بقلم : رامي ناصر وعلي هاشم
تواجدت الحرف في ما أصبح يعرف باسم “لبنان” منذ القدم ، الزجاج والفخار والصباغ والنسيج والسفن ، التي إشتهرت على طول الساحل ، وتطورت وإستمرت خلال الحقب المتتالية .
إقترنت الحرفة بالحيز الجغرافي ، إذ نجد المكانس في الغسانية ، السلال في كفريا ، الزجاج في الصرفند . كما نلاحظ أن أصل أسماء بعض العائلات اللبنانية ترتبط بالحرف : كعائلة الفاخوري نسبة لصناعة الفخار ، آل الدباغ وآل الصباغ نسبة لدباغة وصباغة الجلود ، هذا على سبيل المثال لا الحصر .
تتميز بلدة جزين بحرفة تصنيع السيوف والسكاكين والخناجر ، وغيرها من أدوات تناول الطعام التي تصنع مقابضها من قرون المواشي . كما يتم أيضاً تصنيع “علاقات” المفاتيح ، سكاكين فتح الرسائل ، “فتّاحات القناني” ، كما جميع أشكال الحفر على القرن و”الستانلس” .
بدأت هذه الحرفة منذ عام (1700) عبر الحفر على أغصان الأشجار المقطوعة أنواع الطيور التي تتواجد في الطبيعة . وبعد عقد أو عقدين تم إستبدال المقابض الخشبية العادية للسكاكين والخناجر بالمقابض المحفورة على شكل طيور . وبعدها بفترة تم إعتماد القرون المحفورة كبديل للخشب ، وهي فكرة ما زالت إلى اليوم أساس هذه الحرفة وميّزتها .
يَقطع الحرفي الجزء الفارغ من القرن ، ثم يمسكه بواسطة الملقط ، ويقلّبه على النار حتى يتجمّر ويلين ويصبح قابلاً للتقويم ، فيقوم بتثبيته بالملزمة ليقوّمه بواسطة المطرقة ، وتزال الزوائد بواسطة المنجل .
يكون الحفر بواسطة المبارد ، فيتم حفر رأس البطة ، وإعطائها الشكل المطلوب ، بعدها يتم إستخدام منشار “التشربك” لتسوية مكان الجانحين حتى يلتصقا بالقرن ، من ثم يستخدم الحرفي منشار “التطعيم” على “ظهر” القرن/الطائر ، لإفساح المكان لإستدخال وتثبيت قطع من النحاس أو الألومنيوم بواسطة المطرقة .
ثم يثقب الحرفي الطرف الأسفل من القرن (الموازي لرأس البطة) ثم يصهر قليلاً من القصدير ويصبه ساخناً داخله ، ثم يُدخل آداة الطعام التي يريد وضع مقبض لها . هذه الأدوات تستورد من إيطاليا ولها شكل خاص ، حيث حلّ محل القبضة قبضة تحتوي على زردة طولها (5 سم) تسمح بتثبيتها بالمقبض الجديد .
بعد ذلك يقوم بنقش الجوانح وباقي أجزاء المقبض ، وتطعيمها بالنحاس أو الذهب ، والأحجار الكريمة ، كما يتم ترصيعها وزخرفتها برسوم وأشكال مبتكرة .
وأحياناً تشارك النساء بهذا الجزء من العمل ، حيث يقمن بنقش وزخفة القرن ، قبل أن يسلمنه للحرفي الذي يقوم بتلميعه النهائي . ثم يتم توضيبها في علب خشبية مرصعة ، ومبطنة من الداخل بالمخمل .
لكل حرفة أهمية تتخطى البعد الإقتصادي ، لتطال البعد الثقافي تحديداً ، حيث تشكل واسطة تنقل مخزون الذاكرة والتراث إلى الأجيال اللاحقة ، هي نبض الهوية وبعدها الحضاري في واقع العالم اليوم ، حيث تتلاطم الثقافات ولا تتلاقح ، وحيث يتم التثاقف عبر القسر والإكراه ، فلا بد من التمسك بهذا المخزون لحماية الحاضر والمستقبل .
