الفقهاء، الصلحاء والشرفاء:
(الجزء الأول)
محمد جحاح*
تقديم
ليس هناك ما ينفي حقيقة ذلك الترابط والتعاضد القويين بين الدين والسياسة في تجربة البلدان العربية والإسلامية، ولعل حالة المغرب بنسقه السياسي الفريد، تقدم النموذج الأمثل على ذلك. ربما هذا ما دفع بالبعض إلى محاولة تقديم تاريخ سياسي لهذا البلد مختزلا في تاريخه الديني، أو على الأقل تغليب العامل الديني على حساب بقية العوامل الأخرى الاقتصادية منها والاجتماعية والثقافية، في تحليل ظاهرة السلطة وأسس تشكلها وشرعنتها ومنطق اشتغالها أيضا. لعل هذا ما يفسر اليوم استمرار هيمنة بعض التحليلات البنائية- الوظيفية في التعاطي مع النسق السياسي المغربي المعاصر، ونخص بالذكر هنا تحديدا تلك المندرجة في إطار ما يعرف بالأطروحة الانقسامية.
ارتباطا بذلك، ورغبة منا في تجاوز الحدود الضيقة التي قد تحصرنا فيها هذه الأطروحة وغيرها، سوف نحاول من خلال هذا المقال، تقديم قراءة أركيولوجية نسعى من خلالها إلى الحفر في تاريخ هذه العلاقة (كعلاقة بين الديني والسياسي)، وذلك بالعودة إلى مرحلة هامة وحاسمة من التاريخ السياسي المغربي؛ وتحديدا مرحلة انبثاق النظام السياسي الشرفاوي في القرن السادس عشر الميلادي. وفي هذا الإطار، سيتركز عرضنا وتحليلنا على ثلاثة أنماط من التنظيم والممارسة (الدينية – السياسية) التي نفترض أنها تتمايز فيما بينها من حيث الأهداف والاستراتيجيات، وقد تتعارض أيضا، هذا علاوة على اختلاف منطلقاتها ومرجعياتها؛ لكن ما يوحد بينها جميعا هو ذلك الأساس الإيديولوجي مجسدا في الدين، أو بالأحرى في فهم خاص للدين يقدم نفسه كمسوغ لكل خطاب وممارسة سياسيين. إننا هنا أمام ثلاث فئات متمايزة تقتسم حقل النبالة الدينية بما يتأسس عليه – كحقل للتنافس والصراع الاجتماعين- من قيم ورموز تتجاوز الروحي نحو الزمني والقداسي نحو السياسي: فمن جهة هناك “الصلحاء” الذين يستندون إلى مرجعية صوفية واضحة، ومن جهة هناك “الفقهاء” باعتبارهم تلك الفئة الممثلة للشرع ومقتضياته، وأخيرا هناك “الشرفاء” باعتبارهم يمثلون ذلك الامتداد البيولوجي/ السلالي لشخص النبي، بما يعنيه ذلك – وعلى مستوى إيديولوجي- من مصدر تقديس وإجلال وهيبة.
على هذا الأساس، فإن تناولنا للأنماط الثلاثة، وارتباطا بسؤال العلاقة بين الديني والسياسي، سوف يكون بمثابة محاولة لوضع الإطار العام الذي ينبغي أن تفهم في سياقه طبيعة العلاقة بين السلطة والمجتمع في مغرب الأمس، والتي قد لا تفقد الكثير من دلالاتها بخصوص الوضع الراهن، خاصة لما يتعلق الأمر بالمؤسسة الملكية اليوم ومستويات استثمارها في هذا الرأسمال الرمزي ممثلا في “الدين” . ولعل هذا ما قد تؤكده جينيالوجيا السلطة وحقول اشتغالها وشرعنتها أيضا (شرعية الحكم) بخصوص هذه المؤسسة، والأمر يتعلق هنا طبعا بكل من: حقل “الحاكمية” وحقل “التحكيم” وحقل “التحكم” انتهاء بحقل “الحكامة”، كما سنتطرق لها لاحقا (في الجزء الثاني من هذا المقال).
لعل هذا ما نسعى إليه من خلال مساءلة كل نمط على حدة، سواء في تشكله كتنظيم أو على مستوى تطوره وأشكال تجذره أيضا في بنيات المجتمع وعلى مستوى الذهنيات – كما تعكسها تمثلات الناس وممارساتهم- قبل أن يتبنين في السياسي. هذا دون أن ننسى أيضا طبيعة العلاقة بين الأنماط التنظيمية الثلاثة، سواء تعلق الأمر بعلاقة الفقه بالتصوف، وخلفيات هذه العلاقة الإيديولوجية، وأبعادها السياسية، أو بعلاقة الصلاح بالشرف من داخل ذات الحقل الصوفي. وارتباطا بذات الإشكالية طبعا، سوف نحاول تطوير هذا المقال في ضوء بعض التساؤلات التي نراها أساسية في هذا الإطار: فما هي إذن طبيعة العلاقة بين الفقه والتصوف؟ هل هناك تكامل، أم يشكل كل منهما منظومة دينية مختلفة ومتعارضة أيضا مع الأخرى؟ ما هي إذن مستويات التكامل؟ وما هي مستويات التعارض بين الإثنين؟ هذا من جهة، أما من جهة أخرى ما الذي يمكن قوله بصدد علاقة الصلحاء بالشرفاء ـ كعلاقة سلطة بالأساس -؟ هل الصلحاء هم حقا من ساند الشرفاء وأوصلهم إلى السلطة، مما يمكن معه الحديث عن ”مساهمة الصلحاء في تأسيس السلطان السياسي Pouvoir politique الجديد بوصفه سلطانا شريفيا“[1]؟ أم أن هناك تنظيما صوفيا آخر هو الذي سيقوم بهذه المهمة؟ وما هو هذا التنظيم؟ وإذا ما سلمنا مع البعض، بالدور الحاسم الذي لعبه الصلحاء في قيام دولة الأشراف السعديين ومن بعدهم العلويين، فهل هذا يعفينا من مساءلة طبيعة وشروط هذه المساندة؟ بل، أبعد من ذلك، إكراهاتها ومفارقاتها؟ ثم هل هناك وجه للمقارنة بين هذا الدور الذي لعبته الإيديولوجية الصوفية- كما تبلورت في إطار تنظيم الطريقة الصوفية والزاوية- في انبثاق النظام السياسي الشرفاوي، والدور الذي لعبته الإيديولوجية الفقهية من قبل – في شخص الرابطة- مع النظام السياسي العصبوي (مرابطين، موحدين)؟
1 – علاقة الفقه بالتصوف بين الديني والسياسي : (الصلحاء، الفقهاء والسلطة).
في الواقع، ليس هناك في التاريخ الديني ما يثبت حقيقة ذلك التعارض الذي غالبا ما تتم إقامته، وبشكل متعسف أحيانا، بين كل من التصوف والفقه؛ خاصة لما يتم الحديث عن “دين شعبي” في مقابل “دين رسمي”. وفي هذا الإطار، يعتبر (ألفرد بل) – A.Bel – واحدا ممن أسسوا لهذه الثنائية ولذلك التعارض.
لقد انطلق هذا الأخير من فرضية عامة وهي : أن الإسلام عندما تم إدخاله إلى شمال إفريقيا (بلاد البربر) – حسب تعبيره – ” كان مفهوما ومطبقا فقط من قبل النخبة المدينية“[2]؛ ولم يحدث في اعتقاده أي ”تغيير في هذا الاتجاه، إلا في القرن الثالث عشر، أي في الوقت الذي أنشئت فيه الزوايا في البوادي“3. مع هذه المرحلة بالذات، يبدأ التأريخ لبروز ما أسماه الباحث ب “الإسلام الشعبي” مجسدا في التصوف وما أفرزه من معتقدات، هي بالضرورة حصيلة طبيعية لتراجعات “الإسلام الرسمي” وتنازلاته لمسايرة الخصوصيات المحلية4. ويضيف الباحث قائلا بأن المكونات المجردة للإسلام لم تستطع ” أن تعيش في التركيب الديني المنبثق عن الإسلام الشعبي“ 5، والسبب في ذلك قد يعود إلى ” عدم قابلية ما يسميه A.Bel بـ “الدين الأساسي عند البربر” لاستيعاب معتقدات أخرى“6. وهنا يكمن أصل تلك “الازدواجية” التي سيوسم بها (الحقل الديني الإسلامي) من داخل الكتابات والدراسات الكولونيالية حول المغرب وشمال إفريقيا، خاصة في إطار ما يعرف بأطروحة البقايا الوثنية كما جسدتها دراسات وأبحاث كل من: إدوارد ويسترمارك وإدموند دوتي وديرمنغهام ولاووست…إلخ. ولعل أطروحة (ميشو بيلير) تندرج في هذا السياق، خاصة حين يسعى هذا الأخير إلى تفسير واقع ارتباط التصوف بالقبائل البربرية وتغلغله بها، وعلى خلاف الإسلام الفقهي، بنجاح التعاليم والمبادئ الصوفية في دمج واحتضان مجموعة من المعتقدات “البربرية” الما قبل إسلامية (الوثنية) في إطار “إسلام شعبي” مقابل إسلام الدولة “الرسمي” كما يمثله الفقهاء والعلماء 7.
في الواقع، وكما أثبتت ذلك نتائج البحث الميداني والعلمي الرصين، فـ ” إن هذه الازدواجية لا تبدو مقامة على تعاريف محددة، وإنها لتضطلع بالأحكام التقويمية (…) بحيث أن (شعبي) الأمس يمكن أن يصبح عند الاقتضاء (رسمي) الغد“8. علاوة على ذلك، فإن هذه الازدواجية مشكوك فيها كونها لا تقوم على أساس نظري وتجريبي ميداني، بل على أساس إيديولوجي؛ ولعل هذا ما حاولت الباحثة (ماريا إيساورا) إثباته في إطار نقدها لأطروحة (روجي باستيد) حول الديانة والطقوس التعبدية بالبرازيل وإفريقيا 9. وعلى مستوى آخر، ومن داخل الحقل الديني ذاته، فإن ”الصوفية أنفسهم لا يعترفون بأنهم ليسوا من أهل السنة، ويدعون أن القرآن يحتوي على مبادئ باطنية استطاع المتصوفة وحدهم أن يدركوها ويفسروها، إضافة إلى ذلك فإن الصوفية اعتبروا أنفسهم الأتباع الأصليين للإسلام وليسوا إضافة غريبة عليه“10.
من هذا المنطلق، وإذا كان هناك من تعارض بين الفقه والتصوف فإننا نفترض بأن ذلك ينبغي أن يفهم على مستوى إيديولوجي، كتوظيف سياسي لما هو ديني، بحيث يصبح كل من الفقه والتصوف بمثابة إيديولوجية للحكم، ومصدر لإضفاء الشرعية السياسية عليه وتبريره. ولعل هذا ما قد نستشفه من التعريف العام للإيديولوجيا باعتبارها ذلك البناء الفكري المتماسك الذي يدخل ” في أساس تكون السلطة وفي أساس صيرورتها دولة“11 ؛ وذلك عبر مجموعة من الآليات والوسائل التي قد تلتقي جميعها في وظيفتين أساسيتين هما: ”تأويل الواقع تأويلا اجتماعيا ملزما وتبرير المؤسسات القائمة (…)، وفي هذا كله توفر الإيديولوجيا لذاتها منظومة محظورات تعمل على خلق اتصال موحد يوجه إرادة الناس“12.
