د.أحمد محمد صالح
تفيض مواقع الإنترنت العربية بالأسئلة والفتاوي الدينية اليومية ، بل على مدار الساعة ، إذا تحولت من موقع إلى آخر تجد الجميع يتشنج ويتحدث باسم الله ، حتى فى الموضوعات السياسية والاقتصادية وغيرها يستخدم الدين والإسلام واسم الله في كل شيء ، بل الغريب ان المواقع تذيع رسائل الفيديو للمتأسلمين القتله وهم يذبحون ويقتلون وينحرون الرقاب ويفجرون باسم الله والإسلام .
وعندما تتمعن فى فتاوى الإنترنت ، تجدها كلها تقريبا تدور حول فقه المراحيض والمرأة ، هل يجوز للمرأة أن تفعل كذا أو تلبس كذا ، ومنها الفتوى الأخيرة للشيخين السعوديين عثمان الخميس وسعد الغامدي في “تحريم الانترنت على المرأة بسبب خبث طويتها، ولا يجوز لها فتحه إلا بحضور مَحْرَم مُدرك لعُهر المرأة ومكرها”.
وهذا يجرنا مرة أخرى إلى موضوع هل تكنولوجيا الكمبيوتر والاتصالات خير أم شر ؟! وهو سؤال أخلاقى وفلسفى يثار دائما مع كل جديد من الأفكار أو التكنولوجيا ، فكل مستحدث يحمل معه للبشرية جوانب إيجابية وجوانب سلبية ، و نكرر الأمر متوقف على الإنسان نفسه فى توظيفه واستثماره لتطبيقات التكنولوجيا. وفى كل مرة تظهر تكنولوجيات جديدة تجد دائما هناك من يوظفها فى توصيل افكاره الجنسية ، ومن يقول دائما أنها فى حاجة إلى تنظيم حتى لا تستغل فى الفحش ، ومنذ عهد قريب كنت أعبث فى إرشيف أعداد صحيفة مشهورة ، لفت نظرى مقال ملخصه يقول ان التقنيات الجديدة تكتسح العالم ، وسوف تغيير حياة الناس إلى الأبد، فى طريقة عملهم وفى طريقة حياتهم ، بشرط الا توظف تلك التكنولوجيات فى أغراض مفسدة لا أخلاقية أو غير شرعية، وإذا حدث سيكون ذلك أحد الإختراقات الأعظم للبشرية. الكاتب وقت كتابة هذا المقال منذ حوالي 150 سنة لم يكن يعرف الإنترنت ! بل كان يتكلم عن التلغراف والتليفون كتكنولوجيا جديدة وقتها ! والتليفون والتلغراف كان لهما تأثيرا فى حياة البشر اكبر من الإنترنت !
و فى جريدة الحياة التى تصدر فى لندن ، نتائج مسح قامت به الجريدة ونشرت نتائجه فى نوفمبر 2001 ، على عينة من المستخدمين السعوديين للشبكة في مقاهي الانترنت ، فرغم الفلاتر والرقابة على الإنترنت هناك ، أوضح الاستطلاع ان عدد الساعات التي يقضيها الذكور في استخدام الشبكة يزيد بمعدل الضعفين عنه عند الاناث ، وتبين ان استخدامات الاناث للشبكة تنحصر في فترتي العصر وبعد منتصف الليل لعدم وجود رقيب. وأكد 50% في المئة من المستخدمين امتلاكهم لأجهزة شخصية في منازلهم ، إلا أنهم يفضلون استخدام الشبكة ، من خلال مقاهي الانترنت المنتشرة، بينما 50% في المئة يلجأون اليها نظراً الي عدم امتلاكهم تلك الأجهزة.أما بالنسبة الي المواقع التي يتم تصفحها فاتضح ان 60% في المئة من الذكور ، يقتصر استخدامهم في المقاهي علي مواقع الدردشة ، بينما 81 في المئة يتفقدون بريدهم الالكتروني ، و22 في المئة يقومون بالبحث عن مواقع اباحية جديدة علي الشبكة، وبلغت نسبة المحادثة للإناث مئة في المئة، وأتضح ان انخفاض اسعار اجهزة الحاسب الشخصي سهل من عملية اقتنائها ، خصوصاً للمـراهقين الذيــن وجدوا في الشبكة ما يرضي طموحهم من ابحار في عالم مملوء بكل ما هو مثير .
