المتحف كرابط انثروبولوجي تواصلي

صورة للمتحف البريطاني أعرق متاحف العالم

علي النجار

أورد د .ت. سوزوكي في كتابة(التصوف البوذي والتحليل النفسي): رغب رئيس الرهبان في احد أديرة زن بأن يتم تزيين سقف قاعة الدهارما بتنين. وطلب من احد الفنانين المشهورين أن يقوم بهذا العمل… لكن الفنان اشتكى من انه لم ير أبدا تنينا حقيقيا..أجابه رئيس الرهبان, لا تهتم, ستتحول إلى تنين حي, وترسمه. لا تحاول أن تتبع النموذج المعروف.. بعد مكابدات شاقة لعدة أشهر أصبح الفنان واثقا من نفسه ورأى التنين الخارج من لا وعيه. وكان التنين الذي نراه على سقف الدراهما في ميوشينجي في كيوتو.
بدون فهم مغزى هذه القصة لا يمكننا ان نقدر القيمة الفنية الروحية المحلية لغالبية الرسوم اليابابانية والصينية للسلالات الإمبراطورية المتعاقبة. وان استعصى علينا مقارنتها برسوم عصر النهضة الأوربية التي استنسخت ظلال الأجساد بنفس أهمية استنساخها تفاصيل الطبيعة والأجساد وبقية الأشكال المرئية وذلك من اجل تثبيت وهم واقعها, ما دامت الرسوم وهما وليس واقعا فيزيائيا. لكننا لا نعثر على أي اثر لهذه الظلال في كل الرسوم التقليدية الصينية أو اليابانية والشرق الأقصى عموما وحتى رسوم المخطوطات الإسلامية الأثرية. هذه الشعوب التي تنظر إلى الطبيعة والمخلوقات من فوق و بمنظور تعاقبي أو كرسوم مجردة من زوائد لا تعود لجوهرها, ومن اجل أن تحيط بمشهديتها العامة, مثلما تكشف عما هو مخبوء خلف التضاريس الطبيعية كموشور متتابع أو كنسق زخرفي, ولتسجل أيضا أثرها الذاتي وليس الظاهر فحسب. وللمتحف يعود الفضل بنصوص وثائقه وكنوزه التي هي بعض من الإرث الفني الذي نجا من كوارث الطبيعة والبشر في إمتاعنا بهذه الأعمال الفنية التاريخية وتسهيل أو تمرير أمر استيعابها والتمتع بخصائص مبثوثاتها الجمالية والثقافية.

