كرونولوجيا سوسيو_تاريخية ترصد دور العوامل الثقافية في تحديث المجتمعات النامية
عبد الوافي مدفون
إن التنمية في العالم الثالث كممارسة تنفيذية وفعلية ما تزال محاطة بكثير من القيود السياسية والاجتماعية والدينية والدولية أيضا، والتي تتسبب في تشتيت جهود وإمكانيات التنمية إن لم تكن تعمل على تعويقها فعلا. باعتبار أن التحقق الفعلي للتنمية هو تهديد حقيقي لكثير من الكيانات الاجتماعية التقليدية القائمة، وما ترتكز عليه من مصالح تقليدية أيضا إضافة إلى اعتبار التنمية الحقيقية في بلد نام تهديدا حقيقيا لمصالح احتكارية دولية، الأمر الذي يؤكده بول باران بقوله: إن الطبقات الحاكمة في الغرب لديها مصالح خاصة في استمرار الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الراهنة في البلاد النامية..وهي تتبنى استراتيجية لضمان استمرار تخلف الدول بتأييد ودعم أشكال من الاعتقاد القائم على التعامل مع الظواهر الطبيعية والاجتماعية تعاملا ميثولوجيا. وبالتالي شكل لديه هذا التعامل نمطا عقليا وفكريا شائعا في تفسير وجود الحياة في هذا الكون. ولهذا السبب فإنه كثيرا ما تتعالى الأصوات والدعوات إلى أهمية التوفيق بين التنمية المنشودة والواقع القائم.
إذا كانت الغاية والهدف النهائي لأي خطة أو برنامج للتنمية هو تحسين أحوال المجتمع والانتقال به إلى المستوى الأفضل، فإن مدى نجاح هذا البرنامج وتكاليفه يتوقف إلى حد كبير على ايجابية العنصر البشري في هذا المجتمع نفسه، باعتباره الغاية والهدف النهائي من جهة، وعامل الحسم في نجاحها أو فشلها من جهة أخرى.
والافتراض الظاهر الآن في علاقة المجتمع بالتنمية تستهدف المجتمع وتغييره نحو الأفضل، فإن النتيجة بالتالي هي أن يقف المجتمع – وأقصد التراث الشعبي على وجه التحديد- موقفا إيجابيا مع حركة التنمية، ويجند كل إمكانياته لإنجاحها لكنه بشيء من التحليل والمقارنة البسيطة تبرز الكثير من المقارنات التي تهز الثقة الآلية بمثل هذه الفروض، وغيره من الفروض المثالية التي يجري تركيبها في معزل عن التاريخ والواقع الاجتماعي، فإذا كانت البنيات والمؤسسات السياسية والاقتصادية في مجتمع متخلف ما زالت تتعثر وتفشل في معظم الأحيان في الاستجابة لمثل هذا الفرض بوعي منها أو بدونه، فإن مؤسسات وبنآت أخرى تاريخية واجتماعية تلعب الدور نفسه بالنسبة للتنمية، رغم عدم وضوحها وعدم اكتسابها لأي بريق سياسي واقتصادي رسمي على سطح الحياة الاجتماعية والسياسية وتتمثل هذه المؤسسات في مجمل عناصر التراث الشعبي والتي تكون العيوب الاجتماعية والحضارية المنتشرة في كل مجتمع، في شكل أنماط مختلفة من الأفكار والمعتقدات الدينية الأسطورية والوثنية، وطرز متنوعة من العادات والتقاليد والأعراف الشعبية المترجمة في السلوك العملي المباشر للأفرَاد، والذي كثيرا ما يشكل عائقا حقيقيا في طريق التنمية حينا أو عاملا مساعدا لها في حين آخر، حينما يكون جانبا من هذا التراث الشعبي لمجتمع ما، ذا محتوى ايجابي، بدلا من محتواه السلبي الغالب في معظم الأحيان، أو على الأقل حينما يكون متصفا بالمرونة وقابلية التعديل النسبي، الذي يمكن من تغيير أدائه الوظيفي السالب إلى الأداء الموجب بأقل جهد مبذول، أو تحييده على الأقل.
فبرامج التنمية في مجتمع متخلف تتأثر إلى حد كبير بطبيعة التراث الشعبي، وما تتضمنه عادات الناس ومعتقداتهم ونظرتهم إلى الكون والحياة وطريقة حكمهم على الأشياء. وأي خطة للتنمية لا تراعي مثل هذا البعد لابد وأن تنتهي إلى طريق مسدود، أو إلى نتائج محدودة جدا مما ترمي إليه في أحسن الأحوال، مهما توفرت لها من العوامل الاقتصادية الكافية والاطار السياسي المناسب. لهذا يجب أن يتكامل وبنسبة صحيحة الايمان بالتراث والاندفاع نحو التقدم، لكي نضمن انتظام ايقاع التطور الثقافي والاقتصادي.
ومن كل هذا تتضح أهمية التراث الشعبي كطرف أساسي وهام لا يمكن تجاهله في أي برنامج أو خطة للتنمية، خصوصا وأن تغيير ظروف المجتمع نحو الأفضل هو الهدف النهائي للتنمية، فإذا لم يكن المجتمع بكل أبعاده تلك مقتنعا ومتقبلا لبرنامج التنمية ومشاركا فيها ومتقبلا لنتائجها فإن أي خطة تنمية قد تتحول إلى نوع من العبث والمجازفة الغير مأمونة، مهما وفرت لها الامكانات المتاحة سياسيا واقتصاديا وفنيا. صحيح أن العمل على دراسة المجتمع وحل مشكلاته الباثيولوجية (المرضية) والتيولوجية (الوثنية والخرافية) والنفسية والاجتماعية، بحيث يصير مستعدا فعلا للنمو الصحي، يكون عبء ودفع تكاليفه هو أهون ألف مرة من المجازفة التي قد تؤدي إلى فشل وضياع الخطة برمتها، عوضا عن كون هذا البند يشكل غاية في حد ذاته خدمة المجتمع وتطويره.
