نحو رؤية سوسيو – أنثروبولوجية
محمد جحاح*
تـقديم:
لقد ارتبط ظهور التصوف وتطوره- كتجربة دينية- بفكرة الموت، بل أكثر من ذلك، فقد اكتسى مفهوم الموت لدى المتصوفة أبعادا فلسفية عميقة، سيكون لها- بشكل أو بآخر- نتائج وامتدادات على مستوى الحياة الإجتماعية والسياسية أيضا. وقد مـيز هؤلاء بين شكلـين من الـموت: موت طبيعي/ فيزيقي وموت صوفي/ رمزي، وهــو الأرقى- باعتباره شكلا من أشكال التوحد و)الفناء في الله (. ومن أهم ما يميز هذا التصور، أنه لا يقيم أي تعارض بين الموت والحياة؛ بحيث تتلاشى الحدود بينهما- على امتداد المعراج الصوفي – ليصبح الفناء أو الموت الصوفي، هو إيذان بحياة جديدة وشكل متجدد من الوجود. فكيف يتجسد ذلك على مستوى الخطاب والممارسة الصوفيين؟ وما هو المنطق الذي تتأسس عليه هذه الممارسة؟ وهل هناك استراتيجية ما تحكم وتوجه تلك الرحلة الصوفية (المعراج الصوفي(، التي نعتبرها بمثابة رحلة موت من أجل إحقاق ولادة جديدة ؟ وبالتالي، من يكون هذا المولود الجديد المبحوث عنه ؟ وكيف يتم تمثله كحضور على مستوى المجتمع ؟ وأخيرا كيف- وفي أية شروط- يتم الإنتقال والإرتقاء بالممارسة الصوفية من مستواها الروحي/ الرمزي إلى مستوى زمني ؟
لعل هذا ما حاولنا أن نجيب عنه، من خلال محاولة استنطاق الحقل الرمزي للممارسة الصوفية ، وما ارتبط بها من تمثلات اجتماعية. والمقال التالي هو محاولة متواضعة في هذا الاتجاه.
في الواقع، إن دراستنا لظاهرة التصوف، وما ارتبط بها من مفاهيم ومعتقدات وممارسات؛ هي محاولة، بقدر ما يمكن اعتبارها مغامرة للعقل من داخل مجال هو نفسه يستثني العقل وينبذه، بقدر ما تبقى- وفي حدود معينة- مساهمة طموحة في البحث من وراء تكلسات “الديني” و “الخارق” عن منطق سوسيولوجي ناظم وموجه. وهذا المنطق بالطبع، هو الذي يمكن أن نفهم على أساسه مختلف ” الأصناف والأفكار التي ينظر من خلالها الأفراد إلى العالم، وتشكل رؤيتهم“. وعلى هذا الأساس إذن، فإن أية محاولة لفهم، أو بالأحرى إعطاء مضمون سوسيولوجي ـ تاريخي لمفهوم “الصلاح”؛ تبقى في اعتقادنا مرتهنة بعملية حفر اركيولوجي** في بنية التمثلات الثقافية والرمزية لشخصية الصالح، سواء كتمثل ذاتي “داخلي”، وهذا ما يقدمه الصالح عن نفسه هو من خلال المرجعية الصوفية ***، أو كتمثل اجتماعي موضوعي كما تجسده نظرة المجتمع إليه وتصوره له. والتمثل بالطبع لا يتم إلا عبر عدد من الرموز والدلالات والمرجعيات، التي ليس “الديني” و “اللغوي” إلا عنصرا من عناصرها.
من هذا المنظور إذن، فعملية التمثل تظل مرتبطة اشد الارتباط بعملية التأويل؛ والتأويل في حد ذاته يظل محكوما ومرهونا بالسياق (الاجتماعي / التاريخي) للفاعلين الاجتماعيين، من حيث هو محاولة إنتاج وإعادة إنتاج للمعنى. وفي هذا الإطار، فقد أكدت الدراسات الأنثروبولوجية والسوسيولوجية أيضا2 ، بأن إعطاء المعنى يظل دائما محكوما بالحقل الاجتماعي، وبشكل أكثر دقة، برمزيات هذا الحقل3 . كما اعتبر ”الرمز عنصرا من العالم الإنساني للمعنى“4. وهكذا، فإن البحث يجب أن يتركز حول المجتمع ذاته، فهو المرجع الأساس لتفسير كافة أنماط الفعل الإنساني؛ مما يجنبنا السقوط في مأزق التفسيرات الميتا –اجتماعية méta – sociales 5.
إن كل تمثل إذن، ينتظم وفق منطق محدد، وهذا المنطق هو ما نسعى إلى الإمساك به، وضبطه من داخل حركة الصلاح maraboutisme كحركة صوفية بالأساس، وكشكل من أشكال الممارسة والفعل التاريخيين. فإذا كانت الظاهرة قد تبدو ـ إذا ما نحن اكتفينا بالمرجعية المناقبية ـ مكثفة لكل أشكال الخارق والخرافي و “الغير عقلاني”؛ فإنه وخلف هذه الأشكال والتكثفات، يمكننا الإمساك بمظاهر “عقلانية”؛ خاصة، عقلانية تسعى نحو ” الانفتاح على حقل الممكنات، وراء التكثفات المجمدة التي يفرضها الواقع“ 6. ولئن كانت الممارسات والمعتقدات التي أفرزها الحقل الصوفي بالمغرب، ودون استثناء، قد لا تحيد عن قاعدة الغموض والالتباس، – مما قد يوحي بغياب تام للمعنى – فإن التحليل السوسيولوجي و الأنثروبولوجي أيضا قد يثبتان العكس تماما؛ على اعتبار أن أية ممارسة أو فعل، بما فيها الممارسة الصوفية – كتجسيد لظاهرة (دينية ـ اجتماعية)- هي ذات معنى ودلالة لدى ممارسيها7. وأنه لا يمكن فهمها وضبط منطقها الخاص، إلا من خلال السياق السوسيو- تاريخي الذي تحرك فيه هؤلاء الفاعلون، وتفاعلوا معه.
وفق هذا التصور إذن، يمكن العودة إلى المجتمع ومحاولة فهمه في تاريخيته، على اعتبار أن التصوف قد ندركه كجزء لا يتجزأ من هذه التاريخية. ولئن كان مفهوم التاريخية l’historicité هذا، – وكما صاغه (ألان توران) – قد يعني تلك القدرة التي يمتاز بها كل مجتمع، على إنتاج ذاته باستمرار، وذلك عبر إنتاج و تحديد حقله الاجتماعي والثقافي، ووسطه التاريخي الذي يميزه 8 ؛ فإن ظاهرة الصلحاء باعتبارها شكلا من الأشكال الاجتماعية للممارسة الصوفية، قد توجد وتفهم في صلب هذه التاريخية. إن مقاربة الظاهرة الصوفية في تاريخيتها إذن، قد تعني لدينا البحث من وراء “الديني” و “الميتولوجي” عن ذلك المضمون التاريخي والسوسيولوجي للظاهرة. أمام هذا التعقيد الذي يسم الظاهرة إذن، وأمام تداخل وتمفصل أبعادها ومستوياتها، فإن المطلوب هو تظافر جهود كل من التاريخ، السوسيولوجيا والانثروبولوجيا لرصد الظاهرة في مستويات تداخلاتها تلك. وربما بفضل هذا، يمكننا الوقوف على ما اصطلح عليه مارك بلوخ : Marc Bloch ب » المناخ الاجتماعي الكلي« 9 l’ambiance sociale totale- – للظاهرة.
