د. نضال محمد فتحي الشمالي
جامعة البلقاء، عمان (الأردن)
تستغرق الدراسة في تفكير محتدم حول فكرة سوق لها أحد الباحثين الجادين – عبد الله إبراهيم – في موضوعة التواصل الحضاري مؤداها أن “المسار الخاص بتطور الثقافة العربية الحديثة صورة شديدة التعقيد والالتباس، صورة تتقاطع فيها التصورات والرؤى والمناهج والمفاهيم والمرجعيات، ولا يأخذ هذا التقاطع شكل تفاعل وحوار، إنما يتمثل لمعادلة الإقصاء والاستبعاد من جهة، والاستحواذ السلبي والتنكر والتخفي من جهة ثانية. وهذا التعارض الذي يتحكم بالأنساق الثقافية أفضى إلى نتيجة خطيرة؛ وهي: أن الثقافة العربية الحديثة أصبحت ثقافة (مطابقه) وليس ثقافة (اختلاف)”(1)، وهذه إشكالية يستهل بها عبد الله إبراهيم كتابه ليعلن النتيجة قبل الإجراء، ليلغي بذلك فكرة التواصل الحضاري للأدب بوصفه مكوناً أساسياً من مكونات الثقافة للأمة لصالح فكرة الانسياق والتبعية والمطابقة، فهل مؤدى الثقافة العربية في عصر النهضة وما تلا عصر النهضة هو فكرة المطابقة.
إن نظرة عجلى نحو المنجز الأدبي الثقافي للأمة العربية إبان عصر النهضة ليكشف قطاراً طويلاً من المحاولات الثقافية والأدبية سعت لتحديد موقفنا الثقافي من الآخر؛ أكان تحديد المكتشف أم تحديد المقارن أم تحديد التابع. وقد “كان المثقفون العرب، على الخصوص الذين درسوا في الغرب يردون جلهم إن لم يكن كلهم، على اختلاف اتجاهاتهم السياسية، التفاهم مع الغرب لاعتقادهم أنه بموقعه الجغرافي والحضاري والتاريخي منا، صنونا أو الآخر محاورنا الطبيعي، وإن علينا أن نأخذ عنه بشكل أو بآخر، ما يسعفنا في نهضتنا”(2)، إن مسألة التواصل الحضاري من خلال الأدب مسألة قديمة ضاربة في عمق نهضتنا الأولى أكان تواصلاً مع الأدب الفارسي أم الأدب اليوناني، لكنها كانت محكومة بعلاقة المتفوق الذي اختار شكل التواصل وطريقته، المحكوم بمبادئ سامية ينطلق من هديها، لكن هذه العلاقة في العصر الحديث، ما بعد خروج نابليون من مصر عام 1801 م ما عادت محكومة إلي تلك المبادئ السامية النيرة وفكرة الريادة المطلقة، بل باتت محكومة بفعل المستيقظ الغافل الذي فقد صوبه لقرون خلت.
لقد اتخذت علاقتنا مع الآخر (الغرب) مناحي شتى وأشكالاً متعددة ووجوهاً مختلفة في إطار من الصراع والتفاعل(3)، ولم تقف هذه العلاقة عند “حد الانبهار به وبمنجزاته العلمية والإنسانية وتطوره المادي والثقافي، ولم تقف عند حد التبعية، واستلاب الشخصية العربية من موروثها الحضاري ومقوماتها الإنسانية؛ لتتشيأ بمعايير الآخر وقيمه وأشكال حضارته، بل تعدتها إلى علاقة من نوع آخر، قوامها الوقوف على أشكال حضارة الآخر، ورؤية إنسانه على الطبيعة، فلم يَعُد العربي يثق بما تنقله الصحف، وما تحمله وسائل الإعلام عن الغرب ومنجزاته وقوته، وبخاصة في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وقد اتخذ هذا الوقوف طرقاً متعددة أهمها الرحلة إلى بلاد الغرب، وتسجيل رؤيته وحواراته ومواقفه في أعمال روائية”(4). وقد ظهرت بواكير مثل هذا التفاعل بعد عودة أول بعثة دراسية أوفدها محمد علي باشا إلى باريس، ومنذ ذلك اليوم أضحى الغرب حاضراً في أغلب الكتابات العربية مبهوراً بمقدراته المدنية منفلتاً باتجاه حضارته متفيئاً ظلالها ومنجزاتها، والمتفائل يقول إن رؤية الكتاب العرب تجاوزت مسألة التأثر والتأثير “بل تعدتها إلى إقامة الحوار بين الحضارتين العربية والغربية. ولكل منظوره يدافع به عن مكونات حضارته ومعطياتها الروحية والمادية”(5).
إن حاجة النهضويين العرب لملأ فراغهم الحضاري آنذاك كانت ملحة إلى حد كبير، فوجدوا في طرح فكرة التلاقي الحضاري بديلاً لواقعهم الثقافي المبتور عن الحضارة العربية في شكلها التراثي، فكان لابد من رفد واقعهم بمرجعيات ثقافية يمكن التعويل عليها، فماجت المصطلحات الواصفة لهذه الحقبة، بين واع للانغلاق وآخر للانفتاح وثالث للتبعية ورابع يحذر من الصراع وصدام الحضارات وآخر يدعو لعالمية الفكر والأدب وضرورة التنوع، وعلى ما يبدو أن الجاهزية الثقافية لمسألة الانفتاح لم تكن متوفرة عن الجميع، فتلونت هيئة الآخر في كتابات المثقفين وهذا بحد ذاته جعل الأدب وسيلة فاعلة في التمازج الحضاري، مع عدم جاهزية الحضارة العربية لتصدير ولو قليلاً من قيمة ما استوردته.
