عبد الحميد حوًّاس ـ كاتب من مصر
استقرت الدراسات الإنسانية المعاصرة على اعتبار مُفردة «ثقافة» مُصطلحاً يدل على منظومة من الخبرات التي حصلتها جماعة من الجماعات البشرية، تتجلى فيها طريقة هذه الجماعة في الحياة، وتتحدد أنساقها القيمية والمعتقدية والمعرفية والجمالية، التي تُعبرعن نظرتها للوجود الاجتماعي والطبيعي. وحددت الموضوعات التي يشملها المصطلح بأنها: القيم والمعارف والتصورات والعادات والأعراف والتنظيمات، والتعبيرات الفنية، وأساليب العمل والإنتاج وأدواته وعلاقاته، وأي قدرات أخرى يكتسبها الفرد بوصفه عضواً في المجتمع.
ووصف الثقافة «بالشعبية» يصوغ مصطلحاً آخر يُحدد صنفاً من الثقافة تسري عليه المقومات التي أشرنا إليها تواً، ثم يزيد عليها بمقومات خاصة به. فإنا، إذا استعملنا مصطلح «الشعبية» بالمعنى العلمي الدقيق، مُستبعدين الاستخدامات السياسية والإعلامية السائبة، يكون مصطلح «الثقافة الشعبية» دالاً على مكونات صنف الثقافة التي تتواتر بين عامة جماعة شعبية، وتصير مشاعاً بينهم يتداولونها على أنها من نتاج الخبرة الجمعية المشتركة، لهم –جميعاً- الحق نفسه في استعمالها واستثمارها.
وهذه «الثقافة الشعبية» يجرى تداولها عن طريق التناقل «الشفهي». والشفهية هنا لا تعني مجرد «التلفظ بالكلام»، وإنما مقصود بها «التواصل الشخصي المباشر» في كل صورة. فالمهنيون والمزارعون والرعاة والصيادون- على سبيل المثال- ينقلون جانباً كبيراً من خبرتهم المهنية ومعرفتهم المُركبة إلى صبيتهم ومتدربيهم عن طريق التدرج في احتذاء ممارسات «المعلم» أو «الأسطى»، على المستوى الحركي والأدائي في المقام الأول، ويأتي بعده التوجيه اللفظي. وحقيقة الأمر، أن التناقل هنا وظيفة أدائية للحالة الشفهية، التي هي حالة ذهنية شاملة تتعلق بطريقة التفكير والإنشاء والإنتاج بداية.
ومن ثم، واصل الشطر الأكبر من مكونات «الثقافة الشعبية» وجوده دون حاجة للتدوين أو الإنشاء الكتابي، مُعتمداً على هذا المُقوم الشفهي وآلياته الفاعلة. وجدير هنا أن نُزيل اللبس عن أمرين وقع ربطهما –وهما- مع شفهية الثقافة الشعبية:
أولهما: قرن الشفهية بالأمية. وكأن الشفهية تعنى «نفي» الثقافة الشعبية للكتابة والأعمال المكتوبة. بينما الواقع الميداني المعيش يُظهر إيلاء الثقافة الشعبية مكانة مقدرة للكتابة، ورفعها –في غير قليل من الأحيان- إلى مكان قُدسي.
وثاني الأمرين: ربط شفهية الثقافة الشعبية باستخدام اللهجات العامية في المُنتجات الأدبية المُعاصرة. وقد ترتب على هذا إقامة ترادف –موهوم- بين إبداعات الثقافة الشعبية وبين الأعمال المؤلفة باللهجات العامية. وقد أكد الواقع الميداني المعيش انتفاء هذا الترادف المتعسف. فشفهية منتجات الثقافة الشعبية لا تقتصر على التلفظ الكلامي، كما أشرنا، كما أن مكونات الثقافة الشعبية تضم في ذخيرتها غير قليل من الأعمال المنُشأة بالفصحى، وأواصر الصلة الجدلية بين الثقافة الشعبية وثقافة النخبة الفصيحة قائمة حتى يوم الناس هذا.
مهما يكن من أمر، ولكي نعود إلى سياقنا، فإن استعمال مصطلح «الثقافة الشعبية»- على أساس الإطار المفهومي الذي طرحناه- ينآى بنا عن التشوشات والالتباسات والظلال السالبة لتعبيرات تتردد في مجال الدرس الشعبي منذ عقود، ولعل أشيعها: «الفنون الشعبية»، وكذا مفردها «الفن الشعبي»، وبالمثل «التراث الشعبي» و»الموروث الشعبي»، ثم «الفولكلور»، بل وتعبير «المأثورات الشعبية». ففضلاً عن محدودية بعض هذه التعبيرات واتساع بعضها الآخر، بحيث أدخلت الكثير مما ينتمي إلى خارج المجال، فإن استعمالها المُرسل وتحريفها عما وضعت له، وقد روجت له الأجهزة الإعلامية طوال أكثر من نصف قرن، أنقص من دلالتها ودناها وأفقدها تحددها بوصفها معبرة عن مفهوم بعينه.