انسجاما مع ما تقدم، فإننا سوف نعمل على تقديم خطاطة عامة حول أهم مستويات ومسلكيات الممارسة الصوفية. هذا من جهة، ومن جهة ثانية سوف نعمل على رصد بعض رموز ودلالات من داخل هذه الممارسة، والتي نراها تكثف بشكل أو بآخر عناصر سلطة (رمزية ـ روحية)، هي ما سوف تستثمره حركة الصلحاء في إطار ممارستها وأنشطتها المختلفة ـ وإن كان تنظيم الزوايا فيما بعد ـ هو الذي سيستثمر، وبشكل جيد، رموز هذه السلطة ويعطيها أبعادا (سياسية ـ زمنية) واضحة المعالم.
1- قواعد ومسلكيات التصوف : فكرة عامة
إن للممارسة الصوفية كما هو معلوم، قواعد وضوابط ومسلكيات خاصة. ومن هذا المنظور، فقد اعتبر التصوف علما قائما بذاته، له مناهجه الخاصة به وطرقه في الرؤية والتشخيص. فهو علم يقوم على أساس الذوق والكشف واستكناه الحقيقة في باطنها. وهذه مهمة ليس للعقل فيها أي منفذ، ” لأن العقل لا يعرف إلا ما يقع عليه الحس، أي لا يعرف الأشياء إلا في ظواهرها، أما الأشياء في حقائقها وكنه وجودها، فمن وراء طاقته أبدا“ 10. وقد اعتبر المتصوفة بأن مصدر المعرفة الحقيقية هو القلب ؛ وعن طريقه فقط يمكن الوصول إلى ” الحقيقة في معدنها“ 11.
ربما هذا ما يفسره ” ميل أهل التصوف إلى العلوم الإلهامية دون التعليمية“ 12. أما على مستوى آخر، مستوى الممارسة الصوفية كممارسة روحية تعبدية، فقد حدد (الإمام الغزالي) ـ كواحد من كبار المتصوفة ـ طريق التصوف في : ” تقديم المجاهدة ومحو الصفات المذمومة وقطع العلائق كلها والإقبال بكنه المهمة على الله تعالى، ومهما حصل ذلك، كان لله هو المتولي لقلب عبده والمتكفل له بتنويره بأنوار العلم، وإذا تولى الله أمر القلب فاضت عليه الرحمة وأشرق النور في القلب وانشرح الصدر وانكشف له سر الملكوت“ 13. وإذا كان هذا النص يعطينا فكرة عامة حول “طريق التصوف”، فإن هناك مسلكيات ومراحل محددة لسلوك هذا الطريق، كطريق موصل إلى الله. ولعل هذا ما تجسده “الأحوال” و “المقامات” الصوفية التي وضع فكرتها (ذو النون المصري).
إن خلاصة ذلك إذن، هي أن ” طريق الوصول إلى الله شاق وعسير، يجب أن يتدرج فيه المريد في مراحل يسلم بعضها إلى بعض، ولذلك سموا السير في الطريق سفرا وحجا، وسموا السائر سالكا“ 14. وهذه المراحل هي بالتحديد ما يعرف في القاموس الصوفي بالمقامات، فهي إذن، ”مراحل ومحطات يسلكها الصوفي للوصول إلى مرحلة الفناء في الذات الإلهية “.15.والمقامات عند (الشيخ الجزولي) خمسة 16 :
1 التوبة : وتعني الحسم مع الشر والتوق لفعل الخير
.2 الزهد : إذ ” لا تتم التوبة إلا بدفع الدنيا من القلب، ولا تدفع الدنيا إلا بالزهد“.17
.3 المجاهدة : ” والزهد هو بداية المجاهدة ومحو الصفات المذمومة، وبالمجاهدة تتم مخالفة النفس والهوى (…)“.18
.4 المراقبة : و ” هي حفظ الروح من ارتكاب الإثم (…) وهو مقام المتوسطين. (…) إن المجاهدة والمراقبة مقامان مكتسبان للعبد“.19
.5 المشاهدة : وهي ” لأرباب التمكين، ويعتبرها الجزولي مقام المنتهين، وهي جذب ليس للعبد فيه اكتساب “.20
هذا بخصوص المقامات الصوفية، أما فيما يتعلق بالأحوال فهي أيضا عند المتصوفة غير ثابتة ومحددة، سواء من حيث الترتيب أو العدد، بل أحيانا قد تتداخل المقامات بالأحوال. ويمكن إجمالها في: ”التأمل والقرب، والخوف، والرجاء، والشوق، والأنس، والطمأنينة، والمشاهدة، والتعين“21.
بعد هذا العرض المركز حول أهم خصائص ومسلكيات الممارسة الصوفية، ألا يمكن الوقوف على منطق ناظم لهذه الممارسة ؟ إذ : ما معنى، وما دلالة بعض المقامات والأحوال من داخل الحقل الصوفي ؟ ولماذا ذلك الحضور المكثف لعدد من المفاهيم من قبيل: (التوبة، الفناء، المشاهدة، العودة،…) ؟ أليست هي محطات، أو مراحل ترسم مسار تلك “الرحلة المعراجية” التي يحققها المتصوف عبر مدارج الأحوال والمقامات الصوفية ؟ فما هي دلالات هذه “الرحلة المعراجية” ورمزياتها إذن ؟ وما دلالة تلك العودة الجديدة التي تعقبها ؟
هذه إذن أسئلة من بين أخرى، سوف نحاول إيجاد بعض عناصر الإجابة عنها من خلال ما سيأتي.
2- التصوف بين “ تجربة الموت” والرغبة في “تجديد الولادة”
في الواقع، قد يبدو التساؤل حول أصل ظاهرة التصوف ذاتها ـ كجزء أو مظهر من تجربة دينية 22 ـ له ما يبرره. فهو بمثابة المدخل الذي يمكن الولوج عبره، ومن خلاله، إلى مساءلة البنيات الخفية التي تشتغل بعمق من داخل المنطق الناظم لمسلكيات وطقوس الممارسة الصوفية. وفي هذا الإطار، يذهب أحد الباحثين إلى الربط بين ظهور التصوف وتطوره كتجربة دينية، وبين فكرة الموت، كشعور وكتجربة. فالموت بالنسبة للصوفي هو ” الموضوع المهم الذي يصلح أن يكون باعثا للاتجاه نحو التصوف“.23وقد استدل الباحث بتجربة الغزالي الذي كثف كثيرا فكرة الموت، أو بالأحرى (الخوف من الموت)؛ وما يثيره من قلق وجودي (أنطولوجي)، في إطار فلسفته الصوفية. وعلى هذا الأساس، فقد سعى الباحث إلى تفسير الظاهرة الصوفية كنتاج لتمثلات الإنسان حول مشكلة الموت، وما يعقبها من مصائر تراجيدية .24
لكن، وإذا ما نحن سلمنا مع الباحث بأهمية “فكرة الموت” هذه، فهل هذا يعني أن ينسحب مفهوم التصوف على كافة أشكال الممارسة الدينية ؟ * والتي تتأطر بشكل عام في سياق مقولتي (العقاب) و (الثواب). علاوة على ذلك، هل “الصوفي” وحده هو الذي أدرك ذلك المصير التراجيدي الذي قد يخفيه (عالم ما بعد الموت) ؟ مع العلم أن النص الديني واضح في هذا الإطار.25
إن التجربة الدينية، بمعناها الواسع، هي بالأساس تجسيد خاص لعلاقة الإنسان بالله. وعلى ضوء هذه العلاقة المضبوطة والمقننة يتحدد “الإنسان الديني” 26 كما تتحدد طبيعة سلوكه وممارساته التعبدية، وفق نظام صارم وثابت من ” القوانين الأخلاقية المعيارية التي تفصل بكل وضوح بين الخير والشر“.27
إذن، ليس الخوف من الموت شعور ينفرد به المتصوفة دون غيرهم. كما أن علاقة التصوف بالموت، يمكن أن نفهمها في اتجاه معاكس تماما لما قد يفهمه الباحث. فإذا كان الباحث قد اعتبر “الخوف من الموت” بمثابة الباعث على الاتجاه نحو التصوف، فإننا نرى العكس تماما؛ بحيث أن ممارسة التصوف، هي ذاتها تجسيد لرغبة ملحة في الموت. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الموت الصوفي، هو إيذان بحياة أخرى. فقد يعني الفناء في الله، كشكل من أشكال هذا الموت، هو بداية حياة أخرى جديدة.
