فيلم “خيط الروح” نموذجا
عبد المجيد البركاوي
تشكل العادات والتقاليد والطقوس الشعبية مادة درامية خصبة بالنسبة للسينما، إذ غالبا ما يتمُّ استحضار المعطيات الإثنوغرافية من خلال ملامح معينة تستهدف إغناء التصور الإخراجي للفيلم، وبناء متخيله، وإبراز أبعاده الفكرية والجمالية، ومن هذه الزاوية أضحت السينما وعاءً فنيا ودراميا لدراسة مجتمع ما، في أسلوب حياته، وتراثه الممتد في التقاليد والعادات والمظاهر الاحتفالية..
في هذا السياق، حاولت السينما المغربية الاشتغال على مجمل هذه المكونات، حيث يمكن تلمُّس ملامح إثنوغرافية واضحة في العديد من الأفلام، وانطلاقا من مستويات فيلمية متعددة كالعنوان والحدث والفضاء والديكور والملابس والاكسسوارات.. ولعل الأسئلة التي ينبغي طرحها بهذا الخصوص هي: كيف تتجسد تلك الرؤية الإثنوغرافية في السينما المغربية؟ ما هي حدود نجاحها أو إخفاقها؟ ما هي الدواعي الفنية الثاوية وراء وَلَع الكثير من السينمائيين المغاربة بهذا التوجه الإثنوغرافي؟
* الرؤية الإثنوغرافية في السينما المغربية والانسياق نحو التوجه الفلكلوري:
إن نظرة فاحصة لمجمل المتن الفيلمي المغربي تبيّن بشكل جلي هيمنة الانشغالات السوسيو-إثنوغرافية عليه، ذلك أن أغلب السينمائيين المغاربة اختاروا التطرق للقضايا الاجتماعية ذات التوجه الشعبي، من خلال عرض صور وتمثلات عن العادات والمعتقدات الاجتماعية، واستلهام التقاليد الشعبية، والسعي إلى التعبير عن الواقع الاجتماعي، وجعله مادة فنية تعمل على رصد هذا الواقع، سواء عبر تصويره مباشرة أو إدماجه كمظهر تخييلي في المتواليات الفيلمية. ويبدو أن هاجس التأصيل وإلحاح الرغبة في إبراز تناقضات المجتمع وهو يعيش تحولات متسارعة، يعتبران عاملين أساسيين يدفعان المخرجين المغاربة إلى تفضيل المواضيع الاجتماعية والتراثية ذات الحمولة الإثنوغرافية.
على هذا الأساس، غالبا ما يأتي التركيز على عرض مجمل التفاصيل الحياتية المرتبطة بالمجتمع المغربي، وثقافته الشعبية، والانحياز بالتالي لكل ما له علاقة بالطقوس الاجتماعية والمكونات الثقافية التي تُشكّلها، مما أفرز لنا شهادات وصور حية عن واقع هذا المجتمع، وخصوصياته الحضارية والثقافية والرمزية.
هكذا سنُلفي، على سبيل التمثيل لا الحصر، حضور طقوس الجذبة في وشمة و السراب و مكتوب، وتوظيف بعض الفرجات الاحتفالية كرقصة “عيساوة” في مكتوب و “الحلقة” في واقعة مغربية وطقوس “تاغنجا” في الزفت والأهازيج الشعبية في حلاق درب الفقراء و عرس الدم، وتصوير الفضاءات التقليدية كالدروب والأبواب والمنازل العتيقة كمـا في وشمة و البحث عن زوج إمرأتي و كيد النساء و قفطان الحب والإحالة بشكل خاص على فضاء الزاوية أو الضريح في السراب و الزفت و الشركي و باب السماء مفتوح وما يرتبط به من ممارسة السحر والشعوذة والاعتقاد في بركة الأولياء، كما يتمُّ استحضار طقوس غسل الميت ودفنه في الزفت و ألف شهر و تينجا، ونلمس كذلك حضورا لافتا لشخصية المجذوب في السراب و حلاق درب الفقراء و ألف يد ويد وتقديم مشاهد واقعية لمظاهر عيش بعض الفئات الاجتماعية وخاصة في ليام أليام، وكـذا أشكال الاحتفالات الفرجوية المرتبطة بطقوس الزفاف كمـا فـي قفطان الحب و عرائس من قصب ..