هذا إذن من جهة، أما من جهة أخرى فيمكن اعتبار التصوف بمثابة التجسيد الميداني/ الواقعي للإسلام في تاريخيته، وفي مضمونه السوسيولوجي13. وربماهذا ما أعطاه خصوصيته وتميزه عن المنظومة الفقهية التي تظل تمثل، وإلى حد بعيد، ذلك التجسيد النصي للإسلام كنموذج ومثال*. وفي هذا الإطار بالطبع، يمكن الحديث عن “اختلاف” وليس “تعارض”. كما يجب التأكيد، وفي نفس السياق، على طبيعة التصوف المرنة وانفتاحه على الواقع، مما يعزز قدرته على صهر ودمج مجموعة من الخصوصيات المحلية التي اعتبرها الفقه حدودا وجب إلغاؤها، من قبيل الخصوصيات اللغوية والإثنية والهويات الانقسامية. وحتى لا ندخل في مزيد من التفاصيل، نكتفي بالقول هنا بأن التصوف قد حاول تحقيق تلك “المصالحة” المبحوث عنها بين بنيتين يفترض أنهما متنافرتين أو متعارضتين، وهما بنيتا (الشرع) و (العرف). وهنا أيضا قد نقف على إحدى الأصول الإيتيمولوجية لمفهوم “الصلاح”، خاصة وأن ما يميز الصلحاء هو ارتباطهم القوي بالخصوصيات المحلية، وتجذرهم من داخل الوسط الذي أفرزهم 14، بموازاة مع وظيفتهم الدينية طبعا، وما تعنيه من ارتباط بالأمة. فهم مطالبون إذن، ” بالتوفيق بين الحاجيات القبلية ومتطلبات الانتماء إلى الأمة الإسلامية“15.
إن أساس الاختلاف بين التصوف والفقه، يمكن إدراكه على مستوى معرفي أيضا، إذ لكل منهما منهجه الخاص به وموضوعه. فإذا كانت المعرفة الفقهية معرفة بالظاهر والمحسوس، وأساسها العقل، فإن المعرفة الصوفية تهتم ـ على العكس من ذلك ـ بالباطن، ولذلك فهي تعتمد على القلب وليس العقل16. وعلى هذا الأساس، يمكن التمييز بين معرفة ”حدسية بالمقارنة مع المعرفة الفقهية البرهانية“ 17، ومن ثم يصبح كل من الفقه والتصوف يجسدان اختلافا ما على مستوى النظر، من داخل ذات الحقل الديني. لعل هذا ما حاول المتصوفة إثباته والدفاع عنه أيضا من خلال التأكيد على اعتبار التصوف علما من علوم الشريعة التي تم تقسيمها إلى ” صنفين : صنف مخصوص بالفقهاء وأهل الفتيا والأحكام العامة، وصنف مخصوص بالقوم في القيام بهذه المجاهدة (…)“ 18؛ وما عدا ذلك، فهما مستويين متكاملين لا متعارضين. وقد أعطى ابن خلدون في هذا الإطار المثال بالغزالي الذي كان فقيها ومتصوفا في نفس الوقت، ” وجمع الغزالي رحمه الله بين الأمرين في كتاب الإحياء، فدون فيه أحكام الورع والإقتداء، ثم بين آداب القوم وسننهم (…)“ 19.
إذا كان نقد الفقهاء للتصوف قد ركز في ظاهره أساسا على دعوى خروج أهله عن مقتضيات الشرع، وذلك من خلال عدد من الممارسات الصوفية كـ (السماع، الإفراط في الزهد والمجاهدة، تحريم ما أحل الله، خرق العادة والكشف) 20؛ فإن الإمام الغزالي قد سعى إلى تأكيد شرعية التصوف استنادا إلى مجموعة من الآيات والأحاديث النبوية، مؤكدا بذلك على ضرورة اقتران التصوف بالعلم (الفقه) وتكاملهما 21. بل أكثر من ذلك، فقد اعتبر التصوف قمة الفقه والتفقه؛ وهذا ما نستفيده، على الأقل من كتب المناقب وتراجم الصلحاء. فابن عسكر مثلا، في “الدوحة” يقدم معظم شيوخه وصلحائه على أنهم فقهاء أولا ثم متصوفة. ففي ترجمة أحمد الزقاق : ”ومنهم الفقيه المفتي المتصوف البركة أبو العباس أحمد الزقاق“22، وفي ترجمة أحمد زروق : ”ومنهم الشيخ العالم المحقق المتصوف الولي العارف بالله أحمد زروق“23، وفي ترجمة أبي القاسم بن منصور الغمري: ”ومنهم الشيخ الفقيه الصالح أبو القاسم بن منصور“ 24. ولعل نفس التقليد قد نجده سائدا منذ بداية التأليف في مجال المناقب وأدب التراجم بالمغرب25.
لقد حاول المتصوفة إذن، أن يثبتوا شرعية ومشروعية علمهم وممارستهم، كما سعوا إلى تجذير ارتباطهم بمقتضيات الكتاب والسنة. وكان ذلك، حقيقة، بمثابة رد فعل طبيعي ضد تشدد المذهب المالكي26 وفقهائه إزاء التصوف ورجاله. وعلى هذا الأساس، يمكن أن نجمل الرد الصوفي على الفقهاء في: ” ثلاثة أسس:
1 إن التصوف علم له قواعده ونظمه، وهو بذلك علم لا يدرك معانيه إلا أهله.
2 إن لهذا العلم وكل جزئياته أصله من الكتاب والسنة.
3 إن هذا العلم منتقل بالتواتر من الرسول إلى آخر المتصوفة، وإن له أسانيد ثابتة“27.
إن التعارض إذن، وكما أسلفنا، يبدو حين يتم إدراك كل من الفقه والتصوف كإيديولوجيتين. ولعل هذا ما يمكن استخلاصه من التجربتين “المرابطية” و”الموحدية”28، وتحديدا في فهم طبيعة التعامل الرسمي مع كل من الفقهاء والمتصوفة. وكما هو معلوم، فإن السلطان السياسي المرابطي ومن بعده الموحدي، قد ارتكزا في دعوتهما على أساس فقهي. إذ بمثل ما استند المرابطون في دعم شرعيتهم الدينية ومشروعيتهم السياسية على مؤسسة الفقهاء؛ عمد الموحدون كذلك، ولنفس الهدف، إلى الاعتماد على “الطلبة” في إطار ما أصبح يعرف حينها بتنظيم “الرابطة”، كتنظيم ديني ـ سياسي (فقهي) قائم على أساس التعصب الإيديولوجي والتشدد في محاربة البدع والأعراف المنافية للشرع. وقد تم ذلك فعلا، وفق ما يمكن أن نصطلح عليه هنا بإيديولوجية (تجديد إسلام القبائل)، أو بالأحرى تحصينه من كل ما التصق به من دعوات وحركات صوفية ومهدوية.
لعل هذا ما يفسر ذلك الاهتمام الكبير الذي حضي به كل من “الفقهاء” و”الطلبة”، من طرف السلطتين المرابطية والموحدية، كقاعدة مادية وإيديولوجية أيضا بالنسبة للحكم. فقد شكل الفقهاء على عهد المرابطين، وتحديدا مع السلطان يوسف بن تاشفين، قوة ضاغطة في المجتمع؛ وذلك بفعل السلطة الواسعة التي كانوا يحتكمون عليها. وقد استمر نفس الوضع على عهد خلفه (علي بن يوسف)، إذ ”كان لا يقطع أمرا في جميع مملكته دون مشاورة الفقهاء (…)، فبلغ الفقهاء في أيامه مبلغا عظيما“29. ويضيف (المراكشي) في نفس السياق أيضا: ”ولم يزل الفقهاء على ذلك، وأمور المسلمين راجعة إليهم، وأحكامهم صغيرها وكبيرها موقوفة عليهم، (…) فعظم أمر الفقهاء كما ذكرنا، وانصرفت وجوه الناس إليهم، فكثرت لذلك أموالهم واتسعت مكاسبهم“30. وعلى نفس النهج أيضا سيستمر السلطان السياسي الموحدي، لإضفاء الشرعية الدينية اللازمة وتدعيم مشروعيته السياسية. ونكتفي هنا بهذا النص لإعطاء فكرة عامة حول مكانة “الطلبة” ووضعهم المتميز من داخل سلمية التراتب الاجتماعي، إذ ”كان عبد المؤمن موثرا لأهل العلم، محبا لهم، محسنا إليهم، يستدعيهم من البلاد للكون عنده والجوار بحضرته، ويجري عليهم الأرزاق الواسعة ويظهر التنويه بهم والإعظام لهم، وقسم الطلبة طائفتين: طلبة الموحدين، وطلبة الحضر“31. كما كان لهؤلاء عدة امتيازات، ليس أقلها ما كانوا يتمتعون به من نفوذ سياسي واقتصادي أيضا.
في الواقع، لم يكن لتمر الأمور دون إثارة سخط واستياء العامة من هذه السياسات المتحيزة؛ وما نتج عنها من استئساد للفقهاء والطلبة وتسلطهم أيضا، سواء على العهد المرابطي32 أو الموحدي33. وكثيرا ما شكل الصلحاء في هذا الإطار، مركز التفاف واستقطاب بالنسبة للفقراء والمعدمين، باعتبارهم ـ (الصلحاء) ـ الفئة القادرة على التعبير عن همومهم ومطامحهم في الانعتاق والتحرر مما هم فيه من ظلم وضيق34. ولعل هذا ما نستنتجه كذلك، من خلال مجموعة من الكرامات الصوفية التي تزخر بها كتب المناقب والتراجم.
لقد أصبح التصوف إذن، وبعد ”فشل كل الإيديولوجيات السابقة من خارجية وزيدية شيعية واعتزالية (…) كبديل لحالة اليأس والتذمر من الأزمة التي غرق فيها المجتمع“35. ومن هذا المنظور، فقد أصبح يشكل خطرا واضحا على السلطتين المرابطية والموحدية، مما يفسر، وكما تجمع على ذلك جل الدراسات، ذلك التأزم الحاد ”في علاقة الفقهاء بالمتصوفة“36؛ كتجسيد لصراع إيديولوجي بالأساس. بحيث أصبح المتصوفة على عهدي المرابطين والموحدين في مواجــــهة ” خصمين: الأول ممثلا في الفقهاء، والثاني مجسدا في السلطة وأعوانها“37. ويبقى كتاب “المستفاد” لصاحبه التميمي، أبلغ مثال على حدة الصراع الإيديولوجي الذي يمكن أن نفهم على أساسه تلك الحرب المعلنة على الصلحاء والأولياء من طرف فقهاء الدولة الموحدية. بحيث اضطر المترجم إلى استعمال مصطلح “العباد” لتسمية صلحائه وأوليائه، كما حاول التركيز على الجانب الروحي التعبدي لهؤلاء، مع تغييبه لعدد من الكرامات؛ وذلك ”حتى يمنح خطابه سلطة المواجهة (…). إذ لم يكن باستطاعة “المنكرين” ـ (الفقهاء) ـ الطعن في جانب طبيعي من حياة المسلم، كالتعبد والتفرغ للحياة الروحية“38.
لاعتبارات سياسية إذن، فإن السلطان السياسي ”الموحدي لم يكن ليجهل الخطر الذي يمكن أن تشكله قوى التصوف على الجهاز الموحدي كبنية وسلطة“39. ومما زاد من خطورة هذه القوى، وبالتالي تهديدها المباشر للسلطة، تبني عدد من الأولياء والصلحاء لدعوات “مهدوية”. إذ بمثل ما شكلت “المهدوية” إيديولوجية سلطة مع الموحدين، ستبرز كذلك، ومن داخل الحقل الصوفي، زعامات تحمل شعار هذه الدعوة (المهدوية) وتتبناها. وفي هذا الإطار بالذات تأتي محاولات كل من ابن قسي بالأندلس40، والحاج العباس الكميلي بالريف41، وابن هود بسوس ماسة، والجزيري بالأندلس وفاس ومراكش، وابن الفرس بالأندلس ومراكش، وابن العيديد بصنهاجة، وأبو الطواجين بسبتة والقصر الكبير، والفزاري بمالقا… الخ42. وسوف تستمر حالة الحذر والارتياب من قبل السلطة، حيال هذه القوى الدينية المتنامية. بل كثيرا ما اتخذ الوضع شكل مواجهات صريحة ومكشوفة، عن طريق القوة أحيانا وأحيانا أخرى كمواجهات إيديولوجية بين منظومتين متعارضتين (فقه/ تصوف)، في إطار حملات التشهير والتكفير التي كانت تشنها الدولة ضد التصوف وأهله، وبدعم من الفقهاء. ولسنا نبالغ إذا قلنا بأن نفس الوضع سوف يستمر، وبأشكال متطورة أيضا، سواء في ظل الحكم المريني ـ الوطاسي43 أو مع الدولة الشرفاوية الجديدة.