ورغم كل القوانين والفتاوى والفلاتر فى السعودية المحرمة للإنترنت نجد نسبة كبيرة من زبائن غرف الدردشة العربية تقريبا من السعوديين ، ولم اصدق ما يحدث فى تلك الغرف من دعوة للشباب لممارسة الجنس ، وكلام بالعربية عن الجنس فوق التصور والخيال ! وفى تلك الغرف تجد شباب من الجنسين يتكلم بصراحة فى الجنس ، مستخدما المصطلحات الدراجة فى وصف اعضائهم الجنسية ، فهذا يصف عضوه الذكرى ، واخرى تصف اجزاء جسمها ، وتقف طويلا عن اعضائها الجنسية مستخدمة التعبيرات التى نسمعها فى الشوارع ! وأخرى تقول إنها تعيش في أمريكا- مشهرة مثليّتها الجنسية، وكنوع من التحدي أرفقت اسمها بصورة لها وهي تحتضن صديقتها ! علاوة على انهم يتبادلون فيما بينهم الصور والافلام وملفات الصوت الجنسية ! والبعض يفسر مايحدث فى تلك الغرف بأنها هي المكان الذي يستطيع فيه الإنسان العربي أن يتحدث فيها مع نفسه صراحة، ليقول ما لا يستطيع قوله مع الآخرين ، لكن لماذا يركز رواد الغرف على الجنس والمشاحنات الوطنية بينهم؟ بعض المراقبين يفسر ذلك بأن العرب لديهم نوع من الإحباط والكبت الجنسي الذي يمكن تفريغه عبر الإنترنت. كما أن بعض العرب يشعرون بالتخوف والتشكك إزاء بعضهم وهم لا يستطيعون التعبير عن ذلك على أرضية الواقع فيظهرونه عبر الإنترنت .
و السؤال الآن هل الرقابة على الإنترنت سوف تريحنا من جنس الإنترنت ؟ او بمعنى آخر هل سوف تتحسن حياتنا إذا نحن منعنا صور وافلام الاباحية فى الإنترنت ؟ قبل القرن العشرين كانت النخبة الغنية فقط هى التى تتعرض لصور وافلام البورونو جراف ! ومع ذلك كان العنف والتطرف منتشر للآلاف السنوات قبل ظهور المطبعة واختراع الكاميرا ! واليوم الدول التى تمنع الصور الجنسية والموسيقى الغربية الخليعة مثل بعض الدول الاسلامية والصين ، تعانى من عدم إنسجام أجتماعى وتمييز ضد المرأة ، ومنذ الآف السنين مراهقون تزوجوا ، وحملوا بدون صور جنسية ، والسجل التاريخى للعنف والأعتداء الجنسى والأغتصاب والدعارة ، منتشرة على مر التاريخ قبل اختراع الصور والافلام ! فالإدّعاء بأن المواد الجنسية أكثر إنتشارا و عنفا اليوم بالمقارنة في اى وقت سابق عديم الأساس. وأتذكر هنا مقال للكاتب خالص جلبي فى جريد الشرق الأوسط تحت عنوان “علاقات القوة والجنس” يقول فيه بعد موجة الرهبنة ، وحبس الغرائز وإكراهات العصر الفيكتورى ، أنتشرت سحب الإباحية والشذوذ الجنسى ، وعندما بدأت أفلام (الجنس) Sex في الغرب تفيض بها الرفوف فلا ترى إلا العري. وانطلقت موجة الستربتيز في الستينات من بريطانيا فزكمت الأنوف ، وشكلت أشرطة الجنس 80% من خزائن النوادي ، حسب احصائيات مجلة (در شبيجل)، وبعد عدة سنوات انكسرت حدتها ، فتراجعت إلى 20% ، ثم تحولت إلى ظاهرة مخيفة بين (الجمود) و(الانحراف) ، فالجنس كالسبع الضاري من حرّضه وثب عليه فافترسه. ومن رمى له بقطعة لحم أسكت جوعه فأمنه. هكذا يقول (ابن مسكويه) في كتابه (تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق). واليوم تتدفق أمواج الإباحية من المحطات الفضائية وتفعل فعلها السمي في العالم العربي، فلا يستطيع منعها انس ولا جان، فهي تقتحم بيئة عذراء غير مهيأة لهذا النوع من الاجتياح في ظل تابو المجتمع العربي ، الذى يواجه العولمة كمن يحارب الفانتوم بالعصا. ولم تتطور الثقافة الجنسية بين (الإظهار) و(الإخفاء) من فراغ ، على قاعدة (ارسطو) الذهبية ان كل فضيلة هي وسط بين رذيلتين. فمع الإباحية يتحول المجتمع إلى مستنقع يستحق التدمير. فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل. ومع الكبت تنشأ الأمراض النفسية من الهلوسة الجنسية فيتحول كل النشاط إلى جنس حتى لو كان ظاهرياً عين التقوى. ويصبح (جسد المرأة) المسرح السياسي لطغيان الرجل وإعلانه الوصاية على كائن متخلف عقلياً لا يعرف ما يستر به نفسه. ويعلل (مالك بن نبي) في كتابه (شروط النهضة) ، المعركة حول جسد المرأة بالمزيد من تعريتها أو التشدد في تغطيتها إلى الآلية الخفية نفسها من الدافع الجنسي ، مع أن ظاهر الأمر يوحي بالتناقض بين الفحش والتقوى، لكنه في حقيقته واحد مثل الفيلم الأسود قبل التحميض والملون لاحقاً، لكن اكثر الناس لا يعلمون.
