أحمد إبراهيم أبوشوك
كان عقدا الستينيات والسبعينيات يمثلان العصر الذهبي في جامعة الخرطوم؛ لأن الجامعة كانت تزخر بثلة من الأساتذة الأجانب والوطنيين الأكفاء والمتميزين في تخصصاتهم الأكاديمية، ومجموعات مختارة من الطلبة النابهين في قاعات محاضراتها، ومعينات تدريسية كافية (مكتبات ومختبرات)، وبيئة حافزة للكسب المعرفي والعطاء الأكاديمي. ولذلك وصفها البروفسير طلال أسد بأنها كانت “جامعة عالمية”، بفضل أعضاء هيئتها التدريسية، ومقرراتها الناظمة لعماد البرامج الأكاديمية، وطلبتها الدارسين آنذاك. ووقتها كان طلال أسد (1961-1966) نموذجًا حيًا لطلبة الدراسات العليا والمحاضرين الوافدين، أمثال ركس شون أوفاهي (شعبة التاريخ)، وبيتر ودورد (شعبة العلوم السياسية)، الذين التحق بعضهم لتلقي مزيد من التدريب في فنيات العمل التدريسي، وللإيفاء بمطلوبات أطروحاتهم العلمية في أماكن دراسات حالاتها المختارة في السودان.
سبق أن كتبتُ مقالين عن أستاذين بريطانيين عملا في جامعة الخرطوم وكان لهما بصمات واضحة في المرحلة الأولى لتأسيس الجامعة، أحدهما عن مايكل قرنت (Michael Grant) أول مدير لجامعة الخرطوم (1956-1958)، وثانيهما عن جون لبون (John Lebon) ثاني عميد لكلية الآداب (1958-1961)، ووجد هذان المقالان استحسانًا عند معظم القارئين، وفي حينها لفت الدكتور عبد الوهاب الأفندي انتباهي إلى البروفيسور طلال أسد وعلاقته بجامعة الخرطوم، حيث علَّق قائلًا: “اقترح أن تؤرخ أيضًا للدكتور طلال الأسد، أحد عمالقة علم الاجتماع، الذي درَّس في جامعة الخرطوم في الستينيات، واشاد بها في بعض مقابلاته”
لكن قبل الحديث عن طلال أسد وعلاقته بجامعة الخرطوم، ربما يسأل أحد القارئين أسئلة افتتاحيةً: من هو طلال أسد؟ وإلى أي جيل من أساتذة جامعة الخرطوم ينتمي؟ وما الدافع وراء انضمامه إلى أعضاء هيئة التدريس بالجامعة؟ هو طلال بن محمد أسد، المفكر الإسلامي، ذو الأصول النمساوية، الذي اعتنق الإسلام بعد اليهودية، وألَّف كتبًا عديدة عن الإسلام والقرآن والدعوة، ومن أكثرها شهرة بين المسلمين كتابه الموسوم بـ”الطريق إلى مكة” (The Road to Mecca). عاش محمد أسد في الهند فترة من حياته، وبعدها انتقل للعمل بالمملكة العربية السعودية، وتزوج والدة ابنه طلال، منيرة حسين الشمري (ت. 1978). وُلِد طلال في المدينة المنورة عام 1932، وبعد ميلاده انتقلت الأسرة إلى الهند البريطانية (أي قبل استقلال الهند الكبرى وانفصال باكستان عام 1947). وفي الهند درس طلال في مدرسة أولية-داخلية تديرها هيئة تبشيرية مسيحية، ومن هنا بدأت تتشكل نظرته للعلاقة الجدلية بين الغرب والشرق، ثم واصل تعليمه في مدرسة القديس انطوني الثانوية في لاهور. وعندما بلغ عمره أربعة عشر عامًا، انتقل إلى المملكة المتحدة، بدأ دراسته الجامعية بالهندسة المعمارية لمدة عامين، بناءً على رغبة والده. لكنه لم يجد فيها نوعًا من المتعة الذهنية، فآثر الانتقال إلى جامعة إدنبرة لدراسة علم الأنسنة (الأنثروبولوجيا)، الذي نال فيه درجة الماجستير عام 1959. وفي مرحلة الدكتوراه بجامعة أكسفورد، فضَّل طلال دراسة الأنثروبولوجيا الثقافية والاجتماعية، التي كان أحد أساطينها البارزين في أكسفورد آنذاك إيفانز بريتشارد (ت. 1973)، صاحب الدراسات العديدة عن قبيلة الزاندي والنوير في جنوب السودان. ويبدو أن تلمذته على إيفانز بريتشارد كانت من أحد الأسباب التي دفعته لاختيار عرب الكبابيش في شمال كردفان لموضوع أطروحته لنيل درجة الدكتوراه، التي حصل عليها عام 1968م. ونشر الأطروحة بعد عامين من تاريخ تخرجه بعنوان: عرب الكبابيش: القوة والسُّلطة والقبول في قبيلة بدوية (The Kababish Arabs: Power, Authority and Consent in a Nomadic Tribe). وإلى جانب تأثير إيفانز بريتشارد عليه، يذكر طلال أنه قد تأثر بإدوارد سعيد وميشيل فوكو (Michel Foucault)، لا سيما فيما يتعلق بمعالجة قضيتي “القوة والانضباط”؛ ومن الذين تأثروا به في مجال الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية جون ميلبانك (John Milbank)، وستانلي هويرواس (Stanley Hauerwas)، وجوديث بتلر (Judith Butler)، وسابا محمود (Saba Mahmood)، والواثق كمير.