وبعيدا عن المغرب، وتحديدا في تركيا العثمانية، نجد أحد الباحثين يؤكد بدوره على طبيعة العلاقة الصراعية بين كل من (الفقه) و (التصوف) كإيديولوجيتين. وهو بهذا يذهب إلى أن ”العنصر المهم في التاريخ الاجتماعي للإسلام العثماني، هو ذلك الانقسام الذي حدث بين أكثر العلماء تأثيرا في مجرى الحياة السياسية، وطبقة من رجال الدين الفقراء (…) تتألف من أهل الطرق والدراويش والشيوخ الذين كانوا أقرب إلى الطبقات الأقل حظا في المجتمع“44. وعلى هذا الأساس، فقد كان السلطان يخشى من هؤلاء لما كانوا يحضون به من تأييد شعبي، ”ومن ثم كان الزعماء السلاجقة والعثمانيون يرون الإسلام غير السني والتصوف والطريقة الصوفية على نفس المستوى، تجمعها نفس التسمية، وتحمل في طياتها بذور التشويش السياسي“45.
في الأخير، وقبل أن نختم هذا المحور، نود أن نثير الانتباه إلى حقيقة ثابتة، وهي أنه وعلى الرغم من ذلك التعارض الكبير الذي سجلناه بخصوص كل من (الفقه) و (التصوف) ـ كتعارض إيديولوجي بالأساس ـ فإنه، ووفق ذات المنطق الإيديولوجي المتحكم، قد نجد في تجارب بعض الدول الإسلامية، سواء بالمشرق أو المغرب، مراحل اتسمت بنوع من التقارب والتعاضد أيضا بين المنظومتين الفقهية والصوفية.
فعلى مستوى المشرق، وفي ظل الخطر الذي أضحى يمثله المد “الشيعي”، عمد السلطان صلاح الدين الأيوبي إلى تشجيع الفقه السني بإنشاء المدارس الفقهية، ووقف الأوقاف عليها، ورعاية الفقهاء، وبموازاة ذلك أيضا، فقد عمل على تشجيع التصوف والاعتناء برجاله، وذلك في إطار سياسة بناء الخانقات (الزوايا) والربط. كل ذلك إذن، كان يتم وفق استراتيجية تدعيم المذهب السني ومحاربة التشيع الفاطمي، خاصة وأن (مصر) ظلت تحت ثقل تأثيره، حتى بعد قضاء السلطان صلاح الدين على الفاطميين. وهكذا ”حدث التقارب بين الفقهاء والمتصوفة في هذا العصر، وأصبح هناك ما يسمى ب “الطالب المتصوف” و “المتصوف الطالب”. فأدت المدرسة وظيفة الخانقات ـ (الزوايا) ـ وأدت الخانقات وظيفة المدرسة“46. ولعل الوضع سوف لن يختلف كثيرا بخصوص المغرب، وتحديدا على عهد الدولة المرينية، التي كان لها هي الأخرى حظها من ذلك الإرث “الشيعي” المزعج، كما تجسد من خلال بقايا “التشيع التومرتي” الموحدي وبعض جيوب المقاومة الإيديولوجية (الشيعية) التي ظلت وفية لطروحات بعض الحركات المهدوية كما تقدم. وفي هذا السياق بالذات، ينبغي أن تفهم السياسة الدينية للسطان السياسي المريني، والتي تجسدت ميدانيا في الإكثار من بناء “المدارس” و”الزوايا”؛ بحيث كان الهدف واحدا: وهو الرغبة الملحة في تثبيت أركان الدولة الجديدة من خلال تدعيم المذهب السني المالكي وتقويض أسس الفكر الشيعي، أو ما تبقى من مذهب التشيع التومرتي47.
2– الصلحاء والشرفاء: من يوتوبيا الصلاح إلى انبثاق السلطان السياسي الشرفاوي.
إن ما نعنيه بالشرفاء هنا، هم أولئك الأشخاص الذين يدعون الانتساب إلى البيت النبوي؛ ويتم ذلك عن طريق وضع شجرة جينيالوجية تثبت ذلك الامتداد السلالي (البيولوجي) الذي يؤكد، في منظور هؤلاء، قرابة دموية مع مؤسس “الدولة الإسلامية”. فتاريخيا، كان ”الانتماء إلى البيت النبوي الشريف، يضفي على صاحبه نوعا من الجلال والقدسية“48. وبحكم ما أصبح يشكله عنصر “الشرف” هذا من امتيازات واضحة، وعلى كافة الأصعدة ـ خاصة تحت تأثير الأفكار العلوية والشيعية، وفيما بعد الصوفية- فقد كان من الطبيعي جدا أن يتسرب هاجس الانتماء الشرفاوي إلى وعي الناس، بمثل ما تسرب من قبل هاجس الولاية49، ويحكم توجههم ورغبتهم الملحة في امتلاك هذا “الرأسمال الرمزي”؛ ”ولعل من النتائج المؤكدة لهذا التسرب، أن قامت في المدى البعيد حركات قبلية – صوفية كحركة الأشراف السعديين ثم حركة السملاليين والدلائيين والأشراف العلويين أيضا“50.
لقد أضحى الانتماء الشرفاوي، وعلاوة على بعده الديني والإيديولوجي، بمثابة تأكيد للوجاهة الاجتماعية والسياسية أيضا، وذلك بحكم الامتيازات المادية والمعنوية التي ستحظى بها هذه الفئة من الناس سواء من قبل السلطة أو المجتمع. ولعل آليات التحليل السوسيولوجي تمكننا من رصد وتتبع مجالات ومستويات الاستثمار في هذا الرأسمال الرمزي “الشرف”، وما قد تفضي إليه من نتائج سواء على مستوى اقتصادي أو اجتماعي أوسياسي51.
أمام هذا الاكتساح الكبير لإيديولوجية الشرف، وما كانت تنطوي عليه من بذور تشويش سياسي وتهديد لأمن الدولة، كان لابد من تدخل هذه الأخيرة الذي تجسد تاريخيا عبر أشكال من التعاطي، وسوف تعرف أوجها مع أواخر الدولة الأموية وبداية الحكم العباسي. وفي هذا الإطار، فقد بادرت الدولة العباسية، ومنذ تأسيسها ”إلى تنظيم الشرفاء قصد مراقبة المنافسين المحتملين منهم، والتعامل مع حقل ملغوم يهدد دوما بالانفجار*. وكما تفيدنا الشواهد التاريخية، فإن أصل الظاهرة يعود إلى مرحلة الخلافة الإسلامية وذلك بأن جعلت على رأس كل جماعة أو فرقة منهم “نقيبا”“52. ونفس السياسة سوف تتكرر ـ خاصة بالنسبة للمغرب ـ الذي سيعرف أكثر من غيره انتشارا واسع النطاق لظاهرة “الشرف” وأدعيائه، مما استلزم من الدولة التدخل بحزم لوضع حد لما أصبح يعرف، خاصة مع بداية الدولة العلوية، بـ “عدوى ادعاء الشرف”. لذا فقد عمل السلاطين العلويون على تحقيق أنساب الأشراف ووضع ديوان خاص بهذا الشأن53.” وقد اهتم بالمسألة كل من المولى إسماعيل (1727-1672) وسيدي محمد بن عبد الله (1790-1757)، والمولى سليمان (1792-1822) “54.
أما بخصوص تاريخ استقرار هؤلاء بالمغرب (الشرفاء)، خاصة الشرفاء الحسنيون والحسينيون، فقد يعود ـ حسب صاحب كتاب : “زهرة الأخبار في ذكر أهل البيت المختار” ـ إلى “مطلع القرن الثامن الميلادي، فبينما نزل الفريق الأول بمدينتي وليلي (الأدارسة) وتلمسان (السليمانيون)، نزل الفريق الثاني بسهلي تامسنا (الشاوية الحالية) وتادلا، وكذا في ناحية سجلماسة”55. وسيستمر تزايد هؤلاء، واكتساحهم الموسع للنسيج المجتمعي المغربي، ليشهد المغرب فيما بعد، وتحديدا، في القرن (13م) وبدايات القرن (14م) قدوم شرفاء آخرين من (ينبوع النخل) بالحجاز56. ومع هؤلاء بالذات، سيعرف التاريخ السياسي المغربي انقلابا على مستوى مفاهيم الحكم ومرجعياته الإيديولوجية والسياسية، بظهور ما أصبح يعرف ب: “السلطان السياسي الشرفاوي” كما تجسد تاريخيا مع التجربتين (السعدية) و(العلوية) فيما بعد.
بعد هذا التقديم، يمكن أن نطرح السؤال التالي: كيف سيتحول “الشرف” إلى إيديولوجية سلطة؟ أو بصيغة أدق، كيف سيتمكن الشرفاء السعديون من تأسيس دولة ونظام حكم جديدين ومتمايزين عن الأشكال السابقة؟! وارتباطا بذات السؤال، أين يمكن موقعة “الصلحاء” من هذه (السيرورة ـ الصيرورة) ؟ هل هم حقا من كان وراء صعود “السلطان السياسي الشرفاوي” السعدي إلى الحكم؟ 57
بطبيعة الحال، نحن لا ننفي الدور الحاسم الذي لعبه الصلحاء في سبيل “الجهاد” ومساندة الشرفاء السعديين على هذا الأساس؛ لكن ذلك لا يعني منا القول بأن الصلحاء هم من أسس للنزعة الشرفاوية، وبالتالي للدولة التي قامت على أساسها.. ولعل هذا ما سنعمل على توضيحه بالطبع.
لقد كان من بين نتائج الغزو المسيحي للسواحل المغربية، وما أصبح يمثله من تهديد حقيقي للبلاد، أن انطلقت حركة جهادية واسعة النطاق؛ وقد شكل الصلحاء والشرفاء بحق قادتها الفعليين58. وعلى هذا الأساس، كان من الطبيعي جدا أن يحدث ذلك الالتقاء التاريخي بين كل من “الصلحاء” و”الشرفاء”؛ وقد كانت عملية التقارب هذه محكومة بواجب الجهاد والدفاع عن “دار الإسلام” ضد “دارالكفر”59.
في هذا السياق التاريخي إذن، ستبرز فئة جديدة من الشرفاء الحسنيين؛ وهم من سيقود ويوجه الحرب الجهادية ضد الغزو البرتغالي. فمنذ بداية القرن (16م) كان البرتغاليون قد احتلوا عددا من المدن الساحلية بالجنوب، وبدؤوا يتغلغلون نحو الداخل، حيث أصبحوا على أبواب مراكش سنة 1515م60. وبالموازاة مع ذلك، فقد عمل هؤلاء على خلق شبكة من الوسطاء التجاريين والقناصلة داخل بعض المدن الداخلية كفاس. وبالمثل، فقد تمكنوا من فرض نوع الإدارة غير المباشرة على قبائل سهل الحوز، وذلك عن طريق خلق شبكة من التحالفات مع أهم القبائل الكبرى بالمنطقة في شخص زعاماتها القبلية، كما سعوا إلى إثقال كاهل السكان بالضرائب والإتاوات61.
