بقلم: يونس الوكيلي – المغرب
أصدر مارسل موس وهنري هوبير سنة 1904 دراسة في مجلة «الحوليات السوسيولوجية» بعنوان «مقالة في النظرية العامة للسحر». حملت هذه الدراسة أطروحة مركزية مضاعفة: الأولى تعتبر السحر ظاهرة اجتماعية[1]، والثانية أن المقدس في قلب المعتقدات والممارسات السحرية ولا ينفصل عنها بتاتا[2]. هاتان الفكرتان كانتا الرهان العلمي عند موس وهوبير، بالإضافة إلى محاولة اكتشاف العلاقة بينهما، أي الدين والسحر. ومن هنا فإن الموضوع الرئيسي للدراسة هو السحر بحسبانه ظاهرة اجتماعية كلية عرفتها كل المجتمعات الإنسانية. كان، إذاً، السؤال المحوري الذي قاد موس وهوبير في دراستيهما، هو: ما هو المشترك بين كل الظواهر السحرية؟
أولا: مكونات العملية السحرية:
يرى موس أن السحر يتضمن المكونات التالية؛ وكلاء، وأفعال، وتمثلات:[3]
الساحر أو الوكيل، وهو من يقوم بالأفعال السحرية، حتى إن لم يكن ممتهنا؛ ليس هناك سحر بدون ساحر كما يردد موس أكثر من مرة، لذا خصص مساحة واسعة للحديث عن الساحر باعتباره أحد عناصر السحر. يتميز الساحر بنوعين من المؤهلات، مكتسبة، وخلقية. إن جميع أفراد مجتمع ما يستثمرون من خلال الاعتقاد العام في المؤهلات الخِلقية التي يمكن أن تصبح، إذا أتيحت الفرصة، مؤهلات سحرية. هناك قاعدة عامة وهي أن الممارسات السحرية يقوم بها المتخصصون. في حين أن هناك طقوس يقوم بها الجميع ولا تتطلب ممارستها مؤهلات خاصة، إذ إنها تشيع بفعل التكرار، ولكن هذا لا يمنع أن تتوفر في الحد الأدنى على وصفة للولوج إلى التقليد، حتى تضمن قدرا من التأهيل. مع ذلك يؤكد موس أن ممارسة السحر في أي مجتمع من المجتمعات يبقى شأنا محفوظا تخصصياً.[4]
الأفعال، ولئن قلنا ذلك فإننا نسميها الطقوس السحرية أخذا بعين الاعتبار ارتباطها بباقي عناصر السحر[5]، وتلك الطقوس إذا لم تتكرر ولم تكن قابلة للانتقال ولا تزجر الجماعة من أجلها لا تعتبر طقوسا، بقدر ما أن الأفعال الفعّالة إذا لم تعتقد فيها كل الجماعة، وليس مجرد الفرد، لا تسمى سحرية.[6] يقول موس: إن الجمهور هو الذي يصنع الساحر، ويصنع كذلك التأثيرات الصادرة عنه. إن الساحر بفضل الجمهور يعرف كل شيء، ويستطيع كل شيء.[7]
ثم يأتي المكون الثالث وهو التمثلات أو الأفكار والمعتقدات التي تتعلق بالأفعال السحرية، والتي على أساسها يمكن تفسير الاعتقاد في فعالية الطقوس السحرية، ويلخصها موس في ثلاثة عناصر: الصيغ التعاطفية، والمقصود بفكرة «التعاطف » هو انخراط قوى من ناحية، وفكرة وجود محيط سحري من ناحية أخرى.[8] وتعزز هذه الفكرة في الممارسة بفكرة القوى في القرابين والصلوات والأدعية..الخ بما فيها طقوس سلبية مثل المحرمات والجن ألخ.