“الذكورة” من القبقاب الى الكعب العالي

القبقاب
كاتب المقال: علياء تركي الربيعو 
 
عندما كان الشيخ أبو عمر، شيخ الصالحية والمقادسة في دمشق، ومؤسس المدرسة العمرية الكبرى، يصعد كل يوم إثنين وخميس إلى مغارة الدم “في جبل
قاسيون” ماشياً بالقبقاب، فيُصلِّي فيها ما بين الظهر والعصر، لم يُنظر إلى قبقابه على أنه أمر مستغرب.

كان ذلك في بدايات القرن الثالث عشر، حين كان القبقاب هو الحذاء المستخدم عند أهل دمشق، وكان على ارتفاع قد يصل إلى نصف ذراع أحياناً، يلبسه من يرغب في تطويل قامته أو محبة للظهور والتفاخر. لبسه الكبار والرجال والصغار والنساء، وكان يشير إلى وضع اجتماعي معين بعد ذلك بقرون،وصولاً إلى أيامنا هذه، تطور القبقاب وصار “الكعب العالي”، ورحل إلى الجانب الأنثوي من البشر، بعد أن كان أثيراً عند بعض الرجال. انشغل بعضهم بالحديث عن مضاره على الصحة، وبأن امتطاءه باستمرار، قد يصيب النساء بنوع من التغيرات في الجسم التي قد تدفعهن إلى الجنون. لكن انشغل كثيرون في “فتنة” هذا الكعب العالي المحيّر: فتنة جنسية وفتنة دينية. في شرقنا، حرّمه كثيرون بحجة إفساده الأخلاق، وإظهاره ما بطن من زينة المرأة. تلبست الذكورة رداء دينياً وارتدّت عما كانت تستلطفه قديماً وحرّمته.

في غربهم، وحيث مفاهيم حرية المرأة وتمتعها باستقلال قرارها وجسدها، أثيرت سجالات لم تنته حول الكعب العالي بكونه “جاذباً” بما يكفي لإثارة مخيلة الذكورة وشهواتها، بما يختزل المرأة في كعبها العالي، والذي اكتسب أعداء إضافيين. انحدر النقاش أكثر لرسم علاقة عكسية بين ارتفاع الكعب العالي وانخفاض منسوب ذكاء من تلبسه. الذكورة في كل الأحوال كانت وما تزال من يقرر.

برغم ذلك كله ما زالت الذكورة تحب رؤية المرأة وهي تتبختر بالكعب العالي. يتحفنا أحد المعالجين النفسيين بتفسير فرويدي مدهش ويقول: “إن حب الرجل الحذاء ذا الكعب العالي بما يمثّله من أنوثة، يشبه حبّه الثدي، كلاهما يعود إلى تعلّقه بوالدته التي كانت من المحتمل أنها تلبس أحذية بكعب مرتفع”.
لينا هويان الحسن، وفي روايتها المرشحة لجائزة البوكر “ألماس ونساء” هذا العام، تأتي على ذكر تلك القباقيب الخشبية (الأحذية) التي ما تزال موجودة في أحياء دمشق جنوب الجامع الأموي. تصفها بأنها قباقيب “اخترعها رجل شرقي ماكر غيور، لتكون الحذاء الوحيد الذي عرفته كل نساء دمشق مسلمات ومسيحيات ويهوديات”.
وتضيف “لم يكن حذاءً، كان عقوبة، كان قيداً ذكياً، مصنوعاً من خشب بالكاد يمكن للمرأة أن تتوازن بمشيتها خلال المرات النادرة التي يُسمح لها فيها بمغادرة البيت، حذاء يتضمن صعوبة المشي واستحالة الخطى السريعة”. أينما تحركت ومشت المرأة فإن الذكورة ترصد تحركاتها عبر الصوت العالي للقبقاب، كأنه جاسوس عليها!
هذه الإشارة إلى محاولة التحكم بالمرأة عن طريق القبقاب، قد يفند صحتها المثل الدمشقي الشعبي الذي ما زال يستخدم حتى الآن وهو “لابق للشوحة مرجوحة ولأبو بريص قبقاب”، و(أبو بريص) نوع من الزواحف، والقصد من المثل هو التقليل من قيمة الفرد ومستواه الاجتماعي.
هل بإمكاننا القول إن الكعب العالي شكّل، عبر القرون، مصدر قوة وتشاوف للذكورة انتزعتها النساء في زمننا الراهن؟ ذلك أن الكعوب العالية كانت مظهراً من مظاهر الفروسية، وتعزيز المكانة الاجتماعية والسياسية، وليس الإغواء. فقد تمتع الكعب العالي بشعبية كبيرة في القرن الخامس عشر في بلاد فارس، وكان يحتذيه الفرسان الذكور ليساعدهم في تثبيت وقفتهم، وحتى يتمكنوا من إطلاق النار والسهام بسهولة أكبر.
ومع لويس الرابع عشر بدأ تاريخ الكعب العالي في فرنسا القرن السابع عشر، بسبب قصر قامته، ثم انتشرت هذه العادة بين طبقة النبلاء في فرنسا، إذ لم يعد مقصوراً على أغراض ركوب الخيل والفروسية. وتميزت تلك الطبقة عن غيرها بكونها تمشي على البلاط، وليس كبقية الطبقات الوسطى والفقيرة التي تمشي على الطين، حيث يفقد الكعب العالي فعاليته.
تغير هذا الوضع مع الثورة الفرنسية التي جاءت بمفاهيم الديمقراطية والمساواة، محاولة إلغاء مظاهر العنصرية، بما فيها تلك التي كانت مبنية على ارتداء الكعب العالي، وإظهار مكانة وقوة اجتماعية متفوقة. بيد أن الكعب العالي أصبح سمة نسائية خالصة عند ظهور موجة في أوروبا تدعو لتمييز الذكورة في النصف الثاني من القرن السابع عشر، والمطالبة بتقصير كعب حذاء الرجال ليصبح حكرا فيما بعد على النساء فقط. وفي المقابل، أبقى الرجال العرب على استخدام “القبقاب” لفترات أطول امتدت إلى القرن العشرين.
مع التغييرات السريعة في عالم الموضة والأذواق والنزوات، ربما لن يمر وقت طويل قبل أن نشهد عودة الرجال إلى ارتداء الكعب العالي مع سراويل ضيقة، كتلك التي عُرفت أيام نابليون بونابرت.

 المصدر : العربي الجديد

http://goo.gl/zEpl2w

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.