في ظل هذه الأوضاع إذن، وأمام عجز المخزن الوطاسي62 و“ضعف الأمراء الحاكمين في البلاد، وجبنهم”63؛ وأمام غياب رد فعل شعبي موحد ومنظم أيضا، ستبرز الحركة الصوفية مستندة إلى إيديولوجية دينية منسقة ومنقذة 64. وفي هذا الإطار بالذات، ستبرز “الطريقة الجزولية” باعتبارها ذلك الأساس التنظيمي والإيديولوجي الذي سيستند إليه الشرفاء السعديون في إطار دعوتهم الجهادية؛ هذه الدعوة التي كانت بمثابة المدخل نحو امتلاك السلطان السياسي65. في هذا السياق بالطبع ستجد ” الطرق الصوفية، وخاصة الجزولية، ميدانا واسعا للانتشار (…)، فكثرت الزوايا وقام في كل منها “مقدم” يتولى قيادة المريدين في الأذكار والأوراد، ويقودهم كذلك في الجهاد في سبيل الله (…) ودخل السعديون في هذه الحركة، وظهر أمرهم فيها بفضل نسبهم وجهادهم، وارتباطهم بالنسب الشريف الذي رفع قدرهم وميزهم على من حولهم”66.
إذا كان السعديون قد استغلوا إذن، وبشكل جيد، معطيات المرحلة ـ بما كانت تعنيه من ضعف الدولة الوطاسية وعجزها عن رد العدوان البرتغالي، مع ما رافق ذلك، بالطبع، من تذمر وسخط شعبيين اتخذا شكل نهوض ديني عارم ـ فإن قوتهم الأساسية كانت تتمثل في اعتبارهم شرفاء جدد، كبديل عن الشرفاء التقليدين (الأدراسة)67. وإذا كانت الطريقة الجزولية، في اعتقادنا، قد قدمت خدمة ما لهؤلاء الشرفاء الجدد، فإن ذلك ينبغي أن يفهم على مستوى إيديولوجي بالأساس؛ إذ مع هذه الطريقة الصوفية ستتم مأسسة “الشرف” وإعطائه بعده التنظيمي والإيديولوجي أيضا من داخل حقل الممارسة الصوفية بالمغرب. فقد كان مفهوم الشرف قبل القرن الخامس عشر منفصلا تماما عن مجال الممارسة الصوفية، وعن مفهوم “الصلاح”، ” لكن بعد هذا التاريخ بدأ بعض الصلحاء المرموقين يدعون تدريجيا الانحدار من سلالة الرسول، ومنهم على سبيل المثال الشيخ الصوفي الجزولي (…). وهكذا أصبح مفهوم الشرف ومفهوم الصلاح يندمجان في بعضهما بكيفية متزايدة“68، وكما يذهب ميشو بيلير ”فإلى هذا العهد وجد في المغرب ما يمكن تسميته بنزعة الشرفاء “le cherifisme” (…). إذ أفادت تعاليم الجزولي ومريديه الكثيرين من حركة التجديد الدينية، من جراء الغزو البرتغالي، وكسبت الطريقة الجزولية صيتا ونفوذا إلى حد أنها جعلت الطريقة الشاذلية، التي منها انبثقت، تقع في طي النسيان وحلت محلها تماما في المغرب“69.
من هذا المنطلق إذن، واستنادا إلى تعاليم الطريقة الجزولية، ومن خلال أتباعها المنتشرين بشكل موسع عبر معظم المدن والبوادي المغربية70، ستتعزز تلك النزعة “الشرفاوية” التي ستتطور فيما بعد إلى إيديولوجية سلطة. وربما قد نكون على صواب إذا ما نحن افترضنا بأن مقتل الشيخ الجزولي على يد السلطان المريني، كان بالأساس نتيجة هذه النزعة الشرفاوية، التي كانت بمثابة إيذان بانقلاب خطير على مستوى الشرعية السياسية للحكم. ولتعزيز افتراضنا، نورد ما قاله الشيخ الجزولي نفسه بهذا الصدد، إذ “ليس العزيز من تعزز بالقبيلة وحب الجاه، إنما العزيز من تعزز بالشرف والنسب.. وأنا شريف في النسب، جدي رسول الله (ص) وأنا أقرب إليه من كل ما خلق الله (…)”71.
فماذا يعني هذا الإلحاح إذن، على أهمية “الشرف” والانتساب إلى آل البيت، خاصة من داخل طريقة صوفية أصبحت تتبنى استراتيجية العمل الجماعي المنظم؟ وماذا يعني أيضا الضرب في قيمة “العصبية” والانتماء القبلي؟ ألم يكن نظام الحكم أنذاك ـ (المريني والوطاسي)- نظاما عصبويا قائما على أساس قبلي، مما يعني النيل من أهم عنصر من عناصر الشرعية السياسية؟
في واقع الأمر، لقد كان حدس السلطان السياسي المريني في محله، فقد تنبه جيدا للخطر الذي أضحت تمثله النزعة الشرفاوية المتنامية. وفي هذا الإطار بالذات، يجب أن تفهم تلك السياسة الملتبسة التي أصبح ينهجها هذا الأخير اتجاه الشرفاء72، خاصة وأن الطريقة الجزولية كانت إلى ذلك الحين تؤطر حوالي (12000) من الأتباع والمريدين73. لعل هذا المعطى له دلالته العميقة في هذا الإطار، إذ لم يمض وقت طويل على مقتل الشيخ الجزولي، حتى قامت ثورة الأدارسة في فاس بقيادة الشريف الإدريسي أبو عبد الله الجوطي، الذي لم تدم إمامته سوى ست سنوات74. وهذا في حد ذاته يبقى مؤشرا هاما على مستوى التجذر الذي بدت تعرفه النزعة الشرفاوية منذ ذلك التاريخ، وذلك بفعل تغلغل الطريقة الجزولية واكتساحها مجالات أوسع فيما بعد.
لقد كان وصول الشرفاء السعديين إلى السلطة إذن، بمثابة التتويج الفعلي والتجسيد التاريخي لإيديولوجية حكم جديدة وبديلة، كانت بذرتها الأولى قد نمت وترعرعت في أحضان تلك النزعة الشرفاوية التي أسس لها الخطاب الصوفي76، وذلك من خلال إحدى أهم تنظيماته آنذاك والأمر يتعلق هنا بـ “الطريقة الصوفية”، والطريقة الجزولية تحديدا. وهكذا، وبفعل تظافر مجموعة من العوامل السوسيولوجية والتاريخية، سيتم إنجاز ذلك الانتقال التاريخي من مستوى نظام حكم “عصبوي” إلى نظام حكم “شرفاوي”؛ بحيث أصبحت الشرفاوية كتعبير عن سلطة جديدة، ونظام سياسي أخذ يستكمل تطوره في اتجاه تجاوز المجتمع الذي أنتجه بكل بنياته، مرجعياته وخصوصياته المحلية77.
لكن بعد كل هذا، وبالموازاة مع الدور الإيديولوجي الذي لعبته الطريقة الجزولية في صعود السلطان السياسي الجديد- كسلطان شرفاوي- أين يمكن موقعة “الصلحاء”؟ وهل بقي هناك مبرر لاعتبارهم هم من ساهم ”بشكل رئيسي في تأسيس خطاب شريفي جديد إلى جانب شرف الأدارسة“78، أم أن هذا الأمر يعود بالأساس إلى الطريقة الصوفية كما رأينا؟ لنوضح المسألة أكثر.
في الواقع، وكما أشرنا من قبل، فنحن لا ننفي بتاتا دور الصلحاء ومساهماتهم في إنجاح قيام السلطان السياسي الجديد؛ ولعل التاريخ يحتفظ لنا بعدد من الشواهد التي تؤكد هذا الدور. فسواء تعلق الأمر بانخراط الصلحاء الميداني ومشاركتهم الواسعة، تحت راية الأشراف السعديين، في الحرب الجهادية ضد الاكتساح البرتغالي؛ أو برفضهم بيعة قبائل سوس وباقي الجنوب المغربي لهم، في شخص الشيخ الصالح أبي عبد الله محمد بن مبارك الأقاوي، وإحالتهم على الشريف السعدي باعتباره هو الأولى بالبيعة79؛ أو تعلق الأمر أيضا بدعم “رمزي” وغير مباشر للأشراف السعديين، من خلال الخطاب “الصلحاوي” كما تجسد في شخص (الكرامة الصوفية) و (الرؤيا)80.. هذا علاوة على ما قدمه الصلحاء من دعم ومساندة للسلطان السعدي (محمد الشيخ) ضد المرينيين، والنموذج هنا يمكن إعطاؤه بالشيخ الصالح (أبي الرواين)، هذا الأخير الذي ”كان أحد الأسباب في تمكين السلطان المذكور من الملك، وإخراج بني مرين منه“81.
لكن إذا كانت علاقة الصلحاء بالشرفاء، بما تعنيه من مفارقات، قد تفهم في هذا الإطار كعلاقة دعم ومساندة، فإن ما ينبغي التأكيد عليه هنا هو أن هذا الدعم وتلك المساندة لا يمكن فهم طبيعتهما ولا موجباتهما، أو بالأحرى الإكراهات التي تحكمت في تلك العلاقة بشكل عام، إلا إذا استحضرنا المرحلة التاريخية الدقيقة التي ميزت بداية القرن السادس عشر الميلادي؛ هذا علاوة على ما أصبحت تعنيه الطريقة الجزولية – كما سنوضح ذلك – بالنسبة لحركة الصلحاء. وهنا بالذات ينبغي أن نميز جيدا بين ممارستين مختلفتين من داخل ذات الحقل الصوفي، وهما: (حركة الصلحاء) و(تنظيم الطريقة الصوفية)، مع التأكيد على أن بنية الصلاح ليست بالطبع هي بنية الطريقة. وإذا كانت الطريقة الصوفية، مع الجزولي، هي التي ستحتضن مفهوم الشرف وتدمجه من داخل بنية التصــــوف ـ بإعطائه طابعا منظما وممأسسا، في إطار الممارسة الصوفية ـ فإن ذلك يعني من بين ما يعنيه، محاولة لتجاوز حركة الصلحاء والتميز عنها. وفيما يلي، سوف نحاول الوقوف على أهم العناصر والخصوصيات التي تؤسس لذلك التمايز بين كل من “الطريقة الصوفية” و”حركة الصلحاء”، لننتهي إلى تأكيد فرضية أساسية وهي أنه: ليست حركة الصلحاء هي التي أسست للنزعة الشرفاوية، وبالتالي للسلطان السياسي الجديد (كسلطان شرفاوي)، بل هي ذاتها كحركة كانت ضحية لهذه النزعة الشرفاوية التي أسس لها تنظيم صوفي آخر، هو ما أصبح يعرف ب “الطريقة الصوفية” la confrérie . فكيف يمكن تفسير ذلك إذن؟ وما هي أسس الاختلاف والتمايز بين كل من حركة الصلحاء Maraboutisme وتنظيم الطريقة الصوفية؟
كما تفيدنا آداب المناقب والكتابات التاريخية حول الموضوع، فإن التأريخ لحركة الصلحاء بالمغرب ينبغي أن ينطلق من مرحلة دخول التصوف وبداية تغلغله من داخل النسيج المجتمعي المغربي، أي منذ أواخر المرابطين وبداية الدولة الموحدية. كما أن تشكل الصلاح كظاهرة سوسيو- تاريخية لا يمكن ربطه بالسياق التاريخي والاجتماعي الذي ميز القرن السادس عشر82؛ ففي هذه المرحلة بالذات، سوف يبرز تنظيم آخر هو ما سيعرف بـ “الزاوية” La Zaouia. علاوة على ذلك فإن حركة الصلحاء ليست مشروطة في نشأتها وتبلورها بمرحلة ما يعرف بـ “الجزولية” (كمرحلة تأسيسية لهذه الحركة) كما قد يفهم البعض83؛ بل على العكس من ذلك تماما، فقد اعتبرت المرحلة الجزولية تلك بمثابة بداية النهاية لذات الحركة. فالجزولي، أولا وقبل كل شيء، هو شيخ طريقة صوفية، ومعه سيعرف التصوف المغربي مرحلة جديدة اتسمت بمزيد من النضج والاستقلالية. وفي هذا السياق، ولئن كانت الطرق الصوفية بالمغرب قد بدأت تتشكل منذ العهد الموحدي، فإن هذا البناء سيكتمل مع هذا الشيخ الصوفي، الذي يعتبر بحق أول من أسس طريقة صوفية (مغربية) قائمة بذاتها84. لعل هذا ما سيعرف بمرحلة “مغربة التصوف”85، بحيث سيرتكز الشيخ الجزولي على تعاليم الطريقة الشاذلية التي انتهت إليه86، ويطورها في اتجاه خلق طريقة صوفية مغربية قائمة بذاتها، وهي ما سيعرف بالطريقة الجزولية التي ستتفرع عنها معظم الطرق الصوفية والزوايا بالمغرب وخارجه87.
