د. المختار النواري – تارودانت –
السؤال جوهر هذا العمل، وبناؤه الأصلي، ومنهجه الأولي، وسلاحه العملي الذي به كيفن ليواجه موضوعه وبالتالي فقد كان يملك تصورا واضحا عن هذا الجانب، فهو يشكل ثابته، والمتحكم فيه: يقول: “ففي البداية كان قصدي ينحصر في أن اطرح عليه بعض الأسئلة العامة حول ماشيه ومواقفه حيال مشاكله اليومية”. ومن هنا فإن المنهج كان محددا: طرح بعض الأسئلة، وطبيعة مدركه: أسئلة عامة، وموضوعة مهيأ: حول ماضيه ومواقفه حيال مشاكله اليومية، أو بعبارة أخرى؛ الماضي، والحاضر، والمواقف، وما دام السؤال – وكما يتضح – هو جوهر هذا العمل المدرك والثابت والمتحكم فيه، فقد توجب أن يتم التعامل معه على أساس هذه القيمة المعطاة له في هذا العمل. ويمكن أن يعمم ذلك على أغلب الأعمال الأنثربلوجية، ما دام المساءل غير مدرك ولا ثابت ولا متحكم فيه، ومادام رد فعله غير متوقع بدقة، فقد يقبل التعامل مع الأسئلة ولا يجيب، وقد يقلب الجواب سؤالا، وقد يجيب بغير ما يطلب منه، وقد يحول السؤال انتقادا وتعليقا، إذن فلا مجال للأنثربلوجي للقطع بالطرف المقابل (الجواب)، وغنما يبقى مجاله الأصلي وجوهر عمله هو السؤال. وحينما تتقرر هذه القاعدة تقول: هل ثقافة الأنثربلوجي ثقافة السؤال، وثقافة الآخر ثقافة الجواب؟ هل حق الأنثربلوجي أن يكون دائما واضع السؤال، وواجب الآخر (المخبر) هو الجواب والاخبار؟ ومن الذي حدد هذه الأدوار، وهل هذا التحديد منصف؟ أليس فيه لا أقول بعض الحيف، ولكن الكثير من الحيف؟ ألا يمكن أن نتقاسم الأدوار بشيء من الإنصاف: فيكون للأنثربلوجي حق السؤال وواجب الجواب؟ مثلما يكون للآخر؟ ألا يمكن أن نؤسس ثقافة الحق والواجب في شموليتها بدل اقتسامها: الحقوق من جهة والواجبات من جهة أخرى، فيستأثر القوي بالحقوق ويثقل الضعيف بالواجبات؟ أو يفترض دائما أن يعرف الآخر بنفسه، ويكون دائما موضوع مساءلة، ويتوجب عليه الجواب، أو ليس من حقه أن يتعرف على مسائله، وان يكون واضع أسئلة ينتظر عنها الجواب، أو ليس في هذا مصادرة لحق المعرفة: من يعرف؟ وماذا يعرف؟ وكيف يعرف؟ ففرق بين أن تكون حاملا لمعرفة وطالبا لمعرفة ومحددا لموضوعها وطريقتها وبين أن تكون موضوع معرفة يشتغل عليك، وتقدم ما يطلب منك، وتستجيب للطريقة المحددة. وأعود لتعريف الآخر بنفسه المفترض فيه على الدوام، فأقول أليس المجهول والنكرة هو المطالب بالتعريف بنفسهن إن جعل الآخر موضوع السؤال يوحي بذلك. وحينما نتعاطى مع السؤال ونجيب عليه نثبت ذلك ونقربه، ونوافق المسائل عليه، وينال منا الاعتراف على أننا كذلك. وحينما ننظر إلى الآخر على أنه مجهول ونكرة أليس في هذا تعسف وتجاوز؟ هل المجهول ما يجهله الأنثربلوجي والنكرة ما لا يعترف به، أليس من العدل أن تتوجه الأنثربلوجيا وجهة أكثر حكامة ورشدا بأن المجهول ما لا يعرف، والنكرة ما لا يعترف به، أما جهلها بشيء وتساؤلها حوله وقصده بالبحث والدراسة ليس معناه أنه مجهول ونكرة، وإلا فإن هذا الجهل متقاسم بين السائل والمجيب، بين الأنتربلوجي والمخبر، ولكل منهما أحكام مسبقة ومعرفة حول قبلية حول الآخر، والفرق يغيب بعضها عن المخبر كتحديد الوجهة والغاية والمنهجية، ولكنه لن يعدم أسئلة يطرحها، وعلامات استفهام يرغب في فكها. ولكن هل يسمح له الأنثربلوجي بذلك؟ هل يمنحه الفرصة لذلك، وأن طرحها هل يجيبه عنها بموضوعية، أو يراوغه فيواصل عمله. وإن تم ذلك هل يجد له موقعا في عمل الأنتربلوجي المقدم، أكيد أنه لا يهتم إلا برصد إجابات المخبر، لا يطرح تساؤلاته، والانشغال بها.