على ضوء ما تقدم إذن، فإننا نفترض بأن الممارسة الصوفية، ورغم ما تكثفه من مفاهيم ومعاني الموت، تظل ـ وفي مستوياتها الروحية العميقة- تجسيدا لرغبة مكبوتة في إحقاق “ولادة جديدة”، ولادة لن تتم إلا عبر، ومن خلال الموت . وفي نفس السياق، فقد أثبت الباحث (ميرسيا إلياد)، من خلال دراساته لعدد من أساطير الشعوب ودياناتها- ولم يستثن من ذلك حتى الممارسات الصوفية “الاستسرارية”28– بأن هناك فكرة جوهرية تتمحور حولها هذه الممارسات؛ ألا وهي “الرغبة في التجدد” عن طريق ولادة جديدة. ولادة مسبوقة بموت رمزي29، وهذا ما يسميه الباحث ب “الولادات الصوفية”. إنه شكل من أشكال البحث عن استمرارية مفقودة مع الأصول والبدايات30. وفي حدود هذه الاستمرارية، الكل يحيل على الروحاني، إذ لا وجود لتعارض إذاك بين الروح والجسد31. ولا وجود أيضا لأي شكل من أشكال الاغتراب عن الخالق32.
إنها بالطبع، رغبة في الوصول إلى نمط أسمى من الوجود، ولا يتم ذلك إلا عن طريق ”تكرار الحمل والولادة طقسيا، رمزيا“.33وفيما يلي، سوف نحاول اقتراح (نموذج مثالي) نتوسم فيه تلك الأداة التي قد تساعدنا على الاقتراب أكثر من ذلك المنطق الخفي الذي تنتظم وفقه وعلى أساسه الممارسة الصوفية في تعقدها وتشابك مستوياتها وأبعادها. وقد اخترنا التركيز من داخل هذا النموذج على مستويين، نفترض فيهما ذلك التمثيل الجيد لباقي المستويات الأخرى :
-المستوى الأول: (مرحلة المخاض الصوفي).
-المستوى الثاني: (مرحلة الولادة الجديدة).
2 – 1. نحو نموذج مثالي للممارسة الصوفية
إن هذا النموذج المثالي Idéal type إذن يعتبر في تقديرنا، الأكثر تمثيلا للممارسة الصوفية ـ على تعدد واختلاف مسلكياتها (أحوال ومقامات). كما نعتبره أيضا، الأوسع دلالة من داخل الحقل الصوفي ومن خارجه أيضا، كالتقاء وتقاطع مع حقول أخرى من الممارسة (الاجتماعية، السياسية…). والنموذج المثالي بهذا المعنى، وكما حدده ماكس فيبر : Max Weber، وطبقه كأداة منهجية في دراساته حول: أنماط السلط، وتصنيفه للمجتمعات البشرية ولظاهرة التمدن وأنماط الفعل الإنساني؛ 34هو نموذج يقوم على أساس ترتيب وتصنيف مجموعة خصائص وسمات تعتبر الأكثر دلالة وتعبيرا عن واقع الظاهرة المدروسة. وهو من هذا المنظور، ليس وصفا للواقع، بل أداة تساعد الباحث على وصف الواقع. وليس اختزالا للواقع أو استنساخا له، بل هو مجرد نموذج مثالي يحاول الاقتراب من ذلك الواقع قصد فهمه. وهو ليس فرضية، بل يساعد الباحث على صياغة الفرضيات. كما أنه ليس مفهوما بل هو إطار يساعدنا على صياغة وتطوير المفاهيم. ولعل القيمة العلمية للنموذج المثالي* تكمن في طبيعته المرنة، وانفتاحه على غنى وتنوع الظاهرة، من خلال رصد أهم السمات والخصائص العامة والمشتركة ـ المفترض أنها مكمن المعنى الذي نبحث عنه من داخل الظاهرة-.
في إطار الممارسة الصوفية إذن، وإذا كانت (فرضية العودة إلى الأصول) ـ كعودة محكومة برغبة في تجديد الولادة ـ لها ما يؤكدها من داخل مسلكيات التصوف، فإنه ينبغي التذكير أيضا، بأن هذه الفرضية لا يمكن فهمها إلا على ضوء فرضية أخرى، وهي (فرضية الذنب المؤسس للوجود البشري على الأرض). بحيث سيحظر هذا الهاجس “الذنب” بشكل لافت من داخل الممارسة الصوفية. بل أكثر من ذلك، سوف يشكل القوة الدافعة، التي تفسر منطق تلك “الحرب المرتدة” التي يخوضها المتصوف ضد نفسه- في إطار تجربة صوفية عسيرة- . فماذا عن هذه التجربة إذن ؟ وماذا عن المنطق الذي يحكمها ؟
من منظور ديني، قد يبدو العالم “الدنيوي” منقسما على نفسه، تتنازعه قوتان متصارعتان، وهذا ما تجسده فكرتا (الخير) و (الشر). فـ ” على الرغم من بعض الاختلافات فيما يتعلق بالتصورات الخاصة للخير والشر، فإن معنى هذا التعارض الجوهري، ومداه كونيان“.35وقد وقف الباحث (ميرسيا إلياد) مليا على هذه الفكرة، في إطار دراساته حول عدد من الأديان والأساطير، وفي حضارات مختلفة. بحيث أن وجود الإنسان في هذا العالم الدنيوي ” الفاني” كان نتيجة لضعف أمام قوى الشر، أو خطأ ارتكب من طرف أب أو ” سلف ميطيقي؛ وهذا ما أضاع على الإنسان نعمة الخلود“،36و “حميمية العالم العلوي” كعالم للحقيقة والخير المطلقين37. لعل هذا ما يذكرنا أيضا بقصة “آدم” مع “إبليس” كما جاء في » القرآن الكريم« 38 .
من هذا المنظور إذن، فإن هناك ذنبا مؤسسا للوجود البشري على الأرض. وجود يمكن اعتباره كـ (ضريبة) عن خطإ ما. خطأ سيرسم البدايات الأزلية لتراجيديا “الإله المفارق“39. كما أن هذا الوجود، هو وجود محكوم بتنازع مستمر بين هاتين القوتين الأزليتين : (الخير والشر). وإذا كانت مقولة الشر في الديانة الإسلامية قد تأتي مرادفة لـ “الشيطان”، فإن التصوف الإسلامي قد أعطى مضمونا فلسفيا وعمليا لذلك الصراع الذي يخترق النفس الإنسانية. وحدد بذلك السبل والمسلكيات لقهر ذلك الشر (الشيطان)* .
