كاميليا الورداني
تفيد “الإثنوغرافيا” الدراسة الوصفية النوعية والكمية لمجموعة بشرية معينة تكون بمثابة مجتمع مصغر من مجتمع أكبر، وهي من بين أهم العلوم التي تنضوي تحت مظلة الأنثروبولوجيا.
وتشمل هذه الدراسة وصف الحياة اليومية والعادات والتقاليد والطقوس الدينية والاحتفالية والتنظيمات الاجتماعية، وغيرها من التمظهرات الثقافية المادية واللامادية التي تشكل الهوية الثقافية لكل مجموعة بشرية، والتي بها تتميز هذه المجموعة عن المجموعات الأخرى.
وهي تضم عدة تقنيات وأدوات تتكامل معرفيا بغرض التوصل إلى نتائج تطمح إلى تحقيق نسبة من العلمية. وهي عموما وثيقة الصلة بالعلوم الاجتماعية، بحيث لا غنى لهذه العلوم عن الإثنوغرافيا؛ وذلك بالنظر إلى ما تمد به هذه العلوم من معطيات ملموسة ميدانيا.
وإن الحديث عن الإثنوغرافيا في الأصل إنما هو حديث في صميم حقل الثقافة الشعبية؛ فبعد أن أثبتت هذه الثقافة جدارتها بالدراسة الأكاديمية ـ بدخولها مختبر العلوم الاجتماعية من بابها الواسع ـ أضحى جليا أن الثقافة الشعبية كانت في الأصل المادة الخام التي عليها دارَ مدارُ تاريخ الإثنوغرافيا.
وبالتالي فإن الإثنوغرافيا في ماهيتها هي دراسة وصفية لأسلوب الحياة الشعبية لجماعة بشرية معينة؛ إذ إنه بالنظر إلى العلاقة التاريخية التي تحظى بها الإثنوغرافيا، فهي تعد علما تراثيا لقيامها بالأساس على تدوين وتسجيل الظواهر الثقافية الشعبية تسجيلا وصفيا مفصلا قائما على الاستكشاف والاستقصاء وتوفير بيانات حية من قلب المجتمع المدروس؛ بحيث إن العالِم الإثنوغرافي يُشترَط فيه مشاركة أفراد مجتمعه المبحوث في حياتهم اليومية، بما في ذلك المشاركة الحية في الاحتفالات الشعبية والطقوس الدينية، وغيرها من الممارسات الجديرة بالملاحظة البناءة.
والحديث هنا يفيد قضاء فترة زمنية لا تقل عن السنة، تقتضيها مهمة الإثنوغرافي قصد الاندماج في ثقافة الجماعة. كما أنها مهمة تستدعي بعض الأخلاقيات التي من دونها تنحو الدراسة منحى آخر؛ وعلى رأس هذه الأخلاقيات ضرورة تحلي الإثنوغرافي بالموضوعية والحيادية الإيديولوجية، وفي المقابل تجنب الذاتية والاستعلاء اللذان قد يكون لهما الأثر غير المرغوب في تحويل مسار نتائج الدراسة الوصفية ـ خاصة وأن حقل الثقافة الشعبية اليوم يراهن على تشريح البنى المعرفية التي تمثل اللبنة الأصلية في نشوء المجتمعات وارتقائها. وبالتالي فالركون إلى التحيزات الذاتية في منظورها العنصري الضيق إنما هو تنكر لأصل الثقافة بمفهومها الإنساني الكوني.
وفي هذا السياق، فإنها جديرة بالذكر تلك الصلة الدموية التي تربط علم الإثنوغرافيا بعلم “الإثنولوجيا” (علم الأعراق)، وهو علم دراسة الأعراق البشرية بمفهوم يتجاوز مجرد الوصف الذي تمثله الإثنوغرافيا، إلى دراسة هذه الأعراق دراسة بنيوية تحليلية؛ فإذا كانت الإثنوغرافيا دراسة وصفية لأسلوب الحياة اليومية وتسجيل الفولكلور بكل ما يدخل في خانته من طقوس وممارسات شعبية والتنظيمات الاجتماعية، اعتمادا على المسح الميداني، فإن الإثنولوجيا (أو علم دراسة الأعراق البشرية) يدرس السلالات والشعوب في صلب ثقافتها الشعبية دراسة تكشف عمق التمثلات والتفاعلات الإجتماعية والرمزية داخل بنية الجماعة؛ وتذهب أبعد في تحليلها اللغات الشعبية تحليلا سياقيا يأخذ بعين الاعتبار تشكلها في المجال الجغرافي الذي تتوزع فيه. وبالتالي فإن بالإمكان اعتبار الإثنولوجيا علما ينحو منحى إيديولوجيّا في تعامله مع الثقافة الشعبية. وهو بهذا امتداد معرفي منهجي لعلم الإثنوغرافيا المكتفية بالوصف من قلب الميدان.