وواوقع الأمر يحتم علينا أن نقتنع بضرورة مثل هذا التمازج فحاجتنا لمنجز الآخر ضرورة ملحة، من باب إحداث بعض من التوازن المفقود بين حضارتين متزامنتين كان للأضعف حاجات لم تلب، وبما أن الجماعات الإنسانية “تختلف بصفة عامة في طريقة أو وسيلة إشباع تلك الحاجات، وذلك من مكان لآخر، ومن زمن إلى زمن، إلا أن كل جماعة إنسانية، صغيرة أو كبيرة، تصل في النهاية إلى تشكيل ثقافة لها، أي أسلوب معين لحياتها بما يتضمنه ذلك من آداب، وتقاليد وعادات ونظم اجتماعية وإنتاجية. ويأتي هذا الأسلوب الحياتي- أي الثقافة – ثمرة التفاعل بين الإنسان والكون ومتطلبات الحياة”(6)، ومثل هذا التشكيل الثقافي لابد أن يكون محسوباً ومرتبطاً بمرجعيات محسوبة، ومع عدم إهمال فكرة أن الحضارة الإنسانية واحدة ولكنها متعددة المستويات، إلا أن مسألة الخصوصية الثقافية مسألة لا بد منها لحماية توازن الحضارة ومنجزاتها المتنامية، مما يعني الوقوف مطولاً عند محددات ثقافية تتمثل في: الانغلاق، الانفتاح، التنوع، التبعية، الصدام أو الصراع، العالمية، الانهيار وفقدان الهوية.
إن ثقافة الآخر وجاهزيته كانت وقتها أقوى من أي اعتبار، فبريق حضارة الآخر يخطف الأبصار ويسير البصائر، وقد تركزت هذه الحضارة في “باريس” هذه المدينة الأوروبية العملاقة التي حققت حضوراً واسع الأبعاد في كتابات المثقفين العرب خلال قرنين من الزمان التاسع عشر والعشرين، إن هذه المدينة صنعت لنفسها خصوصية في نفوس كتاب الأمة ومفكريها ومثقفيها، فنظرة سريعة لمن عقدوا الاهتمام بها تكشف لنا قدر خصوصيتها، فأصبحت المدينة الأبرز والأكثر حضوراً في ثقافتنا العربية في العصر الحاضر، وظل المشروع النهضوي العربي المعاصر يؤمن بأن نجاحه “ينبغي أن يمر بهذه المدينة – المركز التي وصفها الطهطاوي وصفاً، ظل يتكرر في كثير من الأدبيات اللاحقة، فهي عنده من أحكم سائر بلاد الدنيا وديار العلوم البرانية وأثينة الفرنساوية”(7)، وهذه المكانة التي حققتها باريس بوصفها موضوعاً لكثير من الأدباء لما تمثله من قيم جمالية وحضارية جعلها مدينة عالمية تستوعب شتى الحضارات والثقافات “لتصبح مصدر إشعاع حضاري”(8)، وما يبعث على التفاؤل في مثل هذا الاهتمام بباريس النظرة الأوروبية لها، “وفي المقابل بدأت باريس تظهر في الآداب الأوروبية ليس بوصفها عاصمة للحضارة الغربية فحسب، بل ملتقى لجميع تيارات الفكر في العالم، ففيها يتلاقى الناس وتتكدس البضائع من جميع أنحاء العالم، وكل ذلك يعد بحياة متطورة، ويبعث الأمل بمستقبل رغيد وآمن.
وقد ظهر هذا الثناء على باريس بشكل واضح على لسان التنويريين Enlightenments فقد كانت استجاباتهم للمدنية تعني الرغبة في المزيد من الرخاء والتقدم. وكانوا عبر مطالبتهم بحرية التجارة، ينادون بضرورة الانفتاح الليبرالي على الصعيد الثقافي. كما أن الكماليات لم تعد فضيحة بل ضرورة اقتصادية ملحة، كما لم يعد المسرح خطيئة بل مدرسة الإنسانية العليا. وقد أصبحت المدنية ضماناً للتقدم على شتى الأصعدة. وبدأت الملامح الإيجابية لباريس تتنامى. فأصبحت في نظر التنويريين رمزاً للمستقبل المتضمن للحرية والسعادة”(9). ومما سبق يتبين أن باريس لم تخطف إعجاب المثقفين العرب بل سبقهم إلى مثل هذا الإعجاب أبناء أوروبا أنفسهم.
خصوصية باريس في الثقافة العربية المعاصرة:
دفعت مسموعات باريس كثيراً من مثقفي العرب لأن يرتحلوا إليها راشدين مستعلمين، فتجدد انبعاث أدب الرحلات العربي تحقيقاً لهذه الغاية، فقد جاء بقلم أحد الكتاب الفرنسيين في القرن الثامن عشر القول “إن الرحلات تشكل أكثر المدارس تثقيفاً للإنسان، فالاختلاط والحياة مع الشعوب المختلفة، إضافة إلى الاجتهاد في دراسة أخلاقهم وطباعهم، والتحقيق في دياناتهم ونظم حكمهم، غالباً ما تضع أمام الفرد مجالاً صيباً للمقارنة، كما تساعده – ولا شك – على تقييم نظم وتقاليد بلده وموطنه”(10). إن أدب الرحلات يكاد يكون الجنس الأدبي الأبرز الذي وظفته ذائقة المثقفين العرب في القرن التاسع عشر لسبر أغوار الحضارة الأوروبية في نموذجها الأسمى “باريس”، فقام بها أصحابها “بحثاً عن الذات وهروباً من واقع غير مستحب لأنفسهم”(11)، والغريب أن أوروبا نفسها قد “شهدت هذا النوع من الرحلات، وذلك مع بداية التحول والتبدل في القيم والأحوال الاجتماعية والفلسفات الإنسانية، خصوصاً إبان القرن التاسع عشر، والنصف الأول من القرن العشرين الذي شهد حربين عالميتين، ودماراً للبشرية لم يسبق له مثيل في التاريخ”(12).
إن شيوع هذا اللون الأدبي لهو دليل على الرغبة في التواصل الحضاري فالرحلة لا تتم إلا بين قوميتين مختلفتين وحضاريتين متباينتين، ومن هنا تبرز قيمة الرحلات في التواصل الحضاري فهي “مصدر لوصف الثقافات الإنسانية، ولرصد بعض جوانب حياة الناس اليومية في مجتمع معين خلال فترة زمنية محددة؛ لذا كان للرحلات قيمة تعليمية من حيث إنها أكثر المدارس تثقيفاً للإنسان، وإثراءً لفكره وتأملاته عن نفسه وعن الآخرين”(13)، ومن أشهر من قام برحلات إلى أوروبا عامة وباريس خاصة رفاعة الطهطاوي، وأحمد فارس الشدياق، وعلي مبارك، ومصطفى عبد الرزاق، وفرنسيس فتح الله المراش وغيرهم.