ليس بغريب إذن، أن يرتبط التصوف في الإسلام بالإلحاح على موضوع “النفس” ؛ وضرورة تطويعها ومراقبتها. ويبقى هذا النص للإمام الغزالي جد ناطق في هذا الإطار : ” اعلم أن أعدى عدوك، نفسك التي بين جنبيك، وقد خلقت أمارة بالسوء، ميالة إلى الشر، فرارة من الخير، وأمرت بتزكيتها وتقويمها، وقودها بسلاسل القهر إلى عبادة ربها وخالـقها، ومنعها عن شهواتها وفطامها عن ذاـتها (…)“.40 وفي حديث نبوي أيضا، فإن ” الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم“.41
إن المطلوب إذن، هو خوض حرب ارتدادية نحو الذات، لقتل ذلك الشيطان الذي يسكنها ويتملكها . وتلك هي فكرة المجاهدة في التصوف؛ مجاهدة تبدأ بإعلان التوبة أولا. وقد اعتبر المتصوفة “مقام التوبة” ”هو الأرض بالنسبة لجميع المقامات، فكلها مبنية عليه“.42ولعل هذا ما يؤكد أكثر، فرضية الإحساس بالذنب من داخل الممارسة الصوفية، كممارسة تنشد التخلي نهائيا عن كل وسائط الارتباط والانشغال بالدنيوي، ومحاولة السمو نحو الأعلى. إنه شكل من أشكال القتل الرمزي (للجسد) باعتباره المركز الذي تتقاطع من داخله كل وسائط الارتباط تلك، باليومي (le quotidien) وبالزمن التاريخي43. وكل هذا يمكن اعتباره جزءا من استراتيجية عامة ـ غير مصرح بها، في إطار الممارسة والخطاب الصوفيين ـ هي ” استراتيجية المحو الطقوسي للجسد”،44 ومحاولة السمو بالروح*. وربما هذا ما يفسر تمثل العامة لجسد الولي الصالح، كجسد لايتفسخ بعد الموت. لانه أصلا لا جسد له ، لقد حسم معه أثناء حياته ، مارس في حقه القتل و المحو . كما أن جسد الولي الصالح وفق ذات التمثل اشمل و ابعد من أن يختزل في عضويته. في هذا الإطار إذن وفي نطاق إحالتها على الروحي، فإن حقيقة الإنسان هي » حقيقة مقدسة« ،45 وهذا “التقديس” بالذات، هو ما كان ينشده “الصوفي”، بل هو “الرأسمال الرمزي” الذي سيكسبه عبر رحلته المعراجية، والذي يفسر “سر” هيبته ونفوذه الروحي.
في الواقع، لا يمكن فهم، أو بالأحرى تتبع مسار تلك الرحلة المعراجية التي يقوم بها “الصوفي” – بحثا عن إحقاق ولادته الجديدة تلك، كولادة روحية – إلا من خلال مفهوم “الخلوة” أو “الاختلاء”. فهذا الأخير، يكتسي بعدا جوهريا في صلب الممارسة الصوفية، باعتباره من جهة، يشكل واقعا حميميا وجزءا لا ينفصم من سيرورة ذلك المخاض الصوفي العسير، ومن جهة أخرى، فإن مفهوم “الخلوة” يصبح مؤشرا على تحول ما، انتقال ما؛ وهنا بالذات يمكن الحديث عن دور “العتبة”. ففي مستوى أول تعتبر “الخلوة” أو “الاختلاء” كعتبة للانتقال من : (الاجتماعي) إلى (النفسي)، من (الزمن التاريخي) – زمن الناس العاديين- إلى (الزمن السيكولوجي) الداخلي. ويوازي هذا الانتقال، على مستوى ميداني، هجرة المتصوف من المجتمع والانكفاء إلى “رحم” قد يحتضنه طيلة فترة المخاض تلك، إلى حين إنضاج شروط ولادته الجديدة. أما على مستوى ثاني، فقد تعني العتبة هنا، ذلك (المجال) وتلك (اللحظة) الذين يسبقان زمن الولادة الصوفية*، وفي نفس الآن يعتبران بمثابة إيذان على حدوثها. وهنا بالذات يكون المتصوف قد وصل، في إطار “معراجه الصوفي” إلى عتبة “الصعود والانتقال من (مقام المجاهدة) إلى (مقام المشاهدة). إن المشاهدة إذن هي إعلان عن نهاية الرحلة الصوفية، وإيذان ببداية رحلة أخرى معكوسة، عودة جديدة وشكل جديد للوجود. وفيما يلي سنحاول تقديم فكرة حول أهم العناصر الدالة من داخل هذه المسيرة الصوفية، التي يمكن أن نقول عنها أنها : “مسيرة موت” لإعلان “ولادة جديدة” وشكل متجدد للوجود. ولن يكون الشكل المبحوث عنه من خلال هذه “الولادة الصوفية” إلا ذلك (الولي / الصالح)، الذي تولاه الله وانكشف له سر الملكوت46.
2 – 2. مرحلة “المخاض الصوفي” أو الانكفاء إلى الرحم
لقد اختار المتصوفة مجالات خاصة لممارسة “خلوتهم الصوفية”. ولئن كان المعطى الطبيعي والإيكولوجي يلعب دورا ما في اختيار هذا المجال أو ذاك، فإن البعد الرمزي يبقى هو الأكثر حضورا ودلالة من داخل هذا الاختيار، لما قد يشكله الرمز من أبعاد جوهــرية تؤسس لوجود الإنسان، ولعلاقاته بذاته، بالآخـرين وبالكون47. ومن هذا المنظور إذن، تشكل الرمزية العامة (symbolique générale) قاعدة تستند عليها المجتمعات في ضبط وتنظيم علاقاتها مع الطبيعة، الكوسموس والإلهي (Divin)؛ كما تبنين على أساسها العلاقات التي تربط بين مختلف الفاعلين 48، وبينهم وبين المجال.
في هذا السياق إذن، واعتبارا لرمزيتها، فقد شكلت المغارات ـ بالنسبة للمتصوفة- أماكن مفضلة للاختلاء والتزهد، كما هو الشأن أيضا بالنسبة لقمم الجبال وبطون الأودية، وغيرها من “أماكن التجلي” 49 . وليس غريبا أن تكون ” عبادة المغارات ومنابع المياه، ظاهرة مهيمنة في المغرب“. 50فالمغارة، بقدر ما تجسد (رمزيا) عالم التحت (الظلام)، كموطن للجن والأرواح، بقدر ما هي تجسيد لذلك الانفتاح على الخارج عالم (النور). إنها بمثابة عتبات عبور وتداخل بين عالمين متناقضين، عالمين من طبيعة مختلفة تماما، ولعل هذا ما قد يكثفه التصور الكوسمولوجي السائد أيضا. إذ ليس العالم بالنسبة للإنسان ” مجرد بنية مادية مرئية (…) بل هو كذلك بنية لا مادية مكونة من الزمن، ومن الإيقاعات والعلاقات والعلامات المخبوءة“ . 51
على هذا الأساس إذن، ومن وجهة نظر بنيوية، فإن المجال يمكن أن يتأسس وينتظم وفق سلسلة من التقابلات، من قبيل: (الظلام / النور، الأسفل / الفوق، الشمال / اليمين، المدنس / المقدس، المغلق / المنفتح،…)52.