طلال أسد في جامعة الخرطوم وديار الكبابيش
بعد اختيار موضوع دراسته عن قبيلة الكبابيش، آثر الأستاذ طلال أسد الانتقال من جامعة أكسفورد إلى جامعة الخرطوم، حيث شغل وظيفة محاضر في الأنثروبولوجيا الاجتماعية، وإلى جانب ذلك أولى اهتمامًا خاصًا لجمع مادة بحثه عن عرب الكبابيش (فرسان كنجرت كما يطلق عليهم عبد الله علي إبراهيم). وبعد انقضاء فترة تعاقده مع جامعة الخرطوم (1961-1966) ونيله لدرجة الدكتوراه حصل على وظيفة عضو هيئة تدريس بجامعة هل (Hull) بالمملكة المتحدة 1970. ومنذ عام 1989 استقر به المقام في الولايات المتحدة الأمريكية أستاذًا بجامعة جونز هوبكنز، ثم ختم حياته الأكاديمية أستاذًا متميزًا للأنثروبولوجيا بمركز الدراسات العليا بجامعة مدينة نيويورك. وخلال الفترة المشار إليه عمل استاذًا زائرًا في جامعة الخرطوم (1975)، وجامعة عين شمس بالقاهرة، وجامعة الملك سعود بالرياض، وجامعة كاليفورنيا في بيركلي، ومدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية في باريس.
عن انطباعات طلال أسد عن جامعة الخرطوم والسودان، استأنس بحوار طويل أجراه معه ديفيد اسكوت (David Scott) وحرره لاحقًا مع شارلس هيرشكند (Charles Hirschkind)، ونشرته دار نشر جامعة ستانفورد (Stanford University) بعنوان “قوى العلمانية الحديثة: طلال أسد ومحاوروه” (Powers of the Secular Modern. Tala Asad and his Interlocutors). ترجم البروفيسور بدر الدين حامد الهاشمي أجزاء من هذا الحوار، ونشرها في سودانايل تحت عنوان: “مقتطفات من مقابلة مع عالم الأنثروبولوجيا طلال أسد”. وفي حواره مع طلال أسد، سأله ديفيد عن تجربته في جامعة الخرطوم، وكيف وجد التدريس فيها؟ فرد طلال عليه قائلًا: “أحببتها جدًا”. كنت سعيدًا للغاية في غضون سنواتي الخمس (في السودان) بين عامي 1961 و1966م. كانت تلك أول تجربة لي في التدريس في جامعة الخرطوم، إذ لم أكن قد مارسته من قبل في جامعة أكسفورد، حيث لم يكن نظامها يسمح لطلاب الدراسات العليا بالقيام بمهام التدريس. كان (العمل بجامعة الخرطوم) بالفعل فرصة شائقة جدًا لي، قرأتُ فيها الكثير من المواد، ووجدت نفسي أفعل ما كنت أفعله دوما بطرق متباينة منذ ذلك الوقت. ويتلخص هذا في الإفادة من تكاليف التدريس بالاطلاع الجيد والكامل على العديد من النصوص المتنوعة، والتفكير فيها، وتعليم نفسي بنفسي. كان طلابي شديدي الذكاء، وكان معظمهم يحرص جدًا على نيل درجة جامعية – كما هو الحال في بقية بقاع العالم. كانت جامعة الخرطوم مكانًا عالميًا (cosmopolitan) بحق، إذ أن الأساتذة كانوا يأتون من أقطار متعددة مثل الهند وباكستان ومصر، ومن عدد من الدول الأوروبية، التي كانت تشمل دول شرق أوروبا، ومن إنجلترا بالطبع. وبهذا المعنى، كانت الجامعة “عالمية”. وكانت العلاقات الشخصية بين المدرسين وَدَوَّدة، وكذلك مع الطلاب. وكنت شديد الحرص والاهتمام بأن أبقى – بقدر الإمكان – على صلة بالسودانيين، وأن أَحُسِّن من لغتي العربية المنطوقة، إذ أنني كنت قد تعلمت العربية في الصغر من أمي، ودرستها لاحقًا وأنا في المرحلة الجامعية الأولى بجامعة إدنبرا، لأتمكن من القراءة بها فَحَسْب. إلا أن فترتي في السودان ساعدتني على تجويد لغتي العربية. لذا كنت أقابل أكبر عدد ممكن من السودانيين، ربما بأكثر مما يفعله غيري من الأساتذة. صادقت العديد من السودانيين، ولا زلت أحتفظ بصداقة بعضًا منهم إلى اليوم؛ لأنهم يقيمون بالولايات المتحدة”. (ترجمة الهاشمي بتصرفاتٍ طفيفةٍ).