نماذج من التواصل الحضاري:
رفاعة الطهطاوي (1801-1873 م):
وقد ترأس رفاعة الطهطاوي أول بعثة علمية أرسلها محمد علي باشا للدراسة عام 1826 ويعد بذلك “أول الرواد الذين راقبوا حضارة أوروبا عن كثب ودرسوا الفكر الفرنسي في العمق، فقد قام الطهطاوي أثناء إقامته في باريس، بمشاهدات دقيقة للعالم الحديث وتعرف إلى المؤسسات والعادات السائدة في المجتمع الأعظم ازدهاراً في زمانه”(14)، وبعد عودته إلى مصر نشر رحلته في كتاب أسماه “تخليص الإبريز في تلخيص باريز”(15) الصادر عام 1834م، وقد ضمنه موقفه ومشاهداته من المدنية الغربية، وضع فيه تصوراً جديداً للتمدن في الثقافة العربية جعل البعض يطلق عليه لقب “بشير التنوير العربي”(16)، وفي أحوال أخرى “من أعمق العقول الشرقية العربية التي ماست الغرب، وفهمته فهماً واعياً”(17) والطهطاوي من خلال كتابه هذا يكون قد “أرسى جذور الاهتمام بباريس خارج النطاق العلمي البحث الذي تميزت به بعثات محمد علي، ويكشف… عن اهتمام عميق بهذه المدينة وبثقافة أهلها”(18)، وهذه تجربة جديدة على صعيد علاقة الشرق بالغرب، فقد ظهرت في ذهن الطهطاوي “المدينة المثالية بمرافقها المتنوعة، ونظافتها، وما فيها من قوانين تنظم حياة المواطن، وتكفل له السعادة،… وكان إعجابه الشديد بها حافزاً ليذكر تفصيلات كثيرة عنها وعن أهلها لتكون هذه المعلومات باعثاً للمصريين على الأخذ بأسباب الحضارة”(19)، وقد نذر الطهطاوي لمدينة باريس ثلاثة عشر فصلاً شملت تخطيطها وعاداتها وغذائها وملابسها؛ وأما أكثر ما يظهر تعلق الطهطاوي بهذه المدينة فهو تعداده لأنواع المعارف التي قرأها بالفرنسية هناك.
فقد ظل الطهطاوي يذكر بأنه مدين لباريس باتساع الثقافة، واكتساب تجربة حضارية جديدة”(20)، لقد أفلح الطهطاوي بنقل رسالته الحضارية إلى أمته بقلم الواعي المنتقي المتحيز لا بقلم المنساق لها الغافل عن مساوئها فكانت ملاحظاته صائبة(21)، إذ لاحظ تفوقهم في الفنون والصنائع، وراقب أساليبهم في الأكل والشرب والنوم، وأبدى إعجابه بمزايا الإفرنج الأخلاقية فهم محبون للعمل والكسب والتجارة، بعيدون عن الإسراف، يحبون وطنهم، ومن فضائلهم أنهم اختصوا بذكاء العقل ودقة الفهم وحبهم معرفة أصل الشيء والاستدلال عليه واحترامهم الاختلاف في الدين والمذهب، ولاحظ مكانة النساء المرموقة عندهم، وإقامة النظام السياسي على القانون والعدل. ومع كل سبق لمسنا أن الطهطاوي “يحرص لا شعورياً باستمرار على أن يقيم بينه وبين الحضارة الغربية التي يعجب بها مع ذلك، فاصلاً يحميه شر الاندماج فيها”(22)، فكان حريصاً على شخصيته الحضارية كشرقي أولاً وأخيراً حتى لا تذوب في ثقافة الآخر وهذا شرط من شروط التواصل الحضاري الفاعل.
أحمد فارس الشدياق (1805-1887م):
ويعد الشدياق أحد النهضويين الذين راقبوا عن كثب حضارة الغرب فقارن بينها وبين حضارة الشرق في أكثر من مجال وقضى الشدياق في باريس قرابة السنتين والنصف، لكن ذهابه إليها كان من مدينة أوروبية أخرى هي لندن وليس من مدينة عربية “لهذا اتسمت نظرة الشدياق إلى باريس عموماً بخلوها من التقديس والإجلال الذي ظل يميز نظرة القادمين إليها من المشرق العربي، كما اتسمت بالتركيز على المقارنة بين المدينتين وتفضيل واحدة على الأخرى”(23) في كتابه “الساق على الساق في ما هو الفارياق”. أما الكتاب الثاني الذي خص فيه باريس فهو “كشف المخبا عن فنون أوروبا” نشره عام 1867 “يتحدث الشدياق في الفصل الذي عقده للحديث عن باريس بعنوان “وصف باريس” عن هذه المدينة من موقع الرحالة المتفحص الحريص على توكيد وجهة نظره بالوقائع الدقيقة، ولهذا تتلاشى النبرة الشدياقية الغاضبة – الساخرة ليحل محلها احتفاء واضح بالمكان على صعيد الدرس والتفحص. قدم الشدياق لحديثه عن باريس بمقدمة تاريخية – جغرافية تحدث فيها عن دور ملوك فرنسا في تطوير المكان وما قدمه كل واحد من هؤلاء الملوك على صعيد العناية بالعاصمة الفرنسية”(24) ولكن يبقى الأمر الأبرز الذي لاحظه الشدياق في هذه المدينة الغربية احترام الرأي والعقيدة(25).
علي مبارك (1823-1893م):
وقد ألف كتاباً بعنوان “علم الدين” 1882م يكشف فيه عن رؤية ناضجة لمدينة باريس، فالمدينة متميزة في نظره وسبب ذلك “أنها رؤية شاب فقير استطاع أن يتعلم في المهندس خانة في مصر وأن يكمل دراسته في باريس ضمن ما عرف “ببعثة الأنجال” حيث درس فيها في الفترة الواقعة بين 1844 – 1850 فنون الهندسة الحربية. وبعد رجوعه إلى مصر صار من رجال الحكم وخضع لتقلبات العهود السياسية المتناقضة… وهذا يعني أن رؤية علي مبارك العلمية الطابع لباريس وللغرب الأوروبي محكومة بالإطار السياسي لنظام الحكم، وبالرؤية العسكرية الصارمة التي تربي عليها”(26)، وحتى يحقق هذه الرؤية بطريقة مقبولة هياً لها شخصيات قصصية ليحافظ على المسافة بين آرائها الخاصة والتعبير عنها.