ونزعم هنا إلى ان ما ذهب اليه الكاتب من تاثير المحطات الفضائية ينطبق تماما ويزيد على الإنترنت ! وان فيض الجنس فى الإنترنت سيصل لمرحلة اشباع يتراجع فيها ! و يجب الا يخفينا جنس الإنترنت ، ويجعلنا نحجم عن استخدام هذه الشبكة العالمية الرائعة، بل يجب أن يدفعنا ذلك للتعرف على أنواع جرائم الإنترنت ، ونأخذ منها الحذر والحيطة ، فالجريمة وجدت على الأرض منذ وجود الإنسان ، وتنوعت أشكالها ، وأدواتها تكاثرت مع تعقد الحضارة البشرية، وتزايد الابتكارات العلمية. فمع أكتشاف الزراعة ظهرت جرائم حرق وغرق المزروعات ، وسرقة الحيوانات وتسميمها ، وبعد اختراع السيارة، ظهرت جرائم سرقة السيارات، وعندما جاء التليفون، ظهرت جرائم الخداع والمضايقات عبر الهاتف، وبعد أختراع الطائرة، ظهرت جرائم اختطاف الطائرات. ومع ظهور إنترنت، ونموها السريع وانغماس عشرات الملايين في نشاطاتها المعلوماتية والتجارية والترفيهية، وجه البعض نشاطاتهم الإجرامية إلى هذه الشبكة العالمية. وهو أمر طبيعي! فالجريمة موجودة في أي مجتمع، مهما كان صغيراً، فما بالك بمجتمع إنترنت الذي تجاوز عدد مواطنيه مئات الملايين وهذا الخطر المتنامي من الجرائم عبر الإنترنت , بدأ يلفت الانتباه في العواصم العالمية ، وعملت حكومات العالم على سن القوانين التى تحمى الناس من جرائم الإنترنت . لكن هل تكفى القوانين وحدها ؟! يزعم الكاتب ، ان صدمة الإنترنت على العرب ، يمكن ان تفسر ما يحدث فى غرف الدردشة العربية ، وموقف الشيوخ من الإنترنت ، بمعنى ان العرب لم يستعدوا حضاريا لمواجهة ثقافة الإنترنت المفتوحة ! لأننا نعيش فى مجتمع ، تحرم فيه كلمة الجنس ، ويزعم الفضيلة ، ويسيطر فيه هاجس الجنس على الجميع ، لدرجة ان هناك رئيس احدى الجامعات المصرية ، التى أنشئت لتحتضن الفنون الجميله ، يحاول اغلاق قسم علوم المسرح ، التابع لكلية الآداب فى جامعته ، لأن فن المسرح يشجع على الأنحلال الخلقى كما يزعم ، وفى بعض أجزاء الوطن يعتبر الأطفال مشهيات جنسية ، والنساء فىمعظم الوطن مشكلة كبيرة ، لا يعرفون كيف يفعلون بها ، و يعتبرون المرأة خطيئة تسير على ساقين ، والرجل حيوان فى حالة شبق مستمر، وإذا كنا نعرف أن أجدادنا فى الجاهلية يمارسون وئد البنات عند ولادتهن ، أى دفنها وهى حية ، فالبعض منا ، مازالوا يمارسون عمليات وأد المرأة أى تعبئتها فى سواد الجهل والتخلف وهى حية ، من أجل إثبات سلطة ذكورة مزعومة تحت راية الإسلام ، ومعظم فتاويهم الدينية عن المرأة وشيطانها ، حيث يمثل الموضوع الأساسى للخطاب الدينى فى معظم الوطن . واتذكر قولا لنجيب محفوظ فى دفاعة عن نفسه أمام من يتهمونه بكتابة الفحشاء ، قال الرجل : ان الواقع الاجتماعى أفحش كثيرا بما نتخيله ! ملخص الموضوع ان المشكلة ليست فى الإنترنت ، ولكنها فى المنظومة الاجتماعية والسياسية والفكرية التى يعيش فيها العرب وأنتجت ذهنية عربية مريضة ومشوهة ومعقدة .