الحسن أسويق
اعتبارات عامة:
ثمة مبدأ أساسي في الأنتروبولوجيا مفاده أن اختلاف السلوكات الإنسانية يرجع إلى عوامل ثقافية بالدرجة الأولى، إذ نجد في المناطق الحارة مثلا “اختلاف عادات الملبس من العري الكامل أو شبه الكامل، إلى الملبس الكامل عند سكان المنطقة الحارة أيضا”[1]. هذا يعني أن انعكاس آثار البيئة الطبيعية ليس ملزما للناس في اتخاذ أشكال سلوكية- ثقافية متشابهة ومتماثلة. وينطبق هذا على الإنسان الريفي بشكل عام حيث نجد الرجل يلبس في الأيام الأشد حرارة جلبابين أو أكثر!
بناء على هذا، يمكن القول بأن “القيم الجمالية”، بما في ذلك أشكال التزين والملبس، تتحدد بالبنية الثقافية العامة وبالانتماء الرمزي للإنسان هذا الانتماء الذي يتحدد بدوره بمجموعة من الأساطير والمعتقدات. وفي هذا الإطار لا يمكن أن نفهم أشكال اللباس والتزين عند المرأة الريفية بمعزل عن “مفاهيم “الشرف” و”الحياء” كقيم متوسطية مشتركة”[2]. غير أن هذه القيم الجمالية تتحدد من جهة أخرى بالسياق الاجتماعي- البيئي والوظيفي. هكذا نجد أن ثمة ارتباط وثيق بين الفن ووظيفته في المجتمعات التقليدية والقروية، بحيث يصبح “الجمال هو التكيف الكامل للموضوع مع وظيفته” كما يقول بول سوريو Paul Souriau؛ أي بعبارة أخرى غياب ما يسمى بـ”الفن المجاني” أو “الفن الخالص”[3]. أي أن الجمال، جمال وظيفي (Esthétique fonctionnelle). وانسجاما مع ذلك، فإن المرأة الجميلة في الوسط القروي بشكل عام هي “المرأة القوية والقادرة على تحمل مشاق العمل..”[4].
إن جمالية المرأة الريفية إذن، كامرأة قروية، لا تخرج عن هذه المحددات والاعتبارات العامة.
ـ لكن ما هي مواصفات المرأة الجميلة في المتخيل الريفي؟
ـ وكيف تقدم المرأة الريفية نفسها جماليا؟
قبل الإجابة عن هذين السؤالين لا بد من الإشارة إلى أنه على عكس المجال الحضري، حيث مظاهر الزينة وأنشطة التزين دائمة ومستمرة، فإن التزين في المجال القروي يكون في مناسبات ناذرة، وبالضبط في مناسبات الاحتفال حيث تكون الفرصة بالنسبة إلى المرأة للاستراحة من مشاق العمل، وفرصة أيضا للتعبير عن ذاتها الجمالية وإغراء عريسها المفترض بالنسبة إلى غير المتزوجة، وللتباهي بالنسبة إلى المرأة المتزوجة. أثناء الاحتفال إذن (خاصة الأعراس) تتقلص بل تختفي صرامة القوانين والأعراف، ليسمح بعدة سلوكات وتصرفات تعتبر في الأيام العادية ممنوعة ولا مشروعة. فبإمكان الفتاة أن تتغنى بعشيقها (الليف) جهرا وترقص أمامه. ويقول فرويد في هذا الصدد: “إن الاحتفال اختراق رسمي للمنوع والمحرم، إنه اختراق جائز ومسموح به”[5].
1 – مواصفات الذات الجميلة:
يمكن حصر المواصفات الجمالية للمرأة الريفية وفقا لمعايير “الجمال القروي”. وانسجاما مع الاعتبارات الأنتربولوجية والسوسيولوجية السابقة، فيما يلي:
أ-الجسم البدين والقوي: لأن “الرجال تعجبهم المرأة البدينة”[6]، التي تكون قادرة على العمل من جهة ومشبعة جنسيا من جهة أخرى. غير أنه إلى جانب الجسم القوي والبدين والصدر الناهد، يشترط في المرأة أن تكون ذكية وفطنة(تمغيسث) مثل طائر الحجلة (تسكورث)، وإلا أصبحت مثل البقرة (ذفناسث) أو الغولة (ذمزا أو ذوعسرا).
ب-طول الشعر: تعطي المرأة الريفية أهمية خاصة للشعر و”تستعمل شتى الوسائل من أجل رعايته وتطويله”[7] كزيت الزيتون والحناء. شعر يمتد إلى الخلف ويتجاوز الحزام. لكن يجب أن يكون مطروزا، لأن الشعر المطروز رمز الحياء والوقار! وتحرص المرأة الريفية – متى أتيحت لها فرصة أخذ صورة فوتوغرافية مثلا- على إظهار ظفائرها الطويلة: حتى وإن كانت المرأة مسنة.