وعلى ما يبدو أن فكرة التواصل الحضاري من خلال نموذج أدب الرحلات قد نقل صورة دقيقة لماهية الغرب وحضارته مهدت لأبناء الأمة قراءة واعية للآخر، قادت الكثير منهم لأن يرسم صورة الآخر في نماذج أخرى من الأدب فوجدنا محاولات عديدة تؤطر لهذه العلاقة ومن أبرزها: “حديث عيسى بن هشام” لمحمد المويليحي (1858-1930) ورواية “عصفور من الشرق” لتوفيق الحكيم و”الحي اللاتيني” لسهيل إدريس و”قنديل أم هشام” ليحي حقي و”موسم الهجرة إلى الشمال” للطيب صالح، وقد عالجت هذه الروايات بجرأة علاقات الحضارة بين الشرق والغرب(27).
وستعقد الدراسة اهتمامها في مادتها المقبلة على نموذج من نماذج التواصل الحضاري المبكر في الأدب العربي المعاصر لم يلق نصيباً كافياً من الدراسة ألا وهو “رحلة باريس 1867” لفرنسيس فتح الله المراش وهو نموذج من أدب الرحلات في العصر الحديث لا نقف عند أسطره التراثية الظاهرة بقدر ما نتوغل في تحليل العقلية المنتجة له، فالقيمة الكامنة في تحليل أدب الرحلات تكمن في أنه نمط مباشر من أنماط التواصل الحضاري أنتجته عقلية موسوعية التفكير حريصة على الإلمام بمناهج وعلوم وفلسفات زمانها، بمنهجية اثنوجرافية(28).
فرنسيس فتح الله المراش (1836-1874م):
قليلة هي المصادر التي عنت بحياة فرنسيس المراش وقليل هم متداولوها، ونظرة سريعة على هذه المصادر ستعكس ذلك(29)، فنجد أن المراش ينتمي إلى عائلة لها باع في الأدب والعلوم والوجاهة، وقد برزت عائلته بين نصارى حلب في منتصف القرن التاسع عشر في طليعة حركة النهضة الفكرية، واعتبروا في منزلة تماثل منزلة اليازجيين والبساتنة في لبنان والشام، وفي هذه الأسرة العريقة كان مولد فرنسيس سنة 1836. ولما بلغ الرابعة من عمره أصيب بداء الحصبة وثقلت وطأته عليه. وإذ لم تفلح الأساليب التقليدية المعروفة إذ ذاك في مداوة فرنسيس، كان لابد من أن يترك المرض في جسده من الآثار ما نغص عليه حياته كلها وأوهن قواه وأعل بصره، وأسقم نظرته إلى العالم فغلب عليه التشاؤم في أكثر آثاره. ولفرنسيس أخ وأخت اشتهرا بالآداب، فأخوه عبد الله مراش (1839-1900) ترك من الآثار ما يستحق الدراسة مثل شقيقه فرنسيس وربما أكثر. أما مريانا مراش (1848-1919) أخت فرنسيس، فلها مكانتها البارزه بين أعلام النهضة النسائية في العالم العربي، ويذكر فيليب دي طرزي أنها “أول سيدة سورية أنشأت مقالة في مجلة أو جريدة”(30).
انكب المراش على خزانة والده يطالع ما فيها من الكتب والمصنفات ما كان له الأثر العميق في تفتح قريحته، واتجاهه إلى قرض الشعر في مرحلة مبكرة. وفي سنة 1850 اصطحبه والده معه إلى فرنسا ثم بيروت ثم عاد إلى حلب يشتغل بالأدب والعلوم، أما من اللغات فقد درس الفرنسية والإيطالية بشغف كبير عبر عنه في “رحلة باريس” وفي الخامسة والعشرين من عمره بدأ المراش دراسة الطب مدة أربع سنوات على يد طبيب إنكليزي ثم مارس الطب سنة كاملة بعد تخرجه (1865-1866) ثم سافر في رحلة إلى باريس وخلال إقامته فيها سكن في “الحي اللاتيني”، وكان في البداية طالباً نشيطاً مخلصاً للغاية التي سافر لأجلها ألا وهي الحصول على الإجازة في الطب. لكن إغراءات باريس وملذاتها أغوته فأقبل عليها بنهم، وكتابه “شهد الأحوال” تضمن قصائد تصور ذلك. ثم ما لبث أن اعترته انحطاطه في قواه البدنية فخبا نور بصره فما عاد يستطيع متابعة دراسته، حتى أن بعضهم قال إنه عاد من باريس كفيف البصر وهي المرحلة الأخيرة من حياته القصيرة (1872-1874)، وفي هذه المرحلة المظلمة من حياة المراش لجأ إلى أصدقائه يملي عليهم مقالاته وخواطره، ولم تلبث أن وافته المنية في أواسط سنة 1874. وهذه المرحلة التي عاشها المراش في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فقد كانت مرحلة غنى ونهوض أدبي وفكري، حيث عرفت حلب عدداً من الأدباء والمفكرين أسهموا في حركة التنوير العربية(31). ومنهم: انطوان الصقال، رزق الله حسون، جبرائيل دلال، نصر الله دلال، ميخائيل دلال، ميخائيل الصقال، كامل الغزي، قسطاكي الحمصي، عبد الرحمن الكواكبي, وليس من الغريب في مثل هذه الأجواء الثقافية أن ينتج المراش خلال حياته القصيرة عشرة مؤلفات.
