من هنا يتضح أن الطرح المُعلن للمركزية الأوروبية هو مجرد قناع بروميثي، يحلو للذات الغربية ـ إن وُجدت ـ أن ترى نفسها من خلاله، ويوظفه الآخر الغربي/العالمي فى استغلال الذات غير الغربية، وتعميتها عن الأنسنية! ويساهم فى تزخيم هذا الرأى، نزوع الآخر الغربي/العالمي دوما إلى أمور، تتعارض بفجاجة مع الطرح البروميثي المُعلن للمركزية الأوروبية، ومن ذلك:
[1] تكريس فكرة “الأسلاف الإغريق” للغربيين:
تقول فكرة “الأسلاف الإغريق”، التى لا ينفك الآخر الغربي/العالمي ينفخ فيها، إن الوراثة اليونانية مهدت السبيل إلى غلبة العقلانية! والفلسفة اليونانية هي المصدر الوحيد للعقلانية فى التاريخ الانساني، بينما لم تتجاوز الفلسفات الأخرى حدود الميتافيزيقا! والفكر الأوروبي هو الذى أنمى هذه الوراثة، بدءا بعصر النهضة، إلى أن ازدهرت روح العقلانية فى المراحل اللاحقة لتطور العلم المعاصر. أما القرون التى تفصل اليونان القديم عن النهضة الأوروبية فقد اعتُبرت مرحلة انتقالية طويلة محفوفة بضباب التعمية التى حالت دون تجاوز الفكر القديم!
تلك هى فكرة “الأسلاف الإغريق”، التى لا ينفك الآخر الغربي/العالمي، كما أسلفنا، ينفخ فيها ويؤججها، ويغازل بها عقل وقلب الذات الغربية، رغم تعارض الفكرة الواضح مع الطرح المُعلن للمركزية الأوروبية! إذ كيف لطرح بروميثي كهذا أن يصدق، وأبناء الحضارة الغربية لديهم قناعة راسخة بأن أسلافهم الإغريق ـ إن سلمنا بصحة هذا الزعم ـ هم المصدر الوحيد للعقلانية فى التاريخ الانساني! وأن تميزهم الراهن إنما يستمد جذوره فقط من تميز أسلافهم الإغريق!
أين إذن الرسالة التنويرية للحضارة الغربية؟ وأين إيمان الغرب بالأخوة الانسانية؟ وأين ايمانه بالمساواة والعدالة بين بنى الإنسان؟ وأين الرفض الغربي للعنصرية، وفكرة “الأسلاف الإغريق” ـ حتى وإن صحت ـ، تُكرس اعتقاد أبناء الحضارة الغربية فى فوقيتهم، ودونية أبناء جميع الحضارات الأخرى؟!
لنقرأ قول جلبرت مري: “إنك لن تقع على شيء تحت الشمس، لا يمت إلى الفكر اليوناني بسبب”! وقول صول بلو في عبارته المرعبة في تعاليها: “جدوا لي قرينا لبروست بين قبائل الزولو”! ولنتأمل أيضا تهميش الفيلسوف الغربي برتراند رسل، للمدنيات السابقة، على نشأة المدنية اليونانية، مع اقرارنا بتواضعها النسبي، إذ يقول رسل فى صدر مؤلفه القيم “تاريخ الفلسفة الغربية” ما نصه(5):
“لن تجد فى التاريخ كله ما يثير الدهشة، أو ما يتعذر تعليله، أكثر ما يدهشك ويتعذر عليك تعليل الظهور المفاجيء للمدنية اليونانية؛ نعم إن عناصر كثيرة مما تتألف منه المدنية كانت موجودة قبل ذاك بآلاف السنين فى مصر وما بين النهرين، وانتشرت من هناك إلى الأقطار المجاورة؛ لكن بقيت تنقص الإنسان عناصر أخرى حتى جاءه بها اليونان؛ وليس منا من لايعلم ما أداه اليونان فى الفن والأدب؛ لكن ما أدوه فى النطاق العقلي الخالص أشد غرابة مما أدوه فى الفن والأدب على عظمته؛ فهم الذين اخترعوا الرياضة والعلم والفلسفة اختراعا؛ وهم أول من كتب التاريخ متميزا عن مجرد سرد الأخبار؛ وهم الذين أرسلوا الفكر حرا فى طبيعة العالم ونهاية الحياة، دون أن يُغلوا أنفسهم بقيود العقائد الموروثة؛ وكان ما صنعوه فى ذلك من الروعة بحيث ظل الناس حتى عصور حديثة جدا يكتفون إزاء العبقرية اليونانية بفتح أفواههم دهشة وبالحديث عن تلك العبقرية كما يتحدثون عن ألغاز السحر؛ ومع ذلك ففي مستطاعنا أن نفهم تطور هؤلاء اليونان فهما علميا، وجدير بنا ـ أظنه يعني أبناء الحضارة الغربية ـ أن نفعل ذلك”!