وبالإضافة إلى الأسس التي تقوم عليها كل من الإثنوغرافيا والإثنولوجيا في تعاملهما مع تجليات الثقافة الشعبية لدى الجماعات البشرية، فإن أهم ما يؤطر البراديغم الإثنولوجي هو مبدأ المقارنة؛ فبمجرد توفر المعطيات البنيوية المستقاة من دراسة “فولكلور” عينة بشرية ما، تأتي مهمة الإثنولوجي في مقارنة المعطيات المتوصل إليها داخل المجال الجغرافي ذاته، ثم بين مجال جغرافي وآخر؛ أي بين دماعة بشرية وجماعة أخرى لإظهار مدى التفاوت الثقافي والبيوـ ثقافي، وتفسيره وفق تصورات ومعايير من منظور كل عالم إثنولوجي.
وإن كانت كل من الإثنوغرافيا والإثنولوجيا تختلفان في منظور الدراسة، لاعتماد الأولى على التسجيل والوصف والثانية على التحليل والمقارنة، فإن القاسم المشترك بينهما هو اقتصار الاثنين في اهتماماتهما بشكل مفصل ودقيق «بدراسة الوحدات الاجتماعية الصغرى (الميكرو) أكثر من [اهتمامهما] بتحليل الوحدات الكبرى (الماكرو) داخل البناء الإجتماعي»1.
ومن هذا المنظور تتشكل رؤية تكاملية بين العلمين معا في تحويلهما الثقافة الشعبية لموضوع جدير بالدراسة الاجتماعية ـ خاصة بعد تلاشي بعض المفاهيم التبخيسية (مثل: البدائية ـ الهمجية ـ المتوحش ـ المتخلف…). وبناء على هذا، فإن كلا من الإثنوغرافيا والإثنولوجيا في علاقتهما بالظاهرة الشعبية بوصفها أسلوب حياة، هما رصد أضفى العلمية على دراسة المجتمعات البسيطة ليوفر بالتالي للعلوم الاجتماعية مادة خصبة حية للدراسة والتحليل والتفسير، وكذا فحص المرجعية “الشعبية” للظواهر السوسيوـ ثقافية.
فضلا عن هذا، فإن ثنائي الإثنوغرافيا والإثنولوجيا يمثل كُلا متكاملا في دراسة الظواهر الشعبية دراسة منهجية؛ فإذا كانت الإثنوغرافيا علما واصفا دقيق الوصف لثقافة جماعة عرقية ما، فإن الإثنولوجيا تحلل هذه المعطيات والبنى الثقافية المتوصل إليها وتفسرها، ثم تقارنها، لتؤول نتائج هذه المقارنة وفق تصور العالِم الإثنولوجي ـ وإن كان الملاحَظ حقيقة أن الباحثين يخلطون بين العلمين خلطا شديدا.
غير أن كون الإثنوغرافيا والإثنولوجيا على ذمة العلوم الاجتماعية والإنسانية، فهو ثنائي لم يسلم من بعض التعثرات التي تجعله في حاجة لا محيد عنها إلى غيره من العلوم، ولا غرو في مثل هذا “التعثر” الطبيعي؛ فالتكامل سُنّة في العلوم بصفة عامة، مثلما هي سُنّة في العلوم الإنسانية والاجتماعية بصفة خاصة.
الهوامش:
1ـ روبرت إيمرسون، راشيل فريتز، لندا شو: “البحث الميداني الإثنوجرافي في العلوم الإجتماعية”، ترجمة: هناء الجوهري، المركز القومي للترجمة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2010، ص: 20
سلام الله اليكم. الشكر موصول لكل من ساهمت ويساهم في مثل هذه الافكار المنتجة معرفيا .ومن بينهم الدكتور المحترم مبروك بوطقوقة وما يبذله من مجهودات جديرة بالتقدير في مجال الأنثروبولوجيا.
فقط اود منكم افادتنا بالطرقة المنهجية العلمية المعتمدة في تحليل المذكرةت الاثنوغرافية. ونموذج وإفادتنا بنموذج نحكم لدليل شبكة الملاكمة المعايشة.
تحية وإحترام وتقدير لكن.