ليسلى هوايت (1900-1975)
التطورية الجديدة
يمثل الاتجاه التطوري، كما أوضحنا، أحد أقدم المحاولات وأكثرها انتشارا لتفسير تطور الثقافة. ونعنى بالاتجاه التطوري تلك الفلسفة الاجتماعية التى تمتد جذورها إلى منظري القرنين الثامن عشر والتاسع عشر من أمثال فيكو، وسبنسر، والتي وجدت تطبيقاً لها في الأنثروبولوجيا على يديّ مورغان وتايلور. ولا شك أن مناهج الاتجاه التطوري ونظريته الأنثروبولوجية لم تظل جامدة منغلقة منذ بزوغها إذ تعرضت لتعديلات عديدة. وعلى الرغم من أن القليل من علماء الأنثروبولوجيا منْ يصنف نفسه تطورياً فإنه يلاحظ أن أفكار هذا الاتجاه تمثل عناصر ذات ثقل معلوم في كل المحاولات اللاحقة والحالية لتفسير تطور الثقافة.
بدأت عملية إحياء النظرية التطورية الأنثروبولوجية مجدداً في الأربعينات والخمسينات من القرن العشرين المنصرم على يديَّ ليسلى هوايت (1900-1975). وبرزت التعبيرات الأكثر تجلياً واتساعا للتطورية الجديدة في أعمال تلامذته بخاصة سيرفيس وسالينس. تأثر هوايت كثيراً بكتابات مورغان داعياً إلى عدم استخدام النظم الأوروبية أساساً لقياس التطور، وضرورة محكات أخرى يمكن قياسها وتقليل الأحكام التقديرية بشأنها. أكدَّ هوايت في كتابه “علم الثقافة” الذى نشره عام 1949 أنه من المهم ألا تقتصر النظرية التطورية على تعيين مراحل معينة لتسلسل نمو الثقافة وإنما لا بدَّ من إبراز العوامل التى تحدد هذا النمو وفي رأيه أن عامل “الطاقة” هو الذى يمثل المحك الرئيس لتقدم الشعوب. ويمكن تحديد أبرز العناصر الرئيسة للاتجاه التطوري الثقافوى الجديد التى عبر عنها ليسلى هوايت في النقاط التالية:
1- الالتزام بمبدأ الحتمية المادية.
2- الثقة في إمكانية صياغة قوانين ثقافية.
3- استخدام بعض مفاهيم نظريَّة التطور الداروينية.
يعتمد دعاة التطوريَّة الجديدة في تحليل تطور الثقافة على أشكال مختلفة من “التناظر الوظيفي العضوي”. إنهم ينظرون إلى المجتمعات الإنسانية، مثلها مثل كافة الكائنات البيولوجية ، بحسبانها منتجة للتنوع، لكنه التنوع الثقافي الذى يظل فاعلاً على مدى الأجيال وفق الكفاءة الديناميكية الحرارية التفاضلية للمجموعات الثقافية المتنافسة بعضها مع البعض الآخر. هنا يتضح بجلاء استخدام التطور وفقاً للمفاهيم الداروينية. كان داروين قد شرح في كتابه “أصل الأنواع” الصادر في عام 1859 مفهومه للتطور، وهو مفهوم يمكن اختزاله في الخمس النقاط التالية:
1- إن كل الأنواع قادرة على إنتاج نسل بصورة أسرع مما هو عليه الحال بالنسبة للزيادات في إنتاج الموارد.
2- تظهر كل الكائنات الحية تنوعات، فليس من فردين للنوع الواحد متشابهين تماماً.
3- بما أن عدد الأفراد الموجودين أكثر مما يفترض بقاءه فإن صراعاً مريراً ينشأ تكون الغلبة فيه لأولئك الأفراد الذين يؤلفون نوعاً إيجابياً كماً، وقوة، ومقدرة على الجري أو أية خصائص أخرى ضرورية للبقاء.
4- تنتقل تلك التنوعات الإيجابية بالوراثة إلى الجيل اللاحق (وهذه فرضية خاطئة تقبلها داروين عن لامارك).