كل تلك الأقوال، وغيرها الكثير، يجد فيها الآخر الغربي/العالمي لبانته، إذ ينطلق منها ليبرر قمعه واستغلاله للذات غير الغربية، وذلك بمساعدة الآخر المحلى الذى يحكي التاريخ عنه أنه لا يتوانى عن تلبية أوامر الآخر الغربي/العالمي، لعلمه أن وجوده مرهون برضاء الآخر الغربي/العالمي عنه!
[2] تكبير دور المسيحية وإلحاقها تعسفيا بالغرب:
لم يكتف الآخر الغربي/ العالمي بتكريس فكرة “الأسلاف الإغريق” للغربيين، فرأيناه يعمد جاهدا لنقل روح العنصرية إلى ميدان الدين، فاعتبر المسيحية دينا متفوقا بصفة مطلقة! بل وألحق المسيحية تعسفيا بالغرب..!
نسي الآخر الغربي/العالمي أن المسيحية ـ بصفتها دينا ـ إنما هى الأخرى “بحث عن المطلق”، شأنها فى ذلك شأن الأديان جميعا، إضافة إلى أن المسيحية لم تنشأ على شواطيء نهر الرين أو نهر اللوار، بل نشأت فى الشرق قبل أن تنتشر نحو الغرب، ومن ثم فلا مجال لالحاقها تعسفيا بالغرب، واعتباره وصيا عليها وناطقا باسمها! غير أن الذى حدث، هو أن العائلة المقدسة أُلبست ثوبا أوروبيا، كما أن آباء الكنيسة المصريين والسوريين ضُموا إلى الفكر الغربي!
إذن، فالمسيحية التى تُلحق تعسفيا بالغرب، هى فى حقيقة أمرها شرقية الأصل، شأنها فى ذلك شأن الهلينية والاسلام! إلا أن الغرب قد صادرها لدرجة أن العائلة المقدسة ـ كما ذكرنا توا ـ أصبحت فى التصوير الشعبي مكونة من أفراد ذوى شعر أشقر وعيون زرقاء! جيدا، لا مانع فى ذلك، فمبدأ امتلاك أفكار نشأت فى بيئة أخرى مقبول فى حد ذاته ويتسق مع البروميثية، خصوصا إذا صار هذا الامتلاك خصبا! المشكلة هى أن الآخر الغربي/العالمي إنما صادر المسيحية بقصد توظيفها فى تعميق الفجوة بين أبناء حضارته وبين أبناء الحضارات الأخرى، وهو أمر يفت فى عضد البروميثية المزعومة للطرح المُعلن للمركزية الأوروبية، والقائل باخوة البشر وخصوصية العلاقة بين الإنسان وبين الله..