وطرح ديفيد سكوت سؤال آخر على طلال مفاده: هل عدت أبدًا إلى السودان؟ فأجابه طلال قائلًا: “نعم، بالفعل سافرت إلى السودان عام 1970م، والمرة الأخيرة عام 1975م، وحينها درستُ فصلًا دراسيًا في جامعة الخرطوم. أما السؤال الثالث فقد جاء في إطار أطروحته عن الكبابيش، فاستهله ديفيد بمقدمة مفادها: “كانت ثمرة تلك الفترة في السودان رسالة الدكتوراه، التي قدمتها عام 1968م، وأظن أعقبها فيما بعد صدور كتابك عن “عرب الكبابيش” عام 1970م، أريد أن أتحدث معك قليلًا عن هذا الكتاب، خاصة عن الأسئلة التي طرحتها فيه، وطريقتك في تقديم الأسئلة، إذ أنني دهشت عند اطلاعي عليه مؤخرًا من نقاط التشابه الكثيرة بين نهجك في البحث والاستقصاء آنذاك، ونهجك الآن. يبحث كتابك “عرب الكبابيش” في البنية السياسية عند الكبابيش، خاصة الظروف والأحوال التي جعلت السُّلطة السياسية متاحةً لجماعة صغيرة من الأفراد. يوجد في هذا المضمار بالطبع عدد كبير من التوصيفات الأنثروبولوجية التقليدية لأشجار النسب (Kinship Charts)، والصور وغير ذلك، غير أنَّ الشاغل المركزي للكتاب هو وضع إطار مفاهيمي أو نظري (Conceptual)، لقد كنت مهتمًا بدور “القبول/ التوافق” (Consent) في الأنثروبولوجيا الوظيفية البريطانية، لِمَ ذلك؟ ما الذي دفعك لذلك الضرب من البحث؟” فأجاب طلال قائلًا: “كنت قد وصلت لإنجلترا وأنا في سن صغيرة. ومنذ بلوغي 14 عامًا، على الأقل، بدأت عندي مشاعر إعجاب لا نظير لها بالغرب، أو بالأحرى لفكرة معينة في الغرب المستنير. كنت مُشْبَعَا لدرجة كبيرة بفكرة أن الغرب هو المكان الذي يجد فيه المرء العقل والمنطق، ويجد فيه الحرية، وكل شيء رائع آخر لا يجده في باكستان. غير أنَّ تجربتي في بريطانيا، ثم هنا في الولايات المتحدة (وأنا هنا أتحدث عن فترة طويلة جدًا من حياتي) كانت عملية تحرر بطيء من الوهم والخطأ. لقد مرت أعمالي بمراحل مختلفة …. بدأتُ أدرك كيف أنَّ الناس في إنجلترا كانوا مشبعين بالتحامل والاجحاف والتَحَيّز. ربما تقول بأني كنت ساذجًا جدًا لعدم إدراك ذلك (منذ البداية). لقد كنت بالفعل غِرًّا ساذجًا، غير أنه كان لزامًا عليّ أن أتعلم؛ لأدرك مدى سذاجتي. كان إخفاقي لسنوات طويلة في إدراك مدى تَحَيّز وتحامل الناس في إنجلترا بمثابة اكتشاف مذهل بالنسبة لي. يوجد التحامل والاجحاف والتَحَيّز في كل مكانٍ في العالم، غير أنه من المفترض أنَّ الإنجليز يعيشون في قطر غربي مستنير. لذا بدأتُ في الاهتمام بمسألة الأيديولوجيا. وقرأتُ كُتُب ماركس، حينها أنا في المرحلة الجامعية الأولى (بإدنبرا)، ولاحقًا وأنا طالب دراسات عليا في أكسفورد. كنتُ حينها منجذبًا ومشدوهًا ومأخوذًا بالطريقة التي تحدث بها ماركس عن الهيمنة والأيديولوجية. الشيء الذي أخذته من ماركس في وقت باكر هو إدراك أنه ليس من الضروري حتمًا أن تكون هياكل وأبنية الهيمنة متجذرة مباشرة في القوة والقبول، بل فيما اسميته في ذلك الوقت “الاستبعاد البنيوي” (Structural Exclusion)، وهو شيء مستقل تمامًا عما يفكر فيه الناس بوعي وإدراك.” (ترجمة الهاشمي بتصرفات طفيفة).