تُميّز “حنا أرندت” الحرفة من حيث ديمومة إنتاجها ، فـ :”الحرفة هي النشاط الذي يطابق لاطبيعية الوجود الإنساني … تمنح الحرفة عالماً صناعياً من الأشياء مختلفة بشكل تام عن كل وسط طبيعي . إن كل واحدة من الحيوات الفردية تقطن في داخل هذه الحدود ، في حين أن هذا العالم في حد ذاته تم تخصيصه إلى خلودها وتعاليها على الكل . إن الوضع الإنساني للحرفة هو الانتماء إلى العالم … فالحرفة تقوم بإنتاج ما يدوم على خلاف الإنتاجات المعدة للإستهلاك والتي تنتهي قيمتها بمجرد إستعمالها” .[1]
وهذا ما شدد عليه بول ريكور في تفريقه بين العمل والحرفة ، إذ يقول : “العمل هو نشاط خاضع إلى ضرورات الحياة ويعتني بالمحافظة على الحياة الفردية والنوعية . أما الحرفة فهي محاولة صنع عالم من البراعات المشيدة بواسطة يد الإنسان” .[2]
فالحرفة إذن ، تقوم بإنتاج سلع للإستهلاك ، لكنها لا تفقد قيمتها بعد إستعمالها ، بل تحوي رمزية ودلالات ، تدفعها دوماً لأن تكون خازناً لمحيطها الذي إنطلقت منه وبالتالي ناقلاً للأجيال التي ستتوارثها . إن صورة الطائر (كمثال) نبعت من واقع البيئة ، حيث تكاثر البط في ذلك الزمان ، فإلتفت إليه الحرفي ، لكن صورة الطائر تم تحويرها وتشكيلها ، لتوافق المخزون الثقافي أيضاً ، لتصبح تميّزاً يشابه صورة الفينيق كما تتخيّله العامة ، وليرتبط بالوطن الذي يشبّهه أبناؤه بهذا الطائر ، الذي كلما إحترق ، برز من رماده طائر وليد متجدد .
إن هذه الحرفة ، تم توارثها أباً عن جد ، لكنها ليست حكراً على عائلة محددة في جزين قدر ما هي تميز خاص لجزين نفسها . يقوم الكبار بتعليم الصغار أصول الحرفة وفنونها ، ويترك لهم المجال لتطويرها وإبتكار أشكال فنية مختلفة . إن هذا التعليم والتوارث له مفاعيل إيجابية على الأسرة من حيث تماسكها وتلاحمها ، كما على صعيد جزين بشكل عام ، حيث هم أبناء حرفة واحدة .
إن التحليل الأنثروبولوجي للصناعات الحرفية يوضّح دورها ووظيفتها ، كما يوضّح العلاقة الجدلية المتبادلة بينها وبين الإطار الثقافي العام في المجتمع .
إن الحرفي/الفنان يكتشف في الشيء الذي أنتجه ، ليس مجرد وسيلة عملية فحسب بل شهادة لقيامه بفعل خلاق .[3] وهذا يتوضح بطريقة تعاطي الحرفي مع منتجه بعد إنتهائه منه .
هي هدية الملوك ، هكذا يُطلِق عليها أبناؤها ، وهكذا تُعرَف في محيطها ، هي ليست حرفة فقط ، بل هي واحد من الأبناء !
الهوامش :
[1] Hannah Arendt: Condition de l’Homme Modern. éditions Calmann-Lévy, 1961 et 1983, pp15, 99.
[2] Op.Cit. Paul Ricœur: préface de «Condition de l’Homme Moderne», Hannah Arendt, pp XIII – XIV.
[3] إبراهيم الحيدري : إثنولوجيا الفنون التقليدية . سوريا ، دار الحوار ، ط 1 ، 1984 ، ص 160 (بتصرف) .
كاتبا النص :
د. رامي ناصر : باحث أنثروبولوجي من لبنان ، خبير في دراسة الواقع وإعداد خطط التنمية الإستراتيجية ، مسؤول فريق إعداد الخطط في وكالة التخطيط والتنمية – البقاع (لبنان) ، مشارك ومعد لأكثر من ورقة بحثية في الأنثروبولوجيا الثقافية وفي التاريخ الريفي ، مهتم بمواضيع التراث الشعبي والتراث الثقافي اللامادي .