بيد أن اللافت فى الأمر أن الآخر الغربي/العالمي فى سعيه المحموم والدؤوب لتوظيف الدين المسيحي والافادة منه، لم يُبد اهتماما يُذكر، بمسألة خوض الطرح البروميثي المُعلن للمركزية الأوروبية، لدى نشأته فى عصر النهضة، كمشروع عالمي تنويري التطلع، يود أن يخاطب البشر جميعا ـ معركة ضارية ضد تطلع عالمي آخر وسابق هو طموح الدين المسيحي إلى أن يكون عالمي المغزى. فالحركة الأنسنية فى صدر عصر النهضة، كما هو معروف وكما أسلفا، لم تشعر بالارتياح إزاء الفكر المسيحي للعصور الوسطي، بل أعلنت نفورها إزاء ما اعتبرته تكريسا للاغتراب الثقافي للذات الأوروبية! وكان ميلها إلى إحياء العصور القديمة اليونانية والرومانية جزءا من جهودها فى هذا الصدد..!
[3] اختراع “شرق” يتسم بسمات مضادة لسمات “الغرب”:
بالنظر إلى الافتراض الذى بدأ به إدوارد سعيد دراسته الرائدة “الاستشراق”، نجد أنه جاء مغايرا لما اصطُلح على البدء به فى الدراسات الغربية المماثلة، المعنية بالشرق، فقد بدأ ادوارد دراسته بالافتراض التالي(6): “إن الشرق ليس حقيقة خاملة من حقائق الطبيعة. فهو ليس مجرد وجود ثمة، بالضبط كما أن الغرب نفسه ليس مجرد وجود ثمة. وينبغى أن نأخذ بجدية ملاحظة فيكو العظيمة أن البشر يصنعون تاريخهم، وأن ما بمقدورهم أن يعرفوه هو ما صنعوه، وأن نسحب هذه الملاحظة لتنطبق على الجغرافية: ذلك أن مواضع وأقاليم وأقساما جغرافية كالشرق والغرب، من حيث هى كيانات جغرافية وثقافية ـ دون أن نقول شيئا عن كونها كيانات تاريخية ـ هى من صنع الانسان. ومن ثم، فان الشرق، بقدر الغرب نفسه تماما، هو فكرة ذات تاريخ وتراث من الفكر، والصور، والمفردات التى أسبغت عليه حقيقية وحضورا فى الغرب ومن أجل الغرب. وهكذا فإن كلا من هذين الكيانين الجغرافيين يدعم الآخر و، إلى حد ما، يعكسه”!
وفى تفسيره لتفرد دراسته، بافتراضات غير مألوفة فى الدوائر الغربية، قال إدوارد سعيد إنه مع اندلاع حرب أكتوبر 1973، رأى أن ما يجرى على الأرض فى الشرق الأوسط، علاوة على ما اكتسبه عبر تجربته الشخصية، لم يكن يتوافق أبدا مع ما يُكتب فى وسائل الاعلام الأمريكية على سبيل المثال. ومن ثم أخذ يتصور فكرته القائلة أن ما يراه المرء ويقرأه فى الغرب كان جزءا من نظام تمثيل لم تتم بعد دراسة تاريخه ونطاقه على نحو منهجى ومعمق! وكذا أخذ يتصور فكرته حول استبدال هذا النظام ـ نظام الهيمنة واساءة التمثيل الذى يحمل اسم الاستشراق ـ، بفضاء يسمح للشعوب أن تكتب تواريخها الخاصة بها!
وفى السياق نفسه، وضع إدوارد دراسة أخرى بعنوان “الثقافة والامبريالية”، بسط فيها جناحيه فوق عالم أعظم رحابة من العالم الذى غطاه مؤلفه “الاستشراق”، ليكشف عن دور الآخر الغربي/العالمي فى اختراع “شرق” يتسم بسمات مضادة لسمات “الغرب”، وتوظيف الآخر نفسه ذلك الاختراع فى تكريس استغلال غير الغربيين، وتعميتهم عن الأنسنية! وتجاوز إدوارد هذا ليكشف أبعادا مقموعة للثورة ضد سيطرة الآخر الغربي/العالمي فى جميع بقاع العالم غير الأوروبي! وبذلك يكون إدوارد قد عبر بدراستيه الرائدتين عما يختلج فى صدورنا معشر الأنسنيين، من رغبة دافقة فى تعرية تشويه الآخر الغربي/ العالمي للشرق، بهدف استعداء الذات الغربية عليه، وتبرير استغلاله له وتكريسه لعذابات وآلام أبناءه!