أما السؤال الأخير المتعلق بدراسة طلال عن الكبابيش وإطارها النظري-الماركسي فكان مفاده: “إذن فقد توصلت للتحليل المفاهيمي عبر (دراستك لما كتبه) ماركس؟ فرد عليه طلال إيجابًا. فأردف ديفيد هذا السؤال بسؤال آخر: “ذكرت في مقدمة كتابك عن عرب الكبابيش بأن هدفه كان دراسة علم البيئة الرعوية (Pastoral Ecology)، ونظم القرابة عند الكبابيش، وعندما كنت بينهم حوَّلت تركيزك واهتمامك لدراسة البنية السياسية في مجتمعهم. كيف ذهبت لتدرس بيئة الكبابيش الرعوية، ثم تحولت لدراسة أخرى، وأنت في السودان؟ فأجابه طلال قائلًا: “أعتقد أنني كنتُ رافعًا قبعتي لإيفانز- بريتشارد؛ لأنه في كتابه عن “النوير”، رغم أنه تناول فيه السياسة؛ إلا أنه كان في الواقع يدور حول طرق عيش النوير وبيئتهم الرعوية. كنتُ في الواقع اتوقع أن تكون أطروحتي عن الكبابيش قائمة على النسق ذاته والنموذج الذي ورد في كتاب ايفانز- بريتشارد. لذا فكرتُ في أن تكون أطروحتي تحليلًا للنظام الرعوي ونظم النسب عند الكبابيش. وكان إيفانز- بريتشارد قد استخدم في بحوثه عن النوير نهج نُظُم “طبقات النسب” (Segmentary Lineage) لتبيان نظامهم السياسي، بالتزامن مع دراسة طرق عيشهم الرعوية. وتوقعتُ أن أجد شيئًا مماثلًا (عند الكبابيش)، وقمتُ بدراسة الكثير من أشجار النسب، وسعدتُ بوجود نُظُم طبقات النسب عندهم، غير أنه بعد ذلك اتضح لي شيئًا فشيئًا أن هذا كان ببساطة مجرد دالة على الطريقة التي تؤخذ بها الأنساب، وليس لها – بالضرورة – أهمية في الطريقة التي يقوم بها الناس بتنظيم أنفسهم، أو في علاقتهم مع بعضهم بعضًا …. وبدأ لي من العمل لشهور متصلة على أشجار النسب تلك أنها كانت بلا جدوى، وأن نهجي في نُظُم “طبقات النسب” عند الكبابيش ليس أكثر من مجرد أوهامٍ. ووجهتُ اهتمامي في البدء لدراسة الجماعة الحاكمة (Chiefly Group)، التي تحتكر كل أنواع المناصب والوظائف في داخل العائلة، وتسيطر على كل مؤسسات الحكومة المحلية، ودرستُ كيفية حدوث ذلك. وكانت قبيلة الكبابيش كيانًا سياسيًا حديثًا نسبيًا. وهذا هو التفسير الجزئي لوضعي تاريخ الكبابيش في منتصف كتابي، وليس في بدايته، كما هو المعتاد في مؤلفات ذلك الزمان. كان الدارسون يومها يضعون في مؤلفاتهم تاريخ القبيلة أولًا، ثم يقدمون عرضًا اثنوغرافيًا لها. ولكني أتيتُ إلى تاريخ قبيلة الكبابيش في منتصف الكتاب؛ لأني كنت أرغب في محاولة فهم كيفية إقامة تلك البنية المعينة للهيمنة المحلية. كان الكثير من ذلك يعتمد على فِطنَة وكِيَاسَة مؤسسها الحديث الشيخ علي التوم، الذي استخدم البريطانيين من أجل دعم وتوطيد سلطته عن طريق جمع مجموعات صغيرة من الرعاة معًا. (ترجمة الهاشمي بتصرفات طفيفةٍ).