ج-احمرار الوجنتين: للوجنتين أهمية خاصة ولا يجب أن تكون جافتين بل عامرتين محمرتين كرمز للأنوثة. والرجل الريفي قديما كان يقبل المرأة على وجنتيها وليس على الشفتين[8]. فالقبلة باللغة الريفية هي (ذقبوحث) والوجنتان هما (إقبوحن)، أي أن الوجنة والقبلة لهما نفس الجذر اللغوي. إلى جانب هذا يفضل الريفي أن تكون للمرأة رموش كثيفة وعينان سوداوان وكبيران[9].
هذه هي بشكل عام المواصفات الذاتية للمرأة الريفية الجميلة. لكن هذه الذات تحتاج إلى مظاهر زينية لإثارة الدهشة والإعجاب، أي تحتاج إلى تقديم جميل لأنه كما يقول كانط: “ليس هناك شيء جميل، بل كل ما هنالك هو التقديم الجميل لشيء ما”.
2 – التقديم الجميل للذات:
تحتفظ المرأة الريفية بألبسة وحلي خاصين للتزين:
ـ على مستوى الألبسة (الكساء): يتم عموما اختيار ألبسة طويلة تغطي كامل الجسد، مع الحرص على الإظهار الكامل للوجه. وعادة ما يتم ارتداء (ذشماث) أو (دفين): (عبارة عن لباسات طويلة شبيهة إلى حد ما بالقفطان)، وتربط في الوسط بالحزام. ومن الجدير بالذكر أن المرأة الريفية تعطي أهمية استثنائية للأحزمة التي لها دلالات خاصة. وحسب عقود الزواج التي استطعنا الاطلاع عليها، والتي يرجع بعضها إلى أواخر القرن الثامن عشر[10]. فإنه لا يخلو عقد زواج من ذكر الحزام. وهذه الأحزمة تكون إما من الصوف أو من الحرير. إنها عنصر جمالي أساسي ورمز للشرف بالنسبة إلى المرأة المتزوجة. ويكون عريضا وبلون أحمر، ترتديه المرأة بعد ثمانية أيام من زواجها وتظل محتفظة به العمر كله! رغم أنها تتصدق بلباس اليوم الأول الذي تتوجه به إلى بيت عريسها، بما في ذلك الحائك الأبيض الذي كان يعتبر لباس السواد الأعظم من النساء الريفيات في الأيام العادية.
ونجد في الشعر الريفي (إزران) تغني بالحزان بمعاني ودلالات مختلفة كما في ملحمة “دهار أبران”[11]:
فاظمة ذويغتش شن مر ضورو
شن مر ذكار حزام نبع دورو
معنى هذا البيت الشعري (إزري) أن فاظمة، ولأنها مقاومة وشجاعة، فإنها تستحق أن تلد وتخلف كما تستحق حزاما بثمن غال، إنه رمز الاستحقاق. كما يمكن أن يكون رمزا لأحسن هدية وعربونا للمحبة كما في أشعار أخرى.(ويقال بأن الحزام قد لعب دورا أساسيا في حماية المرأة الريفية من مرض الظهر “سياتيك”-عرق النسا).
ـ على مستوى الحلي: نجد عدة أسماء كـ(ذذري): وهي عبارة عن سلسلة تربط حول الرأس مكونة من قطعة نقدية فضية ومزينة باللبان الأحمر والمرجان الأصفر في غالب الأحيان. و(ذمرسث): قلادة تربط حول العنق وتتدلى على الصدر، وهي تقريبا مثل (ذذري) لكنها أكثر حجما. و(زرايا او ذخرازين): وهي عبارة عن حلقات كبيرة تربط بخيط خاص عند الرأس وتتدلى عنه تلك الحلقات. ودمالج قد تكون فضية أو من النحاس، وتلبس مع دمالج أخرى رقيقة وأصغر حجما تسمى (ذمسياسين). والخلخال الذي يربط حول الرجل اليمنى دون اليسرى!
ولاكتمال زينتها وجمالها، تستعمل المرأة الريفية مواد للتجميل بسيطة وجد تقليدية كالكحل (ذزوش) لتجميل العينين. والحناء لتجميل اليدين والرجلين برسوم فنية. والسواك لتلميع الشفتين والأسنان التي كانت تطلى وتغلف أيضا بالذهب أو الفضة (إغوراف). هذا فضلا عن رسم أوشام (ذفريونت) خفيفة على الجبين أو الذقن. غير أن هذا التقليد صار الآن شبه منقرض بسبب “التحريم المسلط عليه من قبل الأديان التوحيدية..”[12] كما يقول الباحث عبد الكبير الخطيبي.