لكن، ورغم ما أضافه الشيخ الجزولي إلى تعاليم شيخه الشاذلي من تعديلات وإضافات، سواء فيما يتعلق بأوراد وأحزاب الطريقة، أو على مستوى بعض المبادئ العامة في التصوف، فإنه لم يخرج – مع ذلك- عن الإطار العام الذي رسمه الشيخ أبو الحسن الشاذلي؛ خاصة فيما يتعلق بالموقف المتشدد من “البدع” و الإلحاح على ضرورة التشبث بالأصول (الكتاب والسنة)88. ففي تصور هذا الأخير “لا قيمة للتصوف إلا بالرجوع والانطلاق من الشريعة” 89، وهذا بالطبع ما سوف ينعكس على موقف الطريقة الجزولية من أشكال الممارسة الصوفية التي كانت إلى ذلك العهد هي السائدة، والأمر يتعلق هنا طبعا بحركة الصلحاء. فكما أوضحنا ذلك من قبل، فإن حركة الصلحاء ظلت مرتبطة أشد الارتباط بالخصوصيات المحلية، ولعل هذا الوضع بالذات هو ما يفسر ذلك الانتشار الموسع لعدد من الأولياء والصلحاء من داخل قرى وقبائل المغرب. فقد ”استطاعوا نشر المذاهب الإسلامية في أبعد المناطق وأعصى القبائل عن الخضوع للسلطة المركزية.. لذا يعتبر هؤلاء المتصوفة إلى جانب الموحدين، أهم الفاعلين في نشر الإسلام بالبلاد“ 90.
لقد سعى هؤلاء الصلحاء إلى إيجاد سبل وإمكانات للدمج بين مقتضيات الشرع الإسلامي وبين الخصوصيات المحلية، سواء تعلق الأمر بالأعراف والتقاليد أوببعض ”المعتقدات الما قبل إسلامية“ 91؛ ولعل هذا ما كانت توفره ـ وإلى حد بعيد ـ طبيعة التصوف المرنة، وانفتاحه على الواقع والإنصات لخصوصياته. لعل هذا ما دفعنا إلى القول بأن حركة الصلحاء كانت بمثابة التجسيد التاريخي والسوسيولوجي لذلك التقاطع بين “المحلي” و “الكوني”، أو بشكل أدق، كتجسيد لتلك المصالحة وذلك الدمج بين بنيتين يفترض أنهما متعارضتين ومتنافرتين، هما بنيتا: (العرف) ـ كإحالة على المحلي ـ و (الشرع) ـ كإحالة على الكوني أو الأمة ـ وذلك في إطار علاقة جدلية بين الإثنتين. لكن سوف نرى كيف سيعمل الشيخ الجزولي ـ ومن خلال تعاليم طريقته الصارمة – على ضرب وتقويض إحدى أهم ركائز وأسس هذه الجدلية، وذلك بدعوته الصريحة، وعلى غرار شيخه الشاذلي، إلى محاربة “البدع” والارتباط الوثيق بالسنة 92. فكثيرا ما أوصى الشيخ الشاذلي تلامذته ومريديه بـ ”ضرورة التمسك المطلق بالقرآن والسنة، في العقيدة والسلوك معا“93؛ وهذا ما انعكس بشكل واضح على مسار الممارسة الصوفية منذ تأسيس الطريقة الجزولية بالمغرب.
من هذا المنطلق إذن، وارتباطا بتعاليم الطريقة الجزولية، يمكن التأريخ أو بالأحرى التأصيل لبدايات تصدع، ومن ثم انهيار “المشروع الصلحاوي”. فضرب إمكانية المصالحة والتعايش بين بنيتي (الشرع) و (العرف)، هو في العمق ضرب للصالح ولمشروعه “الصلحاوي” الذي يستقي إحدى أهم دلالاته اللغوية والسوسيوـ تاريخية أيضا من مفهوم (المصالحة) و (التصالح)، أكثر مما يستمدهما من مفهوم الإصلاح*.
علاوة على ما أوردناه إذن، يمكن الوقوف على عوامل ومتغيرات أخرى، قد تفسر إلى حد ما ذلك التناقض الذي أضحى يحكم علاقة الطريقة الجزولية بحركة الصلحاء (Maraboutisme)، كما قد تساعدنا ـ بشكل أو بآخر ـ في فهم أسباب وعوامل انهيار (المشروع الصلحاوي) أو ما نصطلح عليه بـ “يوطوبيا الصلاح”. فما هي إذن أهم العناصر أو المتغيرات التي يمكن اعتبارها، في هذا الإطار، كأسس لذلك التمايز أو بالأحرى التعارض بين كل من الطريقة الصوفية وحركة الصلحاء؟
في الواقع، لقد جسدت الطريقة الجزولية مرحلة جديدة من مراحل التصوف بالمغرب. بل أبعد من ذلك، فقد كانت بمثابة ثورة حقيقية، ليس فقط على مستوى الممارسة والفكر الصوفيين، بل تعدتهما إلى مستويات أبعد وأعمق. وهنا بالذات يمكن الحديث عن الدور الحاسم الذي لعبته في سبيل قيام سلطان سياسي جديد، بإحقاق ذلك الانتقال التاريخي من “نظام حكم عصبوي” (المرينيين / الوطاسيين) إلى “نظام حكم شرفاوي” (السعديين).
لقد كانت الطريقة الصوفية إذن، وتحديدا الجزولية، هي الإطار الإيديولوجي الذي قامت على أساسه الدولة الشرفاوية السعدية94، وليست حركة الصلحاء. وفي نفس الاتجاه، فقد سعى (ج.دراك) أيضا إلى التأكيد على أن وصول السعديين إلى الحكم، كان عن طريق قيادة الجهاد والاعتماد على أتباع الطريقة الجزولية95.
ليس الصلحاء إذن من أسس للنزعة الشرفاوية، وبالتالي للسلطان السياسي الجديد، بل هم من كان الضحية الأولى لهذه النزعة، وبالتالي للطريقة التي أسست لها. ولفهم الوضع بشكل أوضح، نورد هنا ثلاث نقاط جوهرية، كثوابت نعتقد أنها تجسد حقيقة ذلك التعارض بين كل من الطريقة الصوفية وحركة الصلحاء، وبالتالي تفسر لنا كيف ساهمت الطريقة الجزولية في ضرب وتقويض أسس تلك الحركة:
– أولا. تشبث الطريقة بالشرع ومحاربتها للبدع: وهذا يعني من بين ما يعنيه، مناهضة (العرف) والخصوصيات المحلية التي قد يجد فيها الصلحاء تجذرهم96، وبالتالي مصدر قوتهم. وهنا بالذات يكمن أحد أوجه التعارض بين الطريقة الصوفية والصلحاء97. وفي نفس السياق، فقد أشار الباحث P.Pascon ـ في دراسته حول زاوية إيليغ ـ إلى وجود سلسلة من الأحداث الأسطورية والتاريخية، التي تبرز لنا ـ بخصوص تاريخ تازروالت بسوس ـ جوانب هامة من ذلك الصراع الذي ميز علاقة الصلحاء بالطرق الصوفية. فقبل أن يتم تأسيس “زاوية إيليغ”، تحكي الأسطورة عن قدوم الشيخ (احمد أو موسى)* كمحارب للبدع والطقوس الوثنية، وناشر للإسلام الصحيح بدعوة من الله، على إثر رؤيا في المنام. لكن هذا الشيخ سيصادف مقاومة شرسة من قبل صلحاء المنطقة، مدعومين بقبائل آيت إيدر وآيت امرابط، غير أن الحسم في النهاية سيكون لصالح الشيخ الذي سيتمكن من هزمهم جميعا، وذلك على إثر إحدى كراماته المشهودة: إذ سيسقط عليهم (أمطارا من الأحجار) ـ كرمز للرجم وإنزال اللعنة الإلهية ـ مما أدى بهم إلى الهرب واللجوء إلى (تامنار)97. وهذا في حد ذاته قد يحيلنا، بشكل أو بآخر، على جانب هام من جوانب التأريخ لبدايات تصدع الحركة الصلحاوية وتراجعها أمام المد الطرقي.
– ثانيا: مأسسة “الشرف” من داخل الحقل الصوفي: وهذا ما سوف يؤدي، وكما رأينا، إلى انبعاث نموذج جديد للشرف، كبديل عن النموذج التقليدي الذي كان سائدا (مع الشرفاء الأدارسة والسبتيين).
إن الشرف الذي أسس له الشيخ الجزولي، هو شرف مدعوم بمرجعية صوفية؛ شرف مؤسس من داخل وفي إطار تنظيم صوفي هو ما أضحت تمثله الطريقة الصوفية (la confrérie). فقبل القرن الخامس عشر، وكما هو معروف، كان مفهوم الشرف منفصلا تماما عن مجال الممارسة الصوفية؛ لكن بعد ذلك سنجد ”بعض الصلحاء المرموقين يدعون تدريجيا الانحدار من سلالة الرسول، ومنهم على سبيل المثال، الشيخ الصوفي الجزولي“ 98. ولم يكتف هذا الأخير بإثبات نسبه الشريف99، بل حاول أيضا أن يكرس نموذجا للشرف لا يمكن تجاوزه. وفي هذا الإطار، كثيرا ما كان ”يردد لأتباعه مجيء النبي له في المنام، وقوله له: “أنا خاتم النبيئين في الأرض، وأنت خاتم الشرفاء”“100، وهنا بالذات يمكن الوقوف أيضا على إحدى جذور تلك النزعة الشرفاوية، التي ما فتئت تتنامى وتتغلغل.
في إطار الطريقة الصوفية إذن، ومن خلال النزعة الشرفاوية التي انبثقت من صلبها، يمكننا أن نفهم كيف أصبحت حركة الصلحاء تدريجيا تفقد مكانتها وقوتها أيضا من داخل المجتمع. لقد كان ذلك يعني من بين ما يعنيه، ظهور إيديولوجية جديدة وهيمنتها أيضا. ولا أدل على ذلك من نجاح تلك النزعة الشرفاوية، وإلى حد بعيد، في تثبيت دعائمها وتأصيل تجذرها، سواء من داخل الممارسة والخطاب الصوفيين أو من داخل المجتمع وبكافة شرائحه. ولعل هذا ما ستفتقده – بالطبع – حركة الصلحاء، ويكون إيذانا بنهايتها كحركة.