أليس السؤال مصادرة لحق الأخر في الكلام، تحديد لموضوعه، توجيه له، مصادرة له في اختيار حديثه. تحديد لزمن الكلام ومكانه وظرفه وموضوعه، وزاوية الحديث عن الموضوع.
أليس تنظيم الأسئلة بطريقة محددة، وتركيبها، وبتاء بعضها على إثر البعض الآخر، طريقة للتحكم في الموضوع وتوجيه دقة الحديث.
الحوار لا يكون بريئا أو محايدا حينما يتشارك فيه عنصران: السائل والمجيب، ويحدد كل منهما موقعه ووظيفته والحدود التي يجب ألا يخرج عنها، والمواقع التي لا يجوز تخطيها. بل إن أحد الطرفين هو الذي يضع خريطة الحوار، ويبقى الطرف الثاني تحريك وربما بلبلة يثيرها السائل في المجيب، وعلى قدر قدرته على إثارة الزوبعة في المجيب تكون أهميته للسائل، غير أن طريقة صياغة السؤال، وعناصره، وظروفه، ونوع العلاقة التي تنسج بين السائل والمجيب لحظة وضع السؤال، هي التي تحدد ما يثار في شخصية المجيب، وتحدد طبيعة حمولتها: العقدية والنفسية والاجتماعية والتاريخية والاقتصادية والسياسية، وتحدد كذا طبيعة الشعور المصاحب لها: نقمة ورضى، عصبية وهدوء، انفعال وارتباط، تجاوبا وتهربا، وحذرا ولامبالاة.
السؤال سلطة مختزلة، تستمد سلطويتها من طارح الأسئلة، والمجتمع الذي ينتمي إليه (المجتمع الأمريكي)، والحضارة التي يبشر بها (الحضارة الغربية)،
انتقاء الحالات ص 14
” وما أثارته الحالات من أسئلة في الوقت الذي كان فيه الفقير يبدي استعداد للإجابة عليها”. ص15.
– السؤال المتولد عن الحالة: يعترف كيفين بأن ليست جميع الأسئلة كانت معدة سلفا، ولا هي متولدة من معرفته الأصلية وثقافته الأنثربلوجية، بل إن بعض هذه الأسئلة كان يتولد عن الحالة التي يدرسها، أو هو بصدد التعرف عليها.
” لقد قضيت معظم أوقات ذلك الصيف، وحيزا هاما من السنوات الموالية في مساءلة هذه التجربة وما ولدته من قناعة لدي ولدى الفقير، وعلاقة ذلك بعدم اقتناعي بالأنثربلوجيا الأكاديمية”.
– مساءلة التجربة: السؤال ليس هو المساءلة. السؤال لحظي يطرح في وقت محدد ووجيز، ويرتبط بجزئية، ينتهي دوره وأهميته بمجرد ما يقتنص تلك الجزئية. في حين أن المسألة هم ثقيل تتم خلال زمن غير محدد، إنها معاناة تحفها الكثير من التشككات والترددات والافتراضات التي تكد الفكر وترهق النفس، وقد تتناسى عبر مراحل البحث وتتشعب وتتطور حتى بعد الانتهاء منه بزمن طويل. وربما تحولت إلى هاجس يشغل العمر كله، فربما أثمرت قطعا، وربما بقيت مفتوحة أمام المتعاقبين من الباحثين ليدلي كل فيها بدلوه. ولقد كانت أهمية هذا البحث على مستوى تطوير العلم الذي أنجز في إطاره، بتوفره على مساءلة، أو كما يقول الأكاديميون بتحديده لأطروحة، حاول أن يشغل عليها، وأن يطور الانثربلوجيا الأكاديمية التي لم يكن مقتنعا بجميع تفاصليها، وقد تجاوزت هذه المساءلة فترة البحث إلى سنوات تالية بعده، وربما لأن الكتاب لم يكن مفترضا فيه أن يغطي ما بعده بسنوات.