بيد أن الملاحظة الأساسية التي ينبغي تسجيلها بهذا الصدد هو أن كل هذه التيمات والمواضيع تنطوي على إشارات إثنوغرافية مستلهمة من الثقافة الشعبية المغربية، ويطغى عليها أحيانا الأسلوب التسجيلي أو الوثائقي، إلى الحد الذي تسقط فيه مشاهد كثيرة من تلك الأفلام في نوع من التضخّم الإثنوغرافي الزائد، فجاءت مُملّة وفائضة على السرد الفيلمي، وهنا يحق لنا التساؤل: لماذا النزوع نحو استلهام المواضيع والظواهر الإثنوغرافية بكل هذا التضخّم والكثافة؟
من المعلوم أن أغلبية المخرجين المغاربة قد تلقوا تكوينهم السينمائي في البلدان الغربية وخاصة في فرنسا، وبذا فإنهم متأثرون بصورة واعية أو غير واعية بالثقافة الغربية التي يستهويها التعرف على أنماط عيش المجتمعات الأخرى، فكان من الطبيعي ألا تخرج أفلام هؤلاء المخرجين عن النسق الثقافي الغربي. وفي السياق ذاته يمكن فَهْم هذا التوجه كنوع من إرضاء الآخر، ورغبة في استجلاب الجوائز والتمويلات التي تقدمها لهم المهرجانات والمؤسسات الغربية بسخاء.
والحال أن البحث عن هذه القنوات الأجنبية أفقد الفيلم المغربي استقلاله الفكري والجمالي، وأسقطه في النظرة الفلكلورية السطحية، إذ تبدو صورة المجتمع عبارة عن نوع من البطاقة البريديةcarte postale التي تستهدف إثارة فضول المتفرج الأجنبي الشغوف بكل ما هو غرائبي وطقوسي، وبذلك يصبح الفيلم مجردا من أي انتماء ثقافي، ومنقطع الصلة بالقضايا الكبرى للمجتمع، ومكوناته الثقافية والحضارية.
إن الانسياق نحو تقصي العناصر الفلكلورية دون سواها أفضى في المحصلة النهائية إلى إنتاج أفلام متشابهة في بناءها السردي، من خلال الإقحام الغير المبرر والمجاني أحيانا للمشاهد والمناظر والطقوس الاجتماعية والميثولوجية في المتواليات الفيلمية، وغياب العلاقة العضوية بين موضوع الفيلم وأدواته التعبيرية.
إلا أنه لا يجب اعتبار هذا الأمر ظاهرة موحدة تنسحب على كل المتن الفيلمي المغربي، ذلك أننا لا نعدم وجود بعض النماذج الفيلمية التي عملت على استيحاء المعطيات الإثنوغرافية بالشكل الذي يخدم العوالم الفكرية والتخييلية للفيلم، ويساعد على إنتاج دلالته الدرامية، من خلال التوظيف الصحيح لبعض الظواهر الاجتماعية والتراثية. ويندرج في هذا الإطار أعمال المخرجين الذين تشبّعوا بالثقافة العالمة، والمعرفة الرصينة، ويستندون إلى مواقف فكرية وأيديولوجية في مقاربة المواضيع الاجتماعية المختلفة، وعرضها في إطار الوعي بالمحافظة على التراث، ومقومات الهوية، وصيانتها من التشويه والمسخ.