وإذا كان البعض يرى بأن الطريقة الصوفية مع الجزولي قد أصبحت تجسد ذلك الاندماج المتزايد بين مفهومي “الصلاح” و”الشرف”101 ، فإن ذلك لا ينبغي أن يفهم بمعنى التماهي بين الإثنين؛ إذ كل منهما يحيل على نموذج خاص من الممارسة والحضور التاريخيين. فالصالح ليس شريفا، بل “صلاحه” هو الذي أهله كي يضطلع بأدوار هامة في التاريخ الاجتماعي والسياسي لمغرب ما بين القرنين السادس والعاشر الهجريين: ( ق 6 هـ / 10 هـ – ق 12م / 16 م). علاوة على ذلك، فإن “الصلاح” من داخل بنية الطريقة الصوفية، هو مجرد مكون من بين مكونات أخرى إلى جانب عنصر “الشرف”؛ بمثل ما أن تنظيم “الزاوية” يجسد، وإلى حد بعيد، ذلك التركيب الجدلي بين كل من “الصلاح” و”الشرف” و”الطريقة الصوفية” أيضا.
من هذا المنطلق إذن، فإن تعريفنا لظاهرة الصلاح كظاهرة سوسيو ـ تاريخية، يجب أن يتأسس على ذلك الفصل بين المفهومين: (الصلاح) و (الشرف). وبناء عليه، ليست هناك علاقة للصالح أو بالأحرى لحركة الصلحاء بالشرف، لأن هوية الصلاح تتأسس بعيدا عن مفهوم الشرف؛ كما أن سلطة الصالح وهيبته يستمدهما من مرجعيات أخرى مختلفة تماما عن المرجعية الشرفاوية*.
إذا كانت إيديولوجية الشرف، كما رأينا من قبل، تتأسس على مفهوم القرابة الدموية والانتساب للبيت النبوي، كمصدر للمشروعية الدينية والسياسية أيضا، فإن الصالح لم يكن ليتوفر على هذا المصدر البيولوجي/ الجينيالوجي: (الشرف السلالي). وعليه، فقد سعى هذا الأخير إلى سلك طريق آخر لإثبات ذات المشروعية، بحيث ستوفر بنية الصلاح إمكانيات أخرى لتأكيد تلك القرابة رمزيا، وذلك عن طريق استعادة “الرمزية النبوية” والرغبة في تحيين actualisation مجموعة من الأحداث والسلوكات التي قد تحيل، بشكل أو بآخر، على شخص النبي**. لقد سعى الصلحاء بذلك طبعا، إلى امتلاك صفة (الشرف السلوكي) في مقابل (الشرف السلالي) كما جسده الشرفاء، لكن منطق التاريخ وقوة الأشياء سوف ينتصران في النهاية لصالح “العقل السلالي”؛ فرابطة الدم في مجتمع قبلي تبقى هي الأقوى، خاصة وأن الأمر يتعلق هنا بسلالة تدعي الانتساب إلى (آل البيت).
لا يخفى بالطبع، ما أصبح يمثله “الشرف” – في تمثل العامة – من انتقال للبركة عبر الدم، بما يعنيه ذلك من استمرارية لبعض صفات وخصائص التقديس والإجلال والهيبة التي ورثها هؤلاء عن شخص النبي، باعتباره الجد الأعلى بالنسبة إليهم. وكما تذهب إلى ذلك بعض النصوص التاريخية، فإن وجود “الشرفاء” بالمغرب (السعديون والعلويون) تحديدا، قد يفهم في هذا الإطار كاستجابة لإلحاح الناس ورغبتهم في استثمار جزء من تلك “البركة”. ونكتفي هنا بهذا النص لأحد المؤرخين الذين أرخوا للمرحلة، إذ يؤكد اليفرني على أن وجود الأشراف السعديين بالمغرب يعود إلى كون ”(…) أن أهل درعة كانوا لا تصلح ثمارهم وتعتريها العاهات، فقيل لهم لو أتيتم بشريف إلى بلادكم كما أتى به أهل سجلماسة***إلى بلادهم، لصلحت ثماركم كما صلحت ثمارهم. فأتوا بالسيد زيدان بن أحمد من الينبوع كذلك، فصلحت ثمارهم“102.
في الواقع، وإذا كان الاعتقاد في الشرف والشرفاء قد يعود إلى مطلع القرن الثامن الميلادي ـ كما رأينا من قبل ـ فإن ذلك الصعود المتنامي للنزعة الشرفاوية واستحالتها إلى إيديولوجية سلطة، قد ارتبط أساسا بالحقل الصوفي، وتحديدا بالطريقة الجزولية. وهكذا فقد وجد الشرفاء السعديون سندهم الإيديولوجي والميداني أيضا في هذه الطريقة103. وهنا بالذات، ينبغي أن نفهم لماذا رفض الصلحاء البيعة؟ ولماذا أحال الشيخ أبو عبد الله محمد بن مبارك الأقاوي القبائل السوسية على الشريف السعدي محمد القائم بأمر الله؟ فعلاوة على افتقاد الصلحاء لإطار تنظيمي قوي وقائم الذات ـ خاصة وأن ممارسة الصلاح ظلت إلى حد بعيد ممارسة فردية وغير منظمة ـ104، وعلاوة على افتقادهم بالمثل لـ ” آفاق سياسية ذاتية “105 وواضحة المعالم، فإنهم وعلى نفس المستوى، أصبحوا يفتقدون لإيديولوجية قوية ومتماسكة؛ خاصة أمام صعود الإيديولوجية الشرفاوية الكاسح وتمكنها من أوسع فئات وشرائح المجتمع المغربي، وعبر معظم المجالات القروية منها والحضرية. لقد أضحت بالفعل بمثابة إيديولوجية للخلاص، وإنقاذ البلاد من قبضة الغزو المسيحي.
من هذا المنطلق إذن، وفي سياق هذا الظرف التاريخي الدقيق كما جسده مغرب القرن السادس عشر (16 م)، سيتولى أبو عبد الله ـ الذي لقب نفسه بالقائم بأمر الله ـ قيادة المجاهدين بسوس. في الواقع، ”لقد حظيت هذه الشخصية في الظروف الخطيرة التي وجد فيها المغرب نفسه أمام الغزو البرتغالي، بتأثير مزدوج بفضل صلاحها وأرومتها. فحسب السكان، شكل وجود سليل النبي على رأسهم ضمانة للانتصار ودرء الخطر عن الإسلام المهدد“106. أمام هذا الوضع بالذات، لم يكن بوسع الصلحاء أن يقبلوا بالبيعة إذن، لأنهم كانوا على يقين بخطورة هذه القوة الصاعدة ممثلة في الشرفاء. فرفضهم للبيعة وتفويتها لهؤلاء، هو في العمق ترجمة لوعي سياسي، أو بالأحرى، لحدس سياسي عميق لدى الصلحاء. وحسب افتراضنا، فإن هؤلاء لم يقدموا على ما أقدموا عليه حبا منهم في الشرفاء، بل تحكمت في الوضع عدة إكراهات107، ليس أقلها أن الصلحاء قد أدركوا تمام الإدراك بأن الشرفاء أصبحوا هم المؤهلين تاريخيا لقيادة الجهاد وبالتالي “سياسة البلاد” 108. وهذا في حد ذاته، يبقى مؤشرا دالا على مدى تغلغل الإيديولوجية الشرفاوية وتجذرها السياسي. بحيث أصبح الرهان أكبر على نظام سياسي جديد وبديل، خاصة أمام عجز النظام السياسي القائم (المريني ـ الوطاسي) عن لعب دوره المنوط به في توحيد البلاد داخليا، وفي قيادة الجهاد ضد العدو الخارجي ممثلا في الغزو البرتغالي109. وهنا أيضا تبرز واحدة من أهم الإكراهات التي تحكمت في موقف الصلحاء المساند للسلطان السياسي الشرفاوي.
فأمام الخطر الذي أصبح يمثله ذلك العدو الخارجي -كعدو مشترك – والذي أصبح قاب قوسين أو أدنى من “دار الإسلام”، كان لابد من التوحد وتمتين الجبهة الداخلية، بتوحيد صفوف كل القوى على أساس مبدأ الجهاد وتحرير الثغور المغربية من الاحتلال “المسيحي”؛ وهنا سيحصل ذلك التمازج الفريد بين الشعورين الوطني والديني.
لكن، وإذا كان عامل الجهاد هذا هو ما دعم بشكل كبير عملية التوحد تلك، وجعل الصلحاء يساندون السلطان السياسي الجديد، فإن تخاذل هذا الأخير وتراجعه عن هذه المهمة المقدسة110 سوف يفتح آفاقا واسعة، ومن جديد، لانتعاش ما يمكن أن نصطلح عليه بـ “يوطوبيا الصلاح”. لعله ذلك الحلم المؤجل الذي ظل يراود حركة الصلحاء في خوض غمار تجربة العمل السياسي المباشر. بالفعل، هذا ما سوف يجسده تاريخيا، أحد تلامذة الشيخ الصوفي عبد الله بن حسون السلاسي، والأمر يتعلق هنا بالولي الصالح أبي عبد الله محمد العياشي112، المعروف بـ “المجاهد العياشي”113. هذا الأخيرالذي اشتهر بالصلاح 114والزهد والجهاد في سبيل الله115، وعلى هذا الأساس عقدت له البيعة، وعلى يد أشهر ”علماء الوقت: كالإمام أبي محمد عبد الواحد بن عاشر والإمام أبي محمد عبد الواحد الكلالي (…)“116.
– ثالثا: ارتباط الطريقة الصوفية بالمجال الحضري (المدينة):
فعلاوة على طابعها المنظم، ورغبتها الملحة في تجاوز النظام القبلي ـ وذلك من خلال رفع شعار تطبيق الشرع والارتقاء بمبدأ العصبية من مستواه القبلي إلى الديني ـ فقد ارتبطت الطرق الصوفية بالحواضر117 أكثر من ارتباطها بالمجالات القروية. وربما قد يبدو هذا واحدا من أهم المظاهر التي ميزت تنظيم الطريقة الصوفية عن حركة الصلحاء، وعمقت بذلك جانبا آخر من جوانب التمايز والتعارض أيضا بين المستويين.
يتبع (الجزء الثاني)
[1] . نورالدين الزاهي : “التخيلي، القدسي والسياسي”، مجلة أبحاث، عدد (30)، السنة (10)، شتاء 1993. ص. 32. راجع أيضا ص ص. (44-32)، نفسه
[2]. ديل ايكلمان : الإسلام في المغرب، ترجمة محمد أعفيف ، منشورات دار توبقال – المغرب 1989، ج ( I )، ص. 37
. 5نفسه، ص. 38
- 6. نفسه، ص. 38
- 7. راجع بهذا الخصوص : ميشو بيلير : “السوسيولوجيا المغربية”، مجلة أبحاث، عدد. (10-9) ، شتاء 1986 ، السنة الثالثة، ص ص (41-28) .
- 8. ماريا ايساورا : “أدعياء الخلاص والكرامات والازدواجية الكاثولكية في البرازيل”، ضمن كتاب أبعاد الدين الاجتماعية، مشترك. تعريب : صالح البكاري، الدار العربية للكتاب، 1985 ، ص ص. (163-162)
- 9. نفسه، راجع، ص ص ((163-144
10 . براين تورنر، (م.س)، ص. 97
- 11. غانم الهنا : “من إيديولوجيا السلطة إلى الدولة”، ضمن كتاب : المعرفة والسلطة في المجتمع العربي – مجموعة من الباحثين – معهد الإنماء العربي، الطبعة الأولى، بيروت 1988 . ص. 150
- 12. نفسه، ص. 152
- 13. راجع بخصوص هذه التحديدات، محمد أركون : الفكر الإسلامي قراءة علمية ترجمة هاشم صالح، منشورات المركز الثقافي العربي 1996
* هذا إذا استثنيا طبعا (فقه النوازل). انظر رحمة بورقية: “العرف والعلماء والسلطة، قراءة في بعض نصوص النوازل”، المجلة المغربية للاقتصاد والاجتماع، عدد7 السنة 1984، ص.ص. (155-173).
