الطقوس الثقافية في القهوة العربية

الطقوس الثقافية في القهوة العربية

 

الطقوس الثقافية في القهوة العربية

التمايز الاجتماعي وقواعد السلوك

عبدالرحمن بن عبدالله الشقير*

يدرس علماء الاجتماع والانثربولوجيا الأشياء بوصفها شيئًا مجسدًا، ويدرسونها على أنها حدث اجتماعي، فالحروب مثلاً تتجسد في أنواع الأسلحة، والحدث هو تأثير الحرب على المجتمع، والمنتج الأدبي الذي ظهر بسببها من شعر أو رواية أو غيرهما. ومعظم الأشياء تقريباً يمكن دراستها وفقًا لذلك. وتحلل هذه المقالة مسألة القهوة كشيء مجسد وكحدث اجتماعي من منظور اجتماعي وانثربولوجي، وتحاول أن تجيب عن سؤال: لماذا أعطى المجتمع في مراحل تاريخية معاني ضخمة ومكثفة للقهوة وربطها بمعاني المروءة وبالرجولة والشجاعة والكرم؟

رمزية التجسيد

كان يقال لمجلس الرجال “القهوة” وهو عبارة عن غرفة في مقدمة البيت تحمل اسم القهوة والمقهاة، وذلك لأنها مزودة بجميع أدوات صنع القهوة العربية، ويذكر عبدالرحمن المانع في كتاب “معجم الكلمات الشعبية في نجد”، مجموعة مصطلحات للعدد وللأدوات المستخدمة في الوجار، وهو الزاوية المخصصة لصنع القهوة في المجلس، مثل: الدلة والمصفاة ودلة الزل واللِقمة. وتوسعت رمزية القهوة، وصارت رمزًا للكرم والضيافة الجماعية، حيث انتشرت في بداية الطفرة الاقتصادية في بداية الثمانينيات الميلادية ظاهرة تزيين مداخل القرى بمجسمات دلال وفناجيل قهوة كرمز اجتماعي للترحيب بالزائرين، وما تزال هذه الظاهرة الجمالية موجودة حتى الآن.

تتكون القهوة العربية في أول عهدها من الماء الساخن والقهوة فقط، وتختلف حمسة القهوة أو تحميصها ما بين الخفيفة إلى الوسط إلى الحمسة الثقيلة، فلما كانت شديدة المرارة أضطر الناس أن يضيفوا إليها نكهات تكسر حدة مرارتها، مثل الهيل والقرنفل (يسمى شعبياً المسمار والعويدي)، وقد يؤكل معه تمر لتخفيف مرارته ثم صار التمر يقدم مع القهوة. توسعت رمزية القهوة لتشمل رمزية النكهات، إذ صار يقاس حجم إكرام الضيوف بعدد النكهات المحسنة لطعم القهوة، فأضافوا الزعفران والزنجبيل والشبة.

ويتمايز علية القوم بكبر حجم الدلة وبسعة الفناجيل، وبقوة اشتعال النار في الوجار، وبوجود أكثر من صباب قهوة في المجلس، وربما صبابين وخلفهم أشخاص يحملون لهم الفناجيل إذا كان عدد الضيوف كبيراً، ويتمايزون أيضاً بإضافة نكهات للقهوة لا تستطيع غالبية الطبقة الوسطى تملكها جميعاً في زمن مضى، وتسمى “قهوة الشيوخ” لكثرة نكهاتها، في وقت كانت الطبقة الوسطى لا تملك إلا حبوب البن وربما نكهة واحدة.

ومن عادات المجتمع التي اندثرت أن الرجل قد يحمل معه حبوب البن بمقدار ما يصنع دلة قهوة، وتسمى “طبخة”، ثم يربطها في طرف ثوبه وإذا زاروا أحداً يملك المجلس والمعاميل، ولكن لا تتوافر لديه حبوب القهوة في كثير من الأوقات، وهذا منتشر ومعروف، فإنهم يستخدمونها.