فكره ومنهجيته:
ذكرت الدراسة أنفاً حساسية الفترة التي عاشها المراش من تاريخ بلاد الشام إبان عصر النهضة في مصر ومرحلة الغليان الاجتماعي في بلاد الشام. وخلال هذه المناخات المتأججة يحلق المراش بعقلية ليبرالية محكومة إلى مسألتي الحرية والتمدن، ومن ثم شغفه بالحضارة الغربية، فنجده قد تطرق إلى أصناف عدة من الحريات(32)، كالحريات الطبيعية والحرية السياسية والحرية الاجتماعية، والحرية الدينية، ورفض الرق، وحرية المرأة وبعد مرحلة باريس نجد رؤية المراش قد تعمقت باتجاه العقل الإنساني ومكانته ودوره في تأويل الحقائق الدينية وتعليلها ويمكن أن نقول سعى من خلال فكره إلى جملة من المبادئ تعترف بحقوق طبيعية للإنسان لا يمكن التصرف بها، وضرورة مراقبة السلطة السياسية، وتنزيه الدين عن الأغراض السياسية، والاعتراف بمرجعية العقل، والتوجه إلى دراسة الطبيعة وقوانينها، والإقرار بدور الأكثرية البائسة في المجتمع، ومعاملة المرأة تليق بمكانتها في الأسرة والمجتمع(33).
لقد كان المراش يسعى ويتطلع إلى دولة حديثة تقوم على المساواة السياسية وحرية الرأي والتعبير، ويكون فيها للجميع حق المشاركة في اختيار السلطة المناسبة ومراقبتها من دون تمييز أو استبعاد لأي فئة من الناس. هذه المبادئ والأسس تتناقض جذرياً مع الدولة الاستبدادية التي تكرس السلطة المطلقة، وتقسم الناس إلى فئات متمايزة في المواطنية والحقوق السياسية(34)، يقول المراش في رحلة باريس(35): “رأيت الغني يأكل قوت الفقير ويجني ثمرة أتعابه لكي يشبع بطنا عديمة الشبع. رأيت جميع خيرات الأرض وثروتها مملوكة من نزر من المغتصبين وبقية ألوف الألوف متمرغين في أوحال الشقاء وعديمي كل نعمة وخير “وهذه الآراء والمواقف التي تبناها المراش بعد سفره إلى باريس تجعله في مقدمة رواد النهضة العربية الحديثة الذين تلمسوا الأسباب الاقتصادية للتفاوت الاجتماعي ولكنه لم يقدم حلولاً جذرية لهذه المشكلة، فالحل الأنسب الذي يمكن استخلاصه من مؤلفاته، يقوم على الإقرار بالمساواة بين الجميع في الحقوق السياسية وتقليص الفروق الاجتماعية الحادة بتعاطف الأغنياء مع الفقراء ومؤازرتهم(36).
أما الاهتمام الثاني الذي شغل فكر المراش فهي التمدن والعلاقة مع الغرب، وهي من أبرز الإشكاليات المركزية في فكر النهضة العربية، فالهاجس آنذاك كان متمركزاً في الرغبة في تخطي حالة الانحطاط المهيمنة على العالم العربي ومواجهة التحديات السياسية والاجتماعية والحضارية التي طرحها الغزو الاستعماري الغربي بدءاً من حملة نابليون على مصر عام 1798م وبصورة عامة يقوم التمدن في فكر المراش على مبادئ وأسس(37)، يمكن استخلاصها من مجمل مؤلفاته وقصائده ومقالاته، وتتمثل في: الحكم العادل ومراعاة المساواة بين الجميع دون تمييز، تقدم الرابطة الوطنية على الروابط الطائفية والقبلية والملية، وأن التمدن لا يتلاءم مع كل ما يتعارض مع حقوق الإنسان الطبيعية، ويستند التمدن على أساس ديني فالعالم لم يدخل عنده في دائرة التهذيب إلا منذ قيام مملكة الروح، كما أن التمدن يتمثل في الانتظام والأمن والسلام، أما الأخلاق فهي مقوم أساسي من مقومات التمدن.
وعلى ما يبدو أن الحرية والتمدن أمران متلازمان في نظرة المراش للحياة، فالتمدن والحرية هما في آن واحد دولة العقل والعلم والحرية والإيمان والأخلاق، فالعقل يؤكد الحرية الإنسانية أما الحرية فهي شرط تقدم العقل وارتقائه، وقد كان لمثل هذه الأفكار موطئ قدم في رحلة المراش لباريس عام 1867م وهذا هو موضوع الدراسة.
“رحلة باريس” 1867م:
شكا غير دارس من صعوبة الحصول على النص الأصلي لرحلة باريس لفرنسيس مراش فالنص غير متوفر على رفوف المكتبة العربية وقد يكون محفوظاً في سدة ما ولم يعد نشره بالشكل الذي يليق بمكانة هذه الرحلة وتناغمها مع رحلات نظرائه من المثقفين العرب الذين تنيط لأعمالهم من ينشرها ويعقب عليها ويناقشها، أما “رحلة باريس” للمراش فلم تكتب لها هذه المزية إلا عام 2004 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر(38). وهذا يقدم إشارة حول إهمال كثير من مؤلفات النهضويين العرب القاطنين في بلاد الشام الذين كانوا يعزفون على الوتر نفسه الذي عزفت عليه النهضة العربية في مصر آنذاك، فما كتبه المراش عن مدينة باريس لا يقل من حيث الأهمية ما قرأناه في كتاب الطهطاوي والشدياق وعلي مبارك. بل سخر رحلته رسالة لبني قومه هدفها تنويرهم وتبصيرهم للخروج من ظلمات عصورهم الوسطى إلى العلم، فالعلم المبني على التمدن والحرية تصنع الحياة وتتبدد عوالم الاستبداد والخرافات والأوهام.