14 . voir à ce propos :
– P.Pascon : le Haouz de Marakech , ED : Marocain- internationale, Rabat 1983 , P. 256
– J. Berque : ulémas fondateurs insurgés du Maghreb, Editions Sindbad, Paris 1982, P. 40
– J.Berque : l’intérieur du Maghreb, Editions Gallimard 1978, P.55
15 . إرنست كلنر : “السلطة السياسية والوظيفة الدينية في البوادي المغربية”، ترجمة عبد الأحد السبتي وعبد اللطيف الفلق، مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية، العدد (11) ، الرباط 1985 ص. 191 أنظر أيضا ص. 188
16 . أنظر، أحمد أمين : ظهر الإسلام، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، الطبعة الثالثة، القاهرة 1964، ج. (4)، ص. 152
17 . حسن جلاب، محممد بن سليمان الجزولي: مقاربة تحليلية لكتابته الصوفية، مطبعة النجاح الجديدة – البيضاء، 1987، ص. 27
- 18. ع. اللطيف الشاذلي : التصوف والمجتمع، نماذج من القرن العاشر الهجري، مطابع سلا 1989، ص. 100
- 19. ابن خلدون، المقدمة، مكتبة المدرسة ودار الكتاب اللبناني للطباعة والنشر، الطبعة الثانية، بيروت 1968، ص. 866
- 20. ابو إسحاق الشاطبي : الاعتصام، المجلد الأول، طبعة المنار 1331هـ – 1913 م. راجع، ص ص.((219-212
- 21. الغزالي : إحياء علوم الدين ، المكتبة العصرية للطباعة والنشر، بيروت 1992، ج (3)، ص ص ((35-25
- 22. ابن عسكر : دوحة الناشر لمحاسن من كان بالمغرب من مشايخ القرن العاشر، تحقيق محمد حجي، مطبوعات دار المغرب للتأليف والترجمة والنشر، سلسلة التراجم (1) . الطبعة الثانية، الرباط 1977، ص. 51
23 . نفسه، ص. 48
24 . نفسه، ص. 66
- 25. ابن الزيات : التشوف إلى رجال التصوف، تحقيق أدولف فور، الرباط 1958، ص. ((343-342-267-193
- 26. راجع بخصوص بعض مظاهر هذا التشدد، من داخل المذهب المالكي وتشبثه المطلق بالنص والسنة، أحمد الجيدي : محاضرات في تاريخ المذهب المالكي في الغرب الإسلامي، منشورات عكاظ، مطبعة النجاح الجديدة، الدارالبيضاء. 1987، ص ص ((38-29
- 27. ع. اللطيف الشاذلي، (م.س) ص. 100. راجع أيضا ص ص. (108-100) بخصوص ردود المتصوفة على الفقهاء.
- 28. محمد القبلي: الدولة والولاية والمجال في المغرب الوسيط: علائق وتفاعل، الطبعة الأولى، دار توبقال، البيضاء 1997، ص. (100-99-93-92)
- 29. عبد الواحد المراكشي : المعجب في تلخيص أخبار المغرب، الدار البيضاء، 1978، ص ص.( (253-252
- 30. نفسه، ص. 253
- 31. عبد الواحد المراكشي، نفس المرجع السابق، ص. 293
- 32. نفسه، ص ص((254-253
- 33. نفسه، ص. 402
- 34. الحسين بولقطيب، “الكرامة والرمز، كرامات أولياء دكالة خلال عصري المرابطين والموحدين نموذجا” جريدة الاتحاد الاشتراكي عدد 449 السنة 1984، ص. 4. انظر أيضا:
– إبراهيم القادري بوتشيش : المغرب والأندلس في عهد المرابطين: المجتمع، الذهنيات والأولياء، دار الطليعة بيروت، 1993، ص. 125
35 . القادري بوتشيش، نفسه، ص. 130
- 36. محمد الشريف، “المستفاد أو استقطاب التيار الصوفي على عهد الموحدين”، ضمن كتاب: نصوص جديدة ودراسات في تاريخ الغرب الإسلامي، جماعي، مطبعة الحداد يوسف إخوان، الطبعة الأولى، تطوان 1996، ص. 20
37 . نفسه، ص. 20
38 . محمد الشريف، نفسه، ص. 21
39 . نفسه، ص. 12
40 . القادري بوتشيش، (م.س)، ص ص (172-163)
– انظر أيضا، المراكشي، نفسه، ص. 309
41 . البادسي : المقصد الشريف والمنزع اللطيف في التعريف بصلحاء الريف، تحقيق سعيد أعراب، المطبعة الملكية، الرباط 1993، الترجمة رقم (25)، ص ص (117-114)
- 42. Ferhat Halima et Triki Hamid : Faux Prophètes et Mahdis dans le Maroc Médiéval, Hespéris Tamuda, (Vol. 26-27), (14-16) et pour plus de détails voir PP. (11-23)
- 43. يورد ابن عسكر في “دوحته” عددا من الأمثلة على ذلك الوضع، ونكتفي هنا بتقديم مثال حول محنة (الشيخ سيدي محمد الغزواني) مع السلطان محمد الشيخ الوطاسي : ” وكان السلطان اعتقل الشيخ الولي سيدي ابا محمد الغزواني في تلك السفرة بموضع تاحنوت، وأمر بإشخاصه إلى فاس، فرجع إليها في سلسلة“ – ابن عسكر : “دوحة الناشر…”، ص. 46
44 . شريف ماردن : “الدين في تركيا الحديثة”، ضمن كتاب أبعاد الدين الاجتماعية، جماعي، تعريب صالح البكاري، الدار العربية للكتاب، تونس 1985، ص ص ((113-112
45 . نفسه، ص. 110
46 . محمد عبد الستار عثمان : المدينة الإسلامية، سلسلة كتب عالم المعرفة، الكويت، 1988 . ص. 243
47 . راجع بخصوص السياسة الدينية المرينية تلك :
– روجي لوطورنو : فاس قبل الحماية، ترجمة محمد حجي ومحمد الأخضر، الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، دار الغرب الإسلامي، بيروت 1992 . الجزء ( I ) ، ص ص (110-104)
– ع. اللطيف الشاذلي، (م.س)، ص. 174
– ج. دراك : مجمل التاريخ الديني للمغرب، المجلة المغربية لعلم الاجتماع السياسي، عدد 14 – 13، خريف 1996، ص ص. ((106-100
- 48. عبد اللطيف اكنوش : “المكانة الاجتماعية والسياسية للشرفاء في المغرب”، مجلة أبحاث عدد (18) ، السنة الخامسة، ربيع 1988 ص. 8
- 49. محمد القبلي : الولاية والمجال ، م س، ص ص ((102-101
- 50. نفسه، ص. 101
- 51. يمكن الرجوع بهذا الخصوص إلى: محمد جحاح، الزاوية بين القبيلة والدولة – في التاريخ الاجتماعي والسياسي للزاوية الخمليشية بالريف، منشورات أفريقيا الشرق، الطبعة الأولى، 2015 البيضاء- المغرب
* . إن قيمة هذا العنصر “الشرف” وخطورته ستتأكد حين يصبح مصدر ميلاد دولة وسلطان سياسي جديد (السلطان السياسي الشرفاوي السعدي) ومن بعده (العلوي).
- 52. عبد اللطيف اكنوش، نفسه، ص. 9
- 53. أنظر بهذا الخصوص : بوشتى السكيوي : “اهتمام المولى إسماعيل بتحقيق نسب الشرفاء أولاد مولاي عبد السلام بن مشيش”، مجلة الدوحة، عدد (3) . السنة (2) 1998-1997، ص ص. (107-95)
- 54. عبد اللطيف اكنوش، نفس المرجع السابق، ص.11
- 55. نفسه، ص. 9
- 56. الأفراني (أبو عبد الله محمد الصغير الوجار) : نزهة الحادي بأخبار ملوك القرن الحادي، نشر هوداس، باريس 1888 ص. 6
- 57. voir, Mohamed Kably : Variations Islamistes et identité du Maroc médièval, G.P – Maisonneuve et larose, Ed : Okade 1989, (63-64)
58 . جون واتربوري : الملكية والنخبة السياسية في المغرب، ترجمة ماجد نعمة وعبود عطية، دار الوحدة للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، بيروت 1982، ص ص. (31-30)
- 59. H. terasse : Histoire du Maroc, des orgines à l’etablissement du protectorat Français, éditions Atlantides, Casablanca 1950, 146
- 60. ج. واتربوري، نفس المرجع السابق، ص ص ((31-30
61 . C. André Julien : Le Maro face au impérialismes, éditions : J. A , Paris 1978, P. 21
62 . M. Kably : Variations Islamisteset identité du Maroc médiéval, éditions Okade 1989, PP. (63-64)
- 63. دييكودي طوريس : تاريخ الشرفاء، ترجمة محمد حجي ومحمد الأخضر، الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، الدارالبيضاء، مطابع سلا 1988. ص. 14
64 . C.A.Julien , op.cité, P. 21
- 65. بالفعل، فقد كانت بيعة “الشرفاء السعديين بالأساس، هي مبايعة على الجهاد وتحرير البلاد من الغزو المسيحي البرتغالي. انظر بهذا الخصوص :
- الناصري : الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، دار الكتاب، البيضاء 1955 . ج. (5) ، ص. 7
- اليفرني : نزهة الحادي ، م س، ص. 10
- 66. حسين مؤنس : تاريخ المغرب وحضارته من قبيل الفتح الإسلامي إلى الغزو الفرنسي ، العصر الحديث للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، بيروت 1992، مجلد (2) ج. (3) ص. 103
67 . C.A.Julien, op.cité, P. 22
- 68. د. ايكلمان : الإسلام في المغرب، م س، ج. ( I )، ص. 39
- 69. ميشو بيلير : “محاولة في تاريخ الزوايا والطرقية بالمغرب”، مجلة أمل، عدد 20 – 19، السنة 2000 ، ص. 13
- 70. انظر : ع. اللطيف الشاذلي : “التصوف والمجتمع…”، م س، ص. 162
71 . م. بيلير، نفسه، ص. 13
72 . بهذا الخصوص يذهب ج. دراك إلى تأكيد ذلك الالتباس والتناقض أحيانا، اللذان ميزا السياسة المرينية اتجاه الشرفاء : ” وقد اهتدى عبد الحق آخر السلاطين المرينيين (1464-1423) إلى التحالف مع الشرفاء لمواجهة نفوذ الزوايا والصلحاء“ . ج. دراك، (م.س)، ص. 103. لكن يبدو أن سياسته هذه قد فشلت أمام تصاعد النزعة الشرفاوية، ” حيث قام الشيخ احمد زروق، شيخ أهم الزوايا الشاذلية بفاس بانتقاد حكم السلطان علنا، كما ثار نقيب الشرفاء الأدارسة أبو عبد الله محمد بن علي بن عمران الجوطي وتلقب بالإمام“ . نفسه، ص. 103
76 . حسين مؤنس، نفسه، ص. 89
- ج. واتربوري، (م.س)، ص ص (31-30)
- اليفرني، (م.س)، ص. 73
- A.Julien, op.cité, PP. (21-22)