ورد في احد مجلدات(سومر) المجلة الفصلية التي تصدرها مديرية الآثار العامة في العراق في الستينات من القرن الماضي, أن إحدى سفن الشحن الانكليزية(اللنج) غرقت في مياه شط العرب العميقة وهي في طريقها للبحر. هذه السفينة كانت تحمل(2000) لوحا مسماريا. نحن لا ندري ماذا كان مدون على هذه الألواح. هل هي(نصوص أدبية ميثولوجية, معاملات تجارية, جرد لمحصولات الحقل. تواريخ أعمال ملوك السلالات, أناشيد وصلوات دينية, بعض من نصوص القوانين الأولى. أم هي كل ذلك وأكثر.). ومع هذا فان آثار العراق بحلقاتها المتعاقبة منذ السومريين وما بعدهم توزعت أهم متاحف العالم(المتحف البريطاني, اللوفر, المتحف البرليني, الأرميتاج الروسي, المتروبولتيان الأمريكي وغيرها من متاحف العالم وحتى بعض مقتنيات الجامعات العالمية الأثرية والمقتنيات الشخصية. وان صحت النبوءة التوراتية عن برج بابل, فقد تبلبل هذا الإرث أيضا كما ألسنتها. وان كان من فضل لمنقبي الآثار, فالفضل أيضا للمتحف حافظا للسجل الثقافي الإنساني ومتعقبا لفتراته المتلاحقة كي لا تضيعها محن الأزمنة المتعاقبة. ولكي تنكشف سلسة التطور الثقافي البشري بدأ من اللغة حتى الفعل.
اللوح المسماري( نص برسيبوليس ) الذي عثرت عليه بعثة (نيبور) التنقيبية الدانمركية في عام(1761) في مدينة(برسيبوس) الإيرانية والمدون بثلاث لغات قديمة حل بعض من الغاز الكلمات السومرية المدونة على الرقم الطينية والأختام الاسطوانية, وكانت المحاولة الأولى من قبل الألماني (كروتنفند) وليترك المجال لغيره لترجمة كامل أقدم لغة معروفة في التاريخ, ولتنكشف لنا الغاز احفوراتها التاريخية التي انتقلت لحافظها المتحفي. ولو تحققت رغبة الدادائيين في بداية القرن العشرين بحرق المتاحف, لما تمكنا من التواصل وثقافات وفنون من سبقنا. ولا أمكننا أيضا من تخصيب ثقافاتنا بآثارهم. فالخط الثقافي الزمني كما أتصوره هو حلقة دائرية لا تكف عن الاهتزاز. وحلقتي وصل التنقيب والمتحف هي في البؤرة منها. وان دلت حادثة نهب المتحف العراقي بعد الاحتلال الأمريكي ألأممي للعراق وسقوط الدكتاتورية الفردية عام ( 2003 ) إلى محاولة مسح الذاكرة التاريخية العراقية محليا. فان المسؤولية الأخلاقية لحكومات وشعوب العالم هي في تعقب هذا الإرث الإنساني المسروق وإرجاعه إلى المتحف العراقي حيث كان محفوظا.
لم يجد الفنان العربي أمام طغيان الرسم الأوربي بطرق معالجاته وتصوراته ومرجعياته الصورية إلا أن يحاول البحث عن مصادر إلهامه من خلال محاورة ومجاورة آثار منطقته (الجغرافيا ـ تاريخية), ووجد مبتغاه في التجريد ألحروفي العربي كمعادله سحرية للتجريد الغربي, تسند جهده مرجعية انثروبولوجية جمالية لا تخلوا من ملامح صوفية فنتازية أحيانا ودنيوية أحيانا أخرى. وان سادت أنماط حروفية وزخرفيه عربية مناطقية عديدة في فترة الإمبراطوريات الإسلامية على سواها من الفنون التشخيصية بسبب من ابتعاد التشخيص الإنساني عن الفكر الإسلامي(وليس انعدامه). فقد عزز الموروث بنماذجه المحفورة والمستنسخة المثيرة بصنعتها المتقنة قدراته الأدائية الفنية في هذا المجال وأثرت بشكل فاعل على تأسيس منطقة فنية عربية حديثة ومغايرة.
إن استرجع الفنان العربي الوثيقة الحروفية المتحفية بأعماله التجريدية الجديدة.فان النحات العراقي الحديث(جواد سليم) صاحب نصب(الحرية) المعروف في بغداد. هو الآخر أسس لواقعية الفن العراقي الحديث وبتأثيرات من رسوم مخطوطات(الوسطي) التي تعود للعصر العباسي والتي شاهدها لأول مرة عند صديق و في المكتبة الأهلية في باريس, وجواد هو خريج كليات
فنون انكلترا وفرنسا وايطاليا, وبالرغم من انه هضم معظم الأساليب الفنية الأوربية في زمنه. إلا انه­ ما لبث أن حاول خلق لغة فنية بقدر ما هي محلية فإنها أيضا لا تخلو من ملامح عالمية, وبذلك فانه جسر الهوة مابين الغرب والشرق وبما استلهمه من ارث المتحف العراقي الذي كان يعمل فيه قبل دراسته الأوربية. لقد أسس جواد لسلوك فني سوف يبقى نموذجا يحتذي به عراقيا وعربيا فالعمل الفني العربي الحديث هو عمل فني تواصلي يستوعب كل تأثيرات الفنون الإنسانية المحلية والشرقية والغربية كما انه ليس بمعزل عن مرجعيته الأثرية المتحفية الفنية. وكما هو متمثل في روحية غالبية النتاج الفني لشعوب الشرق الأقصى. فالتاريخ لا يزال فاعلا بمفاصله الثقافية الجمالية في هذا الجزء من العالم.