هناك إذن مجموعة من التقابلات التي يمكن أن يكثفها المجال، خاصة بالنسبة للمتصوف. فسواء تعلق الأمر بمغارة أو صحراء أو جبل، فإن الثابت البنيوي الذي يمكن أن نعثر عليه من داخل هذه الرمزية – وإن بأشكال ملتبسة أحيانا – هو ذلك التقابل الجوهري الذي يحيل في مداه وحدوده القصوى على تعارض أزلي بين : “الخير” و “الشر”، “المقدس” و “المدنس”. وعلى أساس هذا التعارض، يمكن فهم أقطاب الثنائيات الأخرى؛ كما أن الممارسة الصوفية ذاتها، لا يمكن فهمها إلا من خلال، وفي إطار ذلك التعارض التراجيدي والرغبة الملحة في إلغائه أنطولوجيا. ومن هذا المنظور، تبدو رحلة المتصوف المعراجية، هي أولا وقبل كل شيء، رحلة عن عالم “الثنائيات” المؤسسة للوجود البشري، والبحث عن الواحد والمقدس.
يبدو إذن بأن رمزية المكان، أو الأمكنة التي يقصدها المتصوفة لممارسة خلوتهم، قد تكثف بشكل أو بآخر سلسلة من التقابلات التي ربما قد تكون مقصودة لرمزيتها الدالة في هذا السياق. فإذا كانت المغارة قد توحي بتداخل وتقاطع بين عالمين متناقضين، وهذا ما تكثفه رمزيات التقابل بين (الظلام / النور)، (التحت / الفوق) و (الداخل / الخارج)؛ فإن الصحراء أيضا قد توحي في امتدادها اللامحدود، بفكرة الالتقاء الأفقي بالسماء والالتصاق بها، مما يجعل من هذا المجال التجسيد الرمزي لذلك التقاطع بين عالمين متناقضين: عالم الأرض (الدنيا) وعالم السماء (الغيب). وقد تشتغل نفس الدلالة الرمزية أيضا بالنسبة للجبل، باعتباره ذلك الامتداد العمودي نحو السماء؛ والذي يوحي برغبة ما في الالتحام بالفوق، كتجسيد لرغبة ذلك الإنسان نفسه في السمو واستعادة “فردوسه المفقود”.
في إطار هذه التقابلات إذن، وما تكثفه من رمزيات التقاطع والالتقاء بين عالمين يفترض أنهما متناقضين، يمكن فهم رحلة “الصوفي” كرغبة مكبوتة في امتلاك منافذ للصعود، والبحث عن عتبات ومدارج للعروج إلى عالم الفوق، عالم النور، عالم الحقيقة والتوحد. ولن يـكون ذلك الصـعود ممكنا، إلا عبـر هذه التقاطعات53. وهنا بالذات ينبغي فهم الوظيفة السيكولوجية للرمز. فبقدر ما يقدم تلك الإمكانية للانفتاح على عالم الممكنات، فهو أيضا بمثابة تكثيف لـ ” مراحل إجراء تصاعدي سيكو ـ أنطولوجي للاقتلاع من الضيق“.54والضيق الذي يعيشه المتصوف قد يجسده ذلك التناقض التراجيدي، كما أسلفنا، وما يكثفه من ثنائيات.
إن ما يؤكد أكثر دلالات “التوحد” لدى المتصوفة، ما يحضى به العدد الفردي من تقدير وتقديس لديهم ” (…) حيث يرى الخطاب الصوفي أن الواحد هو مصدر الأعداد الأخرى التي تفرعت عنه، لكنها تحن إليه باعتباره منبعها (…) وعكس العدد الـمزدوج المشكل في جل الأحيان من ثـنائـية الخير والشر، الجمـيل والقبيح(…)“.55 هناك إصرار إذن على الحسم مع عالم الثنائيات، والذي يعني في العمق، تأكيدا لرغبة المتصوف في إحقاق ولادته الجديدة. فماذا عن هده الولادة الصوفية ؟ وماهي دلالات اختيار المغارة ورمزياتها في هذا السياق؟
في الواقع، وإذا كانت “المغارة” تشترك مع باقي المجالات الأخرى في عدد من الرمزيات، فإن هناك ما يؤسس لهذا المجال رمزية خاصة أيضا ـ باعتباره ذلك المكان النموذجي لممارسة الخلوة الصوفية-. فبتجسيدها لعوالم مختلفة ومتداخلة أيضا، من قبيل : (الظلام، الداخل، المغلق، الانفتاح على الخارج…) فهي قد تؤدي ـ رمزيا ـ دور “الرحم” الذي سيحتضن ذلك المولود الجديد (المبحوث عنه). هناك إذن ولادة رمزية مسبوقة بتكرار “طقوسي” للحمل56 ، وذلك عن طريق الإنكفاء إلى رحم رمزي. لعل هذا ما يؤكده ميرسيا الياد من خلال النص التالي : ( إن الأساطير و الطقوس الاستسرارية التي تتعلق بالانكفاء إلى الرحم تبرز الحقيقة التالية: ( العودة إلى الأصل) تهيئ للولادة الجديدة. لكن هذه الولادة لاتكرر الأولى، أي الولادة الفيزيائية. هناك بالتخصيص ولادة صوفية جديدة، من صعيد روحي ، بعبارة أخرى ، الوصول إلى نمط جديد من الوجود ) ؟ 57
إن رمزية “المغارة” إذن، ينبغي أن تفهم في هذا السياق كتجسيد لمرحلة “ما قبل الولادة”، مرحلة ما قبل البدء، حيث لا وجود للزمن التاريخي58. وإذا ما حاولنا البحث في البعد الزمني الذي قد تكثفه الممارسة الصوفية، فسنجدها تكرس نمطا خاصا من الزمن، من المؤكد أنه ” يختلف عن زمن الناس العاديين، فلا مجال هنا لإخضاعه لمقاييس الزمن الخطي. فهو زمن نفسي، زمن باطني يخضع لخلجات الصوفي وشطحاته“.59 وعبر هذا الإيقاع الخاص للزمن، يحاول المتصوف إذن أن يستعيد ـ وفي غياهب ذلك “الرحم” ـ حميمية الأصل60،أصل وجوده المتجدد.فكيف يمكن تمثل هذه الولادة الجديدة إذن ؟ وذلك الشكل المتجدد و الأسمى للوجود؟
2 – 3. لحظة “الولادة الجديدة”
في هذا السياق إذن، وانسجاما مع ما تكثفه من رمزيات دالة، يمكن اعتبار مرحـلة) المشـاهدة( ، هي التتويـج الفـعلي لذلك المـخاض- كولادة وخروج إلى النور-61. وإذا ما نحن رجعنا إلى الخطاب الصوفي، ودققنا النظر جيدا في القاموس اللذي ينهل منه، فسوف نجد بأن) المشاهدة الصوفية( قد تعني) انكشافا للحجب( ، كما تعني ) فيضا لأنوار الكمال( و) إشراقا للقلب( . وهدا ما يؤكد أكثر على اقتران المشاهدة الصوفية بمفهوم) النور( . وهنا بالذات- وفي صلب الممارسة الصوفية- تكتسي ثنائية ) الظلام( و) النور( دلالاتها الرمزية أيضا.* بحيث لا يمكن الحديث عن ولادة إلا كانبثاق وخروج من عالم الظلام- والذي يمثله الرحم- إلى عالم النور والإشراق. وحتى من وجهة نظر بنيوية<يمكن مقارنة ظلمات الرحم أو ظلمات كوخ المسارة بالليل الذي كان مخيما قبل الخلق>62.