بينما تبنًّينا لمصطلح «الثقافة الشعبية»- وفقاً للفهم الذي بيناه- لا يُعمق من منهجيتنا في تناول الظواهر الشعبية على مستوى التناول التخصصي فقط، وإنما يُعمق –أيضاً- من منهجيتنا في تناول هذه الظواهر على مستوى الإبداع والتذوق وإحسان التقدير، من جهة- وعلى مستوى التنشيط والتنظيم ورسم السياسات، من جهة أخرى. وهو لا يؤكد اتساع الفعل الثقافي الشعبي واستدامته ونسبته فحسب، وإنما يؤكد –قبل هذا طبيعته الديمقراطية ورحابته في شموله لإبداعية أبناء الجماعات الشعبية، كما يؤكد تقديره للتباينات المختلفة، إذ الوحدة فيه تقوم –أساساً- على التنوع.
غير أن إجراءات الدرس النظامي لمظاهر الثقافة الشعبية ومكوناتها، وخاصة مع نمو العمل الميداني وتنوع مجالاته، تطلبت أن يقوم الدارسون بترتيب المادة التي يشتغلون عليها وتصنيفها، وفصل المظهر المدروس على حدة، كي يتسنى دراسته دراسة مُدققة بغية التوصل إلى معرفة طبيعتها، وتمييز قوانين تركيبها، وتحديد وظائفها.
وقد تعددت الجهود في تقسيم مكونات الثقافة الشعبية وتباينت. ولكن التقسيم الأكبر كان قد حدث من قبل بشقها إلى شق مادي وشق آخر غير مادي. على أساس أن الأشياء المُجسدة في هيئة نُصب ومعالم ومُشخصات تكون مادية، أما المظاهر الأخرى ذات الطبيعة الذهنية أو الوجدانية فتُنعت بغير المادية، أو بالمعنوية أحياناً، أو بالروحية أحياناً أخرى.
وكانت هذه القسمة مجلبة لإنشاء حركة درس مكونات الثقافة الشعبية –إجمالاً- إلى تيارين رئيسيين. تيار يرى التكامل في مكونات الثقافة الشعبية وضرورة النظر إليها في كليتها، وإن تخصص في جانب منها. وكان أبرز وجود لممثلي هذا التيار في بلاد شمال أوروبا، في الدراسات التي عُرفت بدراسات الحياة الشعبية». أما التيار الثاني فقد رأى أبرز ممثليه تعزيز الفصل بين مظهري الثقافة الشعبية. واعتبروا أن درس الأشياء المادية والعناية بها هو من اختصاص نظم معرفية أخرى، قد تكون الإثنوجرافيا أو إحدى ضريباتها. في الوقت الذي حددوا فيه حدود عملهم في إطار المظهر غير المادي من الثقافة. وأوكلوا دراسة هذا المظهر إلى علم كان آخذًا في التكوًّن –إذ ذاك- تحت اسم «الفولكلور» Folklore عند الإنجليز، واسم «الفنون والتقاليد الشعبية» Arts et Traditions Populaires عند ذوي اللغة الفرنسية أو أخواتها لاتينية الأصول. ولكن المشترك بينهم كان الاتفاق على أن مجال انشغالهم- العلمي وغير العلمي- هو «التراث الرُوحي للشعب»، وقصر عدد كبير منهم هذا «التراث الروحي للشعب» على ما سُمي «الأدب الشعبي» أو حتى على أحد أنواعه، وضم إليه البعض المعتقدات والعادات المرتبطة به، في الوقت الذي ركز فيه بعض آخر على الموسيقى والغناء أو الرقص، وبعض ثالث قصره على الزخارف والمشغولات التي تتصل بأنواع من التشكيل الفني.
وعلينا أن نتذكر الخلفية الفكرية والمنهجية التي درج فيها الدرس النظامي لجوانب الثقافة الشعبية، سواء في بلاد النشأة الأوروبية الغربية، أو في أقطارنا العربية منذ عشرينات القرن العشرين. ووضع هذه الخلفية في الاعتبار يجعلنا قادرين على تفهم بعض الأسباب في مجال الدرس الشعبي أو تضييقه، من جهة، وبعض أسباب اضطراب المفاهيم والمصطلحات والمقاربات، من جهة أخرى.
