السحر المضـاد:دراسة أنثروبولوجية في المكونات الأولى للقناع ج1

د.عبدالستار البدراني
1- الأصل الشعائري :
هذا منعرج يحاول ان يميط اللثام عن الأصل الشعائري للقناع وهو مدخل يؤشر عالما لا يقف عند حدود التقنع وانما يتعداها إلى العناصر التي أسهمت في خلق الأفاق المحفزة لهذه العملية ، ففي البيئة (البدائية) تتشكل صورة معرفية شفاهية تحاول ان تجعل من العمق الكوني المجهول عالما يشي بشيء من الألفة حين يتحول الوجود إلى هيئة تكتسب في الذهن هوية تساعد على مواجهة العالم اللامسمى، هي حصانة للداخل تزرع فيه الأمان ، والاستقرار ، بمواجهة المضطرب الشيطاني الذي لا يقف عند حدود وهو في الوقت نفسه ليس مبررا ، لكن الشروع في إعداد المبرر الأسطوري للمجهول الكوني يعني انهيار جدار الرعب ، ومن ثم السيطرة على ما يحدث وراء الجدار. ان تعرف الأشياء ومنحها نمطا من التسمية يعني بالضرورة اغتيال الخوف في الداخل وبداية عالم جديد يتعامل مع المتعين ، ويصالحه لكي يدجنه ويستعمله لأغراضه الشخصية بعد ان كان يهرب منه ويسعى إلى الانفصام عنه بطرق مختلفة ، إذن أدرك الإنسان البدائي في لحظة وعي الطاقة السحرية للتسمية التي تحقق له ترويض العالم وتجعله ملكا ، ” كان الإنسان يرى بصورة غامضة فيما يصنعه لونا من السيطرة على مادته ، ولونا من الشعور المبهم بتحقيق الذات عن طريق أولي للخلق والإبداع والتشكيل غير ان هذا كان شعورا مبكراً بفرحة (الصنع) والقدرة على التحويل ، لكن هذا الشعور الخلاق لم يتجسد في أعمال فنية مستقلة ” (1) ليس من الغريب ان يتخذ الإنسان البدائي من وعيه بالأشياء دريئة تقيه غوائل المجهول ، لذلك كانت قدرته بدءا تتجه إلى إشباع حاجات نفعية بيولوجية ، سيكولوجية ، فبارقة الوعي التي سطعت في ذهنه ، قدمت له أداة حضارية ترد عنه غائلة المغيوب هل كان للإنسان البدائي نسق فكري ما يعبر عن حاجاته الاجتماعية والطبيعية ؟ حاولت معظم الدراسات الانترويولوجية الاهتمام بدراسة الجوانب السلبية في نمط هذه الحياة ، مستسلمة لوجهات نظر شخصية ، لم تستطع ان توغل في عقل ذلك الإنسان الهائم في شعرية الكون يتدفق في معاناته عاطفةً ورغبة في إيجاد وجود يستجيب لاهتماماته وغرائزه ، فلجا إلى الوسائل التي تخلق له التناغم بين حاجاته المادية والروحية حتى ان العلاقة في هذه الثنائية متبادلة إلى حد الإيمان العميق ، بان التوازن بينهما ضروري لكي يحدث التأثير السحري أو الطبي ذلك ان الانسان البدائي لم يستطع ” أن يصل الى مرحلة الافتراق عن الطبيعة لقصورة ونقص في أدواته التقنية ؛ ولكنه لم يستسلم ، بل عمل على خلق عالم جديد . هذا العالم لم يكن (وهما) بل كان (هدفا) عجزت أدواته وخبرته العلمية عن خلقه . كانت هذه الأداة الفذة في يد الإنسان هي الأسطورة 0000 إن الأسطورة وهي تنجز بالوسائل السحرية والرمزية هذه الأهداف ـ الفكر هو الذي يقتل ، أو الأيمان هو الذي يحقق المعجزة ، وانما كان الفعل هو الذي يقوم بالسحر . ان فنان العصر الحجري القديم عندما كان يصور حيوانا على صخرة كان ينتج حيوانا حقيقيا . ذلك لان عالم الخيال والصور ومجال الفن والمحاكاة المجردة لم يكن قد أصبح في نظره في نظره ميدانا خاصا قائما بذاته مختلفا عن الواقع التجريبي ومنفصلا عنه . ولم يكن قد واجه المجالين المختلفين بعد وانما رأى في أحدهما استمرارا ًمباشرا ًمتجانسا مع الأخر ” (2). هذا التصور هو سمة أساسية للعقلية البدائية ، وملمح أساسي ينعكس في نمط تفكير الشعوب (البدائية) ، ولا يقتصر الأمر على مجتمع (بدائي) دون الآخر خصوصا فيما يتعلق بالفهم العام لحقيقة الأشياء . حتى ان الموت والحياة على مافيها من غموض تحد لها منفذا في