رضا محمد عبد الرحيم
وبادئ ذي بدء أحب أن الفت النظر إلى أن سائر الفنون المصرية القديمة كانت ذات طابع عملي مما يتفق وأداء الغرض منها،وإذا كانت البيئة المصرية القديمة كانت غنية بمواردها،فإن المصري القديم بث فيها من فكره وروحه ،وأنها كانت بمثابة المادة الحاملة في تركيبة الدواء وتبقى المادة الفعالة : هي روح وفكر المُبدع الأول ، وإذا كانت اللغة هي وعاء الفكر ، فإن المادة حملت وحفظت لنا الاثنين معا.
ويظهر في المعارف المصرية القديمة ما يدل على اتجاههم المادي العملي والذي ظهر جليا في العلوم الذي استخدموها في معاجلة ما كان يعرض في الحياة اليومية من مشاكل، فالحاجة أم الاختراع؛ وكانت الحاجة إلى علم المساحة وليدة ما كان يحدثه النيل وفيضانه من تغيرات في الأرض الزراعية مع الرغبة في جباية الضرائب على أساس عادل،وقد أشار إلى ذلك “هيرودوت” في كتابة عن مصر،كما ترجع معرفتهم ” نسبة محيط الدائرة إلى قطرها” إلى اضطرارهم لمعرفة سعة صوامع الغلال المستديرة؛ التي كانوا يخزنون فيها حبوبهم.
وفى مجال الطب يتجلى الطابع العملي للمصريين القدماء في تقدم علم التشريح، ولعل ما أصابوه فيه من تقدم يرجع إلى ما اكتسبوه من معلومات في إعداد جثث الموتى وتحنيطها وذبح الأضاحي من الحيوانات في طقوسهم الدينية والجنائزية، ويتجلى هذا الطابع أيضا في اهتمامهم بأمراض الحيوان لما كان لتربيتها عندهم من أهمية كبيرة.كما كانت قيمة الدواء تحدد عن طريق تجربته واثبات فاعليته.
ولا تقتصر الناحية العملية المادية على صناعات المصريين وفنونهم وعلومهم ،وإنما تتجلى أيضا في معتقداتهم الدينية؛ وهى تفيض بالتصورات المادية عن المعبودات وعلاقة بعضها ببعض،فأصبح بعض هذه المعبودات في أسرات تتألف من الأب والأم والابن ،وفى هذا صدى لحياة الأسرة في المجتمع المصري القديم.
وليس معنى الطرح السابق أن المادية في الحياة المصرية القديمة كانت ذات طابع جاف سافر بعيد عن عالم الحس، فقد أهتم المصري القديم بالاستمتاع بما كانت تتيحه طبيعة بلادهم من جمال، وليس أدل على ذلك من مناظر الصيد والقنص على جدران المقابر والمعابد ،وهى مناظر كثيرة ومتنوعة ولا تكاد تخلو مقبرة فرعونية منها على مر العصور،وكذا في صور الاحتفال بالأعياد والمآدب الفخمة بما تحتويه من مختلف أنواع الطعام والشراب وما يسودها من رقص وغناء وموسيقى .
وفى مباني المصريين وصورهم ونقوشهم وتماثيلهم ومصنوعاتهم ما ينم عن روح ترنو إلى الجمال والكمال والإتقان بل كثيرا ما تجاوز الفنان والصانع حد الفائدة العملية؛ كما يتجلى ذلك في تيجان الأساطين وفى ملاعق الدهون ومقابض المرايا وغيرها.وفوق هذا اهتدى المصريون منذ وقت مبكر إلى معرفة العادات الاجتماعية الراقية والفضائل الأخلاقية السليمة،والتي تكشف عن مشاعر إنسانية نبيلة؛تؤثر العطف والرحمة وُتنفر من حب الانتقام والأخذ بالثأر ، وتتجلى هذه الأخلاق فيما حفظ لنا من نصائحهم وتعاليمهم،ويكفى هنا أن أشير إلى تحذير الكاتب المصري القديم “أمن إم أوبي” لكل صاحب قلم من أن يغمس قلمه فيما يضر، وما أحوجنا في هذه الأيام إلى العمل بتلك النصيحة الغالية.
وفى ختام حديثي، هذا قليل من كثير، يكشف لنا أن المصري القديم على شدة تقيده بعالم المحسوسات وإيثاره الناحية المادية العملية في أفكاره وتصوراته وأعماله، لم يهمل الناحية المعنوية والروحية.