رمزية للتفاعل الاجتماعي

لدي تصور عن تلقي المجتمع للقهوة، كما يلي: كان الإنسان العادي يقضي يومه في تحصيل رزقه من التجارة والزراعة والصناعة، ولم يكن لدى المجتمع فضاءات عامة، أو أماكن عامة يلتقون فيها ما عدا أماكن المناسبات التي تكون في منزل صاحب المناسبة ولا تتكرر إلا نادراً، وقد يكون مجلس أمير البلد أو شيخ القبيلة أحد الفضاءات العامة التي يلتقي فيها أبناء المجتمع ويفد إليها الغرباء. وبما أن القهوة والشاي لم تدخل المجتمع آنذاك، فإنهم قد يشربون الحليب الساخن. وذلك لأن الخمر كانت من تقاليد شراب العرب في مجالس سمرهم، حتى أبطلها الإسلام، ثم انتشر في العصر الوسيط تقريباً تعاطي الحشيش والقات في بعض البلدان العربية، وكل هذه لم تناسب المجتمع. وعندما دخلت القهوة للمجتمع وانتشرت بين جميع الطبقات، وجد فيها المجتمع فضاءً عاماً جديداً يكسرون بها حدة روتين حياتهم أو احتكار المجالس، فصارت تشرب للكيف، وبالتالي انغرست في حياة الناس وتجذرت في تقاليدهم، وصارت رمز لقضاء أوقات الفراغ وتبادل الأخبار، ورمز للضيافة وللمروءة وللشجاعة، وتكثفت المعاني الاجتماعية حولها بشكل لم يحصل لأي منتج غذائي عرفته جزيرة العرب.

إذن؛ مثلت القهوة رمزاً اجتماعياً وسوقاً اقتصادياً في جزيرة العرب منذ قرون، وترسخت في قيم المجتمع وعاداته اليومية عبر قرون من الزمن، وقد دخلت في علاقة حميمية مع الإنسان وتصالحت مع الشعوب في الجزيرة العربية، ولم تعد القهوة مجرد مشروب لتزويد الجسد بالطاقة أو محسناً للمزاج ومساعداً على التركيز. يقول عالم الاجتماع البريطاني أنتوني غدنز أن القهوة ليست مجرد شراب منعش أو منبه، فهي جزء من أنشطتنا الاجتماعية اليومية، فهي علامة فارقة في روتين السلوك الشخصي، وأن كثيرًا من الناس يعتقدون أن القهوة تخفف عنهم عناء العمل الطويل والمرهق.

اهتم علماء الاجتماع بالبحث في جاذبية القهوة ورمزيتها الاجتماعية وفيما تحمله من قيم ودلالات ومعاني اجتماعية، فهي منظم لإيقاع الحياة اليومية، إذ كانت الأسرة تتحلق حول القهوة في ساعات محددة يومياً، ويتبادلون أخبار المجتمع ويتحاورون في قضاياه العامة، وما تزال هذه العادة مستمرة لدى كثير من الأسر، كما أن القهوة هي أول ما يستقبل به الضيف، وآخر ما يودع به، وهي رمز للكرم من زاوية، وهي من زاوية أخرى نقطة ضعف يسب بها من لا يكرم ضيوفه، وقد يستعيض المجتمع بعبارة القهوة عند فلان أو تقهو عندنا وهو يقصد العشاء.

اكتسبت القهوة طقوسها الثقافية من معانيها الرمزية، (والطقوس بمفهومها العام تعني الممارسات الرمزية) ومن اعتياد شربها في أوقات معينة، وأنها متوارثة عبر الأجيال، وأنها تشرب جماعياً وفردياً، ولارتباط شربها بمجموعة من الآداب والتقاليد. فكثير من الطقوس الثقافية تشترك مع الطقوس الدينية في قيمتها الرمزية وليس الممارسات الشكلية.

قواعد السلوك وآدابه في القهوة

يرسم الشعر الشعبي صورة إيجابية للقهوة، فهي من منظور تفاعلي شيء مقدس، وينبغي ألا تُقدم إلا لمن يستحقها، ممن يتحلون بصفات الشجاعة والمروءة والكرم. ومن منظور نفسي فهي أنيس الشاعر في خلوته، وهي مبتغاه إذا أراد أن يقول قصيدة واستعصت عليه الأبيات.