لقد اقترب فرنسيس المراش من الحضارة الغربية في وقت كان العالم العربي يعاني صنوفاً من الجهل والظلم والقيود والتخلف، فلا عجب أن نقرأ انبهاره بحضارة الغرب وازدراءه لحال الشرق، ولم يكن ارتحال المراش وقفاً على هذا الهدف بل كان لغاية تعليمية، إذ كان هدفه هو استكمال دراسة الطب في باريس يقول: “فشرعت أباشر الأمراض متلاعباً بصناعة أبقراط، وداومت على ذلك نحو سنة، ثم أوعز إلى ضميري أن أرحل إلى مدينة باريس محط عرش الإفرنسيس لكي أنضم إلى سلك مدرستها الشهيرة حيثما يأخذ الدارس حقه، ويحصل على ما لا يوجد خارجا”(39)، ولكنه يمهد لهذه الرحلة بمقدمة انطوت على تأملات فلسفية تبحث عن تفسير لما يرى ويحس، يقول: “فلما أدركت رشدي وبلغت أشدي دخلت هذا العالم لأتجسسه وأرى كيف يجب اعتباره مني، وعلى أي وجه، وبالنسبة إلى أي مادة؟ فعندما تبصرته كافياً، وانتقدته وافياً، تبلبلت إشعاراتي نحوه، وهمت على وجهي، وما عدت أدري ماذا أعتبر منه، لأنني رأيته سوقاً عظيماً لا حد له، وجميع الخلائق أقامت في حوانيتها”(40)، إنه عالم مخيف متعدد متقلب يأكل القوي فيه الضعيف(41)، والغني الفقير، عالم مليء بالتناقضات، فمثلت باريس أثناءه دور الفردوس المفقود أو المدينة الفاضلة. كانت انطلاقة المراش نحو باريس يوم 7/9/1866 من حلب ثم الإسكندرونة فاللاذقية فطرابلس الشام، ثم إلى بيروت ومنها إلى يافا فالإسكندرية وصولاً إلى القاهرة وعودة إلى الإسكندرية مجدداً ثم مرسيليا في 20/10/1866 ثم مدينة ليون الفرنسية ثم باريس. قدم خلالها ملحوظات فلسفية تأمليه وملحوظات جغرافية طبيعية وملحوظات حضارية مقارنة وكانت صورة الغرب المتقدم جنباً إلى جنب مع صورة الشرق المتراجع.
صورة الغرب الحضاري في “رحلة باريس”:
لم يستطع المراش أن يخفف من شهقة انبهاره بما شاهد عليه باريس من تقدم وحضارة وعمران وبناء وجد وعمل وحركة دؤوب وطعام وشراب وعدل وعقل وتمدن وأخلاق وحرية، كلها مفردات عجت بها رحلته، فلم يتوقف عن توظيفها وصقلها وعرضها أمام القارئين فيندهشوا لدهشته، إن قيمة الوقوف المتكرر المتأمل عند مظاهر الحضارة الغربية في باريس والوقوف عن العظيم من الأمور وغير العظيم لهو دليل على ذلك الفقدان الذي يعيشه العالم العربي آنذاك، فمثقفوه وقفوا موقف المشدوهين مما رأوا وشاهدوا وإن لم يقارنوا مباشرة أو لم ينقذوا، فالوقوف في مثل هذه الهيئة على حالة الاشمئزاز من الواقع العربي آنذاك، وتدوين الرحلات لدليل آخر على الرغبة الحقيقية بالتواصل الحضاري عن طريق الإخبار الأدبي لأبناء الأمة، فيتراصوا من أجل تحقيق شيء من مقومات التقدم والفائدة، والمراش يعلن ذلك بطريقته عند ما يربط السمو بالنفع فـ “لا شيء من الكائنات يتناول اعتباره عن ذاته، فكل كائن يستمد اعتباره من موقع فائدته لغيره ونسبته إلى سواه”(42)، لقد عرض المراش في مطلع رحلته الأبعاد الفلسفية للقيمة المرجوة منها، فالمسألة لا تقف عند حد مرتجل أدهشته الرحلة، بقدر ما كانت مثالاً تواصلياً عن حضارة الآخر،فالرحلة تكتسب خصوصيتها مكاناً وزماناً وفكراً، فالمكان باريس عاصمة الحضارة الأوروبية والزمان منتصف القرن التاسع عشر، قرن الأوجاع والتراجع العربي، والفكر فكر متحرر من نير الاستعباد تائق للحضارة والتمدن. لقد شكلت هذه الرحلة من خلال تصويرها لحضارة الغرب رسالة تواصلية أدبية حضارية بين أمتين أو حضارتين متنازعتين، وكان لهذا الوصف مظاهره وأبعاده.
لقد شهدت صورة الغرب في كتابات الرحالة العرب تبايناً ملحوظاً، فهناك من انبهر بمنجزات الغرب انبهاراً شديداً إلى حد الدعوة إلى (التغريب) – أي الأخذ بمظاهر حياة المجتمع الغربي ونقل أفكاره ووسائله التقنية – إذ أراد المسلمون إصلاح تخلفهم واللحاق بركب الحضارة العصرية، وعلى العكس منهم كان هناك من حارب هذه الدعوة وذكر بضرورة العودة إلى التراث والتمسك به، والمراش في رحلته الباريسية كان يقترب أكثر من الدعوة الأولى من منطلق إصلاح الواقع المعيش إذ نجده قد “بُهر في البدايات بإنجازات الغرب العمرانية، وتوافق الحضارة الغربية مع أسس ومبادئ التمدن كما تصورها، ورأى في باريس فردوساً أرضياً، فهي مصب أنهار العجائب، وموقع أنوار التمدن والآداب، فيها العمران يتجلى في أروع صورة، إنْ من حيث النظافة والترتيب والإتقان في شوارعها، أو من حيث الراحة والثروة والأمن والأمان في ربوعها، حيث الكل مقبلون على العمل والإبداع والاختراع دونما كلل أو ملل”(43)، فما هي معالم هذه الانبهار التي يريد المراش نقلها على وجه السرعة إلى شرقه المتراجع؟ خاصة وأن هدفه الأساسي من هذه الرحلة لا يقتصر على دراسة الطب فحسب بل يمتد إلى غاية أخرى هي تفحص الغرب عن القرب والتعرف إلى حضارته يقول الطاهر لبيب “كانت هناك ضرورة في أن يؤكد الواقع المعاين ما كان ماثلاً في الخيال، كان المطلوب أن يوضع ما تمت معاينته على هامش ما تمت مطالعته”(44)، فالمراش قبل رحلته أتقن الفرنسية ووسع من ثقافته الأدبية وانشغل ذهنه بقضايا الحرية والمدنية والعقل فمال للاقتناع بأن مدينة الغرب هي خلاص للشرق من تخلفه، لقد أظهر المراش في رحلته إلى باريس عام 1867 إصراراً على طرق معالم هذه الحضارة رابطاً هذه المعالم بالفكر الغربي وأصالته وبعد نظره فانسكب انبهاره رقراقاً بهذه الحضارة، يقول(45):
إلى جنة الفردوس هل أنا سـائر *** ترى أم إلى دنيـا أخرى مسافـرُ
فيا حسن هذا السيـر والركـب *** ويا لطف أرض ٍ كللتها المفاخـر
هنا تصدع النعمى، هنا يرقـص *** هنا تبسم الدنيا، هنا الخط حاضـر
هنا النفس تخلو في هواجس سِرها *** فتوحي بما تصبو إليه الخواطـر
هنا تشرح الأنظار للقلب ما تـرى *** فيبتسمُ عما قد حكتـه النواظــر
لقد عدت باريس عاصمة الحضارة الغربية في نظر المراش “عروسة مدن المسكونة، وشمساً يدور حولها فلك العالم البشري. وهكذا فهي الآن لا حد لمديناتها، ولا قرار لعظماتها”(46). ومن مقومات المدينة الغربية التي رصدها المراش:
أ. الطبيعة الخلابة
ب. العمران وحسن التخطيط
ج. العلم والثقافة
د. الحياة الثقافية والمتاحف.
