التنوّع الثقافي والاختلاف

الدكتور المنجي بوسنينة*

نظرا الى أن الأمر يدور على معنى “التنوع والاختلاف” فإننا بإزاء مفهومين متقاربين دون أن يتماهيا، ومتميزين دون أن يتضادا، إذ يمكن في مقاربة أولية القول بأن التنوع هو تعدد الرؤى والأشكال والأنماط التعبيرية، وهذا بحد ذاته إغناء للمعرفة وإخصاب لها وتعديد لروافدها.

. فالثقافة العربية التي ننتمي إليها من أبرز مظاهرها وأهم مميزاتها أنها ثقافة واحدة من جهة اللغة التي هي العربية التي جاء بها الإسلام ودُوّن بها القرآن الكريم، ولكنها ثقافة زاخرة بإبداعات الدول العربية، ومتنوعة بالأشكال والألوان والأصوات والتشكيلات، وانه لتنوّعٌ خصب في إطار الوحدة، إذ أن لكل بلد أنماطه الثقافية، وأسلوبه ومشافهاته وتراثه الخصوصي، وكل ذلك روافدُ تصب في نهر الثقافة العربية الواحدة.

إن اللغة العربية، مثلما تؤكد على ذلك الخطة الشاملة للثقافة العربية، هي أبرز مظاهر الثقافة العربية وأكثرها تعبيرا وأثرا بوصفها وعاء الوجدان القومي. وكثيرا ما تندمج خلائطُ عرقيةٌ متباينة في إطار ثقافة قومية واحدة نتيجة للعامل اللغوي والاجتماعي الموحد.

إن هذا هو التنوع الثقافي، وهو أحد مظاهر قوة هذه الأمة في الإطار العربي القومي الذي يُظل أقواما وأمما لها خصوصيات ذاتية في النطاق الوطني. لكن هذه الخصوصيات المحدودة إذا ما جمعناها وراكمناها الى بعضها البعض تقدم صورة مشرقة ومتعددة الأبعاد لهذه الثقافة.

ونحن شديدو الاعتزاز بالانتماء لهذه الثقافة، كما أن اعتزازنا أعمق بانتمائنا الى الإسلام الحنيف الذي هو دين متكامل الأركان تتجلى مظاهره الحضارية في إنسانيته وفي دوره البارز في إخصاب ثقافات وحضارات تنتمي الى الإسلام، وترتبط به وتنضوي تحت لوائه. فالثقافة العربية إذا ما نظرنا إليها من هذا الإطار الحضاري الأمثل هي نتاج ثقافات أخرى، تمتد من إفريقيا الى الصين، ومن آسيا الوسطى الى بحر الظلمات، وإسهام الأمم والشعوب الأخرى والعلماء من كل هذه الأصقاع في إغنائها هو شكل من أشكال هذا التنوع الإيجابي. فبفضل أولئك العلماء من كل الأمم والنّحل اكتسبت الثقافة العربية والحضارة العربية الإسلامية روافد شتى، وبدت أكثر تنوعا، وتلك ميزة لم تتوفر لأي ثقافة عداها.

ولعله بفضل هذا التنوع، والقدرة الهائلة على الانفتاح على الآخر، اكتسبت الثقافة العربية الإسلامية مميزاتها الحالية وإنسانيتها، بمعنى أنه أصبح لهذه الثقافة – كما تشير الخطة الشاملة – خصائصُ ومُثلٌ وقيمٌ و فاقٌ إنسانيةٌ متفردةٌ، تجري فيها مجرى العناصر المكونة لها. فالأخوّة والعدل والمساواة والسلام والحرية والتسامح والتكافل واحترام العقل وكرامة الإنسان والتفكير في الكون، ورفض الظلم والعدوان هي بديهيات في ذاتيتنا الثقافية وتراثنا الروحي والفكري.

لذلك لا يمكن تصور تنوع ثقافي على معنى العداوة، وعلى معنى المواجهة والكراهية والتحارب، إنما الحقيقة أن التنوع الثقافي هو إغناء للثقافات، وتعزيز لقدراتها، وإكسابها أبعادا إنسانية، وإطلاق العنان لآفاقها الإبداعية.

والأمثلة المشابهة لحالة الثقافة العربية الإسلامية قد لا تتوفر إلا عند شعوب أمريكا اللاتينية التي لها نفس خصوصيات التنوع في إطار الوحدة اللغوية مما جعل إسهاماتها في الإبداع الأدبي والفكري تصل شأوا بعيدا وتحظى بالعالمية في مجالات عديدة.

ومن المجازفات غير المحمودة أن نعتقد بمفهوم اختلاف الثقافات، ونحاول أن نميز هذا المفهوم ونبرره ونفلسفه، فالثقافة في معانيها المختلفة تعني القدرة على التأقلم والتهذيب وتربية الإنسان وتأنيسه، والتأثير في سلوكه وفكره ونمط عيشه وتغذيته بالقيم الروحية والوجدانية ومنحه القدرة على التفكير والالتزام بالمبادئ والارتقاء به الى مستوى الكمال، فإذا ما كان هذا ديدن الثقافة وفعلها ووجهتها، فلا نظن ان توجد ثقافة ما، تخالف ثقافة غيرها، أو تتصدى لمواجهتها، أو تجعل من الاختلاف ميدانا للصراع والصدام.

إن الشرط الأساسي للثقافة هو أن تكون مؤثّرة إيجابيا، وليس سلبيا، وبهذا المعنى فإن الاختلاف بين الثقافات، والدعوة لهيمنة ثقافة على أخرى، والإقرار بثقافة عالية وأخرى متدنية، وثقافة كونية وأخرى محلية هو من صنع السياسات التي تحاول إقامة الحواجز والحدود بين الأمم والشعوب والحيلولة بين التقارب بينها، وقطع حبال التواصل الذي تعد الثقافة أداته المثلى ووسيلته الأكثر نجاعة وجدوى.