إنه من الصعب حصر جميع أنواع الملابس والحلي، غير أن الملاحظة الأساسية التي يمكن تسجيلها هي الوفرة في المواد المستعملة من الناحية الكمية: (تغطية جميع أجزاء الجسد ما عدا الوجه، أساور وخلاخل وعقود وأقراط..). نفس هذه الملاحظة المتعلقة بالوفرة يمكن تسجيلها على مستوى المواصفات الخاصة بالجسد (جسم مكتنز، شعر طويل، عينان كبيران، رموش كثيفة، امتلاء الوجنتين، الصدر الناهد..). ولا شك في أن هذه الوفرة، خاصة في ما يتعلق بالحلي، ناتجة عن تصور معين حول الجسد بحيث يتحول هذا الأخير إلى حامل للممتلكات التي من شأنها لعب دور “الاحتماء من التأثيرات السلبية و(عين الحسود) التي تسبب العقم والأمراض”[13]. إن الأمر يتعلق إذن بما يمكن تسميته بـ”جمالية كمية” عند المرأة الريفية.
على سبيل الختم:
إن “الاهتمام الجمالي” للمرأة الريفية بالمواصفات التي حددناها سابقا من خلال السلوك اللباسي والتزيني، أصبح الآن يعرف عدة تحولات بفعل تأثير تحولات اجتماعية وثقافية. وفي ظل هيمنة وسائل الإعلام و”عولمة الجمال”- –Globalisation de la beautéأصبحت الرغبات الجمالية موجهة وليست نابعة من البيئة المحلية. لذلك تسعى المرأة الريفية الآن إلى تقليد الموضة السائدة، لأنه كما يقول ابن خلدون “المغلوب عسكريا أو اقتصاديا أو سياسيا أو حضاريا.. مولع أبدا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه”[14].
(*) أقصد بشكل خاص المرأة بإقليمي الناظور والحسيمة (الريف اللغوي) وليس كل الريف.
الهوامش:
[1] – محمد الخطيب، الإثنولوجيا: دراسة عن المجتمعات البدائية، منشورات دار علاء الدين، دمشق، الطبعة الثالثة، 2000، ص8.
[2] – David Montogomry Hart, « Periodic rituals : the life cycle », In The Ait waryaghar of the Moroccan Rif, The university of Arizona press, 1976, p125.
[3] – Stephan Lucien, « Ethno-esthetique », Encyclopidia universalis.
[4] – David Duret et Arnaud Larriere, «Qu’est ce que percevoir le beau?», Site***.
انظر كذلك:
Yolanda Aixlà, « Las mujeres àrabes y berberes de marruecos », in Culturas rifenàs : el otro marruecos – Granada, 1997.
[5] – Sigmund Freud, Totem et Tabou, Payot, 1972, p161.
[6] – Ursula Kingsmill Hart-tras la peurta del pation : la vida cotidiana de las mujeres rifenàs, La bibliotica de malilla, 1998, p76.
[7] – Mariam Aherdan, « Timarssa : art du coustume », Revue Tifinagh, n°5-6, Mai 1995, p198.
[8 – يقول الروائي التشيكي-الفرنسي ميلان كونديرا: ” إن التقبيل “الفم بالفم” وتبادل اللعاب، ليس ضرورة إيروتيكية، بل نزوة وانحراف تعبران عن لا نقاوة خاصة بالثقافة الإيروتيكية الغربية”. أنظر:
Milan Kundira, L’identité, Roman, Gallimard, 1997, p.71-72.
[9] – وقد لاحظ د.هارت أن الريفيين (خاصة أيت ورياغل) رغم ميل بشرتهم إلى اللون الأشقر، فإنهم يفضلون العيون السودان والشعر الأسود، مرجع سابق.
[10] – أشكر بالمناسبة الأستاذ علي بلحسن الذي أطلعني على هذه العقود.
[11] – معركة ضد الاستعمار الإسباني بقيادة المجاهدين الرفيين.
[12] – عبد الكبير الخطيبي، الاسم العربي الجريح، ترجمة محمد بنيس، منشورات عكاظ، ص62.
[13] – Mariam Aherdan, «Les bijoux au Maghreb», in Revue Amazigh, n°8, 1982, p84.
[14] – عادل بالكحلة، (في تحولات السلوك اللباسي التونسي)، مجلة أبواب، العدد 26س 2000، ص76