وفي هذا المنحى نستحضر بصفة خاصة تجربة المخرج المغربي حكيم بلعباس من خلال فيلمه الروائي الطويل خيط الروح ( إنتاج 2003- 35 ملم – 92 د) على اعتبار أنه استطاع من خلاله تجنب السقوط في فخ التوجه الفلكلوري، وتمكّن من توظيف العادات الاجتماعية، والعناصر الثقافية التي تكونها لأجل خدمة البنية الدرامية للفيلم ورؤيته الفنية. فما هي أهم الملامح الإثنوغرافية التي ينطوي عليها هذا الفيلم؟ وكيف استطاع أن يتخذ من المعطى الإثنوغرافي مظهرا جماليا وموقفا فكريا في الآن ذاته؟
* ملامح إثنوغرافية في فيلم خيط الروح ودلالاتها:
ينبني فيلم خيط الروح على المستوى السردي على أسلوب الحكي الغير الخطي أو الغير التقليدي، فهو مركب من حكايات متعددة، تجعل موضوعه يبدو كما لو أنه غير متماسك أو مترابط، إلا أن الخيط الناظم بين حكاياته المتشظية هو مقاربة إشكالية الهوية، والبحث في الأصول والعلاقات الأسرية التي عاشت نوعا من التصدع والانشطار.
ويحفل الفيلم بجملة من المشاهد التي أُخضعت لنوع من التراكم الإثنوغرافي، من خلال تسخير الكاميرا لوصف الشخوص والأشياء والأمكنة والظواهر الاجتماعية بطقوسها ومعتقداتها، وهذا الوصف لم يكن الغرض منه تحقيق الوظيفة التزيينية أو الـثأثيتية بقدر ما هو وصف دلالي ووظيفي وخلاق، لأنه ينطوي على دلالات عديدة ومعانٍ شتى.
ويمكن حصر تجليات الحضور الإثنوغرافي في الفيلم عبر الإحالة على بعض الطقوس التي تنتمي إلى الثقافة الشعبية، والعناصر الميثولوجية المرتبطة بها، فقد عمل المخرج من خلال التحكم الجيد في تقنية الصورة على تشخيص فضاءات مدينة “أبي الجعد” بهندستها المكانية وقيمتها التاريخية، فصوّر لنا دروب هذه المدينة وأبوابها ومنازلها التي يفوح منها عبق التاريخ، وتمتاز بجمالية العتاقة، إلا أنها مازالت تنبض بالحياة وتمارس تأثيرها على الناس وسطوتها عليهم، ويحضر الضريح في هذا السياق كفضاء فاعل في طبائع الشخصيات، حيث يتجسد كمكان لممارسة بعض الطقوس من خلال الاعتقاد بالقوة الروحية للولي، والتماس وساطته في التخلص من مختلف الشرور والآثام، ويبدو ذلك في مشهد تقبيل الأم وابنها الصغير لزوايا قبر الضريح، وتقديم الحليب للطفل مقرونا بالدعاء بالشفاء من قِبَل “المقدم” أو القيّم على الضريح. إن الحليب كعلامة يفيد هنا الطهارة والأمل والقداسة، والرغبة في جلب عطف القوى الغيبية وجعلها تقف إلى جانب الأخت الصغيرة المريضة، كما يجدر بنا ملاحظة ذلك الترابط الثابت بين هذا الفضاء وصورة الشجرة الملازمة له على اعتبار أنها تمثل رمز المقدس وصلة الوصل بين الأرض والسماء.
ويرصد لنا الشريط أيضا بعض أشكال الاحتفالات الفرجوية والعادات المرتبطة بالختان، والجذبة، وغسل الميت ودفنه، وبعض الظواهر الاجتماعية المتمثلة في ممارسة الطب الشعبي، والتزيُّن بالحنّاء وباللباس التقليدي، وشرب الشاي وطقوس إعداده، وطرق صنع الأواني الفخارية…
هكذا قدم لنا المخرج مشاهد حية وواقعية لعملية الختان التي بدا فيها الطفل “كريم” بلباسه التقليدي خائفا وَجِلاً من تلك العملية القاسية والمؤلمة والتي تعد بمثابة امتحان للقوة أو اختبار للاحتمال، وتكمن وظيفتها في التطهير، وتأهيل الطفل، ومنحه الهوية اللازمة في المجتمع. وفي الآن نفسه كانت الأم وهي في لباس تقليدي خاص بمنطقة “أبي الجعد”، تمارس طقوسا معينة على إيقاع الأهازيج والأغاني الشعبية والزغاريد التي تصدح بها حناجر النساء كنوع من التعاطف مع الابن الذي يجتاز تجربة الختان الدموية، وكدليل في على المكانة المركزية التي تحتلها الأم في تخليد تلك الطقوس، وفي هذا السياق تقتضي التقاليد ذبح الديك بعد عملية الختان مباشرة اعتقادا بأنه يخفف من آلام المختون، ويطفئ لوعة الأم.
