الملل و”الحياة غير المُعاشة”: التسوّل من أجل الاستهلاك في رومانيا
بروس أونيل
“يا للملل! الأيام كلها هكذا”، هكذا قال ميركيا في ربيع عام 2011. صديقه نيكو وافقه رأيه إذ هز رأسه، وأطلق سحابة دخان كبيرة من سيجارته التي أشعلها منذ لحظة: “لا يوجد عمل ولا نقود. لا شيء سوى الجلوس هنا”. كنا نجلس على درجات سلم تطل على ساحة انتظار سيارات أمام محطة “جار دي نورد” للقطارات في بوخارست، في رومانيا. ميركيا ونيكو، وصاحبته إيوانا، يشغلون مبنى مهجور قريب من المحطة. يمضي ميركيا ونيكو فترات الصباح بحثاً عن أعمال يومية غير رسمية.
لكن في أعقاب الأزمة المالية العالمية لعام 2008 لم يعد هناك طلب كبير على العمال غير المهرة. في أغلب الأيام لا يمكنهما العثور على شُغل في موقع بناء بالمدينة، أو تنظيف حقل على مشارفها، فيتجهان إلى محطة القطار. منذ مطلع سن المراهقة دأب ميركيا ونيكو وإيوانا على تسول “الفكة” كمقابل لخدمة توجيه السيارات داخل ساحة الانتظار.
تنهد ميركيا وقال: “لم يبق لنا شيء نفعله في هذا البلد”.. يُنظر إليهم من مرتادي محطة القطار بصفتهم مصدر إزعاج، وتجرم الشرطة محاولات هذا الفريق للعمل “بالتسول” على سبيل كسب الدخل بالتفكير خارج الصندوق.
بعد عشرين عاماً على سقوط الشيوعية تروح وتجيئ هبّات الملل في أنحاء بوخارست عاصمة رومانيا؛ فالإصلاحات النيوليبرالية/الليبرالية الجديدة التي كان القصد منها دمج هذا البلد الشيوعي المنعزل في ملذات واحتمالات الاستهلاكية العالمية أسفرت عن اقتصاد غير مستقر بشكل مزمن. في حين أن طبقة النخبة من المهنيين ارتفع مستواها المعيشي بشكل مطرد، فإن الأغلبية المكونة من العمال غير المهرة تعاني من البطالة المزمنة والعيش في الشوارع، وهو الأمر الذي لم يكن مطروحاً على الإطلاق أثناء حكم الشيوعية. أما جهود الإصلاح من بعد الأزمة المالية العالمية لعام 2008 فلم تؤد إلا لزيادة المصاعب الاقتصادية.
إن المشردين دون سقف يأويهم مثل ميركيا ونيكو وإيوانا – من دون مرتب ثابت – لا يمكنهم المشاركة في الحياة الحضرية التي يزداد انتظامها حول حلقة الممارسات الاستهلاكية.
وفي ساعة لاحقة من اليوم نفسه، مع تباطؤ حركة السيارات إلى درجة كبيرة، جلست مع نيكو في ساحة الانتظار وفتحنا “كانزين” بيرة. بعد رشفات قليلة، راح نيكو يتكلم عن جهوده لتنشيط حواسه التي تبلدت حتى النخاع:
“كل ليلة، نأخذ ما ربحناه من عمل اليوم ونشرب بيرة أو صودا أو أي شيء نقدر على ثمنه، لأن علينا أن نحيا”.. أضاف مفسراً: “بعد قضاء اليوم في العمل بساحة الانتظار، ألا يُسمح لنا بأن نعيش؟ بأن نشرب بيرة مع الأصحاب؟”
“لكن في ظل هذه الأزمة، لا يمكنني أن أحيا حياة تُذكر.. الحياة مملة للغاية”.
أشار هنري ليفيفر Henri Lefebvre إلى أن “عالم السلع ينحو إلى امتصاص قيمة “الاستخدام use ” محولاً إياه إلى “التبادل exchange ” وإلى “قيمة التبادل exchange value”” (انظر: Lefebvre 1996: p. 170) بحيث يصبح الاستهلاك قيمة اجتماعية غالبة. إنها ملاحظة وجيهة إذا طبقناها على بوخارست، حيث وكما يصرّ نيكو، فإن “متعة التبادل thrill of exchange ” – من منطلقات تحفيز الاستهلاك consumer stimulation – تقع في القلب من معنى أن يحيا المرؤ حياة. ومن نفس المنطلق، فإن غلبة “قيمة التبادل” تشكّل أيضاً – بطريقة تاريخانية محددة – طريقة فهم الأفراد وإدارتهم لمسألة تآكل التوقعات المعيارية normative expectations من الحياة.
مع انحسار حجم سوق العمل والخدمات الحكومية في رومانيا – وفي شتى أنحاء أوروبا وأمريكا الشمالية – فإن المطرودين من تجربة “العمل والبيت” هم أكثر من يعانون من انهيار الحاضر على مستوى “الاستهلاك”. تتوقف الحياة بما أن الأسواق التي لا يوقفها شيء هي التي تُعلن لهم أن الروتين اليومي والمطامح التي يعتنقونها أصبحت أموراً لا يملكون ثمنها، وتؤدي القدرة المنحسرة على الاستهلاك إلى إحساس المستضعفين اقتصادياً بالملل يوماً بعد يوم.
في محاولة لإدارة “الملل”، وإدارة إحساسهم بالعزلة الاجتماعية المتزايدة، يتسول نيكو وصديقيه لشراء أي شيء يمكنهم شراءه. إنه رد الفعل “من المستهلك” على تجذر الفقر في لحظة تشهد زيادة انعدام المساواة، في مسعى للبقاء في سباق “وعد التبادل” بما يكسبون من نقود. في حين أن المزيد من الاستهلاك يمثل وعداً بتنفس الصعداء مؤقتاً، فإن من الواضح أن ثمة حاجة إلى “الغرس الجمعي” لحس أقوى بالقيمة.
بروس أونيل: أستاذ مساعد في قسم السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا في مركز الدراسات البين-ثقافية، بجامعة سان لويس.