التأويل ، فنجد مثلا ” ان اتحاد الظل والجسم ـ وهو الذي يطلق عليه كلمة بوزيما (buzima )، فانه يعتبر بمثابة المبدأ الذي يحدد كيف بدأت الحياة وكيف تعمل ، أي ان ذلك الاتحاد هو في الحقيقة بداية الحياة، ونشأتها ومبدأ عملها ووظيفتها، وهذا المبدأ هو الذي يقرر ان اتحاد الظل بجسم من الأجسام هو اصل حياة صاحب هذا الجسم واستمرار حياته ، بينما انفصال الظل عن الجسم هو الموت 0000 في الوجود الإنساني يلتقي مبدأ الحياة البيولوجية (بوزيما) ومبدأ الحياة الروحية (ما جارا)، ولا يمكن يوجد أحدهما بدون الآخر، وذلك يعكس الحال للحياة الحيوانية ، فحياة الإنسان ليست حياة بيولوجية خالصة، كما انه لايمكن ان يوجد كائن (بشري) حي بغير ظل، وهذا حضه ان (الظل) هو الذي يعطي الإنسان شخصيته ومقوماته كإنسان ” (3) .
فالتوحد يعد مبدءاً يكشف عن القوة الفاعلة التي تعطي للحياة ديمومتها ويمنحها الشكل الذي يساهم في نظام الكينونة كما يفهمها الإنسان البدائي ولا شك ان هذا المبدأ (التوحد) على بدائيتهِ، وجدله موقعا في الثقافة الإنسانية على مر العصور، ولا سيما فيما اصطلح عليه بـ (وحدة الوجود) «  (فالانتو) هي القوة الكونية التي تدخل في كل شيء وتتدخل أيضا في كل شيء 00 أنها القوة التي يتخذ فيها (الكائن الاسم) أو الوجود Being ذاته مع كل الكائنات” (4) تدخلنا هذه المقولات في وحدة معرفية تستمد وجودها من تصور شمولي لحركة الوجود، وتتضح وحدته في الخطاب الخرافي الذي يتضمن إشارات ومعاني ذات أهمية كبيرة في تلمس عناصر المشترك الثقافي في البيئة البدائية، والذي يعتمد أساسا على القناعة العقائدية التي تبنى على أسس خرافية تطمح إلى إزاحة عتمة العالم المجهول، وتنظيمه بطريقة تنفتح على هاجس جماعي «  ولما كان المجهول في جميع الحالات تهديداً فالخرافة تشكل نوعاً من الاحتماء، لعّل هناك وسائل من شأنها ان تهدئ غضب كائن أقوى من الإنسان، لكنه شبيه بالإنسان. فالخرافة وسيلة حماية كما هي وسيلة تفسير بمتناول الإنسان البدائي وهي تطمئن وتقوي ” (5). هذه الخرافة هي الذاكرة التي تحمل الوعي بالأشياء، وتختزن في شبكتها الكون الذي ينتمي إلى إحساس الإنسان، فكل شئ فيها يجسد الاشياء يجعلها حضوراً مدركاً تتحرك في ذهن يلتقي مع الوعي في ابسط حالاته التي تسعى في مناسكها ” إلى تحقيق التجانس الروحي بين انسانها والطبيعة، لهذا فهي مجموعة كبيرة من الظروف التي يجب أشباعها إذا أريد للمجتمع ان يبقى ولثقافته ان تستمر ” (6) يتحول فعل التعرف عند البدائي إلى إجراء دفاعي، يجسد حضور ألما وراء في منطقة النظر، راسماً صورة للكون تمحو المسافة القائمة في ثنائية الوجود والعدم، ليستطيع الإحاطة بعناصره المتصارعة فيعيش في وجود مدرك يجعل كل شئ ممكناً، وهذا ليس غريباً على العقلية البدائية فهي في وازعها العقائدي تلتقي عند أساس واحد ” هو عمق الإحساس بالروابط الوثيقة التي تربط المجتمع البدائي بالبيئة الطبيعية التي يعيش فيها، وسواء أكان مجتمع صيادين أو ملاك قطعان أو زرّاع ، فهم يعيشون في كنف العناصر الطبيعية وعلى نظامها، حيث لا يتميز الإنسان عن الاشياء، ولا تتميز الأشياء عن الآدميين، وحيث يعتبر البشر أنفسهم صورة من صور الكون الكلي، ويشكلون حياتهم وفقا لما يتصورونه عن هذا الكون، ولا يرى المجتمع القبلي في الحيوان والنبات، ولا في الجماد إلا مخلوقات لا يختلف هو عنها وليس له عليها سيطرة ما، فأضفى عليها كل صفاته وأحاسيسه ورغباته الإنسانية، وصور له خياله بسبب ذلك الإحساس إن الإنسان بالمثل، حياً كان أو ميتاً، له قوة يستطيع بها ان يتخذ شكل حيوان أو نبات، ولن الجماعة الإنسانية ما هي الا حليفة ونسيبة لجماعة الحيوان ” (7).
ان الطبيعة روح حية تتبدى في كل مفردة من مفردات الوجود، تسيل في مفاصل الإنسان البدائي معلنة بلسان فصيح، توحدها فيه وامتدادها في فاعليته الحياتية حتى انه لا يستطيع ان ينفك من الإيمان بقدرتها على التأثير المباشر في سيرورته، فيعمد إلى تشخيص الأشياء التي تحيط به ” أي يضفي عليها شخصية متميزة ويضعها على نفس المستوى الذي يحتله هو نفسه أو غيره من الناس. بل ان الأموات أنفسهم يحتفظون بنفس الخصائص والملكات التي يملكها الأحياء، ولذا فهو يخاطبهم ويناجيهم ويقدم لهم الطعام والشراب، ويستعين بهم على متاعب الحياة وازماتها كما ان الأموات يختلطون بمجتمع الأحياء بشكل أو بآخر، فيشاركونهم حياتهم وطعامهم وشرابهم، دون ان يراهم الأحياء. وهذا معناه ان هناك نوعاً من (وحدة الوجود) التي تمتزج في المظاهر والأشياء والكائنات بحيث يصعب الفصل بينها فصلا قاطعا، وبحث يستطيع الإنسان ان يتشكل بأشكال الحيوانات المختلفة والعكس، وحيث يمكن للإنسان أيضا إن يخاطب الحيوان ويقدم له القرابين مثلما يقدما لأحد الآلهة أو الأرباب أو الأسلاف «  ( . هذا هاجس الإنسان ومناخه المعرفي، ينفذ منه إلى حالة التماسك والقداسة متجهاً إلى التخلص من معاناة اللاقنعيين بالوقوف في نقطة ترفض الفصل بين الأنا والعالم والمحيط، فالذات دم الكون تسيل فيه متوحدة بكل عناصره اللامتناهية، ” ذلك إن المكان الذي كان يعيش فيه البدائي هو في الوقت نفسه (طبوغرافيا لا شعورية) فاله الرعد يسكن تلك الشجرة المهيبة … وأرواح الأسلاف تقطن في تلك الكومة من الأحجار، فيجب تتلو أي إمراة تعويذة معينة خشية ان تصبح حبلى، لأن روحاً يمكن ان تدخل جسدها بسهولة، وهكذا سكن البدائي في أرضه وارض لا شعوره في آن واحد، وهذا الإحساس البدائي لم نفتقده تماماً فهو يعيش فينا ” (9).
الارواحية هي المحرك الذي يستمد منه البدائي طبيعة كيانه كله فاعتقاده الصارم بان الروح لا تفارق عالمه الحيوي، يجعله في حالة تصور دائمة، تصور له حلول السلف في الخلف فلكل ” إنسان روح لا تفارقه حتى بعد موته، إلى أن يعطى طفل اسم من مات حتى الحيوانات، والأسماء تظل الروح كائنة حتى بعد مفارقة الجسد إلى ان تحل في أجسام أخرى تولد من جديد لتخلف مزيداً من الناس والحيوانات ” (10). حين يحل الاسم في الجيل التالي يثبت حضور الاخر، ويستقطب دلالته المعرفية، مما يؤشر نوعاً من الأقنعة المتواترة، وكأن الأجيال أقنعة لبعضها في تسلسلها الحياتي، بحيث يبدو من خلال هذا التواتر عنصر تأكيد الذات مهماً إلى الحد الذي يوحي بان الإنسان كان يخلد نفسه في دوره الجديد الذي يلعبه المولود الجديد ” لقبائل (الدوجون) أساطير وأقاصيص نهاية في سعة الخيال والتصور، وتحل اعظم مكان في ديانتهم، ويمكن تقسيمها إلى ثلاثة طبقات :
1- الجد الأول للقبيلة، وهو الذي مات في هيئة افعى، ويرمزون له (بالقناع الكبير) وهذا القناع يبدل مرة كل ستين عاماً في احتفال ديني حاشد، ويعرف باسم (سيجي Signi) تشترك فيه وتتجاوب له عامة عشائر الدوجون.
2- يلي ذلك طبقة (بينو Binou) وهم الأجداد الأقدمون الذين تحولوا ضبآ والذين يمكن معرفة اتصالهم بالناس بعلامة خاصة، وهي نزول حجارة معينة من السماء، فإذا سيطروا على بعض الأحياء كان هؤلاء هم كهان القبيلة.
3- ويلي ذلك أخيرا طبقة (ليبه، Lebe) وهو اقدم جد مات على صورة انسان، ولكنه يحيا في باطن الأرض على صورة ثعبان، فيمنحها الحياة والخصب، ويزيد نبات الذرة قوة إلى قوته، ولذلك تقدم القرابين إليه في وقت بذر الأرض وعبادته تعد من جهة عبادة للاجداد، ومن جهة أخرى عبادة للأرض التي أحيتهم ” (11).
يستقطب البدائي اشباحه ويتداولها بهمة عالية ليحقق انتماءه من جانب ويؤمن حياته من جانب آخر، فطقوسه تدفع عنه مشكلة الدناسة التي تكون في الأغلب ضرورية لحياته، ولا سيما عندما يصطاد ليعيش، فلا بدّ له من المرور ” بطقس التطهير، وان يأكل من وليمة عامة يشارك فيها من هم في وضعه ثم يعيده كفيله إلى حياة القبيلة أثناء رقصة احتفالية، ان الطقوس البدائية خلاقة، لأنها تقلل من القلق الناشئ عن العديد من المواقف الوجودية ويستخدمها استخداماً ثقافياً، فالميلاد والموت والبلوغ والزواج والطلاق والمرض، أو بشكل عام اتخاذ أدوار جديدة أو تحمل مسؤوليات جديدة والدخول في حالات سيكولوجية جديدة تستدعيها الحياة ويحددها المجتمع، كل هذه الأمور تكون مناسبات للدراما الشعائرية، ومن الطبيعي ان تتباين البنية الشعائرية الشكلية من ثقافة إلى ثقافة، لكن الوظائف تتشابه ” (12).
تزخر الذات البدائية بالقوى الغيبية، وهي في الغالب قوى شمولية لا تحمل عادة سمة التخصص، بدليل النظرة إلى الوجود، نظرة توحد، لا نظرة تمفصل ، تضع لكل شئ حدوداً، فليس ثمة التباس ما دامت الكينونة واحدة، ولكن هل استطاع هذا النمط المعرفي ان يقدم فناً؟ وهل يصح ان نسمي الإنتاج البدائي فناً، أو نصطلح عليه (بالفن البدائي؟
قراءة النتاج البدائي البصري تضعنا في بؤرة الالتباس، والتأكيد هنا على مصطلح (فن). السؤال هو: هل كان البدائي يفكر برسوماته، أو منحوتاته على أنها (فن) أم أنها وسائل سحرية تقيه غوائل المجهول؟ هناك من يقول:- لا يصح اعتبار رسوم العصر الحجري فناً، لان الغاية منها في الأصل سحرية، إذ أن رسم الحيوان يعني قدرة الصياد على أصابته أو قتله أو السيطرة عليه (13).
ومن مؤرخي الفن من يعد نتاج العصر الحجري فناً فهو يقول ” الدليل على ان الفن في العصر الحجري القديم كان يرتبط بالأعمال السحرية هو ان العدد الأكبر من الصور البشرية المتنكرة على هيئة حيوانات كانت تؤدي رقصات سحرية محاكية، ففي هذه الصور … نجد قِناعات حيوانية متجمعة لا يمكن ان تفهم إذا لم تنسب إليها مقصداً سحرياً ” (14).
إننا لا نختلف مع هاوزر في الوظيفة السحرية لما انتجه الإنسان البدائي من رسومات ومنحوتات ، ولكن إطلاقه مصطلح (فن) على هذه الأعمال يضعنا في نقطة التقاطع معه، وحجتنا نقيمها عليه من كلامه الذي يؤكد الوظيفة السحرية، هذا يعني ان الإنتاج شعائري، والإنتاج الشعائري لا يتوقع منه ان يكون وسيلة للتأمل بقدر ما هو وسيلة وقائية تخدم المجتمع القائم، فمثلاً: المصريون القدماء ” لم يقصدوا بتماثيل الأشخاص التي صمموها العرض والتأمل، لأنها كانت مدفونة في قبور مظلمة، لا يزورها أحد، حيث لا يستطيع أحد مشاهدتها في المكان الذي تؤدي فيه مهمتها السحرية بغير تعويق من أحد «  (15)، ولكن هاوزر يلح على فنية الإنتاج البدائي مشيراً إلى ان ” الاعتبارات الجمالية ليست وحدها التي تتحكم في هدف الفنان بل ينبغي ان تكون المقاصد الفنية متفقة مع الرغبات العملية، ولقد كانت قوالب الجص المشهورة التي اكتشفت في ورشة النحات (تحتموسيس) في تل العمارنة والتي ربما كانت أقنعة للموتى أضيفت إليها بعض اللمسات دليلا على ان الفنان المصري كان يستطيع أيضاً ان يرى الأشياء بطريقة تختلف عن تلك التي اعتاد تصويرها بها. وفي استطاعتنا ان نفترض انه تعمد في معظم الحالات ان ينحرف عن الصورة التي رآها على النحو الذي تدل عليه هذه الأقنعة ” (16) ، ملامح الانحراف التي يلجأ إليها المثال المصري، لا تعني نزعته الفنية ولكنا تشير إلى رؤيته التدينية ومدى تأثير هذا الانحراف في معنى القداسة كما يفهمه هو، فهذا المؤرخ الاجتماعي للفن (فشر) يقول:- ” ان الوظيفة الأساسية للفن كانت تمةنح الإنسان القوة إزاء الطبيعة أو إزاء رفيق الجنس أو إزاء الواقع، أو قوة لدعم الجماعة الإنسانية، فلم يكن للفن في فجر الإنسانية بالجمال غير أوهن الصلات، ولم يكن له بالنوازع الاستاطيقية صلة على الإطلاق، بل كان أداة أو سلاحاً في يد الجماعة الإنسانية في صراعها للبقاء ” (17) ، من الواضح في هذا النص ان الإنتاج البدائي لا علاقة له بالجمال والاستاطيقا، ومن هنا فهو صنعة خاصة لأغراض خاصة، تتوخى أهدافا خاصة، ولكن (هاوزر) يلح على فنية هذه الأعمال بدلالة مسحة الانحراف التي يلجأ إليها (الفنان !)، وهذه المسألة توقعه في تناقض كبير، إذ من الضروري للمثال الذي ينحت الوجوه ان يجعلها مطابقة للأصل الذي نقلت عنه، لان ” الروح الحارسة للميت التي يطلق عليها اسم (كا – kA) كانت تهتدي مرة أخرى إلى الجسم الذي كانت تحل فيه على الأرض، في تلك الصور الشخصية التي تماثل شكله الحقيقي المشابه كما كان عليه في حياته، وكان هذا الهدف الديني السحري من الأسباب التي تفسر النزعة الطبيعية في تصوير الأشخاص ” (1، فإذا كان الانحراف عند (الفنان) المصري أحد مقومات تشكيل القناع، فان الروح (kA) لن تستطيع الاهتداء إليه !؟ كما ان الروح (kA) ليست حارسة، وانما هي روح الميت تعود إليه حسب الاعتقادات المصرية القديمة فكان على
» النحات المصري ان يخرج تمثالاً، تعطي صورة وجهه شبهاً تاماً لصاحبها، لان المصريين القدماء يعتقدون في ان (كا = الروح) الميت تتردد على القبر. وحتى تتعرف الروح على صاحبها، لا بد من ان صورة الوجه في التمثال تتشابه مع الأصل ، فإذا ما فني الجسد حل التمثال محل الجسد ” (19). يتعين على من يتعامل مع الفن، وتاريخ الفن، ان يضح حدوداً لهذا المصطلح تفرق بين الفن الحقيقي والصنعة، إذ يمكن التفرقة بين الفن بمعناه الحقيقي، وبين معناه المهجور، فالفن هو ما تعنيه الكلمة اللاتينية (Ars)، وأما الكلمة اليونانية (TScnh) أي القدرة على أحداث نتيجة سبق تصورها بوساطة فعل خاضع للوعي والتوجيه (20). وهذا الفعل لا يسعى الى تحقيق انفعال جمالي متأمل يدخل في مجال الصنعة، ويمكن القول: إن هذه الطقوس الشعائرية كانت إرهاصات حية للفن الحقيقي بل كانت خطوة نحو فن الفعل (الدراما). فالعنصر الدرامي ” تمتد جذوره في النكبات والمفارقات، وفي معاني الوجود العادي التي احتفل بها الإنسان البدائي، وأعطاها شكلها في الدراما الشعائرية … لكن مما له مغزاه ان ينظر عالم اجتماع متمدن الى عملية ارتداء الأقنعة على أنها عملية تطوير للذات، حتى وهو يصف بدقة تفاصيل الأداء الجماعي للأدوار ” (21)
تؤكد السياقات السابقة في مجملها سعي الإنسان البدائي إلى شق طريق ينهض به مواجها لأشباحه أو متحالفا معها، أو مشكلا كينونتها تشكيلا ينسجم وما يحدث في خواطره وتأملاته من رؤى وأفكار لكي يحقق ” الذات عن طريق اولي للخلق والابداع والتشكيل، غير ان هذا كان شعوراً مبكراً بفرصة (الصنع) والقدرة على التحويل، لكن هذا الشعور الخلاق لم يتجسد في أعمال فنية مستقلة ” (22). بعبارة أخرى لم يستطع (الصنع) البدائي ان يتحول إلى شكل ثقافي يحقق متعة جمالية روحية تنفذ من مفهوم التأمل الخالص للعمل مجرداً عن غاياته، وما يحيطه من مرجعيات ذات علاقة بوضع الإنسان الاجتماعي أو الكوني، وبجولة بسيطة في تاريخ الفن يتبين ” ان تاريخ الفن في الحقيقة تاريخان:- تاريخ يبدو فيه الفن جزءاً غير مستقل عن الممارسة العملية وهو تاريخ الفن البدائي، وتاريخ يبدو فيه الفن عملاً خاصاً ينهض به (متخصص)، أي يبدو فيه الفن ظاهرة مستقلة، وهو تاريخ الفن بعد تحول (التجمعات) البشرية البدائية الى (مجتمعات) ذات أنظمة اجتماعية محددة.

————-
الهوامش
1. عبد المنعم تلّيمة / مقدمة في نظرية الأدب / 8 .
2. نفسه / 28- 29 .
3. احمد أبو زيد / مفاهيم فلسفية في الثقافات الأفريقية التعليمية / عالم الفكر / ع 1 – 1988 / 59 – 60
4. نفسه / 53 .
5. جان برتيس/ المخيلة / 40.
6. فر يدريك كارل ارنكتون/ الرمز والأسطورة والشعائر في المجتمعات البدائية/ عالم الفكر/ ع4-1979/183.
7. هوبير ديشان/ الديانات في أفريقيا السوداء/ 102-103.
8. مفاهيم فلسفية في الثقافات الأفريقية التقليدية/ عالم الفكر: 14، 1988/50.
9. عبد الفتاح محمد احمد/ المنهج الأسطوري في تفسير الشعر الجاهلي/ 17.
10. روبرت فورنو/ الشعوب البدائية/ عالم الفكر/ ع 4: 1979/206.
11. الديانات في أفريقيا السوداء/ 32-33.
12. أشلي مونتياغو/ البدائية/ 201.
13. ينظر روبين كولتجوود/ مبادئ الفن/ 17.
14. الفن والمجتمع عبر التاريخ/ 20-21.
15. مبادئ الفن/ 17-18.
16. الفن والمجتمع عبر التاريخ/ 53-54.
17. عز الدين إسماعيل/ الفن والإنسان/ 18.
18. الفن والمجتمع عبر التاريخ/ 52.
19. عبد الحميد زايد/ خصائص الفن المصري القديم/ عالم الفكر/ ع 4، 1978/ 14.
20. مبادئ الفن/ 23.
21. البدائية/ 207-208.:

رأي واحد حول “السحر المضـاد:دراسة أنثروبولوجية في المكونات الأولى للقناع ج1”

التعليقات مغلقة.