[9] يؤكد موس في خلاصته إلى أن صيغ التعاطف، ليست قوانين للطقوس السحرية، وليست أيضا قوانين للطقوس التعاطفية. إنها فحسب ترجمات مجردة لتصورات جد عامة تدورحول السحر. إن التعاطف هو الطريق التي تمر منه القوة السحرية، وليست هو القوة السحرية نفسها. ويسوق موس مثالا نقلا عن سيدني هارتلان ليفسر طقسا تعاطفيا؛ إذ إن الاعتقاد الشعبي فيما يتعلق باتصال مشعوذ أو ساحرة عبر تجفيف حليب لامرأة تحضن طفلها أقل حذرا من مشعوذ ينسج اتصالا عبر العين الشريرة وسحر مشعوذ أو جنية شريرة.[10] والعنصر الثاني، هو مفهوم الخاصية، إذ إن استعمال الأشياء المتملكة عادة مشروطة بالطقوس، فهناك أولا قواعد للجمع، تحديد زماني ومكاني ووسائل ومقاصد… الخ، والنبتة المستعملة يجب أن تؤخذ من ضفة النهر أو ملتقى طرق أو على ضوء القمر في منتصف الليل، باستعمال أصبعين واليد اليسرى، ثم تناولها باليد اليمنى…إلخ. وقواعد للاستعمال، متعلقة بالزمن والمكان والكمية… الخ.[11] إن الخاصية السحرية لا تفهم بأنها طبيعيا وبشكل مخصوص متأصلة في الأشياء المرتبطة بها، بل هي نسبيا خارجية وممنوحة بشكل من الأشكال من خلال طقس تضحية وبركة ذو علاقة بأشياء مقدسة أو ملعونة. والخاصية مقولة تفسر من خلال أسطورة وفي هذه الحالة أيضا مكرسة بشكل صدفوي ومكتسب. مثل النباتات التي مشا عليها المسيح أو غير ذلك.[12] إن السمة السحرية لشيء ما تأتي من نوع من الاتفاق، ويبدو أن هذا الاتفاق يلعب دورا في جزء من أسطورة أو طقس.[13] من هنا نفهم علة أن مفهوم الخاصية يتضمن فكرة فضفاضة حول القوة والطبيعة. على العكس من ذلك، نجد في السحر بشكل واضح فكرة أن الأشياء تتمتع بمنافع غير محدودة: الملح، الدم، الريق، الحديد، الأحجار البلورية، والمعادن الثمينة، الرماد الجبلية، شجرة التين، والبخور، والتبغ… الخ، فهي تتوفر على قوى سحرية عامة.[14] ثم العنصر الثالث، وهو نظرية الشياطين، يرى موس أنه لا يوجد طقس سحري بدون حضور أرواح شخصية ولو بدرجة من الدرجات الممكنة، إن لم نقل بدرجة ضرورية. من جهة أخرى هذه النظرية يستشف منها أن السحر يشتغل في وسط خاص، وكل الأشياء تمر بالضرورة في عالم الشياطين، أو بشكل أدق في شروط تحضر فيها الشياطين إن أمكن.[15] وعلى الرغم من أهمية الأرواح والشياطين، فإنها لا تمثل سوى جزء من القوى المتضمنة في الفعل السحري بما فيها تلك المصنفة شيطانية. إن فكرة الأرواح، كمفهوم غير مشخص للسلطة الفاعلة، بحسب موس، تفسر بشكل جيد فعل الساحر عن بُعد، والفعل الناتج عن طقسه، لكنها لا تفسر وجود طقسه ولا خصائصه التي تجرى، مثل: الحركات التعاطفية، المواد السحرية، الشروط الطقوسية، اللغة الخاصة، الخ.
تمكننا كل العناصر الواردة أعلاه من تحليل الظاهرة السحرية وفعالية الطقوس فيها، لكن تفسير الظاهرة السحرية في عمقها بشكل يستجيب للمشروع الأنثروبولوجي لموس في دراسة الظاهرة الاجتماعية في كليتها هو ما سيبرز من خلال مفهوم المانا.