صفوة القول ان الآخر الغربي/العالمي أعاد انتاج المركزية الأوروبية، عبر تكريسه لأمور، تتعارض مع الطرح البروميثي السابق ايجازه، ذكرنا منها، تكريسه فكرة “الأسلاف الإغريق” للغربيين، وتكبيره دور المسيحية والحاقها تعسفيا بالغرب، واختراعه “شرق” يتسم بسمات مضادة لسمات “الغرب”! وأراني قانعا أنه بمثل تلك الأمور وغيرها نجح الآخر الغربي/العالمي، فى تشويه الطرح البروميثي المذكور، وافرغه من مضمونه، علاوة على نجاحه فى افقاد الطرح نفسه المصداقية فى عيون الكثيرين، فى شتى أنحاء العالم، على نحو ما نرى الآن!
تداعيات إعادة انتاج الآخر الغربي/العالمي للمركزية الأوروبية:
بالطبع، كان لاعادة انتاج الآخر الغربي/العالمي للمركزية الأوروبية تداعيات جمة، لا تُخطئها العين، نتطرق لتفصيل بعضها، على أمل ابراز خطورة تخفى الآخر الغربي/العالمي وراء الطرح البروميثي المُعلن للمركزية الأوروبية:
[1] استمراء الذات الغربية لدور الحسناء النائمة فى الغابة:
عادة ما ينبهر غير الغربيين بالقدر الوافر من الاحترام الذى يحظى به الغربيون، داخل عالمهم، مقارنة ُبما هو حاصل فى العوالم الأخرى! وهو أمر مُلفت ومُستفز حقا، فوق أنه يرتبط بموضوعنا، فالواضح أن الغربيين ـ شئنا أم أبينا ـ فى غاية الحرص على التمكين للأنسنية فى عالمهم! والواضح أيضا أنهم فى غاية الحرص على تعمية أبناء الحضارات غير الغربية عن الأنسنية، وابقاءهم فى حالة اغتراب ثقافي وتخلف، تكريسا لاستدامة الفوقية الغربية! فهؤلاء الضحايا إما أنهم ينتمون لحضارات يراها الغرب معادية بحكم تكوينها لحضارته، أو أنهم ينتمون لحضارات، لا يراها الغرب معادية لحضارته، غير أن مصلحته، فى مرحلة تاريخية بعينها، تقتضي تعمية أبناء تلك الحضارات عن الأنسنية..!
ولعل تعريفنا للآخر الغربي/العالمي بأنه أولئك الغربيين الذين يدركون “الأنسنية”، ويستأثرون بها لأنفسهم ولأبناء حضارتهم، ويعمدون لتعمية أبناء الحضارات الأخرى عنها، بمساعدة الآخر المحلى المحسوب ظلما على تلك الحضارات ـ أقول لعل تعريفنا المذكور توا للآخر الغربي/العالمي، يشي بأننا كأنسنيين نُحسن الظن بالكثيرين من أبناء الحضارة الغربية، فنراهم ذاتا غربية تستمريء دور الحسناء النائمة فى الغابة، على حد تعبير فانون! ..نراهم ذاتا غربية يحلو لها أن ترى نفسها من خلال الطرح البروميثي المُعلن للمركزية الأوروبية، فى وقت تصلى فيه الذات غير الغربية، نيران الآخر الغربي/العالمي!