خاتمة
يقول أحد طلبة الدفعة الأولى في كلية الاقتصاد والدراسات الاجتماعية، الأستاذ عبد المنعم خليفة خوجلي: “لم نكن في البداية مدركين بوضوح معالم [علم الأنثروبولوجيا الاجتماعية]، والأهمية التي تجعل منه علمًا رئيسًا في هذه الكلية، التي تؤسس في الجامعة للمرة الأولى، وذلك في إطار التطوير الذي يشهده التعليم الجامعي بعد الاستقلال. كانت في أذهاننا في ذلك الوقت أفكار غامضة حول هذا العلم، وارتباطه بالاستعمار! وتركيزه على دراسة المجتمعات البدائية في أفريقيا، والتي في الغالب من مستعمرات الإمبراطورية البريطانية.” ويعزي عبد المنعم هذا الإدراك المبكر لقلة معرفتهم بالعلم وانفعالهم بحركات التحرر في أفريقيا ومناهضة الاستعمار. لكنه يؤكد أنَّ أساتذتهم الأوائل كانوا يحاورنهم “مدافعين عن الأنثروبولوجيا الاجتماعية، ويردون على مخاوفنا بقولهم: إذا سلَّمنا جدلًا بأنَّ الإدارات الاستعمارية كانت توظف نتائج ذلك العلم في إدارتها لشعوب المستعمرات، فإن في مقدور البلدان المستقلة أن توظفه أيضًا في تحسين فهمها لمواطنيها، والارتقاء بأسلوب إدارتهم وتنميتهم.” ومن الأكاديميين الذين تدربوا على هذا الفهم وطوره، ثم وظفوه لخدمة مجتمعاتهم المحلية، ورفع وعي طلابهم الأنثروبولوجي، بعد رحيل جيل طلال أسد، الدكتورة فهيمة زاهر السادات، والدكتور تاج الأنبياء علي الضوي، والأستاذ الدكتور عبد الغفار محمد أحمد. وبالرغم من قصر الفترة التي قضاها طلال أسد في جامعة الخرطوم، لكن ظلت بصماته باقيةً بين طلابه، الذين أضحوا أساتذة في كلية الاقتصاد والدراسات الاجتماعية، وبين صفحات كتابه الشهير عن “عرب الكبابيش: القوة والسُّلطة والقبول في قبيلة بدوية”، الذي أضحى مرجعًا معياريًا للطلبة والباحثين في مجال الدراسات الأنثروبولوجية، فضلًا عن منشوراته الأخرى ذات الصلة، ونذكر منها:
1. أنساب الدين: الانضباط وأسباب القوة في المسيحية والإسلام (Genealogies of Religion: Discipline and Reasons of Power in Christianity and Islam)، 1993.
2. تشكيلات العلمانية: المسيحية والإسلام والحداثة (Formations of the Secular: Christianity, Islam, Modernity)، 2003.
3. الترجمات العلمانية: الدولة القومية، الذات الحديثة، والسبب الحسابي (Secular Translations: Nation-State, Modern Self, and Calculative Reason )، 2018.