كيف تشكلت الجماعة البشرية الأولى ؟!
وجدوا أنفسهم فجأة بين بعضهم البعض ؟ أم تطورت تقنيات التواصل بينهم أثناء تطورهم ؟!
وهل يمكن أن يجيبنا الدين ؟
سأروي القصتين ، قصة التطور ! وقصة الدين ! بعدها نستنتج …
تقول قصة التطور ، أنه منذ ملايين ملايين السنين ، وبعد أن هدأت فترة الوابل النيزكي بدأت الأرض تبرد تدريجياً ، وبدأ تشكل غلاف واقٍ لها ، سمح للحياة أن تخرج من المياه العميقة لتبدأ الإنتشار على اليابسة !
بالطبع لن يجيبنا التطوري عن أصل الحياة ، وكيفية النشأة ! ولن نحرجه الآن …
على اليابسة ، إنتقلت الحياة من كونها برمائية إلى برية ، ثم توقفت عن كونها زاحفة ، لتتحول شيئاً فشيئاً إلى الأشجار ،
ثم بدأت تمشي شبه منتصبة ، وإفترقت بين من بقي على الأشجار (كالقرود) ، وبين من أصبح (عبر حلقة مفقودة) بشرياً !!
ويستغرق هنا التطوري في الأرشيف المتحجر للبقايا العظمية ، ومنها هياكل شبه كاملة ! ويبدأ بإعطائها أسماءً : إريكتوس ، إرغاستر ، هابيليس ، نياندرتال ، رودولفينسيس ، سابينس إيدالتو …
ونحن !
القدرة التخيلية عند التطوري مميزة حقاً ، وقدرته على إجتراح أسماء تثير الإعجاب !
لكن مهلاً ، لم تنته إبداعاته ، فلنستمتع .
بدأ إنتشار الإنسان الحديث من أفريقيا الشرقية ، لماذا ؟ لأن البيئة كانت في صفّه هناك ، وسمحت لمقدرته التواصلية على تحقيق النقلة النوعية ، فبدأت اللغة ، وهذا يظهر بوضوح في جمجمته !
لماذا كان لهذه البيئة ، هذا التأثير “اللغوي” ؟ لا نعلم !
لكن الأحافير تؤكد أن هذه النقلة اللغوية كانت منذ حوالي 120 ألف عام !
ثم ، متســـلحاً بتقنية التواصل ، بدأ الإنتشار من أفريقيا إلى كل العالم ، مســـتفيداً من كل الأحداث البيئية . كيف ؟ إذا كان هناك جليد ، إســـتخدمه كممر للعبور من منطقة إلى أخرى ، دون إضطراره لإســـتخدام قوارب لمسافات طويلة ! مثلاً : المســــافة من الهند إلى أســتراليا ، ضاقت لدرجة أن أصبح بإمكانه التفكير بالعبور وتجربته ، وبعدما إنحســـر الجليد ، أضحى لكل جماعة طريقة تطور مختلفة …
وهنا يسهل على التطوري التخييل ، فيعيث فساداً في الأحافير لتأكيد أفكاره المسبقة ! وهذه – أي الفكرة المسبقة (إقرأ : الفرضية) – تقضي على أي أمل برؤية حقيقية للواقع كما هو ! وتحرّف التوصيف وتعدّله ليصب في خانة ما إنطلق منه !
إذن ، بدأ الإنتشار ، وبدأ يتعامل مع البيئة ، ومع المخاطر التي تفرضها الحيوانات المتوحشة ، ومع ما يشكله البحث عن الماء والطعام من تأسيس لنمط معتمد حالياً في تقسيم تاريخ المجتمع البشري ككل ، لكن سنصل إلى هذا التقسيم بعد قليل .
لأعرض المسألة كالتالي : مجموعة صغيرة من الأشخاص ، إلتقت في مكان ما ، أول أمر ستحاول أن تنجزه ، وقبل التواصل ، هو البحث عن المأوى !
لماذا ؟
تقول بعض الأبحاث الحديثة أن قدرة الإنسان على الصمود بدون أوكسجين 3 دقائق ، وبدون مأوى 3 ساعات (في بيئة قاسية) ، وبدون ماء 3 أيام (شرط تأمين المأوى) ، وبدون طعام 3 أسابيع (شرط تأمين المأوى والماء) !
لا أدري سببية رقم 3 ، لكن يبدو أن الباحث من المعجبين برقم ثلاثة ، فاعتبره مدى ملائماً .
إذن ، بدأت مجموعتنا بالبحث عن مأوى ، فرادى ، في البدء ، ثم لا شك أنهم تعاونوا .
هنا يتروى التطوري قليلاً ، لكنه يحسم أمره ويجيب أن التعاون مفيد ، إذ عبر الإنتخاب الطبيعي ، سيبقى الأكثر تعاوناً ، لأن المتعاون قادر على مواجهة المخاطر أكثر من المنفرد (أو الأناني) !
لكن ، كيف نشأت هذه “الغريزة” ؟! سيجيب قبل أن تكمل : طفرة !