ثانيا: مفهوم المانا
سعى موس إلى إظهار نسقية السحر بصرف النظر عن التنوعات الطقوسية وتمثلاتها. ذلك ما حدا به إلى اقتراح مفهوم المانا »mana« ، وهو كلمة يستعملها الميلانيزيون في طقوسهم السحرية، ويشير إلى «قوة الاجتماعي ». انصب جهد موس على وصف قوة هذا الاجتماعي على الفرد دون اعتباره ظاهرة شبه مرضية؛ أي، فهم كيف أن ظاهرة تبدو مرضية من وجهة نظر الفرد تصبح عادية عند تأويلها من وجهة نظر المجتمع الذي يعتقد فيها. يرى موس أن كلمة مانا مشتركة بين كل اللغات المالينيزية وكذلك اللغات البولينيزية، إن المانا بكل بساطة ليس مجرد قوة، كائن، هو أيضا فعل، صفة، وحالة. بتعبيرات أخرى، إنه في نفس الوقت جوهر substantif ونعت، وفعل. نقول عن موضوع ما إنه مانا من أجل التعبير عن صفته، وفي هذه الحالة فإن المانا نوع من النعت )لا يمكن أن نقولها على الإنسان(، ونقول عن كائن، روح، إنسان، حجر أو طقس، أنه مانا، نقول «مانا لفعل هذا أو ذاك ». نستعمل لفظة مانا في عدة أشكال وعدة تصريفات، ويرمز إلى تملك المانا أو إعطاء المانا. إجمالا، هذه الكلمة تستوعب كثيرا من الأفكار التي نشير إليها بكلمات من قبيل: سلطة الساحر، الصفة السحرية لشيء، شيء سحري، كائن سحري، تملك سلطة سحرية، … الخ،[16] يشير أيضا موس إلى أن المانا مجرد وعام، وأكثر من ذلك ملموس. وطابعه البدائي يجعله معقد وملتبس، وينقل موس عن كودرينكتون أن المانا يمثل قيمة للأشياء، والأشخاص، قيمة سحرية، وقيمة دينية، وقيمة اجتماعية. إن المكانة الاجتماعية للأفراد لها سبب مباشر بأهمية المانا التي يتوفرون عليه، وبشكل أخص بموقعهم في المجتمع السري؛ إن أهمية وحرمة تابوهات الخاصية ترتبط بـ »مانا » الأفراد التي يفرضونها. إن الغنى المتوقع يكون ناتجا عن «المانا »، لذلك في عديد من الجزر، كلمة المانا تدل أيضا على المال. فكرة المانا تتكون من سلسلة من الأفكار غير المستقرة، التي تتأسس على بعضها، فهو من جهة صفة )مؤهلqualité (، إنه شيء ما غير شيء المانا، أي ليس الشيء نفسه، نصفه بالقول إنه قوة وثقيلة. في جزيرة «سآ » يصفه بالساخن، في جزيرة «تانا » بالغريب، الذي لا يندثر، والمقاوم، والعجيب. من جهة ثانية، أن المانا شيء، واقعي، جوهر عملي، ولكن أيضا غير مستقل. ومن جهة ثالثة، إن المانا عبارة عن قوة لكائنات روحية، مثل أرواح الأجداد وأرواح الطبيعة.[17] يشير أيضا موس أنه في فلوريدا عندما يمرض شخص ما، يعزون مرضه إلى المانا، وفي نفس الوقت يطلقون على الشخص الحامل للمانا اسم «تيندالو».
يخلص موس أن هناك عددا لانهائيا من «المانات »، وليست كلها بنفس القوة، وغير ثابتة. ببساطة، إن «المانا » موزع بين الكائنات والأشخاص والأرواح والأشياء والأحداث.[18] وهو قبل كل شيء، فعل بشكل من الأشكال، بمعنى أنه فعل روحي ناتج بين كائنات تعاطفية[19].sympathiques
يؤكد موس أن مفهوم المانا لا يقتصر وجوده عند الملينيزيين وحدهم، بل هناك مفاهيم مشابهة في عدد من الثقافات والمجتمعات، ويعطي أمثلة عديدة؛ عند أهالي مالي هناك مفهوم «الكرامات » و »الحُرم » ويعني المقدس، ويكون في الأشياء والأمكنة واللحظات، والحيوانات، والأرواح والأشخاص والسحرة، كلهم يمكن أن يرتبطوا بكرامات حسب موس، وهي عبارة عن قوة تنتج فعلا[20]. الملاويون أيضا عندهم مفهوم «لوريندا »، وعند «الكونكين » نجد مفهوم «مانيتو »، وفي المكسيك وأمريكا الوسطى نجد مفهوم «نوّال »، وفي أستراليا نجد عند قبيلة البيرث مفهوم «بووليا ». إلى غير ذلك من الأمثلة.[21]