ونظراً لمكانة القهوة في المجتمع ولأهمية دورها في إدارة الحياة اليومية، فقد ارتبطت في الثقافة المحلية بقواعد السلوك وآدابه ارتباطاً وثيقاً، ولها مراسم وآداب مرعية، إذ تقدم في دلة نحاسية وليس في حافظات لحرارة القهوة، مثلما هو سائد اﻵن، وآداب صباب القهوة أن يكون واقفاً وأن يمسك الدلة بيساره والفناجيل بيمينه، وأن يسكب بمقدار نصف الفنجال وﻻ يملأه، وأن ينحني بجسده قليلاً ووجهه نحو الضيف، وأن يضع مسافة جسدية بينه وبين الضيف، ولا يقترب كثيراً للتعبير عن الاحترام التام، ولضمان تسليم واستلام الفنجال لئلا ينسكب، وعليه أن يصب برحابة صدر وابتسامة وعبارات ترحيبية، وأن يعزم على كل ضيف أن يتناول فنجاناً في كل مرة يشعر فيها أن الضيف قد اكتفى، ومن آداب شارب القهوة أو الضيف أن يقول عند استلام الفنجال “تسلم” أو نحواً منها وذلك للتعبير عن الشكر، ولا يستلم الفنجال مع تجاهل لشكر “الصباب” سواء كان المضيف نفسه أو خادمه، وأن يكون منتبهاً لإيقاع شرب القهوة في المجلس، بحيث يشرب مع القوم ويتوقف معهم، وإذا أراد إعلان الاكتفاء فيقوم بعمليات رمزية مثل هز الفنجال قليلاً أو تغطيته بأطراف الأصابع، ثم يقول للصباب “اكرم” أو “بس” للتعبير عن الامتنان والاكتفاء.

أوهام تاريخية حول القهوة

يكرس بعض المؤرخين بأن تاريخ دخول القهوة لجزيرة العرب كان مصحوباً بالتحريم والرفض، ووثقت بعض المراجع فتاوى وسجالات فقهية وأدبية عن تباينات تلقي مجتمع جزيرة العرب القهوة، مثل كتاب “من التاريخ الثقافي للقهوة والمقاهي” لمحمد الأرناؤوط، وكتاب “غواية الاسم: سيرة القهوة وخطاب التحريم” لسعيد السريحي، كتاب “عمدة الصفوة في حل القهوة” لعبدالقادر بن محمد الجزيري، وكتاب “أدبيات الشاي والقهوة” لمحمد طاهر الكردي. وفي رأيي أن التحريم كان إما فتوى شاذة ضخمت وأعطيت هالة أكبر من حجمها، وإما أنها حرمت لما أفضت إليه من تجمع الرجال والنساء في أماكن عامة لشربها، وربما لأن مصطلح القهوة ارتبط بصورة ذهنية تاريخية سلبية، بوصفها من أسماء الخمور. وإلا فهي مشروب تقبله المجتمع بسلاسة، بل اعتمده المجتمع بوصفه ركناً من أركان الكرم وحسن الضيافة. ولا يذكر المؤرخين الهوة الكبيرة بين تحريمه وتقديسه، إلا لأنها أسطورة مزيفة.

مجالات التمايز الاجتماعي في القهوة

يمكن دراسة القهوة وأدوات صنعها بوصفها ميداناً للتمايز الاجتماعي من أجل تحقيق المكانة، ويبدو أن المجتمع في جزيرة العرب قد تعلق بالقهوة ووجد فيها مجالاً لملء كثير من الفراغ السياسي والاجتماعي والاقتصادي، لذلك كثفوا المعاني حولها، ومن ثم بدأ التمايز من طبقة النخبة لحماية تفوقها الثقافي من خلال ابتكار أساليب اجتماعية وأدوات اقتصادية تميزها عن الطبقات الأخرى، وهناك معتقد شعبي أن فنجال القهوة لا يأخذه إلا رجل يتمتع بصفات المروءة، ويمنع منه الرجل المنبوذ اجتماعياً، ولذلك يستخدمون في الشعر الشعبي في مطلع البيت عبارة: عَدّه على اللي، يوصي ساقي القهوة أو الصباب بمستحقي الفنجال، يقول الشاعر:

عَدّه على اللي دايم ينحرونه         اللي يشببهم ليا جوه خطّار

ويقول آخر:

عَده على اللي تنثر السمن يمناه            ريف لربعه بالزمان اللحوحِ

ويحب أبناء الطبقة الوسطى أن يتمايزوا فيما بينهم ويثبتوا تفوقهم الثقافي على بعضهم البعض من جهة وعلى الطبقة الدنيا من جهة أخرى، وذلك بالدخول في تفاصيل صناعة القهوة الدقيقة، من حيث نظافة الدلال وجودتها وماركاتها المشهورة آنذاك مثل رسلان، ومن حيث مراسم إعدادها من دقها وحمسها وطبخها…، وقد وثق الشعر الشعبي والأمثال والقصص جميع هذه التفاصيل، وتركوا تراثاً شعبياً زاخراً بدور القهوة في الحياة اليومية وارتباطه بذهنية المجتمع بالكرم وحسن استقبال الضيوف، وبأنها من أجود معدلات المزاج.