صورة الشرق (نقد الذات مقابل الآخر):
إن من أبرز القضايا التي استحوذت على اهتمام الرحالة المثقفين في العصر الحاضر بان القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين هو عقد المقارنات بين العالم العربي لتردي الهائم على وجهة فاقد الهوية والغرب المتحضر فائق المدنية والنظام والحسن والترتيب ذلك الغرب المثقف الهادي والمعلم.
إن وقوف المراش في رحلته لباريس عند صورة ممتدة للغرب المتكامل في حضارته لم يشغل المراش عن ذكر حال الشرق المتخلف، بل إن قراءتنا لذلك تصب في صالح التواصل الحضاري من جهة ونقد الذات من جهة أخرى، فالتوقف مطولاً عند مشاهد الحضارة والمدنية الغربية لهو نقد غير مباشر للحضارة العربية البائسة في عصر النهضة، أما الحديث بألم عن الشرق فهو نقد مباشر له يستدعي الإصلاح، و”يمكن تصور موقف المراش من الغرب من خلال هذا المشهد الرمزي، فالشرق أشبه بفلاة قفرة مجدبة تسبح في الظلام، يخيم عليها سكوت الموت، لا يسمع فيها سوى نعيب البوم وصراخ ابن آوى”؛ أما الغرب فمد من الاخضرار وبحر من النور الساطع يندفقان نحو الشرق حاملين إليه الخير والصلاح”(47)، ومثل هذه المقارنة واضحة في رحلة باريس، فالطريق من حلب إلى الاسكندرونة “قفار محرقة” تختلف عن الطريق بين مرسيليا وليون، أما المدن العربية فهاوية متراجعة سواء أكانت الاسكندرونة أم بيروت أم طرابلس أم يافا في حين مرسيليا وليون وباريس غايات في الروعة، ولا يخفي المراش تعبيره بعد أن يقطع بألم كثيراً من البلاد العربية المؤلمة إلى مرسيليا بأنها “عنوان السعادة” وأنه “مرتاح في حضن الغرب”.
ومن الأمثلة على ضمور صورة الشرق إذا ما قورن بالغرب، تصويره للأسكندرونة فيقول: “أما الثائر الذي عراني عند مشاهدتي قرية الأسكندرونة إنما كان صاعقاً لأنني رأيتها هاوية في أعمق هاوية من التقهقر والانحطاط، وأي نفس تشعر بهذا الثأر إذا رأت ميناء حلب ومدخل تجارة الزوراء وتركستان، ومخرج أنسجة ومحصولات عربستان مسرحاً لملاعب الخراب، ومشهداً لحركات الدثار وسوء الحال حتى تكاد أن لا تعتبر سوى كمبصقة للبحر أو مداسن للدهر”(48).
أما حال علماء المشرق فلا يقل سوءاً عن حال مدنها، يقول بعد أن أطرى على سماء الغرب: “فيا لسوء حظنا نحن بني المشرق، ويا لشدة نحسنا، لأنه إذا وجدت الصدف وما من له هوس ما في العلم عاش مقطوع الخرج، وربما يحتقر ويهان فلا ينال من علامات لشرف سوى الجهل به والسخرية. ولا يحصل على شيء من الجوائز سوى قول الناس منه هذا نحوي بارد، أو شاعر مشعر، أو بعرفينو أو فلفسوس. وإذا كان يروي شيئاً عن التاريخ يقولون عن: هذا حكاكاتي… ولذلك لا جرؤ أخذ منا أن يوجه خطوة واحدة نحو طلب العلم لئلا يكسب العار والخزي. بل جميعنا نتراكض وراء جمع المال، والجهل المتولد عنه، وبمقدار ما يزيد مال أحد منا يزيد اعتباره وجهله”(49)، وهذا انقلاب في المفاهيم والأحوال يوقف مدد العلم ويقلبه إلى نقمة لا بد من تناديها يعكس خللاً في القيم والمعطيات والتفكير، والمراش لم يتقدم لمثل هذا العرض لا بعد أن رأى قيمة العلم والعلماء في الغرب، فأراد أن يتواصل مع أبناء مشرقه المتردي.
ومن هنا يمكننا القول إن مثل هذه الرؤية السلبية للذات الشرقية ولبنية المجتمع العربي التي يعود إليها المراش ويتجذر فيها لم تكن السبب الكافي للارتحال لأوروبا، بل إنها الرغبة الملحة باكتساب أفكار جديدة في الحضارة والتمدن والحريات والعلوم والرقي، ومعلومات ومعارف غير متوفرة في المجتمع العربي، فأراد المراش من خلال هذه المقارنة أن يشكل لنفسه رؤية ينطلق من خلالها إلى العقول القارئة الواعدة بالتغيير، ففكر المراش بات يطغى عليه تصور ثابت للمجتمع الإنساني المثالي القائم على المدنية والحرية.
ويمكن استجلاؤها فيما يلي:
إن “رحلة باريس 1867” لفرنسيس المراش هي من أدب التفاعل الحضاري بامتياز، فقدرتها على تصوير حضارة الغرب ماثلت قدرة نظيراتها من الأعمال الرحلاتية آنذاك.