إن مفهوم المانا حسب موس يقوم بعدة وظائف؛ يساعد بشكل كبير على التعرف على ما يجري في عالم السحر، إنه يشرعن لسلطة الساحر ويسوغ ضرورة الأفعال المنظمة والفضيلة الإبداعية للكلمات، والتواصل التعاطفي connexions sympathiques ونقل المؤهلات والتأثيرات، إنه يفسر في نهاية المطاف حضور الأرواح وتدخلها، لأنه يصور كل قوة سحرية باعتبارها قوة روحية. أيضا يعمل «المانا » على تحريك المعتقد العام المتعلق بالسحر، ففي الوقت الذي يلخص السحر فإنه يعريه من أغلفته ويغذي نفس المعتقد عبر تدبير كل أشكال السحر الممكنة.[22] يلفت موس الانتباه إلى أن المانا معطى «قبلي a priori » موجود قبل أية تجربة، ويشتغل كمقولة لاواعية في العقل البشري، ويختبر من خلال الوقائع[23]، فضلا عن ذلك، فهو ليس مقولة في العقل البشري الفردي، مثل مقولتي الزمان أو المكان، بل تطور عند الحضارات والمجتمعات بشكل متفاوت، إنه مقولة في التفكير الجماعي[24]. يؤكد موس أن مفهوم المانا مثل مفهوم المقدس مقولة من مقولات التفكير البشري الجماعي، له أحكامه، ويفرض تصنيف الأشياء، وفصل بعض منها، وتوحيد البعض الآخر، … الخ.[25]
ختاما
في الأخير، يظهر أن فرادة موس وهوبير بدأت من التأمل في علاقة الفرد بالجماعة، وهو تأمل راسخ في الفكر السوسيولوجي الفرنسي منذ نشأته مع إيميل دوركهايم. يعترف موس من الناحية المبدئية أن السحر يؤثر دائما ويصيب الفرد منعزلا، لكن ما يهمه هو ضغط المجتمع الذي يعتقد في السحر؛ إن فعالية السحر ذهنية وليست مادية، إجتماعية وليست فردية. إنه نَتَاج اعتقاد جماعي، عكس ما ذهب إليه جيمس فريزر قبله الذي فسر السحر تفسيرا نفسيا فرديا. لم يكن هذا التفسير مقنعا، ذلك أن موس وهوبير بحثا في تأثير الجماعة التي تخلق الساحر، فحاولا النظر في قدرات الساحر وفعالية طقوسه اعتمادا على معتقدات الجماعة التي ينتمي إليها الساحر. بناءً على ذلك، وجد موس وهوبير في مفهوم «المانا » قاسما مشتركا لتفسير الظاهرة السحرية أينما وجدت، لذلك استماتا في التدليل من ثقافات مختلفة على أن «المانا » يتخذ أسماءً مختلفة ليفسر نفس الظاهرة الاجتماعية الكلية.
الكاتب: يونس الوكيلي – باحث مغربي، حاصل على الدكتوراه في علم الاجتماع، جامعة محمد الخامس، الرباط. منسق إدارة الأبحاث والدراسات بمؤسسة مؤمنون بلا حدود. مختص في أنثروبولوجيا الإسلام والنظريات الاجتماعية. نشر العديد من الأعمال العلمية، منها: “سوسيولوجيا الإسلام المغربي: نظرات في حصيلة الأرشيف الفرنسي” ) 2013 ( الصادر عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود.
الهوامش:
[1] Marcel Mauss ,Sociologie et anthropologie, précédé par Claude lévi-Strauss, 13e édition, Quadrige, 2013, p. 32, p. 134
البحث المعتمد بعنوان: »Esquisse d’une théorie générale de la magie« ص ص 3- 141
[2] نفس الأمر قام به في دراسته للتضحية والهبة والصلاة.
[3] Ibid, p.10
[4] Ibid, p. 18
[5] Ibidem.
[6] Ibid, p. 11.
[7] Ibid, p. 32-33.
[8] Ibid, p. 92.
[9] Ibid, p. 93.
[10] Ibid, p. 246.
[11] Ibidem.
[12] Ibid, p. 96.
[13] Ibidem.
[14] Ibidem.
[15] Ibid, p. 98.
[16] Ibid, p. 101.
[17] Ibid, p. 102.
[18] Ibid, p. 104.
[19] Ibid, p. 105.
[20] Ibidem.
[21] Ibid, p. 108-110.
[22] Ibid, p. 111.
[23] Ibid, p. 112.
[24] Ibid, p. 113.
[25] Ibid, p. 115.