يحدد كيفن مهمته في : “فالانثروبلوجي ينتقي الحالات ويطرح التساؤلات” ص 15.
ويحدد مهمة المخبر: ” أما الراوي فيجيب، يزيِّن يراوغ ويتهرب” ص 15.
انظر إلى هذا التفصيل حول رد الفعل وغيابه حول الفعل. لقد كان الموقف المنطقي والمتوقع هو يجيب مقابل ينتقي الحالات ويطرح التساؤلات هناك رد فعل غير متوقع وغير منطقي ” يرين يراوغ يتهرب” وما لم يفعل كيفن هو تصرفه حيال غير المتوقع
الانثربلوجي
الراوي
ينتقي الحالات
يطرح التساؤلات
يجيب
يزين
يراوغ
يتهرب
هل يمكن أن تعتبر الراوي أكثر ذكاء من الانثربلوجي؟ أم يمكن أن نفهم هذا الأخير على أنه محايد مسالم راصد فقط لردود فعل الراوي؟ ذلك ما يوهمنا به هذا الرصد. ولكن وقفة قصيرة حيال هذه المسألة توضح أن رصد ردود الأفعال ووصفها والوعي بها يعترف للأنثربلوجي بذكاء أكبر، ويمنحه القدرة على محاصرة هذا التزيين والمراوغة والتهرب. وأكيد أنه فعل ذلك، ولم يترك للراوي من مهرب، على أنه آثر ألا يكسف قدراته وتصرفاته، لأن عينه كانت منشغلة برصد الراوي وقراءته وفهم كل حركة وسكون فيه، منصرفة عن مراقبة ذاته، لأنه ليس هنا بمقام مساءلة الذات، ولا يتوجب ذلك، وان كانت هناك من مساءلة يجب أن تتم، فهي مساءلة التجربة لا أقل ولا أكثر.
-” الأسئلة التي يطرحها (الانثربلوجي) تقدم إطارا من شأنه دفع الراوي إلى الإجابة.
يتوقع الانثربلوجي من أسئلته أمرين: – تقديم الاطار، أو تحديد الموضوع أو ” الحالة”، التي يتوجب الكلام حولها. – دفع الراوي إلى الإجابة: أي تحفيز الراوي إلى الجواب، وكان الراوي هنا مادة خام غير عاملة، ولا عارفة بالمطلوب منها، فيأتي السؤال ليحركها ويبحث فيها الحيوية، لتقدم ما طلب منها، كما هو مفترض، وفي هذا نوع من التسيء وانتقاص من إنسانية الراوي.
الذات ———–> الآخر 69- 71
السؤال ———-> الجواب صيف 73
الانثروبلوجيا
الغرب
ألا يحمل الأنثربولوجي أسئلة مجتمعة، ماذا يستغل الغرب عنا؟ ما الذي يثيره فينا؟
ألا يسائل السائل نفسه؟ هذا هو العادي في العمل الأنثربلوجي، ولكن كيفن ساءل نفسه، ليس حول ما يقوم به، ولا طبيعة الأسئلة التي يطرحها، ولا الطريقة التي يتلقى بها الإجابات، وإنما كانت تساؤلاته منصبة حول الأنثربلوجيا، تصورا ومنهجا وطريقة تقديم العمل وإخراجه، وغاياته.
السؤال نوعان: – سؤالان موجهة للآخر.
– تساؤلات موجهو للعلم. مقدمة المؤلف . ق 12. 13
تطور السؤال كما وموضوعا، في البداية حوار واحد أسئلة عامة حول ماشه- مواقفه حيال مشاكله اليومية
ثم تطورت إلى حوارات
ّالحفاظ عليه كما هو” ص 14
” لكن هذه التجربة اكتسبت مضمونها وشكلها كثمرة للأهداف التي وضعناها نحن الاثنين: أنا والفقير” ص15.