ليست النظرية الثقافية – حين نحسن إدراكها – إلا نظرية في الإنسان. ولا حرج على علماء الانطروبولوجيا، وعلماء الاجتماع، وعلماء النفس، في أن يؤكدوا ما بيننا من فوارق تبيّن تنوع الظواهر الإنسانية وثراء التجربة التاريخية.

ولكنهم غير مخطئين أيضا حين يعلموننا – كما فعل ذلك كلود ليفي ستروس – أن الهمجي ليس إلا “من قال بالهمجية”، ذلك أن الإنسان يعرف كيف يتعرّف على الإنسان شبيهه وصنوه، بصرف النظر عن فوارقنا المشروعة واختلاف عاداتنا وتباين أزيائنا.

وليست الإنسانية مجموعة أفراد، ولا هي أيضا ضرب من التجريد المنطقي، بل هي المثل الأعلى والقيمة الأسمى، التي تجمع الشبيه الى الشبيه، بصرف النظر عن الحدود المكانية والزمانية، وعن العرق والدين ولون البشرة. وما الثقافة في نهاية الأمر إلا ما يجلّ الإنسان، لذلك حق فيها أن تكون عناية بالسلم والتقدم والتسامح إذ هي في حقيقتها الأعمق، احترام الكرامة البشرية.

والحق أنه حين نتدبر شأن تلك المثل العليا نتيقن أنها في كليتها مثل إسلامية تنتظم في صلبها علاقات الكوني بالخصوصي ومنطق الهوية بمنطق الاختلاف والتنوع.

ذلك هو – على ما يبدو لي اجتهادا – المعنى العميق لهذه الآية القرآ نية التي كثيرا ما تُتلى، وقلّ أن تُفهم حق الفهم. جاء في سورة الحجرات قوله تعالى: “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا..”.

ولئن كنت لا أدعي لنفسي قدرة على اختراق الأسرار الإلهية ولا استطاعة على النفاذ الى مقاصدها البعيدة، فإن من واجبنا جميعا أن نجتهد – دون خروج عن قواعد الاجتهاد – في تأمل القول الإلهي وفي تخريج معانيه، دون ان نلتزم ضرورة معاودة السير على سبل مطروقة.

فإذا ما احتطنا لأنفسنا على ذلك النحو كان لنا ان نذهب الى ان هذه الآية القر نية تصرّف التصريف الأحكم، علاقات الكوني بالخصوصي، والهوية بالفرق، وترتفع ارتفاعا غير متوقع بتلك العلاقات الى مصاف المبدإ الانطولوجي والقيمي والثقافي.

فالرسالة القر نية، من حيث هي رسالة إلهية، لم تتوجه الى أمة بعينها ولا الى شخص مخصوص بل هي – على العكس من ذلك – رسالة كونية على معنى أنها تتوجه الى العنصر الماهوي أي الإنسان من حيث هو إنسان في كونية مفهومه أي في كنهه ذاته.

وعلى هذا النحو يكون الإنسان مخلوقا إلهيا وهو ما يشير إليه قوله “يا أيها الناس إنا خلقناكم..” مؤسسا بذلك – نصّا ومعنى – تساوي البشر في الكرامة.

وما كان لي أن أتوقف عند ذلك المبدإ، لو لم يُنتَهك يوميا انتهاكا محزنا، هو في حقيقته إعراض عن الإرادة الإلهية. وما يجري في أرجاء كثيرة من العالم، وفي الشرق الأوسط عامة، وفي فلسطين خاصة، يفرض على المفكر والسياسي وعلى أصحاب الإرادة الخيرة جميعهم، واجب التذكير بذلك المبدإ البديهي، وقد تنكر له البعض بل نفوه نفيا صريحا، ولا سيما أولئك المدافعين عن نظريات تفاضل الثقافات والأعراق والأديان. لذلك كان عليّ أن أذكّر بما لا يحتاج في الحقيقة الى التذكير به، فعسى أن يكون في التذكير ما ينفع، لا سيما وأن الكثير يدعي وصلا بمبدإ الكرامة الإنسانية ولكن الملتزمين بها قلة.

ذلك ما يجعل التساؤل عن تنوع الثقافات يبلغ بصاحبه اليوم من الضيق أقصاه، حتى ذهب الرأي ببعضهم الى أن القرن الحادي والعشرين سيكون قرن القلق المتجدد.

ففي عصر عولمة أنماط الإنتاج والاستهلاك والتوزيع، وفي عصر التنميط الذي بلغ الذروة، وتوحيد المقاييس توحيدا لا حدّ له، نجد أن الإنسانية تحتج – عن استحقاق – على إخضاع روحانية ثقافاتها الى مقتضيات المتاجرة.

لا ريب في أن العولمة، بصفتها مرحلة حاسمة في مسيرة التاريخ المعاصر، ليست في حد ذاتها لا خيرا ولا شرا، بل هي موضع مولد الخير أو الشر، بحسب ما نفعله بها. فخلافا لما يجري عليه الأمر عند المتشائمين القاعدين، أو المتفائلين السُذّج، تقضي الحكمة بالقول بأن لنا من دواعي الرجاء في العولمة على قدر ما لنا من أسباب الخوف منها، وليس علينا إلا أن نعمل حتى يرجح ميزانها الى جهة الخير، وذلك حق من حقوقنا وواجب من واجباتنا.

 

* المدير العام للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم