د.عبدالستار البدراني
في التاريخ الأول كانت المظاهر والظواهر الروحية والثقافية والفنية في دائرة الممارسات العملية النفعية المباشرة، فإذا تضمن منتج ما تشكيلا جماليا وكان غير مقصود، فان هذا العمل كان (جماله في نفعه). وفي التاريخ الثاني برزت الظواهر والمظاهر الروحية والثقافية والفنية ناضجة مستقلة عن الممارسات العملية النفعية المباشرة ” (23).
استطاع الإنسان البدائي في نمطه الثقافي ان يجسد نظام حياته في فعله اليومي لاغياً المسافة بين المجرد والتطبيقي، حتى انه ” نقل الشكل الإنساني والخصائص المميزة للإنسان إلى قوى الطبيعة الخارجية، ونسبتها إلى الكائنات الأسطورية (الآلهة والارواح) ” (24) ، لكن هذه الثقافة لا يمكن ان تفهم إلا بالاتصال في الإنتاج البدائي والتعرف على جذوره ومواده وخصائصه ووظيفته، ويظهر هذا الأمر على الأغلب في الأقنعة التي ترتقي إلى مستوى الأخبار المنخول من الدلالة الطبيعية إلى الدلالة الاجتماعية، باعتبار المتصور الذهني في مجموعة بشرية تحمل في هاجسها الثقافي نشاطاً تصورياً مشتركاً، ومن الضروري ان تفهم الأسباب التي تقف وراء التقنع، غير ان الأقنعة على الأغلب تستخدم لإثارة أو تهدئة الأرواح، ولكن السؤال المهم هو كيف عمد الإنسان إلى لبس القناع؟ تقول إحدى الأساطير:
في منتصف الليل
بعد يوم صيد رديء
وكان الرجل جائعاً في فراشه
سمع شيئاً يتحرك بالقرب من كوخه
ركض خارجاً فوجد الحيوان المارد الذي قتله
كان يوجد لحم كاف لكل فرد في القرية
ولكن هناك اثنين لم يلحقوا بالوليمة…
المرأة التي ولدت في تلك الليلة
وزوجها.
في اليوم التالي وعندما كان الرجال ينطلقون للصيد
ظهر الشيطان لابساً قناعاً في قشرة الأشجار في كوخ المرأة
اخبرها أن القرويين قتلوا وأكلوا ابنه
وهو يجب ان ينتقم
قال لها الشيطان، أنها وزوجها وطفلها سيكونون في أمان.
واخبرها ان تجمع القشرة من شجرة معينة
في تلك الليلة جاء الشياطين وقتلوا كل قرويٍ ما عدا الثلاثة الذي أخفوا وجوههم خلف القشرة.
الآن اصبح معروفاً ان ارتداء
قناع القشرة.
هو حماية كافية ضد الشياطين،
لان من يرى صورته، وجلده
هل يستطيع تدمير جنسه. (25)
ليس غريباً ان يترتب على قتل (الحيوان/ الطوطم) خطيئة كبيرة يدفع ثمنها الصياد، ومن اكل معه من لحم الطريدة، ويظهر عموماً ان الصيد في هذه القصيدة كان ابناً للشيطان، الذي اندفع إلى الانتقام من أهل القرية جميعاً باستثناء المرأة التي ولدت وزوجها وطفلها لأنهم لم يأكلوا من لحم ابنه أولاً، ولانه علمهم على الطريقة التي يدرؤون بها غضبه، وهي ارتداء قناع من قشور شجرة معينة شبيه بالقناع الذي يرتديه الشيطان، فتكون بهذه الحالة دلالة القناع واضحة في ان مرتديه هو من جنس الآخرين الذي يرتدون نفس القناع، ولذلك لا يتعرض للعقاب أو الألم الذي يصيب الآخرين، وهذا تعميم تجده في كل الثقافات البدائية التي تؤمن أو تعتقد بتأثير الروح، وتعتقد كذلك بان أصولها حيوانية فارتكاب المحرم يحتاج إلى عملية تطهير، قد تختلف من مكان إلى آخر ولكنها في جوهرها وغاياتها واحدة، وقد جرت العادة على عمل الأقنعة من خشب الأشجار الحية التي تهيئ للأقنعة قوة الحياة أيضاً، وما دام يعتقد ان القناع المنحوت، اصبح ملك الروح التي يمثلها، فلا بد من العناية الضرورية كي لا تصاب الروح بأي أذى وحين يضع الطبيب أو الساحر القناع على رأسه، فانه يفقد هويته عندئذ ويتقمص هوية الروح ” (26). يتوحد في سحر الأقنعة ويستقطب حوله وجوه أولئك الذين رحلوا، حتى يعودوا الى ساحة الفعل يغنونها بطاقة روحانية على تجاوز العقبات، ومواجهة الاخر المخيف الذي يشكل نوعا من الفعل المضاد للنمو الكوني بكل تفصيلاته الصغيرة والكبيرة، وكأن الأشكال المجسدة في أقنعة متنوعة المواد، هي التي يعمل من خلالها السحر فإذا وقع على الشيء المصنوع مكروه، فأنه يصيب الشيء الموجود في الطبيعة بالقوة نفسها، لذلك كانت الأقنعة ” وسيلة من الوسائل التي ساعدت الإنسان البدائي على كشف ظواهر الطبيعة وتطويرها طبقاً لأهدافه لكي يخضع واقعه الطبيعي والاجتماعي لمصالحه وغاياته، فهو يسعى لتحقيق حريته وكمال حريته لا يتم إلا بقدر ما يعرف الإنسان من القوانين الموضوعية المتحكمة في عالمه النفسي الداخلي، والمفسرة لحركة المجتمع والطبيعة، وهذه المعرفة لا تأتى إلا عن طريق صور التعبير الثقافي، وأشكاله والعمل الفني يشكل الموقف ويعيد بناء الواقع وصولا إلى جوهر الواقع نفسه، وانه يقهر الضرورة في الواقع ليصل بهذا الواقع إلى الحرية ” (27)؛ قاعدة الانطلاق من عقال الخوف تقوم إذاً على أساس التوحد في وجه اخر يمثل قوة ما في هذا الكون الهائل، قادرة على الشروع في مواجهة تدفع عن الإنسان هواجسه وتحقق له الاندماج الكلي في (الاله)؛ ذلك ان البقاء في حالة الوعي يعني الإحساس العالي بالذات المادية، الإحساس (بالأنا) يعني ديمومة الخوف في مواجهة العالم؛ لذلك لجأ الإنسان إلى الاندماج بوسائل مختلفة، فنجد مثلاً ” وصفاً حياً في عابدات باخوس
Bacchae … يتجلى في وصف تأثير الليل، والمشاعل المحترقة في الاعشاب، والمشروبات الكحولية التي تقدم على أنغام الفلوت، ودقات الطبول المرعبة التي تصيب أعضاء الجسد بالرعشة وتضطرب العيون امامها، التماسيح وهي متشابكة، مخلوقات في لباس جلود الظبي، مخلوقات غريبة ونصف آدمية … كل هذه الصور ما هي إلا محاولات للهروب من قيود الوعي، والانطلاق إلى حالة هي الاندماج في الوجود الإلهي ” (2 ، والاندماج الكلي في (الاله) يعني انصهار في الجوهر، ويعني الوصول إلى المعرفة الكلية التي لا تقبل بالقيم النسبية، وهذا يعني الوصول إلى أعلى درجة في الحرية.
استعملت الأقنعة استعمالاً حيوياً في كل مستلزمات الإنسان، وهذا الاستعمال لم يقتصر على مرحلة تاريخية دون أخرى بل وجد في كل مراحل لتطور الإنساني، تتركب الأقنعة من عناصر تشتق من الطبيعة، ما عدا بعض الاستثناءات، والأقنعة ذات الصفة الإنسانية تصنف كتركيبة (أنثروبولوجية)، وفي بعض الأشكال يرتبط القناع ارتباطاً عضوياً بقسمات الواقع، وفي امثلة أخرى يكون شكل القناع مجرداً، وتمثل هذه الأقنعة عادة كائنات خارقة، أو أسلافاً أو شخصيات ويمكن ان تكون كذلك تعبيراً عن صورة شخصية، وفي كل قناع تتموضع روح خاصة تعتبر سبباً عالي المغزى بالنسبة لوجوده (29) ، فالقناع مكان تسكنه الروح، وتتعدد الارواح بتعدد الحاجات، مثلاً ” عند قبائل (سارا) تقام أعياد دينية زراعية لاله الذرة ولهم اقنعة يلبسونها في الاحتفال الديني الزراعي … ولكل أسرة قناعها الخاص بها ” (30) ، ويلاحظ كذلك وجود هذا النوع من الاقنعة عند ” هنود (زوني) و (هوبي) فهم ينحتون أقنعة تمثل ارواح الموتى أو المناخ أو اشياء اخرى من الطبيعة كالماء والأشجار والحبوب التي هي من المصادر الرئيسة للغذاء. هذه الارواح تسمى (كاتشينا) ويعتقد أنها تزور القرى في مناسبات معينة، ولذلك يتقمص الراقصون شخصية هذه الارواح عن طريق وضع أقنعة مناسبة، ويعتقد هنود قبيلة (بويبلو) شأنهم شأن قبيلة (الايروكوا) أن الرجل الذي يلبس قناع الروح يصبح الوسيلة التي من خلالها تعمل تلك الروح على الارض” (31)، ولهذه الاقنعة مواكب تسير حسب نظام معد سلفاً، ولكل نوع منها رقصات خاصة تؤدى على حلبة، ولها محاريب خاصة بها تتصل اتصالاً وثيقاً بالشعائر التي تقام طلباً للخصب أو استسقاءً للمطر (32) ، ويعتبر مرتدي القناع في حالة ارتباط مباشر مع القوة الروحية للقناع ” ومن خلال معرفة الدور الطقوسي الذي يقوم به (الدكدك Dukduk والتوبوان Tubuan) في حياة الكارفريني يمكن تصور شكل ال نظام الذي تتطلبه الحياة غير الطقوسية، والتابوان والدكدك قناعان كبيران ومن يجوز على احدهما بعد فترة تدريب طقوسية خاصة وممارسة المناسك والشعائر الخاصة بها يصبح من الرجال الكبار. ويشكل التابوان رمزاً للانوثة، اما الدكدك فهو يرمز للرجولة ” (33) ، وهناك ما يسمى بقناع (كومو) وهو فضيع المنظر يدخل الرعب في القلوب. عبارة عن رداء اسود اللون له ذراعان ينتهيان بمخالب مسمومة … فاذا حنث احدهم بيمينه وباح باسرار الجمعية جرح بمخلب القناع وقضى نحبه (34) ، وفي هذه الطقوس نجد تحديداً ما يسمى (بالقناع الاكبر) وهو عندهم ” حامل روح الجد الأول للقبيلة وفي الاحتفال به يخصصون جماعة من المراهقين حملة الاسرار الدينية لخدمة هذا القناع وصيانته، والقناع عبراة عن تمثال من الخشب يمثل افعى هائلة تنتهي برأس دقيقة، ويضحّى عندئذ بحيوان وطير، لتنتقل روح تلك الضحايا وتحل في تلك الأفعى الخشبية فتدب فيها الحياة ” (35) ، ” والقناع الكبير – هو رئيس السحرة والكاهن الاكبر والطبيب الاكبر في القبيلة ” (36) ، وقد لوحظ ان قبائل (البو شيمان) الرحل الذين يعيشون على الصيد والقنص يمتزجون بالطبيعة، وهم لهذا السبب يمجدون الحيوان باعتباره اخاً للانسان أو توأمه وهو الذي يحمي القبيلة ويرعاها (37) تشارك هذه الاقنعة في المراسيم الخاصة بالدفن والمأتم، فمثلاً يشارك التابوان والدكدك في حلقات رقص خاصة تقام لطرد الارواح، وروح الميت بالذات فيلجأ الرجال الى قتل الاقنعة قبل وليمة معدة سلفاً لكي تنطلق ارواحها من عقالها .(38)
الاقنعة طقوس دينية تختزن من الاسرار شيئاً كثيراً لا يمكن حصره في صفحات قليلة لما فيها من التنوع الحضاري ومواصفات الانتاج، والارتباط بأنساق ثقافية أكثر تعقيداً وتشابكاً من الهيئات التي وجدت فيها، ولكننا على الرغم من هذه التعقيدات نستطيع أن نقول:- إن الاقنعة التي يرتديها الساحر أو الكاهن تعني مصدراً من مصادر القوة التي تحقق للانسان استقراره وبهجته لا سيما حين يتخلص من مصادر رعبه عن طريق هذه الاقنعة التي تمتص الارواح الطيبة وتطرد الارواح الخبيثة، وتساعد على إنجاز كل المشاريع التي تتعلق بالخصب والنماء، ولاعبرة بنوع المادة المصنوعة منها، ولكنها في الاغلب خشبية، ويمكن أن تستخدم هذه الاقنعة لاقامة شكل من اشكال التوازن في المجتمع، وهذا ما يحدث في حالة قناعي (الدكدك، والتابوان) فهما يمثلان حالة التوازن بين الرجال والنساء، كما أنها تشكل وسيلة للتطهير تساعد الإنسان على التحرر مما يعتريه من قلق في مواجهة الكون، غير اننا لا نستطيع أن نقول بيقين كامل أن وظائف الاقنعة متشابهة؛ لان الاقنعة متشابهة، فما يوظف له قناع في ثقافة معينة، ويعطي دلالة مستقرة في هذه الثقافة قد لا نجده في ثقافة أخرى مع انها توظف القناع نفسه. هذا الامر لا يحسمه الا الدخول في حوار طويل مع الجذور الميثية التي شكلّت ثقافة معينة قديمة كانت أو حديثة، ولا يخفي أن الاقنعة وسيلة اتصال عالية التأثير بين النظامين المادي والروحي، بالرغم من الاحساس بوحدة هذين العالمين. والقناع استعادة لروح وبثها في العالم من جديد وبشخص جديد. وهي تعكس علاقة اسطورة سحرية لها القدرة على السيطرة في عالم الطبيعة.
الهوامش:
23. عبد المنعم تليمة / مداخل الى علم الجمال الادبي/ 46.
24. روزنتال ويودين/ الموسوعة الفلسفية/ 469.
25. عبد الحسين صنكور/ من أساطير الهنود الحمر في أمريكا اللاتينية/ الطليعة الادبية/ ع 10 – 1979/9.
26. ديانا ووفتر/ الفن الهندي في امريكا الشمالية/ فنون عربية/ ع 7 – 1982/ 125.
27. مداخل الى علم الجمال الادبي/ 85-86.
28. رأفت سيف/ الديانة اليونانية القديمة/ البيان/ 292: 1990/ 45.
29. الديانات في أفريقيا السوداء / 63.
30. الفن الهندي في أمريكا الشمالية / 126.
31. الديانات في افريقيا السوداء/ 55.
32. Britannica/ 586.
33. الرمز والاسطورة والشعائر/ عالم الفكر/ 191.
34. الديانات في افرقيا السوداء/ 78-79.
35. نفسه/ 54.
36. نفسه/ 23.
37. انظر نفسه/ 108.
38. انظر الرمز والاسطورة والشعائر/ عالم الفكر/ 193-194.