كما سبقت الإشارة من قبل إذن، فإن الشكل الصوفي لهذه الولادة، هو ما سيجسده “الولي”. والولي في القاموس الصوفي هو الواصل ” الذي وصل إلى مقام المشاهدة“،63 باعتباره ” أعلى مقامات القرب“ .64 وقد يتطابق المعطى المعجمي أيضا مع التحديد الصوفي، من حيث التركيز على معنى القرب هذا65. وإذا كان الشيخ الجزولي قد اعتبر “المشاهدة” كمقام للمنتهين66، فعند حدود هذه “النهاية” إذن، يحدث ذلك الانبثاق أو الولادة الجديدة. ويصبح “الولي” كموضوع لهذه الولادة، هو ذلك الشخص الذي حقق توحده مع الله67 ، وبلغ ” مقام الفردية أو الواحد الذي هو موضع نظر الله في كل زمان. عليه تدور أحوال الخلق، وهو يسري في الكون وأعيانه الباطنة والظاهرة سريان الروح في الجسد “ 68 .
ارتباطا بما سبق، فقد يعني التوحد إذن إلغاءا انطولوجيا لعالم الثنائيات المؤسسة للوجود البشري على الأرض. وفي إطار هذا الإلغاء، يتم إحقاق “التصالح” من جديد بين الإنسان والله. وهنا أيضا يكتسي مفهوم (الصلاح) مضمونه ودلالته، فالرغبة في إحقاق ذلك التصالح لدى المتصوف، هي في العمق تجسيد لتلك الرغبة اللاشعورية المكبوتة في العودة إلى الأصل، إلى ذلك الفردوس المفقود (الجنة). وهنا ينبغي ـ ومن وجهة نظر التحليل النفسي ـ فهم دلالات “طقس الحج” من داخل الكرامة الصوفية، فهو بمثابة تجديد لقوى روحية، ومرحلة تطور نحو النضج والكمال؛ إنه رحيل إلى الله، إلى التطهر وإلى انبعاث جديد 69.
ليس بغريب إذن أن يحظى “الأولياء” و “الصلحاء” بكل ذلك التقدير وتلك الهيبة من داخل المجتمع ؛ وقد شكل مفهوم “البركة” في هذا الإطار، منبع سلطة هؤلاء ـ كسلطة روحية – . وفي هذا السياق يمكن فهم الدلالات العميقة لهذا المفهوم، بالإحـالة على ذات المرجعية الصـوفية التي تجـــعل من “البركة”- وعلى حد تعبـير ادوارد وستر مارك – كعطية إلهية يمنحها * لأوليائه الصالحين، كما تجعل من هؤلاء بمثابة (وسائط) بين الله والبشر.
ولعل دلالات هذا الوضع السلطوي، الذي يتسع باتساع مجالات اشتغال “الصالح” وتدخلاته، يمكن أن نقف عليها بشكل واضح من خلال بنية التمثلات الاجتماعية والثقافية لعدد من الأحداث والوقائع : (مجاعات، أوبئة، كوارث طبيعية وسياسية أيضا…). فهذه الأخيرة كانت تفهم، طبعا، كعقاب إلهي قادم من “الأقاليم السماوية” إثر تأزم أو اختلال على مستوى العلاقة مع الله ولا معياريتها؛ والتي قد تعني في حدودها القصوى مفارقة معلنة له. هنا بالذات تأتي ضرورة تدخل الأولياء والصلحاء، لإعادة التوازنات العامة وتنظيم العلاقة مع الغيب عن طريق “المصالحة” المطلوبة بين الأرض والسماء؛ أو بتعبير أدق بين الإنسان والله70. وتبقى كتب المناقب وتراجم الصلحاء تقدم لنا الكثير من الأمثلة في هذا الإطار، وإن كانت الأسطورة الفعلية لهؤلاء الأولياء والصلحاء، وقدراتهم الخارقة لا توجد في الكتابات المناقبية تلك، بل في عقل الجمهور 71 . وهنا بالذات تأتي قيمة وأهمية) الكرامة الصوفية(- من حيث هي خطاب مرمز، له من القدرة الإقناعية ما يؤهله لاكتساح وإثارة المخيال الاجتماعي لذلك الجمهور.
لقد احتل مفهوم الكرامة الصوفية في هذا الإطار مكانة محورية؛ فهي اللغة التي كان الصالح يخاطب بها جماعته، ويقدم من خلالها نفسه إليهم كـولي من أولياء الله. وهنا ينبغي التأكيد على ذلك الارتباط الوثيق الذي حاولت الكرامة الصوفية أن تؤسس له وتحافظ عليه، كارتباط بالمحلي وما يكثفه من خصوصيات ومعتقدات شعبية، خاصة باعتمادها لغة رمزية تقوم أساسا على إثارة المخيال الاجتماعي المنغرس بعمق في بنية هذه المعتقدات. هكذا يغزو المخيال الواقع و”يقدم نفسه كرجفة حقيقية للفرد من اجل القفز خارج الذات، والإفلات من كل الفوريات Les hic et nunc التي تحاصره” 72 . وفي هذا الإطار، شكلت اللغة الرمزية من داخل الكرامة وضعا أشبه ما يكون بـــــ”إجراءات هروب، ووثبات أو إقلاعات تطلب من المستحيل أن يجعل إنتصارا على الواقع أمرا ممكنا”73 .أما على مستوى آخر، فقد حاولت الكرامة الصوفية أن تحافظ على ارتباطها بما هو أشمل، أي بالدين الذي حاولت أن تجذر من داخله وفي إطاره مشروعية لغتها وخطابها المرمز هذا؛ علاوة على ذلك “فالدين بنصوصه ووظيفته النفسية- الاجتماعية يهيئ الذهن لتقبلها”74 .
بناءا على ما تقدم، يمكننا الخروج باستنتـاج هام، فسواء تعلق الأمر بارتباط الكرامة الصوفية وتجدرها الدينيين كقاعدة للمشروعية، أو بارتكازها- كخطاب إيديولوجي- على الخارق والمدهش، الذي قد يجد طريقه إلى القبول والالتفاف المحليين، فإن الهدف واحد: ألا وهو تكثيف رموز السلطة من داخل حقل الممارسة الصلحاوية Maraboutique،كسلطة روحية/ رمزية بالأساس. لكن، ينبغي التنبيه هنا إلى أنه، ليس بالإمكان فهم طبيعة تلك السلطة الرمزية/الروحية وكيفية اشتغالها، إلا من خلال رصد الحضور التاريخي والمضمون السوسيولوجي لحركة الصلحاء، وذلك بالوقوف على نماذج حية من تاريخ الحركة بالمغرب الوسيط75. ثم الانتقال أيضا إلى مساءلة بنية السلطة من داخل “تنظيم الزاوية”، كأرقى ما شهده تطور الحقل الصوفي بالمغرب؛ خاصة وأن “الزاوية” قد استثمرت بشكل جيد رموز “الصلاح” كرموز سلطة بالأساس.
الهـــــوامش والإحــــالات :
* أستاذ السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا بجامعة مكناس/ المغرب. رئيس مجموعة البحث حول الدين والقيم والمجتمع. مدير مختبر الدراسات والأبحاث في الفلسفة والعلوم الاجتماعية – كلية الآداب والعلوم الإنسانية بنفس الجامعة.
1.ديل ايكلمان : ” بعض جوانب التنظيم السياسي والإقتصادي لزاوية مغربية في القرن 19 “. ترجمة عبد الرحمان الخصاصي , مجلة المشروع, عدد 6 – 1986 .ص.90.