ولنتذكر- على سبيل المثال- الدوافع التي حدت بوليم طومز سنة 1846 م كي يسك مصطلح «فولكلور»، مقترحاً إطلاقه على دراسة الشعبيات نقضاً للتسميات التي كانت تطلق عليها من مثل: Antiquitiés (أى أثريات، أو بالأحرى أنتيكات). وكذلك- على سبيل مثال آخر عربي- ما اقترح من تسميات عربية من مثل: «علم الرُّكة» و»الخزعبلات» في بدايات القرن العشرين حتى منتصفه! لعل ذلك ينبهنا إلى المسار الطويل ذي المسارب الذي توغّل فيه درس الثقافة الشعبية.
ويبدو أن غلبة التيار الآخذ بشطر الثقافة، والقول باقتصارها على «التراث الروحي»، لا في الثقافة الشعبية وحدها، وإنما في الثقافة عموماً، كان دافعاً لتبني هذا التوجه من طرف واضعي اتفاقية اليونيسكو «بشأن حماية التراث الثقافي غير المادي» أو «غير الملموس» في ترجمة أخرى. (صدرت عام 2003، وبدأ العمل بها منذ أبريل 2006، وانضم إليها 100 دولة حتى الآن) بل يبدو أن غلبة هذا التيار أثرت أيضاً على اختيار واضعي الاتفاقية للمصطلح المستعمل في هذه الاتفاقية.
وربما كان أبرز هذه المصطلحات، والذي رشَح على المفاهيم والتعريفات المستخدمة، تعبير Intangible Heritage بالإنجليزية،أوPatrimonies Immaterial بالإنجليزية أيضا، وبالفرنسية Patrimoine immatériel. وفضلاً عما تحمله التعبيرات من خلفية، فقد استخدمت مصطلحاً يعنى «التراث» مع التباساته الماضوية، فقد عكس الفارق بين المصطلح الدال على «غير الملموس» الإنجليزي، والمصطلح «الدال على «غير المادي» الفرنسي، ظلالاً من المعنى يؤكد الرؤى الانشطارية القديمة الجديدة.
على كلٍ، يجب أن نضع في الاعتبار أمراً آخر بالنسبة لهيئة اليونيسكو، فيما يخص دفعها، في العقدين الأخيرين، لما أسمته التراث الثقافي غير الملموس أو غير المادي، أن هذا الدفع تصاعد رغبة من صُناع القرار فيها في إحداث توازن مع انشغال أجهزتها منذ أواخر الخمسينيات بشؤون حماية الآثار وصونها، ثم ألحقت بها ما سُمي «صون التراث الحضاري والطبيعي» وفهمنا لهذه الخلفيات يُفضي إلى حُسن تقدير، بل وحسن إدراك، لمدى الإنجاز الذي قدمه كل من الروًّاد العظام وكذا الإسهام الذي تنهض به هيئة اليونيسكو. وبالتالي، حُسن الإفادة من إضافتهم المعرفية والعلمية والإجرائية؛ وفي الوقت نفسه التوقي من المزالق المفهومية والمنهجية التي اعترضت عملهم.
وأحسب أن الخطوة الأولى لتوقي هذه المزالق هي الأخذ بالمفهوم الشامل للثقافة الشعبية المتكاملة، حيث يُصبح التقسيم والتفريع قائم على التصنيف المنهجي بقصد تنظيم عمليات الجمع والحفظ والدراسة، ليس إلا!
إنا إذا ميزنا الثقافة المادية بأنها حصيلة خبرات جماعة شعبية ما في الأنشطة الساعية إلى توفير احتياجات معاشها والتوصل إلى إنجازات تقنية، وابتكار أدوات ومعدات متنوعة، في تنفيذ حرفها ومهنها المتعددة، لإنتاج مُتطلباتها وسد حاجات معاشها؛ فضلاً عما تكيفه من وسائل توظفها في أغراض الزينة وإقامة الطقوس، وفي الأنواع الفنية.
وإذا ميزنا الثقافة غير المادية، أو غير الملموسة، بأنها حصيلة خبرات الجماعة الشعبية نفسها في ممارسة القيم والمعارف والتصورات والعادات والأعراف، وتنظيمها للعلاقة بين الأفراد والجماعة، وبين الجماعة والجماعات الأخرى، وأشكال التعبيرات الجمالية والفنية المتنوعة.
فإن الواقع الميداني المعيش يُبين أن «الثقافة الشعبية» كل يتكامل فيه المادي وغير المادي، الملموس والمعنوي، المُجسد والروحي والغالب هو تلبس المعنوي للمادي، وكأنه بمثابة الروح للجسد. وكما أن المعنوي يُحقق وجوده بواسطة مظهر مادي، فإن المادي يحقق وجوده الثقافي بواسطة المعاني والقيم التي تُسبغ عليه.
المصدر: مجلة “الثقافة االشعبية” البحرينية . عدد 09