وتعد المجالس المعدة للقهوة من مظاهر التمايز المعنوي، من خلال فتح المجلس لأطول وقت واستقبال الضيوف، ويسمى هذا المجلس “المقهاة”، وهو من معايير الكرم المتفق عليها، وكان الرجل يحصل على شهادة اجتماعية إذا وصف بعبارة “مجلسه مفتوح”.

ذكورية القهوة ونسائية الشاي

من التمثلات الذهنية اعتقاد أن القهوة صنعة ذكورية، فالمطبخ يكون تصميمه المعماري في أقصى المنزل، بينما يخصص طرف المجلس لصنع القهوة وصف الدلال، فالرجل هو الذي يشب النار ويحمس القهوة ويتناولها مع ضيوفه في مجالس الرجال، ولا يجب على النساء تقمص معايير الرجولة المختزلة في القهوة، وقد تحولت هذه التمثلات إلى ممارسات تحدد تمايزاتهم الاجتماعية، ولم أطلع على شعر نسائي يتشوق للقهوة، بل يبدو أن القهوة تشكل مسافة اجتماعية ذكورية أمام المرأة، وقد سمعت من بعض الرواة أن عبيد الرشيد رأى امرأة تشكو من صداع، فلما سألها عن السبب، قالت: “ما شربت القهوة من ثلاثة أيام”، فأقسم ألا يشرب القهوة بعدها أبداً، يقول الشاعر هويشل يهجو النساء النمامات:

والله ما الوم عبيد لو حرم الكيف          حلف وعاش ومات ما طق سنه

فالقهوة مشروب ذكوري، في حين أن الشاهي (الشاي) دخل المجتمع متأخراً، وبدأ كمشروب نسائي، قبل أن يستطعمه الرجال ويشربونه، إلا أنه استمر لعقود وهو في درجة ثانية بعد القهوة، كما يذكر عبدالرحمن بن زيد السويداء في كتاب “نجد في الأمس القريب”.

تحولات اجتماعية في رمزية القهوة

أما اليوم فقد حدث تحولات قيمية سياسية واقتصادية واجتماعية تجاه رمزية القهوة، إذ دخلت في مسائل العولمة وحقوق الإنسان والبيئة، بعدما تبين أنها تزرع في بلدان فقيرة اقتصادياً وضعيفة تفاوضياً، وتستثمر من قبل شركات عابرة للقارات، وانعكس كثير من عادات القهوة على المجتمع المحلي، حيث عرف المجتمع أنواع جديدة القهوة العالمية مثل الأمريكية والأوربية والتركية بجميع نكهاتها، كما عرف القهوة الباردة والمثلجة والمحلاة بسكر، واستبدلت الأسرة دلال القهوة العربية المعدنية بثلاجات حفظ القهوة “ترامس”، واستبدلت التمر بحلوى التمر، وبالتالي فقدت القهوة العربية الكثير من رمزيتها ومكانتها الاجتماعية نتيجة هذا التنافس الجديد، ومن ثم قل معها الاهتمام بآداب تقديمها ومراسمها.

كما صار للقهوة وظيفة اجتماعية واقتصادية ووجهة سياحية يقصدها مرتادي المقاهي لقضاء ساعات السمر أو للخلوة بالنفس والقراءة أو لعقد صفقات، فقد كانت المقاهي وما تزال في جميع مدن العالم ومنذ قرنين تقريباً فضاء رمزياً عاماً يدار فيه الفكر السياسي والثقافي والأدبي وتحلل فيه الأحداث اليومية. وسيخصص لهذه التحولات الاجتماعية الجديدة مقالة أخرى.

أخيراً

تبين من العرض المختصر للتحولات القيمية في رمزية القهوة أنها منتج زراعي جاذب، وقد انغرس في ذاكرة المجتمع وفي جذور عاداته وتقاليده، على الرغم من أنه منتج مستورد منذ دخوله حتى الآن، مع وجود إمكانيات كبيرة لزراعة القهوة محلياً، بوصفها قوة اقتصادية واجتماعية ناعمة، وتنشيط رمزيتها الاجتماعية. وقد فقدت القهوة العربية الكثير من رمزيتها، ولم تعد ترتبط بمعاني قيمية كبيرة كما كانت.

 

*أكاديمي سعودي متخصص في علم الاجتماع، ومهتم بالتاريخ الحديث

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.