دوير يسجل على الأنثربلوجيا التقليدية انتقادات يوردها في تقديمه لعمله من بينها أن الأنثربلوجي لا “يسائل تدخلاته من حيث الحضور والتصرف” ص14 فهل معنى هذا أن دوير ساءل تدخلاته لكي يفلت هو من الانتقاد، ويتجاوز عيب الأنثربلوجيا التقليدية؟ وما طبيعة المسائلة التي قام بها؟ وما آثارها على عمله، وأين يمكن أن نقف على هذه الآثار؟
– السؤال ميت، أو عديم الأهمية ما لم يجد جوابا:
قد نتواضع على أن للسؤال أهمية لا تنكر، وقيمة لا تدفع، وعلى أن مجرد طرح السؤال هو في حد ذاته أهم من الجواب، وقد نتنازل قليلا فنقول هو نصف الجواب، وذلك كله صحيح. غير أن السؤال في نظر الأنتربلوجي يكتسي طبيعة خاصة. إذ أن هذه الأسئلة الأنثربلوجية محددة سلفا، لا استنباطا من الموضوع وإنما تلبية لاهتمامات المجتمع للأنثربلوجي، أي ما يرغب في معرفته عن الآخر، وبالتالي فإن هناك أسئلة تقتضي الجواب، يقول كيفن: ” الأسئلة … تقدم إطارا… وإجابات الراوي هي التي تجعل هذا الإطار ينبض بالحياة، بطرق غالبا ما تكون غير متوقعة ” 15.
تتحدد كمية السؤال حسب : (في الحالة أو الموضوع).
– الحالة المقدمة:
أهميتها لدى الأنثروبلوجي، ولدى مجتمعه الأم، لآنه يفترض أن يعود إلى أبناء جلدته بأجوبة عنها.
مدى أهميتها لدى الأنثروبلوجي، ولدى مجتمعه الأم، لأنه يفترض أن يعود إلى أبناء جلدتها بأجوبة عنها.
مدى تجاوب الراوي أو المخبر معها، بحسب ما تثيره في نفسه من حالات سيكولوجية ووجدانية، وبحسب انتماءاته ومواقفه الدينية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية .
– بين السؤال والتساؤل:
– السؤال جمع الأسئلة هو ما يطرحه الأنثربلوجي على المخبر
– التساؤل هو ما يمكن أن يطرحه القاريء حول الطريقة التي اشتغل بها الأنثربلوجي ، وهنا إقرار بحق القارئ لا في السؤال وإنما التساؤل. لأن السؤال أصبح جزءا مهما من الموضوع لا يمكن التدخل فيه، ولا انتقاده، لأنه حق الأنثربلوجي وحق مجتمعه الأم، الذي يحدد ماذا يريد أن يعرف عن الآخر، ولكن يحق القاريء التساؤل حول طريقة الاشتغال التي نستنبطها بمساعدة المؤلف – وهذا مفتاح سري يتفضل بوضعه بين أيدينا – من الأسئلة التي طرحت في كل حالة، التي توضح لنا نوعية الفهم التي يبحث عنها ” الأنثربلوجي ” 15.
حقيقة السؤال وطارحه:
يطرح السؤال أبعادا ثقافية واجتماعية ونفسية، يحملها عن طارحه، ويتوصل إليها المسائل / المستجوب/ المخبر/ الراوي. كلها، أو بعضها، بأمانة أو بتحريف معين، يتسع مداه أو يضيق، حسب نية ووعي السائل. زمن هذه الأبعاد أن السؤال قوة اقتحام وتدخل، وحشر للنفس، بدون استئذان. والسؤال هجوم غير منتظر، واكتساح غير متوقع لعالم الآخر، دونما حاجة إلى أخذ رأيه، أو أيوافق أو لا يوافق؟ وما هي الحدود التي يسمح بها؟ وهل هناك شروط تراعي أثناء طرح السؤال؟ وهل تمة تساهلات؟ السؤال قوة، واندفاع، دونما تحسب لحجم هذه القوة وإمكانياتها، ومداها. السؤال طلب للجواب مع الضغط، وربما الإرغام، دونما ترك للخيار. فكما أن السؤال لا يعتريه التردد، كذلك الجواب لا يسمح له بالاعتذار، وإذا لوحظ عليه تلكأ أو تردد حوصر بمزيد من الأسئلة، وضيق عليه الخناق بتغيير صيغها اللغوية، أو استبدال عباراتها، أو بالشرح، والتفصيل والتوجيه، فلا يستبدل السؤال إلا بسؤال بدله، ولا يرضى عن الجواب إلا بالجواب.
السؤال استعلاء، وإحساس بالقوة، وأحقية المساءلة، وامتلاك القدرة على الكلام المستفسر والمستفهم، في أي وقت وبأي كيفية، وحول أي موضوع، إنه استباحة غير مفيدة للكلام، واستباحة لحُرم المساءل، فما من مساحة تتمنع على المسائل.