والتقط الفيلم بعض الطرق والوسائل المتبعة في التطبيب الشعبي من قبيل الجذبة، بما هي طريقة علاجية تمكّن الشخص من إفراغ التوترات، والتحكم في الجسد، والتخلص من اضطرابات الذات وقلقها الخاص ( كما هو الحال بالنسبة لأب “جواد”)، أو اللجوء إلى خدمات العطّار أو العشّاب الذي يقوم بطقوس يدوية (قياس اليد بخيط من الصوف) لتشخيص المرض، والتماس علاجه، وهي – كما يبدو – وسائل تشخيصية وعلاجية تقليدية خاضعة لموروث شعبي وثقافي بالغ القدم.
وتوقف الشريط طويلا عند الطقوس المصاحبة لغسل الميت، وحمل جثمانه، ودفنه، وتلاوة القرآن، فجاء التعبير عن الموت من خلال رصد أجواء الحزن المرتسمة مشهديا على الوجوه المكلومة، وإيقاع الترانيم الشجية التي تنشدها مجموعة من النساء. ولا غرو أن عملية الدفن تعادل من الناحية الرمزية العودة إلى الأرض، وإلى الجذور الأولى للإنسان، ويمكن فهمها في سياق هذا الفيلم على أساس أنها عودة “جنائزية” للمخرج المقيم بالمهجر إلى جذوره، وتترجم على المستوى السيكولوجي الرغبة اللاواعية للإنسان في أن يُدفن في أرض وطنه ومسقط رأسه.
ويستحضر الفيلم الموسيقى الشعبية من خلال “عبيدات الرما” كفن فرجوي شعبي، وكشكل تعبيري تراثي، يتميز بإيقاعاته ورقصاته الخاصة ومرجعيته التراثية والموسيقية، كما نلمس توظيفا مكثفا لصوت العصافير في المشاهد المصورة في دروب المدينة ومنازلها العتيقة، وما يمثله ذلك من تأكيد للصورة الروحانية والسماوية للطائر بصفة عامة.
وينضاف إلى كل هذه المستويات من الاشتغال على الوصف الإثنوغرافي، الحضور الكاسح للبياض في مجموعة من العلامات منها الضريح والجلباب والكفن والفرس والحليب… ولاشك أن توظيف اللون الأبيض بكل هذا الزخم يجد تفسيره في ارتباطه بشتى الوظائف والطقوس الروحانية، حيث لا تخفى علاقته بكل ما هو طاهر ومقدس ونوراني، فيصبح الكفن الأبيض على سبيل المثال، دالا على الولادة التي ستتم بالبعث، وكرمز للعبور نحو حياة جديدة.
والحاصل أن فيلم خيط الروح حافل بمعطيات إثنوغرافية متعددة، حين استلهم مخرجه الثقافة الشعبية المغربية بطقوسها ومعتقداتها، ووظّفها توظيفا جماليا، عبر إدماج تلك الظواهر في سياق السرد الفيلمي وإقرانها بالمتعة البصرية، مما أعطى لنا منتوجا فيلميا يقوم على الصورة المعبّرة، والتأطير المبدع، والمونتاج الفاعل، وانطلاقا من رؤية حقيقية ومجازية في الآن ذاته. ولعل هذا الاستثمار للظواهر الإثنوغرافية وجعلها مادة فنية ينمُّ على ثقافة عالية للمخرج، وقدرة وعيه السينمائي على إدراك الواقع الاجتماعي والروحي للإنسان المغربي، ليغدو بذلك هذا الفيلم بمثابة مرآة صادقة عاكسة لصورة الناس والمجتمع.