هل كان يدور بخلد العالم الانكليزي(أشمول) وهو يتبرع بمقتنياته من الأعمال الفنية في عام(1683 م)إلى جامعة(أكسفورد) لتؤسس بها أول متحف عام, بأنه سوف يؤسس لعلانية العمل الفني الأثري والأعمال الفنية المتزامنة وحداثاتها الزمنية. لقد فتحت الأقبية الشخصية وبمساعدة متغيرات الفعل الديمقراطي, وليصبح العلن متعة جماعية وتواصل معرفي متجدد. لقد قرأ أشمول جيدا تاريخ الحضارة الإنسانية ووعى درسه بعدما تلف الكثير من المخطوطات الأثرية المصورة واللوحات والرسوم والمنحوتات والإعمال الثقافية المتنوعة بسطوة نيران محاكم التفتيش الغربية وغزوات التتر الشرقية والانتهاكات الاثنية المتصادمة وغباء وتخلف الأنظمة الجاهلة على مدار الأزمنة المتعافية. وليتعدى الفعل المتحفي أمكنة أخرى كالكاتدرائيات وأمكنة العبادة الأثرية المختلفة, شرقا وغربا وكما هو الحال في وقتنا هذا. وبسبب من ضائقة مالية او انحسار الرواد المتعبدين والداعمين, وكما في بعض الدول الاوربية.
في متحف الفنون الجميلة في(بوسطن) نماذج من الرسوم الهندية التي تعود لمدرسة (الراجبوت) تمثل رسوما وتماثيل صغيرة لقصص(الماهابهارتا) و الـ(رمايانا) وأعمال البطولة التي قام بها رؤساء(الراجيوتانا). هذه الصور الزاهية وبنماذجها الإنسية الرشيقة التي لم ترسم عن نماذج بشرية تقدم لنا نموذجا مثاليا لشكل التصور الفلسفي الجمالي الهندي ذو السمة (التاريخ ـ جغرافية) المشرقية المختلفة. ولنستعرضها ليس في متحف بوسطن وحده, بل في المتحف البريطاني وغيره من المتاحف الأثرية العالمية في حال تعذرنا مشاهدة الفن الهندي في موطنه وهو الموزع في الكهوف والمعابد وبما تبقى من نماذجه التي نجت من دمار قبائل الهون والمسلمين الأوائل. فالمتحف هنا يقدم الذائقة ألفنية عبر تاريخها ألاختلافي القاري, عارضا ومفسرا لهذا الإرث الإنساني العالمي. وليقلص الزمن في رقعة مساحة عروضه.
مابين مظهرية الفنون الشرقية(اليابان, الصين, الهند وما بينهما, والمنطقة العربية الأوسطية), والأفريقية, والمنطقة اللاتينية القارية. وبين مظهرية الفنون الغربية, فروقات شكلية وذائقيه مختلفة وللحد الذي تثار فيه الكثير من التساؤلات من قبل كل من هذه الأطراف المتباعدة عن إشكالية خصائصها الفنية ومرجعيتها الثقافية, اختلافاتها وغرائبيتها غالبا. ما تقدمه النصوص النظرية لوحدها لا يؤدي الغرض. ومن اجل الحصول على إدراك معمق لمميزات ارثها الوجداني وتذوق مبثوثاتها الصورية بإيحاءاتها المختلفة. علينا معاينتها كأعمال معروضة أمام البصر وليس من خلال النصوص الشارحة او المفسرة. وعلى الرغم من اقتطاعها من منشأها, فإنها أيضا تدعونا لنستعرض تفاصيلها الصورية بكل غرائبيات منشأها الفلسفي أو العاطفي أو الثقافي المتعاقب وصولا لعصرنا بكل فنتازياته وشطحاته التي لا تخلوا من المرجعية المتحفية هي الأخرى. وان لفتت انتباهنا الدورة المتحفية كما التاريخ فعلينا أن نعي أهمية هذا الدرس المتحفي الموصول بصناعة صورنا الفنية الجديدة ولنؤسس متحفنا الافتراضي الذي ربما يوسع من حجم الدائرة المتحفية عبورا لأمكنتها المعمارية والرقمنة الافتراضية.
في غمرة ثورة التغيير السلوكي الفني الحديث للانطباعية, كان المتحف الياباني حاضرا بقوة. كما المتحف الإفريقي الأثري في التكعيبية. وان تقصينا المصادر الإلهامية لفنتازيا الفن المعاصر الافتراضي الخيالي فسوف يقودنا الأمر إلى جذره الأثري منذ السومريين الآسيويين وحتى رسوم دافنشي الاستعراضية أو رسوم جيروم بوش الفنلندي أو وليم بليك الانكليزي, ومابينهما وما حولهما من ارث القارات الخمس. وما اختلف سوى آليات التنفيذ ومناهجه التفكيكية التي تعيد الصياغات الفنية من خلال ربط بعض حلقات الوصل الأثرية أو كسرها بما تستفزه في النفس من عوامل التحدي الثقافي الجمالي والدلالي الطاغي.