السؤال نفي للخصوصية، وجعل عالم المساءل النفسي والثقافي والاجتماعي مباحا، يُتصرف فيه، ويصبح مفتوحا للسائل الذي يستبيحه ويبيحه للقارئ وأي قارئ..
السؤال سلطة لغوية في البداية، ثم نفسية فمعرفية، حينما يتقبل المساءل تلقيه، يجعل نفسه طوع تلك السلطة ويمنحها الاعتراف والمشروعية، بالمقابل، يجرد نفسه من أي إرادة تسمح له بمناقشة مشروعية السؤال – أي سؤال- أو عدم مشروعيته، وتجرده من رفض التعاطي معه الكلي أو الجزئي، بل إن كل ما يتبقى له هو التردد المشوب بالاعتذار. وربما كانت في الإجابة عليه خطر مفترض، وعواقب متوقعة. إلا أن ذلك لا يعفي المساءل من الجواب، الذي يصبح فرضا وواجبا.
ومن هذه الحقيقة نستنشق حقيقة الجواب، يعكسها، وبزيادات لا تتمظهر في السؤال، ولكنها تخص الجواب ليس هذا محل عرضها.
ولا يسعنا أمام الحقيقة سوى أن نعترف بأن مهمة الأنثربولوجي السائل تجسيد لهيمنة العالم الذي ينتمي إليه، وما هو في الحقيقة إلا وسيلة من وسائل طرقه الممنهجة لمعرفة الآخر، واكتساحه والاستحواذ عليه، متحفيا خلق ستار السلم (المساءلة – الحوار)، الذي لا ينفي عنه القوة، خاصة المعنويةن على سبيل ما ذكرناه آنفا، ووصفناه، بل لاإنه الأنثربولوجي أداة مجتمعه التي تتشكل على صورة ” حملة شخصية” 16 وبتكاثفها تصبح تجييشا يخدم مصالح المجتمعات التي ينتمي إليها الأنثربولوجي ، والتي يمكن تلخيصها في الغرب” الأوربي والأمريكي.
السؤال خدمة لمصالح الغرب:
يقدم السؤال الأنتربلوجي على أنه سعي لامتلاك معرفة ما، منفلتة، أو غائبة، أو غائمة، أو مهمومة، وهو امتلاك يمهد السبيل لفهم الآخر والتعرف عليه، ثم إخضاعه والتحكم فيه. وليس السؤال اعتباطيا حياديا، بل أنه ينطلق من وعي الأنثربولوجي الذي لا يبعد عن وعي جماعي للأمة التي ينتمي إليها، وإدراك تفصيلي لحاجيات مؤسساتها والغايات التي تخدمها والمصالح التي تدافع عنها، والنقص الذي تعاني منه، مما يحتاج إلى الانجاز أو التصويب أو التعديل، أو التتميم أو التطوير. فيحاول من خلال الأسئلة ملء هذا النقص، ويسعى إلى تقديم الإجابات إليها، وملء الفراغات، وهو يخدم بذلك لا الراوي أو مجتمعه، لأنه لم ينصت له ولما يريد هو قوله، أو يستمع إلى بوحه، أو يدعه يتنفس عن رغباته وحاجاته وهمومه وآماله وآلامه، وإنما يسائله حول ما يريد هو معرفته، ويحاصره، معنويا ونفسيا وثقافيا ولغويا، فينتزع منه إفادات عما يريده، دون أن يلتفت لما لا يريده، ودون أن يسمح باسترسال الراوي حول موضوع يراه هو غير مفيد له.
ويوضح كيفن هذا الرأي بفقرة جد معبرة، وبصرامة لا غبار عليا، تعطي ما لله لله وما لقيصر لقيصر، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على قوة اقتناع كيفن بالدور الذي يقوم به، وقدرته على طرحه بجلاء باهر، واستعداده للدفاع عن موقفه بقوة تشابه القوة التي يستعد للدفاع بها عن مصالح أمنه، باستماتة السياسي المقتنع بمذهبه، ولإخلاص الداعية المتشبث برسالته، وفدائية الجندي المتشبع بعسكريته، وتضحيات المواطن المؤمن بوطنيته يقول: “ولذلك فإن مصلحة الحملة… هذه المصالح ” ف 1 ص 16.