ولمن يزعم سذاجة الذات الغربية ونقاء سريرتها، ويتعامى عن تورطها غير المباشر والمُخزي فى ادامة الانتهاك الصارخ للطرح البروميثي المُعلن للمركزية الأوروبية، أقول: أليست هذه الذات الغربية هى نفسها التى تخرج إلى الشارع ثائرة ناقمة حال المساس بها وبمصالحها؟! أليست هذه الذات هى نفسها التى تُفوض وتدعم الآخر الغربي/العالمي، عبر صناديق الاقتراع، ليمارس أعماله القذرة فى حق الكثيرين من أبناء الحضارات غير الغربية! أعلم أن الآخر المحلى متواطيء، للأسف الشديد، مع الآخر الغربي/ العالمي، وأعلم أن الاغتراب الثقافي للكثيرين من أبناء الحضارات غير الغربية يُحبب إليهم اغترابهم ويدفعهم إلى التعويل فى خلاصهم على اغترابهم الثقافي وعلى الآخر المحلي المحسوب ظلما عليهم! ـ أعلم كل هذا جيدا، ربما أكثر من غيري، ولكن هل يحق للذات الغربية التعلل بمثل هذه الأمور فى تبرير ادانتها الخجولة فى بعض الأحيان لممارسات الآخر الغربي/ العالمي؟! وكيف يستقيم منطق كهذا ـ إن قُبل ـ مع اصرار الذات الغربية على رؤية نفسها من خلال الطرح البروميثي المُعلن للمركزية الأوربية!
[2] شيوع الأخذ بمبدأ الاستقلال السلبي بين غير الغربيين:
إذا كان غير الغربيين ينبهرون ـ كما أسلفنا ـ بالقدر الوافر من الاحترام الذى يحظى به الغربيون، داخل عالمهم، مقارنة ُبما هو حاصل فى العوالم الأخرى! فهم أيضا ينبهرون بالاستقلال الحقيقي الذى تتمتع به دولهم، مقارنة بما هو حاصل فى غالبية الدول غير الغربية! فالحاصل هو شيوع أخذ الأخيرة بمبدأ الاستقلال السلبي، فور رحيل المستعمرين الأوروبيين عنها، إذ أن لحظة الاستقلال الحقيقي لم تدم طويلا فى تلك الدول، فسرعان ما حلت النخب المحلية محل المستعمر الأوروبي، وراحت تعمل جهد طاقتها على تكريس الأوضاع المتردية، من خلال ممارسات، تماثل في مضمونها الممارسات الاستعمارية، بل تتجاوزها في أحيان كثيرة إلى ما هو أسوأ! وبذلك بدا واضحا دخول تلك الدول ما يمكن تسميته بحقبة الاستقلال السلبي، تلك الحقبة التي تتسم بخصائص عديدة، لعل أهمها مساندة الآخر الغربي/العالمي للنخب المحلية، باعتبار أخرويتها امتداد لأخرويته!
أنظر مثلا إلى العالم العربي، تراه تجسيدا صادقا لقولنا المذكور توا، فها هي دوله، بكل ثرواتها وامكانياتها، تئن تحت نير نخب حاكمة، تلقى بدورها دعما غير مبرر من الآخر الغربي/العالمي، يغريها بالمضي قدما فى ممارسات تُماثل في مضمونها الممارسات الاستعمارية، بل تتجاوزها في أحيان كثيرة، إن لم يكن دائما، إلى ما هو أسوأ(7)! إن الخروج المهين لعالمنا العربي من التاريخ يُعد بحق أحد تداعيات إعادة انتاج الآخر الغربي/العالمي للمركزية الأوروبية، فلولا الدعم الغربي، خصوصا من الولايات المتحدة الأمريكية، لنخب عربية حاكمة، تُمعن فى عدم الاكتفاء باستغلال شعوبها وتعميتها عن الأنسنية، بل تتجاوز ذلك فى جرأة تُحسد عليها إلى تسهيل استغلال الآخر الغربي/العالمي لتلك الشعوب البائسة ـ أقول لولا مثل هذا الدعم ما كُتبت الحياه ولا كُتب البقاء للأخروية العربية!