** . نستخدم هذا المفهوم ” أركيولوجي” بالمعنى الذي اقترحه ميشيل فوكو .
*** . تتجسد هذه المرجعية في كتب ( المناقب وتراجم الصلحاء) بالأساس.
2 نحيل هنا على نماذج من هذه الدراسات على كل من :
د . ايكلمان : الإسلام في المغرب. ترجمة محمد أعفيف, دار تو بقال للنشر، الطبعة الأولى )جزئين( .
عبد الله حمودي : الشيخ والمريد، النسق الثقافي للسلطة في المجتمعات العربية الحديثة، ترجمة عبد المجيد جحفة، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى، البيضاء 2000.
- خاصة أن هذا الأخير يبدو متأثرا بمنهج كليفورد غيرتز القائم على أساس (الفهم بالتأويل) كما طبقها في دراساته حول المغرب وأند ونسيا.
- 3. D. Le Breton : Corps et Sociétés – Essai de sociologie et d’anthropologie du corps – Librairie des Mèridiens, Klincksie – ck et cie. Paris 1985 . 24.
4 Ibid , page : 83
- 5. Voir à ce propos , A. Tourain : Pour la Sociologie, Editions du Seuil 1974, PP (14-15) – voir aussi P P (25-54).
- 6. ج . باران : ” الرمز والسحر ” ، (ترجمة فريق م.أ.ق) مجلة العرب والفكر العالمي ،ربيع 1991 ص. .175
7 . لقد أثبتت “المقاربة التأويلية ” من داخل علم الاجتماع والأنثروبولوجيا نجاعتها في دراسة وتحليل انساق الفعل الاجتماعي ، وأنماط المعتقدات السائدة في الثقافات المختلفة . وقد تم التركيز من داخل هذا التوجه المنهجي – في إطار السعي لفهم وتحليل الفعل الاجتماعي – على فهم ” رؤى الفاعلين لما يفعلون ولمعاني أفعالهم ، أي أنه يحلل الرموز المتبادلة في جدلية الاختلاف والاتفاق على مغازي الأعمال والمؤسسات “ – عبد الله الحمودي ” الشيخ والمريد…” ، (م.س) ، ص . .9
– ونشير في هذا الإطار ، إلى أن من أهم ممثلي هذا النمط من المقاربة ، نجد كلا من (د.ايكلمان) في دراساته حول المغرب واندونيسيا وأيضا كـ. غيرتز الذي أنجز عدة دراسات بشمال إفريقيا ( المغرب ) وآسيا ( اندونيسيا… ) .
8 . A.Touraine. Production de la société, Editions du Seuil, 1973. P. 62
– في هذا الكتاب حاو ل (ألان توران) إعطاء تعريف عام للتاريخية historicité ، باعتبارها تلك القدرة الخاصة التي تميز المجتمعات والأنظمة الاجتماعية على إعادة إنتاج ذاتها، وعلى امتلاك إمكانية الحركة والفعل والتغير؛ وذلك عن طريق مجموعة من التوجهات الاجتماعية والثقافية. فبدل أن نضع مجتمعا في التاريخ، فإن الأمر يتعلق هنا بوضع التاريخية في قلب المجتمع، كمبدأ منظم لحقل العلاقات والممارسات. أنظر ص 33 .
– à propos de ce concept ( historicité) voir aussi, A. Tourain : « pour la sociologie » op. cité, P P 94-124
- 9. د. إيكلمان. (م.س)، ص. 90
- 10. أحمد أمين، ظهر الإسلام، الجزء الرابع، ص. 152
- 11. عبد المجيد الصغير : إشكالية إصلاح الفكر الصوفي في القرنين 18 و19، منشورات دار الآفاق الجديدة – المغرب. 1988. ص. 33
– رشدي ياسين : التصوف، ما له وما عليه، سلسلة كتب إسلامية (10) ، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الثالثة، 1993 ص. 194 و ص. 170
- 12. الغزالي : إحياء علوم الدين، المكتبة العصرية للطباعة والنشر. صيدا- بيروت 1992، الجزء الثالث، ص. 25
- 13. نفسه، ص ص. (26-25)
- 14. احمد أمين، نفسه، ص. 159
15.حسن جلاب: محمد بن سليمان الجازولي: مقاربة تحليلية لكتاباته الصوفية. مطبعة النجاح الجديدة, البيضاء 1987ص.40
16..قارن مع الشيخ الطوسي .حيث اعتبرها في كتابه )اللمع( – وهو من أقدم الكتب الصوفية- سبعة مقامات:)مقام التوبة,الورع, الزهد, الفقر, الصبر, التوكل والرضا( انظر أحمد أمين, نفسه ص.159 .
17.حسن جلاب نفسه ص.40 .
18.نفسه ص.40.
19.نفسه ص.41.
20.نفسه ص.41.
21.أحمد أمين –م.س-ص.160.
22.عبد المجيد الصغير –م.س- ص.13.
23.نفسه ص.17.
24.نفسه ص.ص.21-13.
*هدا ما نستشفه من تعريف الباحث للتصوف كتجربة دينية.
- نحيل هنا بالطبع على : )القران الكريم( و)الأحاديث النبوية( .
26.ميرسيا إلياد: مظاهر الأسطورة – ترجمة نهاد خياطة . دار كنعان للدراسات والنشر , الطبعة الأولى دمشق 1991 . ص.89.
- سيد حسين الأطاسي :”صعوبات تحديد الدين” – ضمن كتاب أبعاد الدين الاجتماعية – مشترك. تعريب صالح البكاري .الدار العربية للكتاب ص.15.
28.ميرسيا إلياد-م.س- ص.ص.77-85.
29.نفسه.ص.77.
30.نفسه.ص.ص.77-75.
31.G.Bataille. Théorie de la religion, Editions Gallimard.1973.p51.
32.Ibid, p.55.
33.ميرسيا إلياد –م.س- ص.79 .
34.لأخد فكرة عن النمودج المثالي , نحيل هنا على :
M.Weber: Economy and society. Gunther roth and claus wittich, eds) , New York 1968.
- رغم قيمة النموذج المثالي العلمية، نحن لا ننفي مع ذلك قصوره ومحدوديته النسبيتين في الإحاطة بكل خصائص الظواهر الإنسانية و الإجتماعية.
35.سيد حسين الأطاسي .- م.س-.ص.15.
- 36. ميرسيا إالياد –م.س- ص.89.راجع أيضا .ص.ص.89 .
- 37. أنظر بهدا الخصوص أفلاطون : ) الجمهورية( ترجمة فؤاد زكريا , مراجعة سليم سالم .دار الكتاب العربي للطباعة والنشر القاهرة 1986. الكتاب السابع ) أسطورة الكهف( ص.ص.284-246.
.38 ) القران الكريم( , ) سورة البقرة ( من الآية 33 إلى الآية 38 .
- 39. راجع بهدا الخصوص : ميرسيا إلياد –م.س- ص.ص.107-89 .
*راجع بهدا الخصوص ما كتبناه سابقا بخصوص) المقامات الصوفية (.
- 40. نفسه .ص.549 .
- 41. نفسه الجزء الثالث , ص. 38 .
- 42. رشدي ياسين : ) التصوف ماله وما عليه ( ص.157.
- 43. لعل هدا ما تكثفه بشكل أو بآخر) حالة المحو( التي أشار إليها القشيري من خلال تعريفه للمتصوف:”الصوفي هو الذي لا تقله الأرض ولا تضله السماء” أنظر البادسي : المقصد الشريف والمنزع اللطيف في التعريف بصلحاء الريف. تحقيق سعيد أعراب . المطبعة الملكية . الرباط 1982. ص.38 .