بين مساءلة الفرد ومساءلة المجتمع:
إن الأسئلة الموجهة إلى الفقير كشخص – وكما وصفه الكتاب في مستسله بقوله ” ذلك المزارع المغربي ذو الخمس والستين عاما ص14″ ، تبدي نفسها في ظاهرها أسئلة تهم حياة الفقير محمد، وتحاول النبش في ذاكرته، واستعراض تفاصيل حياته، ومخبوءات نفسه، في مسيرة خطية زمنية، يختار لها الأنثربولوجي طبوغرافيتها، ويرسم محطات توقفها. ولحظات انطلاقها، وانتهائها. وكأن الأمر لا يعدو مساءلة مزارع مغربي هرم يجتر ذاكرته ويحكي حياته الماضية بكثير من الاعتزاز والحنكة والحكمة وبشيء من الغضب والنقمة على أحداث بعينها، ومواقف في حذ ذاتها. وربما قد نتوسع أكثر فنقول هو نموذج للمزارع المغربي السوسي البسيط في البلاد السهلة، الذي عاش أواسط القرن العشرين، غير أن كيفن يفرض توسعا أكثر مما ينبغي فيقر على أن الفقير محمد فرد يختفي وراءه مجتمع، وواحد تحتشد في ذهنه الجماعة الواسعة العريضة، وعنصر يحمل في طياته ذاكرته الذاكرة الجماعية المغربية، وشخصية تخترق في نفسية المكونات النفسية الأساسية للشخصية المغربية، إنه ليس فردا من مجتمع، حسب التصور الطبيعي، وإنما هو مجتمع في فرد وفق الصورة المعكوسة، وما مساءلته إلا مساءلة لمجتمع. يقول كيفن : “المساءلة تهم الأفراد والمجتمعات على السواء” ص16. والاجوبة التي ترد على لسانه هي ما يتوقع من المجتمع، وما يعبر عن الموقف الجماعي، والشعور العام للمجتمع المغربي حيال قضايا يعينها في أواسط القرن الماضي.
تتتبادل الأسئلة بين الأنثربولوجي والراوي:
من المتوقع عند الباحث أن يواجه هو الآخر بأسئلة كما يواجه الآخرين بفيض من أسئلته، وركام من استفساراته، التي غالبا ما تكون معدة بدقة، ومدروسة بعناية، مقابل أسئلة الراوي التي تكون عفوية، ووليدة اللحظة، ولا تستطيع التخلص من مواصفات رد الفعل وما يطبعه من انفعالية وتسرع وتشتت، وكثيرا ما تنفع حيطة الأنثربولوجي وترصده الدائم لردود الأفعال، وحرصه على تجنبها، أو التخلص منها بدبلوماسية متقنة. إلا أنه مع ذلك تبقى هذه الأسئلة واردة ومتوقعة، وتستوجب الإجابة، على الأقل من الناحية المنطقية (ص16). فماذا كان عن أسئلة الفقير، ما حجمها وما موضوعها، وكيف جوبهت نفسيا، ولغويا، وكيف كان الرد عليها.
ونتيجة لذلك… التقليدي ص 17 ف1
لقد قضيت معظم أوقات ذلك الصيف – أي صيف 1975- وحيزا هاما من السنوات الموالية في مساءلة هذه التجربة وما ولدته من قناعة لدي ولدى الفقير وعلاقة ذلك بعدم اقتناعي بالأنثربولوجيا الأكاديمية ص15
التساؤل حول مسلمات الأنثربولوجي:
لم يكن السؤال موجه بطريقة فوقية غالبا من الأنثربولوجي إلى الراوي، أو بطريقة عكسية من الراوي الأنثربولوجي، وهذا نادر على الأقل فيما عرضه الكتاب، وغنما نشأ صنف ثالث من السؤال موجه إلى الذات، اختار له كيفن أن يكون تساؤلا، وقد لامس العلم الذي يشتغل عليه، أي الممارسة الأنثربولوجيا، ولامس المجتمع الذي تعبر عنه، وتخدمه، ولامس ذات الباحث. ففيما يخص الممارسة الأنثربولوجية فقد أدت تساؤلات كيفن إلى اعتبار أغلب طرق اشتغال الأنثربولوجيا الممارسة سابقا هي طرق تقليدية تقتضي الكثير من الاجتهاد والنقد سعيا وراء التغيير، ولذلك يواجهنا الكاتب منذ مقدمة المؤلف بإعلان تورثه على هذه الطرق، ورغبته الصريحة في استبدالها، فبعد ما عرض طريقتي الأنثربولوجية الشائعتين
في تفسير الاحتكاك بالسكان من ثقافة مختلفة:
– طريقة إعادة صياغة الموضوع في مباحث مختارة، والتغاضي عن التفاصيل الجانبية، والدمج بين الأحداث، وإسقاط الترتيب الزمني.