إن هذه الرحلة لم يكتب لها الانتشار الواسع لأسباب قد أجملها بدواعي الإهمال، فهي من أدب بلاد الشام في فترة الإجهاض الثقافي الذي عاشته المنطقة بعد منتصف القرن التاسع عشر فلم تنشر الرحلة بعد نشرها المرة الأولى عام 1867 إلا عام 2004 محققة ومفهرسة.
إن الهاجس الأكبر الذي يشغل بال الرحلة ورحالتها هو تجاوز حالة الانحطاط الحضاري الذي يعيشه الشرق في القرن التاسع عشر إبان النهضة العربية في مصر، فجاء الكلام عن الشرق موجعاً وعن الغرب مبالغاً فيه.
إن “رحلة باريس” كانت في مجملها حقلاً لبث أفكار الرحالة المراش وتأملاته الذاتية كمثقف يعاني الاغتراب في شرق المتراجع، لذا ارتفعت الأفكار والتأملات على حساب وصف المكان وتوثيقه. فتكون بذلك خالفت أصول أدب الرحلات الذي يعد أدباً جغرافياً في شكله الأول.
الهوامش:
1 – عبد الله إبراهيم: الثقافة العربية والمرجعيات المستعارة ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 2004، ص 5.
2 – أنطوان المقدسي: الصورة العربية عن الحضارة الأوروبية الغربية والاستجابة لهذه الصورة، وقائع ندوة همبورغ، العلاقات بين الحضارتين العربية والأوروبية، 11-16 أبريل 1983 ، تونس 1985، ص 100.
3 – حسن عليان: العرب والغرب في الرواية العربية، دار مجدلاوي، عمان 2004، ص 7.
4 – المرجع نفسه، ص 73.
5 – المرجع نفسه، ص 169.
6 – حسين محمد فهيم: أدب الرحلات، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد 138 ، حزيران 1989، ص 51- 52.
7 – خليل الشيخ: باريس في الأدب العربي الحديث، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1998، ص 14.
8 – المرجع نفسه، ص17.
9 – المرجع نفسه، ص 19.
10 – حسين محمد فهيم: أدب الرحلات، ص 21.
11 – المرجع نفسه، ص 43.
12 – المرجع نفسه، ص 43.
13 – المرجع نفسه، ص 19.
14 – كرم الحلو: الفكر الليبرالي عند فرنسيس المراش: بنيته وأصوله وموقعه في الفكر العربي الحديث، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2006، ص 148.
15 – رفاعة رافع الطهطاوي: الأعمال الكاملة لرفاعة رافع الطهطاوي، دراسة وتحقيق محمد عمارة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1973.
16 – ز. ل. ليفين: الفكر الاجتماعي الحديث في لبنان – سوريا – مصر، ترجمة بشير السباعي، دار الفارابي، بيروت 1985، ص 33.
17 – رئيف خوري: الفكر العربي الحديث، أثر الثورة الفرنسية في توجيهه السياسي والاجتماعي، دار المكشوف، بيروت 1943، ص 80
18 – خليل الشيخ: باريس في الأدب العربي الحديث، ص 22.
19 – المرجع نفسه، ص 33.
20 – المرجع نفسه، ص 34.
21 – قام برصدها: كرم الحلو: الفكر الليبرالي عند فرنسيس المراش، ص 149-151.
22 – انطوان المقدسي: الصورة العربية عن الحضارة الأوروبية، ص 90.
23 – خليل الشيخ: باريس في الأدب العربي الحديث، ص 40.
24 – المرجع نفسه، ص 47-48.
25 – كرم الحلو: الفكر الليبرالي عند فرنسيس المراش، ص 151.
26 – خليل الشيخ: باريس في الأدب العربي الحديث، ص 35.
27 – جورج طرابيشي: شرق وغرب، رجولة وأنوثة، دار الطليعة، ط 2، بيروت 1979، ص 12.
28 – يهتم مصطلح الاثنوجرافيا بالدراسة الوصفية لأسلوب الحياة ومجموعة التقاليد، والعادات والقيم، والأدوات والفنون، والمأثورات الشعبية لدى جماعة معينة أو مجتمع معين، خلال فترة زمنية محددة.
29 – فيليب دي طرزي: تاريخ الصحافة العربية، بيروت 1913، المطبعة الأدبية، ج 1، ص 141. علي أحمد الشرع: فرنسيس فتح الله المراش، دوره في النهضة العربية الحديثة، رسالة ماجستير غير منشودة، الجامعة الأردنية، 1976، ص 32.
30 – فيليب دي طرزي: تاريخ الصحافة العربية، ج 2، ص 241.
31 – كرم الحلو: الفكر الليبرالي عن فرنسيس المراش، ص 51.
32 – المرجع نفسه، ص 19-20.
33 – المرجع نفسه، ص 68.
34 – المرجع نفسه، ص 108.
35 – فرنسيس المراش: رحلة باريس.
36 – كرم الحلو: الفكر الليبرالي عن فرنسيس المراش، ص 118.
37 – المرجع نفسه، ص 156-159.
38 – انظر مقدمة قاسم وهب لرحلة باريس الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر (2004) الذي يصرح بأنه اعتمد على نص الرحلة في مجلة الكلمة الصادرة بحلب عام 1949 بعد تعذر الحصول على الطبعة الأولى، التي أصدرتها المطبعة الشرقية عام 1867.
39 – فرنسيس المراش: رحلة باريس، ص 27.
40 – المصدر نفسه، ص 23.
41 – المصدر نفسه، ص 24.
42 – المصدر نفسه، ص 23.
43 – كرم الحلو: الفكر الليبرالي عند فرنسيس المراش، ص 21.
44 – الطاهر لبيب: الآخر في الثقافة العربية، ورقة قدمت في ندوة صورة الآخر: العربي ناظراً ومنظوراً إليه، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1999، ص 188.
45 – فرنسيس المراش: رحلة باريس، ص 37-39.
46 – المرجع نفسه، ص 41.
47 – كرم الحلو: الفكر الليبرالي عند فرنسيس المراش، ص 174.
48 – فرنسيس المراش: رحلة باريس، ص 31.
49 – المصدر نفسه، ص 47.
السلام عليكم ورحمة الله
أنا باحث في مرحلة الماجستير.. مهتم بأدب الرحلة
كيف يمكنني التواصل مع د. نضال؟