وهذه الطفرة هي جواب سحري لكل بحث عن الأصل ، ويمكن لك أن تستبدلها بكلمة “صدفة” ، ولن تشعر أن هناك شيئاً ما تغير في المعنى أو في السياق !
المهم أن هذه الجماعة تعاونت ، فقدرت على تأمين مأوى ، هذا التعاون ليتحقق لا بد له من وسيلة تواصل ، هنا نشأت الإشارة التي يرسلها مرسِل إلى مرسَل حاملةً رسالة ! وبعدها/معها نشأت الأصوات لتسهيل العمل وتسريعه !
إذن فرض التعاون لتأمين المأوى وجود اللغة ! كذلك فرضها التعاون لتأمين الماء والطعام !
الآن ، نصل إلى التقسيم الذي يبدأ بجماعة الصيد والجمع والقطاف !
يتطلب الصيد قوة بدنية ، كما يتطلب رحلات بعيدة ، وهذا لا يمكن للحامل أن تنجزه ! فبقيت في المأوى ، وذهب الرجل إلى الصيد .
هو يصطاد ، ويبادل اللحم بما تجمعه وتقطفه هي !
تكامل جندري ، ممتاز !
وجود المأوى ، الماء والطعام ، سمح له بالتزاوج !
هل كان مشاعياً ؟ هل كان أحادياً ؟ لن نتأكد من فرضيتنا . لكن لا شك أن هناك رجل مع أكثر من امرأة ! لأن المرأة تحتاج إلى 9 أشهر للحمل ! وأكثر من إمرأة ، يعني أكثر من ولد .
هذا في حال الوفرة ! وكلما ضاق الحال ، كلما كان “طبيعياً” أن يكون التزاوج أحادياً !
ألهذا يُذكر في خبرياتنا الشعبية ، أن على المرأة ألا تترك نقوداً مع زوجها كي لا يتزوج عليها ؟!
هذا الكلام يرسـم إبتسـامة واسعة على وجه “صديقنا” التطوري ، وكأني به (وهي بالمناسـبة عبارة أمقتها) يقول : أرأيتم ؟!
المهم ، لدينا في قصة التطور ، أن التزاوج جاء بعد المأوى والماء ، لا قبل !
إكشتفت جماعتنا النار ، صدفة أو صاعقة أشعلت أشجاراً أخافت الحيوان ، فإستخدمها لاحقاً الإنسان ، أم حالة تأمل وتفكير ، ومن ثم حك حجرين ببعضهما على عشب جاف ، وبعد أن إشتعلا ، أضاف لهما أغصاناً أكبر فأكبر ، هذا ما لن نعرفه !
والتطوري هنا يقول براحة ضمير : كلها مسألة إنتخاب طبيعي !
إكتشف النار ، والأدوات ، وأصبح أقوى ، إستخدم الملابس لتقيه القر والحر …
ليس هناك من تخصص بعد ! ولم تنشأ الروح الفنية !
بالطبع تمت صناعة بعض الأدوات : رماح ومديات من خشب وحجر وعظام ، كما صناعة سلال للجمع والحفظ ، من قصب وجلد … (تبعاً للحاجة والمتوفر في البيئة) .
ما زالت الحياة صعبة ، وعلى جماعتنا أن تنطلق برحلات طويلة للصيد ، وبعد فترة من القطاف ، لن يبقى هناك شيء لقطفه ! وعلى الجماعة البشرية أن تنتظر الطبيعة لتثمر مجدداً !
الموارد الطبيعية محدودة ، والإستهلاك أكبر من الإنتاج الطبيعي ! لذا حياة الترحال الدائمة !
وهذا يعني عدّة مسائل :
- لم يكن المأوى مبنياً ليكون ثابتاً ! وقد يكون كهفاً !
- عدد الصغار محدود ، فحمل الأطفال لمسافات بعيدة قد يهلك الجماعة كلها ، لذا قد يتم التخلص من الأطفال الذين يتأخرون في المشي ! أو ذوي الإعاقات (صغاراً وكباراً) !
- إمكانية البدء بالزراعة معدومة ! لأنها تحتاج إلى إســــتقرار ، والذي على أساسه يمكن تأمل الطبيعة وملاحظتها ، فمحاكاتها ، أو عبر الصدفة إكتشافها !!
- لم ينوجد الفن ، بل كان المهم القدرة العملانية للأداة ، لا جماليتها !
- التخصص أيضاً ، والذي يعتمد على الوفرة ، لم ينوجد !
ثم ،
وجدت الجماعة نهراً (مصدراً مستمراً للمياه) ، ووجدت غابة قريبة (مصدر قطاف لا ينضب) ! فقرّرت أن تسكن المكان !
لماذا وكيف وأين …؟ لا داعي لأن نحرج صديقنا التطوري !
وهنا نصل إلى المرحلة الثانية من التقسيم الشهير ، وهي البستنة (horticulture) .