[3] صعود طروحات لمركزيات تُحاكي الطرح المُدان للمركزية الغربية:
لعل المثال الأكثر وضوحا فى هذا الصدد، هو صعود ورواج طروحات عديدة لـ “المركزية الاسلامية”، تُحاكي ـ وياللحسرة ـ الطرح المُدان لـ “المركزية الغربية”، فى شغفه واصراره المُخيف، على الانفراد بمقومات القوة دون غيره، على أمل ابطال المركزية الغربية واحتلال مكانها! والحق أن الاتيان بطروحات “المركزية الاسلامية” كمثال، أمر قد يُساء فهمه، فما أسهل أن يتهم تجار الآلام والمغتربون ثقافيا، وما أكثرهم فى عالمنا العربي والاسلامي، كاتب هذه السطور، بالاساءة للدين الاسلامي! رغم أنه لا يقصد بـطروحات “المركزية الاسلامية” الديانة الاسلامية، فهو قانع بأن الفرق بين طروحات “المركزية الاسلامية”، المُشار إليها توا، والديانة الاسلامية، كالفرق بين الثرى والثريا!
طروحات “المركزية الاسلامية” التى أتحدث عنها، تُعد ـ بحق ـ استنساخا ساذجا ورديئا للـطرح المُدان لـ “المركزية الغربية”، بيد أن أنصارها والمروجين لها يعمدون إلى تغليفها برقائق دينية، فى محاولة لمغازلة مشاعر الذات فى العالم الاسلامي، مستغلين فى ذلك اغترابها الثقافي الذى ما فتىء الآخر، محليا كان أم غربيا/عالميا، يعمد إلى تكريسه بكافة السبل والوسائل! تلك هى طروحات الـ “المركزية الاسلامية” التى أعنيها بحديثي، وهى بمحاكاتها للطرح المُدان لـ “المركزية الغربية” بعيدة كل البعد عن البروميثية المنشودة، وإن زُعم غير ذلك! وما رداءة وسذاجة الطرح اللادني ـ نسبة إلى أسامة بن لادن ـ لـ”المركزية الاسلامية”، بوصفه أحد الطروحات ذائعة الصيت، سوى تزخيم لمحاجتنا…
ما العمــــــــل؟
السؤال الذى لابد وأنه جائل الآن بصدر قارئي الكريم، بعد فراغه من قراءة هذا المقال، هو “ما العمل؟”، ما العمل والطرح الغربي للمركزية الأوروبية، حتى وهو فى أرقى صوره، أى قبل أن يُعيد الآخر الغربي/العالمي انتاجه على نحو ما رأينا، يفصله عن البروميثية بون شاسع، وإن كنا وصفناه ـ للتسهيل ـ بالبروميثية، رغم مآخذنا العديدة عليه؟ إذ كيف لنا أن نقتنع ببروميثيته وهو يزعم أن الغرب لا يحتاج إلى أن يتعلم شيئا من غيره، وأن التطورات الحاسمة التى تحكم على مصير الانسانية كلها هى تلك التطورات التى تحدث فى الغرب، سواء فى ميدان التقدم العلمي والتكنولوجي أم فى مجالات العلوم الاجتماعية؟! أقول ذلك رغم اقرارى، ومعى الكثيرين، بفضل الابتكارات الغربية فى شتى مناحي الحياة، ودورها غير المنكور فى تطوير قدرات الانسان على كوكب الأرض وخارجه!
المأساة ـ فى رأيي ـ، والتى يُعد الطرح المُدان للمركزية الأوروبية تجسيدا لها، هى الرغبة المحمومة فى تكريس انفراد أبناء الحضارة الغربية بمقومات القوة دون غيرهم، بغية إدامة فوقيتهم ودونية أبناء الحضارات الأخرى. ولعل اقدام الآخر الغربي/العالمي على استبدال الطرح المُدان للمركزية الأوروبية بالطرح البروميثي (نسبيا) والذى ساهم فى صياغته رواد الحركة الأنسنية فى صدر عصر النهضة ـ أقول لعل هذا هو الذى ساعد، على النحو الحاصل حاليا والذى نتمنى له أن يستمر، على كشف الجرائم المستورة والمسكوت عنها فى مجتمعاتنا! فلولا بروز الطرح المُدان للمركزية الأوروبية، ما تنبهنا لوجود آخر محلى بين ظهرانينا، يحظى بدعم الآخر الغربي/العالمي ومساندته..آخر محلى تُشكل النخب الحاكمة فى المجتمعات غير الغربية حجر الزاوية فى هيكله!