- Provençal : les historiens des chorfas, éditions Afrique orient, casablanca 1991, P. 9
- 79. – اليفرني، نفسه، ص. 10
- الناصري : “الاستقصا…”، ج (5) ، ص. 7
ج. دراك : “مجمل التاريخ الديني للمغرب”، ص. 108 وفي هذا الإطار، يقول اليفرني : ” فلما رأى أهل السوس ما دهمهم من تفاقم الأهوال وطمع العدو في بلادهم، ذهبوا إلى الشيخ الولي الصالح أبي عبد الله محمد بن مبارك فذكروا له ما هم فيه من انتشار جماعتهم، وافتراق كلمتهم، وكلب العدو على مباركتهم بالقتال ومراوحتهم. وطلبوا منه أن تجتمع كلمتهم عليه ويعقدون له البيعة، ويقوم بأمر الناس في إمضاء الحكم عليهم وجمعهم لقتال عدوهم، فأبى من ذلك وامتنع منه كل الامتناع. وقال لهم أن رجلا من الأشراف بتاكمادارت من بلاد درعة يقول أنه سيكون له ولولديه شأن، فلو بعثتم إليه وبايعتموه كان أنسب بكم وأليق بمقصودكم، فبعثوا إليه وأتى إليهم وكان من أمره ما كان“ . اليفرني، نفسه، ص. 10
- 80. راجع بهذا الخصوص : نورالدين الزاهي : “التخيلي، القدسي والسياسي”، مجلة أبحاث، عدد 30 السنة 1993، ص ص ((44-32
- 81. اليفرني، (م.س)، ص. 28
- 82. هذا ما حاول تأكيده أحد الباحثين، رغم أن المعطى التاريخي يثبت عكس ذلك. راجع : نورالدين الزاهي، (م.س)، ص. 32
83 275 . يذهب نورالدين الزاهي بهذا الخصوص إلى القول : لقد ” خلق الخطاب الصلاحي، خصوصا مع مرحلة الجزولي التي تعتبر مرحلة تأسيسية لهذا الخطاب، الأرضية النظرية التي تحمل مجموعة من الثوابت التي سيحتضنها خطاب الصلحاء فيما بعد“، أنظر رسالة الباحث، (م.س)، ص. 8
– ميشو بيلير، (م.س)، ص ص. (14-13)
– voir aussi : H.Terasse : Histoire du Maroc, op.cité, P. 145
- 86. حسن جلاب، (م.س)، ص. 18
- 87. راجع بهذا الخصوص : حسن جلاب، (م.س)، ص ص. (44-16). نحن لا ننفي أيضا الدور الذي قام به الشيخ زروق، صاحب ” الطريقة الزروقية” في هذا الإطار. فهو أيضا واحد من تلامذة الشيخ الشاذلي ؛ لكن شهرة الطريقة الجزولية واتساع نفوذها جعل من الطريقة الزروقية تبقى مغمورة ومحدودة الإشعاع والنفوذ
- 88. راجع بخصوص فلسفة التصوف عند الشاذلي، وما كانت تجسده من مظاهر التشبث بالقرآن والسنة في العقيدة والسلوك. عبد المجيد الصغير، (م.س)، ص ص 30-38
- 89. نفسه، ص. 33
- 90. ج. دراك، (م.س)، ص. 100 راجع أيضا. ص ص (108-93)
- 91. يمكن الرجوع بهذا الخصوص إلى :
– م. بيلير : “السوسيولوجيا المغربية”، مجلة أبحاث، عدد (10-9)، شتاء 86، السنة (3)، ص. 34. أنظر أيضا ص ص. (41-40). قارن أيضا مع :
– P.Pascon : le Haouz de Marakech, op.cité, P. 260
– J.Berque : l’intérieur du Maghreb, op. cité, P.55
– J.Berque : Ulémas, fondateurs insurgés du Maghreb, op. cité, P. 40
92 . حسن جلاب، نفس المرجع السابق، ص. 43
93 . ع. المجيد الصغير، (م.س)، ص. 30
* . في تصورنا، ليس “الصالح” (مصلحا سياسيا) بالمعنى الدقيق للكلمة، فالإصلاح بهذا المفهوم يفترض مجموعة من الشروط من قبيل : (التنظيم، التماسك الإيديولوجي، العمل السياسي المباشر، برنامج عمل واضح ومحدد يعكس مشروعا مجتمعيا،… الخ)، ولعل هذا ما افتقده الصلحاء إلى حد بعيد. ولئن كان مفهوم “الصلاح” يأتي في القاموس اللغوي كنقيض “للفساد” ـ مما قد يوحي بأن هناك وضعا فاسدا يجب إصلاحه ـ فإن مهمة “الإصلاح” لدى الصلحاء ظلت، في العمق، مرتبطة بما هو “روحي” و “نفسي”، كإصلاح اانفوس عن طريق الوعظ والإرشاد وتقويم الذات (النفس)، لأن (النفس أمارة بالسوء)، وكما رأينا سابقا فهي موضوع اشتغال الممارسة الصوفية بامتياز. لذلك يبدو مفهوم المصالحة والتصالح هو الأكثر تجسيدا لبنية وهوية الصلاح : فمن جهة (تصالح الصوفي مع الله عن طريق المعراج الصوفي)، ومن جهة (كونه كولي هو الوسيط بين الأرض والسماء والضامن للمصالحة بينهما، عن طريق التوسط والتشفع لدى الإله)، ومن جهة أخرى أيضا هو (الضامن لأشكال المصالحة بين المتنازعين من داخل القبيلة، المصالحة بين قبيلة وأخرى، المصالحة بين القبيلة والمخزن، كما يبقى الضامن بامتياز لأشكال من المصالحة والتصالح بين كل من العرف والشرع، الحدودي والكوني).
- 94. محمد ضريف : مؤسسة الزوايا بالمغرب، منشورات المجلة المغربية لعلم الاجتماع السياسي، مطبعة المعارف الجديدة، الطبعة الأولى، الدار البيضاء 1992، ص. 36. هامش رقم (69). أنظر أيضا، ص. 25 هامش رقم ((34
95 . ج. دراك : مجمل التاريخ الديني، (م.س)، ص. 109
96 . voir à ce propos :
– P.Pascon : le Haouz, P. 256
– J.Berque : Ulémas…, op.cité, P. 40
- 97. voir : J.Berque : l’intérieur du Maghreb, P. 424
* . للإشارة، فقد كان هذا الشيخ جزوليا.
- 97. P.Pascon et autres : la maison d’Iligh et l’histoire sociale du Tazerwalt, Rabat 1984, P. 106. voir aussi, PP. (156-157) et P. 167
- 98. ديل إيكلمان ،( م. س )، ج ( I)، ص . 39 . أنظر أيضا:
99 . حسن جلاب،(م.س)، ص. 18 أنظر ايضا:
ـ م.بيلير.نفس المرجع السابق، ص 13
100 . ج. دراك: ” مجمل التاريخ الديني…”، ص 105
101 . د. ايكلمان، نفسه، ص 39
*. يمكن الرجوع بهذا الخصوص إلى محمد جحاح: الزاوية بين القبيلة والدولة، م س.
** . المقصود هنا: الشرفاء العلويون، فهم الأسبق من حيث التواجد بالمغرب مقارنة بالشرفاء السعديين.
- 102. اليفرني، (م.س)، ص 6
- 103. إعترافا منه، بما أسداه الشيخ محمد بن سليمان الجزولي ـ في شخص طريقته الصوفية ـ وأتباعه الكثيرين من خدمات جليلة، في سبيل قيام السلطان السياسي السعدي، فقد قام السلطان السعدي ( محمد الأعرج ) بنقل رفاة الجزولي من ” افوغال ” إلى ” مراكش “، وبنى له ضريحا في الحي الذي يحمل اسمه ( سيدي بن سليمان ) .
ـ أنظر بهذا الخصوص: حسن جلاب، (م.س)، ص. 22
– Voir aussi : H. Terasse : Histoire du Maroc … op.cité, P. 145
104 . لقد اقترن مفهوم الصلاح بمفهوم ” الرباط ” و ” المرابطة ” . وإذا كان من أفق مؤسساتي لحركة الصلحاء، فهو ما مثلته ” مؤسسة الرباط “. ” فقبل القرن الخامس عشر، كان المرابط هو ” الشخص الذي يربط نفسه بالإله ” (… )، كما كانت لفظة مرابط تعني الدعاة الذين يعيشون في الرباطات من أجل التعبد ونشر الدعوة، أومن أجل الجهاد “ ـ د. ايكلمان، (م.س)، ص 39
105 . نور الدين الزاهي: ” المتخيل والقدسي …”، ص 43
- 106. م. بيلير، (م.س)، ص ص (13-12)
- 107. علاوة على استثمارهم لإديولوجية الشرف، التي يفتقدها الصلحاء، فقد عمل السعديون على استثمار رموز الصلاح أيضا: ” مولانا أبا عبد الله، ياقوتة الأشراف، هو صالح لا سلطان “ ـ أنظر بهذا الخصوص: اليفرني، (م.س)، ص 6 .
ولعل نفس الحقيقة تؤكدها عدد من الأحداث والكرامات المنسوبة للشريف ( أبي عبد الله محمد القائم بأمر الله )، مؤسس الدولة السعدية. أنظر بهذا الخصوص مثلا:
ـ دييكودي طوريس: ” تاريخ الشرفاء ” (م.س)، ص 14.
ـ اليفرني، (م.س)، ص ص. 10-11
– الناصري، (م.س ( ، ج ( 5 ) ص ص 6-7
- 108. إرجع بهذا الخصوص إلى كل من:
ـ اليفرني، نفسه، ص. 10
ـ الناصري، نفسه، ص.7
- 109. بخصوص هذه المرحلة، نكتفي بالإحالة على كل من :
- دييكودي طوريس : “تاريخ الشرفاء”، (م.س).
اليفرني : “نزهة الحادي…”، (م.س)
- 110. بفعل المواقف المخزنية التي أصبح يتخذها أبناء المنصور، في سبيل الحفاظ على السلطة : ـ (تنازل المأمون عن العرائش للإسبان، تفكير زيدان في التنازل لهم عن آسفي، علاوة على موقف هذا الأخير “المهادن” من الاحتلال البرتغالي للجديدة) ـ سوف يزداد سخط الرعية على السلطان السياسي السعدي، خاصة وأن هذا الأخير لم يعد يمثل بالنسبة إليها ” تلك السلطة المقدسة التي تعتبر نفسها مسؤولة عن المحافظة على الاستقرار والدفاع عن البلاد“ ـ الشاذلي : “الحركة العياشية”، (م.س)، ص. 58. أنظر أيضا ص ص (47-45). وانظر كذلك :
– حسين مؤنس، (م.س)، مجلد (II)، ج (III)، ص. 214. بالفعل سوف تندلع مقاومة شعبية واسعة النطاق، ضد الإسبان والبرتغال ـ في شخص حرب جهادية ـ وضد رموز الفساد والخيانة والتآمر على وحدة البلاد ـ في شخص تمرد وانتفاضة القبائل والمدن على حد سواء ـ ضد السلطة. وقد شكل المجاهد العياشي في هذا الإطار ذلك القائد السياسي والعسكري لهذه الحركة (الجهادية ـ التمردية).
- 112. أنظر : حسين مؤنس، (م.س)، ص. 216
- 113. راجع بخصوص ” الحركة العياشية ” أو حركة المجاهد العياشي، الدراسة القيمة للباحث عبد اللطيف الشاذلي :
– ع. اللطيف الشاذلي : الحركة العياشية – حلقة من تاريخ المغرب في القرن 17، مطبعة النجاح ، الدار البيضاء 1981، خاصة ص ص .) (184-79
- 114. ع. اللطيف الشاذلي، نفسه، ص. 92
- 115. نفسه، ص. 79
- 116. حسين مؤنس، (م.س)، ص. 214
- 117. أنظر محمد ضريف : مؤسسة السلطان الشريف بالمغرب – محاولة في التركيب، منشورات إفريقيا الشرق، البيضاء 1988 . ص. 64
* أستاذ باحث في علم الاجتماع