5- تنتج تلك الأنواع الناجحة، على مدى فترات من الزمن الجيولوجي، اختلافات تؤدى إلى ظهور أنواع جديدة.
كذلك يؤكد بعض التطوريين الجدد على جدوى تطبيق مفهوم “الارتقاء” على التاريخ الثقافي حيث يرى سيرفيس وسالينس أن “التطور يرادف الارتقاء: الأشكال الأعلى تنمو من الأشكال الأدنى وتقضى عليها”. كذلك نجد أنهما يقولان بإمكانية قياس الارتقاء موضوعياً عبر “المصطلحات الوظيفية والبنيوية التى تمَّ تمثُلها في التنظيم الأعلى”. وقد لخصا هذه العلاقة في ما أطلقا عليه تسمية “قانون السيادة الثقافية” الذى ينص على أن “النظام الثقافي الذى يستغل مصادر الطاقة المتوفرة في محيطه بكفاءة أعلى سيظهر قدرته على الانتشار في ذلك المحيط على حساب الأنظمة الأقل كفاءة … وأن النظام الثقافي يُظهر ميلاً للنشوء تحديداً في تلك البيئات التى تمكنه من تحقيق عائد طاقة أعلى لوحدة العمل أكثر من أية أنظمة بديلة أخرى”. وكان ليسلى هوايت قد افترض بأن الثقافات تتطور عندما تزداد كمية الطاقة التى تستخدمها، أى وبمعنى آخر فإن المضمون التقني في ثقافة ما يحدد الكيان الاجتماعي، واتجاهاته الأيديولوجية، فمثلاً نجد أنه في المجتمعات التى يستخدم أفرادها قدراً محدداً من الطاقة تنشأ عندهم نظم دينية وسياسية واقتصادية أقل تعقيداً من تلك التى تتكون في مجتمعات تكثر فيها وتتنوع استخدامات الطاقة والإمكانيات التقنية.
وجه نقد للاتجاه التطوري الجديد لإهماله المنجزات التى حققتها نظرية التطور البيولوجية الحديثة. وقد رأى البعض أن الاتجاه التطوري الجديد هو اتجاه لاماركى في جوهره وذلك من حيث أن التطوريين الجدد لا يعيرون سوى قليل اهتمام إلى الأصول الأولى للتنوع الثقافي، بل يقترحون أن التنوع هو في الأساس، تواتر احتياجات مدركة بالحواس، بوعي أو بدون وعى، وهو ما يعنى النظر إلى اتجاه التغير الثقافي كوظيفة للتنوع الأولى أكثر منه نتاجاً للاصطفاء الطبيعي. يكون الناس من منطلق مثل هذا الفهم في حالة سعى للتكيف أكثر من كونهم كائنات متكيفة. وقد أشار دنل وفينيك إلى أن “البيئة في التطور العلمي تكون فاعلة من خلال الاصطفاء الطبيعي أو من خلال التنوع غير محدد الاتجاه لإنتاج التوجه الظاهر للتغير في مستويات أعلى. لكنه ووفق الاتجاه التطوري الجديد فإن البيئة تتحكم مباشرة في خلق التنوع”.
هكذا يركز الاتجاه التطوري الجديد اهتمامه على صياغة تيبولوجيات أكثر من تركيزه على اختبار التنوع الإمبيريقى، وكذلك فإنه يهمل مفهوم الاصطفاء الطبيعي بافتراضه مساراً محدد الاتجاه للسجل التطوري. لكل ذلك أظهر الاتجاه التطوري الجديد عجزاً في إنتاج قوانين أو قواعد للتعاقب يمكن عن طريقها تفسير تطور الثقافة. لكنه رغم الإخفاقات فإن عناصر الاتجاه التطوري الجديد وجدت انعكاسا لها في المعالجات المطروحة لتطور الثقافة ونشوئها، بخاصة المعالجة الايكولوجية الثقافوية ونظيرتها المادية الثقافوية تحديداً في استخدام المعالجتين لمفهوم “التكيف” بديلاً لمفهوم “الاصطفاء الطبيعي”.