44 . بخصوص مفهوم) المحو الطقوسي للجسد( أنظر :
- Le Breton. Corps et sociétés. op.cité , p.p 123-141.
* إذ يصبح المجال كله ) الضريح أو الزا وية أو القبة ( إمتدادا لتلك العضوية اللتي لا تخضع لمقاييس الزمن التاريخي
) التعاقب( , بل لمقاييس زمن مقدس ) الثبات( وعدم التحول أو المسخ أو التفسخ .وهده سمات الروحي . فالولي الصالح يظل حيا بروحه وسط مجموعته .
- G.Bataille , op.cite .p.52.
* يمكن تشبيه هده اللحظة بمرحلة ) ما قبل الوضع ( البيولوجي بالنسبة للإنسان . وفي هدا السياق الدلالي , وكما سنرى من خلال الصفحات الموالية قد تعتبر المغارة – كمجال مفضل لممارسة الخلوة الصوفية – بمثابة الرحم الذي يحتضن مخاض هدا المولود الجديد) الولي ( .
- 46. الغزالي , نفسه.
- D.Le Breton .(corps et sociétés) op. cité. p.16.
- Ibid .p.16.
- 49. راجع بهدا الخصوص إبن الزيات : ) التشوف إلى رجال التصوف ( تحقيق ادولف فور , الرباط 1958 خاصة التراجم الواردة في الصفحات : 100-106-109-110-133-181-205-206-215-938.
- 50. بول باسكون : ) الأساطير والمعتقدات بالمغرب ( ترجمة مصطفى المسناوي , مجلة بيت الحكمة , عدد . 3 السنة الأولى 1986. ص.85.
- 51. نفسه . ص. 93.
- Voir à ce propos. Ahmad Arif. op.cité .p.p .183-192.
- 53. إن فكرة التقاطع هده بين عالمين متقابلين أو بالأحرى متعارضين هي فكرة جوهرية من داخل بنية التصوف ولعل هدا ما تكثفه ظاهرة الجدب بشكل جلي بحيث أن التصوف احتضن هدا الأخير لارتباطه بالجنون كظاهرة تربط بين عالمين : عالم الممكن الموجود وعالم الأرواح والجن .انظر عبد اللطيف الشادلي : التصوف والمجتمع ، نماذج من القرن العاشر الهجري. منشورات جامعة الحسن الثاني . مطابع سلا 1989 .ص.93.
- 54. جان باران : ) الرمز والسحر ( – م.س- ص.176.
- 55. احمامة لحسن : “متخيل العدد ورمزيته” . جريدة العلم ) العلم الثقافي( 17 يناير السنة 28 – 1998, ص.3.
- 56. ميرسيا إلياد –م.س- ص.79.
57 .نفسه ص.79 .
* لعل دلالة هده الثنائية – وعلى مستوى ديني – نجدها أيضا في قصة المعراج النبوي , إد ليس عبثا أن تكون رحلة المعراج النبوي نحو السماء ) النور ( مسبوقة بالإسراء ) السفر ليلا ( في )الظلام( .هناك تأصيل لهدا التعارض الجوهري بين الظلام / النور , الأرض/السماء .
- في هذا السياق الدلالي أيظا يمكن الرجوع إلى قصة) أهل الكهف( كما وردت في القران، وكيف أن المغارة يمكن أن تجسد إيقاعا آخر للزمن، غير الزمن التاريخي/ التعاقبي.) القران الكريم( سورة الكهف: من الآية 8 إلى 25 .
- الحسين بو لقطيب “الكرامة والرمز – كرامات أولياء دكالة خلال عصري المرابطين والموحدين نموذجا” .جريدة الاتحاد الإشتراكي . عدد 449 . الجمعة 24 مارس 1995 , ص.5.
- . يمكننا مقارنة وضعية المتصوف بوضعية الفيلسوف – كما يورده أفلاطون في )جمهوريته( – خاصة ) أسطورة الكهف . فالمعنى هنا مترادف إلى حد بعيد وكل منهما يسعى إلى استعادة الصلة المفقودة بالأصل , بالمثال وبالمطلق . فكي يصبح المتصوف ) وليا ( ويحقق المشاهدة الصوفية , لابد له من أن يعيد ولادته من جديد , عن طريق الانكفاء إلى رحم رمزي يحتضن مخاضه الصوفي . وبالمثل فإذا كانت المغارة تجسد رمزيا دور الرحم بالنسبة للمتصوف فإن أفلاطون قد سعى هو الآخر إلى إعطاء )المغارة أو الكهف( . نفس الدلالات الرمزية إلى حد ما . فهو قد صورها كمجال لاحتضان
) الوهم( الذي يوازي لديه تلك المعرفة ) السوفسطائية الزائفة ( هدا من جهة , ومن جهة ثانية فقد صورها باعتبارها ذلك الرحم الذي سيحتضن )مخاضا معرفيا( عسيرا قد ينتهي بولادة جديدة : فالخروج من المغارة أو الكهف كرحم , يعني ولادة معرفية جديدة , تنتقل بصاحبها من )عالم الوهم( إلى )عالم الحقيقة( ومن )عالم المحسوس( إلى )عالم المعقول( الذي ينقل صاحبه إلى )عالم المثل( حيث الحقيقة والخير المطلقين . راجع بهذا الخصوص أفلاطون : ) الجمهورية ( -م.س- ص.ص. 284-246
- راجع الغزالي- م.س- الجزء الثالث ص.ص.25-26 .
62.ميرسيا إلياد- م.س- ص.79 .
- حسن جلاب –م.س-ص.86.
- رشدي ياسين –م.س- ص.194.
- .) الولي ( من القرب والذنوب . أنظر ابن منضور : ) لسان العرب( مجلد 15 ص.412.
- حسن جلاب –م.س- ص.41.
- . في هدا الصدد يقول القشيري : ) علامة الولي ثلاثة أشياء : شغله بالله , وفراره إلى الله , وهمه بالله ( .أنظر البادسي
- أحمد أمين : ) ظهر الإسلام ( الجزء الرابع .ص.ص. 170-169.
- علي زيعور : ) الكرامة الصوفية , الأسطورة والحلم ( دار الطليعة , بيروت الطبعة الأولى 1977. ص.221 .
- . لقد سعى أحد الباحثين وفي نفس السياق , إلى اعتبار مهمة الصالح – في إطار التقسيم الاجتماعي للعمل – هي تنظيم العلاقات مع الغيب في إطار وظيفة التوسط والشفاعة قصد ) إنزال الغيث , رفع الكوارث والمجاعات والأوبئة (
Voir a ce propos J. Berque. Ulémas , fondateurs insurgés du maghreb ,17eme siécle. Editions Sindbad . Paris 1982. p.68.
- L. Provençal. Les historiens des chofars, Ed . Afrique Orient ,Collection Archives , casablanca 1991. p.50.
- جان باران- مرجع سابق-ص.174.
73.نفسه، ص.175.
74.إبراهيم القادري بوتشيش: تاريخ الغرب الإسلامي. دار الطليعة، بيروت الطبعة الأولى ص.108 .
- . في هدا الإطار , ولإعطاء نماذج من حركة الصلاح نحيل على كل من
- القادري بودشيش : المغرب والأندلس في عصر المرابطين : المجتمع، الذهنيات، الأولياء. دار الطليعة – بيروت الطبعة الأولى . 1993 . ص.ص 174-125.
- عبد اللطيف الشاد لي : )التصوف والمجتمع …( -م.س-