسبا حقيقيا يُغني حاجة الثقافات المختلفة والمتباينة حاضرا إلى حوار هادئ رصين يساهم في بناء مجالات تعاون إقليمية أو قارّية مشتركة تُكسب القيم الكونية حصانة إضافية في مواجهتها لمختلف التصورات الأصولية الضيقة والمتعصبة. ما الذي يكرّسه البحث التاريخي المنفتح حاضرا ؟ لا شيء سوى التأكيد على أن هناك أشكالا متعددة للسرد تسمح بفهم نفس الواقعة أو بالتعرف على نفس الحدث بطرق مختلفة. وانطلاقا من هذا الفهم نستطيع القول أنه بمقدور نتائج البحث التاريخيّ أن تؤثّر إيجابيا في عمل الذاكرة وذلك من خلال تعويد ما نعليه من توجهات في بنائنا لما يسمى بـ”الذاكرة الوطنية” على القبول بالاختلاف مع الآخر، تفاديا لمغبة الوقوع في الانطواء والتكلّس والتكرار.
الهوامش:
………………..
1- Abel (O) « Qu’est ce que s’orienter dans l’interprétation ? »، dans L’exégèse comme expérience de décloisonnement، éd. Tomas Römer، Heidelberg 1991، p.7
2- Certeau (Michel de)، « L’histoire une passion nouvelle »، table ronde avec Paul Veyne، E. Le Roy Ladurie، dans Magazine Littéraire، Gallimard، Paris 1975، p. 78.
3- Boyer (A)، L’explication historique، éd. P.U.F، Paris 1992، p. 171.
4- يشير “فـ . دوس” في هذا الصدد إلى دراسات “جون ألستير” و”فيليب فان باريخس” المتأثرة بمدرسة “كارل بوبير” السوسيولوجية.
Elster (John)، Le laboureur et ses enfants، éd. Minuit، Paris 1987.
Van Parijs (Ph)، Le modèle économique et ses rivaux، éd. Droz، Paris 1990
Popper (K)، Conjonctures et réfutations، éd. Payot، Paris 1985.
5- Certeau (Michel de)، L’invention du quotidien، I Arts de faire، éd. U.G.E.، 10 / 18، 1980.
Nora (Pierre)، Les lieux de la mémoire، éd. Gallimard، Paris 1993، tome III، vol.1، p. 26.