أقول إن اكتشاف وجود “آخر محلى”، يحظى بدعم الآخر الغربي/العالمي ومساندته، أمر ليس بالهين، فكم خُدعنا وخُدع امثالنا عبر التاريخ الانساني! بيد أن المهم هو تثمين هذا الاكتشاف، عبر السعي لتأسيس تيار ثقافي أنسني، يُعري هذا الآخر المحلى المأجور، ويُبرز خيانته لأبناء حضارته وتواطؤه المُشين مع الآخر الغربي/العالمي، على نحو تشهد به الأحداث الراهنة! فلولا الآخر العربي، بنسخه المختلفة، سواء كانت فلسطينية (فتحاوية أو حمساوية) أو سعودية أو مغربية أو سودانية أو قطرية أو كويتية أو…إلخ، ما تمكن الآخر الاسرائيلي من سحق الذات الفلسطينية على هذا النحو المُخيف! ولولا الاغتراب الثقافي الذى لا ينفك الآخر العربي، ومن وراءه الآخر الغربي/العالمي، يعمل جاهدا على ابقاء الذات العربية تحت نيره ـ أقول لولا هذا الاغتراب الثقافي، ما رأينا الذات العربية، تظل تُعول فى خلاصها على الآخر العربي وتُطالب، فى براءة تُحسد عليها، بوحدة نسخه المختلفة، غير عابئة بالتداعيات السلبية لمثل هذه الوحدة ـ إن حدثت لا قدر الله ـ، ناسية أن فى التفرق النسبي لنسخ الآخر العربي رحمة لها، وأنها تخسر بوحدة نسخ الآخر العربي المختلفة كماً من المكاسب والمعلومات، يصعب عليها كذات عربية الفوز به، إلا حين تتنازع وتتلاسن نسخ الآخر العربي المختلفة…
صفوة القول أن البروميثية غائبة عن الحضارة الغربية، وستظل على ما يبدو غائبة لأجل غير مسمى، لذا..فليس أمامنا معشر غير الغربيين، سوى الانضواء تحت لواء تيار ثقافي أنسني، تُحشد من خلاله الطاقات والقدرات، على أمل تعرية الأخروية والاغتراب الثقافي، فى مجتمعاتنا، هذا إن أردنا الخلاص..
الهوامش:
ـــــــــــ
(1) ت.س.إليوت، ترجمة شكري عياد، ملاحظات نحو تعريف الثقافة، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2003) ، ص ص 170 ـ 171.
(2) صامويل هنتنجتون، ترجمة طلعت الشايب، صدام الحضارات ـ إعادة صنع النظام العالمي، (القاهرة: سطور، 1998) ، ص ص 67 ـ 80.
(3) لمعرفة المزيد عن مصطلح الـ “خراجية” للمفكر سمير أمين، راجع: سمير أمين، نحو نظرية للثقافة/نقد التمركز الأوروبي والتمركز الأوروبي المعكوس، (بيروت: معهد الانماء العربي، 1989).
(4) لمعرفة المزيد عن رؤيتنا للفكر الأنسني راجع مقالاتنا المنشورة على شبكة الانترنت، والتى ستصدر قريبا فى كتاب بعنوان “مقالات قى الفكر الأنسني“، وهى بترتيب كتابتها: بناء الذات الأنسنية، هدر العقل العربي، المرأة فى الفكر الأنسني، التثمين الأنسني لجوهر الأديان، إدوارد سعيد/أنسنية بلا ضفاف.
(5) برتراند رسل، ترجمة زكي نجيب محمود، تاريخ الفلسفة الغربية، (القاهرة: مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1967)، الجزء الأول، ص 23.
(6) إدوارد سعيد، ترجمة كمال أبو ديب، الاستشراق، (بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 2003)، ص 40.
(7) للمزيد من المعلومات عن أوضاع العالم العربي فى ظل الاستقلال السلبي، مقارنة بأوضاعه فى ظل الاستعمار الأوروبي، راجع: حازم خيري، آلام العالم العربي، (القاهرة: نشر المؤلف، 2005).