– طريقة السرد الروائي.
يصرح بالنقد المباشر للطريقتين ويعلن رفضهما ويقول: وفي رأيي يوجد نقص في الطريقتين معا” ص13 من الكتاب الأولي من مقدمة المؤلف، وبعض عرضه لجوانب النقص فيهما معا، يبتدع طريقته الخاصة، ليتجاوز النقص المشتكى منه، وذلك بتقديم تجربته بالصورة التي أنجز بها هذا المؤلف.
– الشعور بمتعة الحديث المتبادلة بين الأنثربولوجي والراوي.
– المرونة في التعامل مع حاجيات الأنثربولوجي وحاجيات الراوي.
– تجميع المعطيات دونما استيعاب لها.
– العلاقة الناشئة بين الأنثربولوجي والرواي: الجاذبية المتبادلة، التعاطف، الاختلاف، اكتشاف الواحد للآخر.
– تفهم الراوي سبل لاستيعاب ثقافته.
– اعتماد منهجية الحدث والحديث 14
– عرض المقابلة مع تفحصها والبحث عن سبيل إيصال هذه التجربة دونما نقص مع عرض النقائص التي كانت تشوب التأويلات الأنثربولوجية المألوفة في مثل هذه التجارب 14.
وفيما يخص المجتمع الأنثربولوجي فقد عرض له كيفن بتساؤلات أهمها حول طبيعة اهتمامات هذا المجتمع تجاه الآخر، ونوعها، وأهدافها، وكيفية التوصل إليها. وهل هي نفس أهداف الأنثربولوجي؟ وما هي حدود المجتمع، وما هي حدود الدارس، ما دام الكل يصهر في عبارة واحدة “الذات”. ومتى تبدأ حقوق هذا ومتى تتوقف حدود ذاك؟ ويصل في الأخير إلى أن الأنثربولوجي في زمن تأليف هذا الكتاب قد طرأ عليه الكثير من التغيير ولم يعد هو أنثربلوجي الزمن الماضي، كما أن اهتمامات مجتمعه لم تعد هي نفس اهتمامته وبدقة مفرطة، بحيث يُقدم كيفن “ذاتية الأنثربولوجي بالشكل الذي تظهر به هذا الأخير اليوم وهو يرتبط بشكل غير واضح باهتمامات مجتمعه الأم” 17
أما فيما يخص ذات الأنثربولوجي فقد نالت نصيبها من المساءلة، من قبيل طبيعة العلاقة التي تربط الباحث مع الراوي وثقافته ومجتمعه، والتزام الحياد حيالها، وتجنب الوقوع تحت أية تأثير من قبلها. ذلك ما كان يفترض في الأنثربولوجي نظريا. غير أن كيفن اعترف بجرأة وصراحة على أن ذلك شبه مستحيل، إذ لا بد من نشوء علاقة إنسانية بين الباحث والراوي، ولا بد من وقوع الواحد منهما تحت تأثير الآخر، بل عن الشعور بالارتياح والتجاوب العاطفي والإحساس بمتعة التحادث هو أساس الحوارات، ولا بد كذلك من خضوع الواحد منهما لثقافة الآخر سلوكا وأفكارا وطرق معيشة ومواقف وفهم للناس والأشياء. وربما رافق هذا التأثير الباحث فيما بقي من عمره وعمق حضوره في مسيرة حياته، بصورة لا يمكن التخلص منها بعد ذلك، فأما من ” جهة هوية الذات، ذلك أننا نراها اليوم وقد لامسها الآخر وربما أثر فيها إلى الأبد”. 17
ولذلك فلا مجال لتحصين ذات الأنثربولوجي، وحفطها من تأثير الآخر، وإنما يجب الإقرار على أن هذا التأثير وارد وبقوة، وربما بصورة أسهل مما يُتصور، أمام عدم قدرة الذات على التحصن إزاءه، ويعترف كيفن بهذه المشكلة بحث تظل المشكلة الأساسية لهشاشة الذات أم الآخر قائمة “.