وهي تعني إستخدام أدوات بدائية يمكنها أن تشكل حفرة/ثقباً في التربة ، يتم وضع البذرة فيها !
لم تتوقف الجماعة عن الصيد والقطاف ، بل أضافت لها البستنة كوسيلة للتغلب على التقلبات البيئية القاسية !
كما بدأت بالإهتمام بإستئناس الحيوان ، الكلب (أو الذي أصبح كلباً) أولاً ، ومن ثم الخروف والماعز ، الخروف أمّن الحليب والفرو واللحم !
بدأت تفكر الجماعة بالإستقرار .
الأساس هو المأوى ، فبدأت الجماعة تستخدم الحجر للبناء ، بأشكال دائرية أولاً ، ومن ثم أبنية ذات زوايا !
إستئناس الحيوان (husbandry) هو مرحلة تمتد من البستنة وإستمرت مع الزراعة !
هذه المرحلة تميزت ببدء التخصص وبولادة الفن ، لأن الوفرة تعني أن الجماعة تقدر على الإســـتغناء عن قوة فرد أو أكثر ، ليتخصصوا في أمور كمالية ، فنية ، أو تخصصية (مثلاً صانع رماح فقط) !
لم تصل الجماعة إلى حجم المدينة ، لكنها بدأت تتشكل كقرى متباعدة ، مع علاقات تبادلية .
يعتبر بعض الباحثين أن التجارة هي أولى مراحل التقسيم ! حتى بين مجموعات صغيرة من الأفراد ! ويعتبر أن حصيلة اللغة ، بعد التعاون لتأمين مأوى ، هي التجارة ! هذه فكرة منطقية نوعاً ما ، وقد يوافق صديقنا التطوري عليها ، فهي لا تخالف قصته ولا تضرّها !
بعد إستئناس الحيوان إذن ، بدأت الزراعة ، فكيف بدأت ؟!
- إستئناس حيوانات قوية : حمار ، ثور …
- وجود مصدر مائي دائم .
- أدوات قوية يمكنها أن تقلب التربة دون أن تنكسر (برونز ، حديد …)
- فكرة المحراث !
الزراعة هي المرحلة الرابعة من التقسيم ؛ وهي قفزة نوعية هائلة من حيث نمو الجماعة ديموغرافياً ، ومن حيث بداية تأسيس المدينة !
ووجود المدينة ، يعني تخصصية أكبر …
الزراعة أمنت فائضاً كبيراً ، أمكن معه إختراع أطعمة جديدة !
التخصصية تعني أيضاً ، وجود رتب إجتماعية ، تظهر من خلال الملابس ذات الألوان والأشكال المختلفة !
لماذا الألوان ، لأنها لم تكن متوفرة ، ولإقتنائها تحتاج إلى أموال ، هنا تدخل التجارة عاملاً أساسياً ، حيث يتم إستقدام الألوان من أماكن بعيدة !
الحمار نفع كثيراً هنا !
الحضارات ، يقولون ، نشأت مع المرحلة الزراعية ! كذلك مرحلة التوسع العسكري !
ومنهم من يربط وجود المدن مع نشأة الدين ، بمعناه المؤسسي ! لكن سنعود للدين بعد قليل .
المرحلة الصناعية ، أتت بعد الزراعية ، وهذا تفصيله مؤرخ بدقة لحداثته !
اليوم ، نعيش المرحلة السادسة ، ما بعد الصناعية ، الخدماتية ، المعلوماتية ، الرقمية ! وهذا حديثه أيضاً حديث ، لذا أتركه لحادث آخر !
أعود إلى فكرة الدين ، عبادة الأسلاف يطلقون عليها ، ويعتبرونها الأصل ! حيث أظهرت الأحافير ، أن بداية الإستقرار كانت الدافع لنشوء الدين !
هذا كان مع مرحلة البستنة !
المأوى ، المبني من حجر ، في وسطه موقد حجري ، هو ذاته المدفن ! يموت رأس البيت ، فيدفن هناك ! وبعد فترة ، تنبش عائلته القبر ، لتستخرج جمجمته !
الأسباب مجهولة بالطبع ، والبقايا لا يمكن الإعتماد عليها لتأكيد فرضة العبادة !
لكن الحفريات ، تشير إلى أن الجمجمة المستخرجة كان يتم وضعها في البيت ، وفي بعضها كان يتم إعادة تشكيلها بإستخدام الطين ، لتصبح صورة (ثلاثية الأبعاد) للراحل !
هل هي للذكرى ؟ أم للعبادة ؟! لن نعرف !
فلماذا تنطّع “التطوري” لإثبات العبادة ؟ هذا يعود إلى وجهة نظره المسبقة عن كيفية نشوء الدين ، وعن بعض الأحافير التي “ربما” – وهي كلمة أثيرة عن التطوريين – تشير إلى ذلك !
هذه قصة التطوري بإختصار ؛ فبماذا تختلف عنه قصة الدين ؟!
[يتبع الأسبوع القادم]
ملاحظة : هذه إعادة نشر من مدونتي