نستطيع في ضوء كل التحليلات السابقة أن نؤكد حقيقة هامة، هي أن التراث بكل أبعاده ومساراته يشكل قضية أساسية لا يمكن تجاهلها حتى لو افترض خطؤه بالكامل، وبناء ضخما لا يمكن تجاوزه عند دراسة أية قضية أو ظاهرة اجتماعية بما في ذلك عمليات وبرامج التنمية، بغض النظر عما إذا كانت هذه القضية وهذا البناء ذا محتوى ومعنى ايجابي دافع إلى الأمام أو معوقا سالبا إلى الخلف، او خليطا من هذا وذاك، فتلك قضية أخرى، والمهم هو أن كل عناصر التراث الشعبي بكل ما يحويه من عادات وتقاليد وأعراف ومعتقدات مكتوبة وغير مكتوبة بارزة أو خفية ذو معنى هاما في حياة السواد الأعظم من الناس، مع اختلافات نسبية من طبقة لأخرى، وأنه لا بد من دراستها ووضعها في الاعتبار عند التفكير والعمل على تنمية المجتمع وتغييره، فعلى ضوء التعرف والفهم الحقيقي لموقف التراث يتوقف النجاح الحقيقي والهدف النهائي لأي برنامج انمائي في المجتمع، فالمجتمع بمجموع أفراده هو الوسيلة والأداة الحاسمة لتنفيذ وإنجاح برنامج التنمية، وهو الغاية منها في نفس الوقت..
تتجلى هذه الأهمية في حفظ الذاكرة المجتمعية ومن تم الحفاظ على الروابط الاجتماعية التقليدية. وحيث أن هذه الذاكرة تشكل إطارا معياريا للسلوكات وللممارسات أي مرجعا ذهنيا بالنسبة للسكان في حياتهم اليومية فهذا يجعل ضبط المجتمع يمر أيضا عبر ضبط تطور هذه الذاكرة، التي تتوحد من خلالها الأفكار والجهود ويجتمع أفراد المجتمع على تاريخ واحد.
وإذا ما تحسنت الرؤية وتوفرت القناعة بأهمية دراسة التراث بتقاليده الدينية والثقافية وعاداته وأعرافه كشرط أساسي في برامج التنمية، ففي هذه الحالة نكون قد قطعنا نصف المسافة في حل المشكلة، وانتقلنا إلى مسافة أو على الأصح إلى مرحلة أكثر تقدما حول الموضوع. وتتمثل هذه المرحلة الجديدة في عدة تساؤلات مثل: ما هو الأساس النظري والعملي الذي سيرتكز عليه اهتمام المخططين والقائمين على برامج التنمية بالنسبة للتراث ودراستهم له؟.
أود بعد هذا الاستعراض الوجيز لأهمية التراث في التنمية المجالية أن أضع مشكلة أعتقد أنها جديرة بالاهتمام والمناقشة، وتتلخص هذه المشكلة فيما يلي: إذا كان التحديث يعني تغييرا اجتماعيا وثقافيا شاملا يطرأ على المجتمع والتخلي عن القيم التقليدية وتبني قيم عصرية جديدة، فهل يعني ذلك أن المجتمع عليه أن يتجه نحو محاكاة الغرب تماما وينبذ كل القيم والتقاليد التي ورثهما؟ ألا تتضمن القيم الثقافية والتقاليد الموروثة جوانب ايجابية يتعين الإبقاء عليها لأنها تشتمل على سمات وخصائص فريدة تحدد “هوية المجتمع” وتعين أبعاد وملامح شخصيته؟ ترى هل ينبغي في إطار عملية التحديث أن نعيد تفسير بعض التقاليد وأن نعمل على توجيهها وجهة جديدة تتفق ومتطلبات هذه العملية؟
الواقع أن هذه المشكلة ترجع إلى الحقيقة التي مؤداها: أن كثيرا من العادات والتقاليد والمعتقدات الموروثة من الماضي لا ترضي معظم المثقفين في البلدان النامية فهم يرون أن هذه الطرق التقليدية في التفكير والعمل ما هي إلا عقبات تعرقل العادات والمعتقدات الجديدة التي يقوم عليها بناء مجتمع أفضل، وبعضها يعوق نمو القيم الضرورية لتحديث المجتمع. ولكن الذي يزيد تعقيدا هو أن كثيرا من مثقفي البلدان النامية يرون مع ذلك أن هذه التقاليد لا تخلو من بعض الخير. فللتقاليد جوانبها الإيجابية لأنها صلة تصلنا بالماضي، والناس يشعرون من وقت لآخر بالحاجة إلى ربطهم بالماضي، أضف إلى ذلك أن التراث الثقافي للمجتمع هو الذي يحدد “هوية الأمة” ويمنحها شخصيتها المستقلة.
ويضيف أصحاب هذا الاتجاه أيضا حقيقة أخرى وهي أن التقاليد ينبغي ألا تحول دون تقدم المجتمع وإنما هي أداة يمكن استخدامها لتحقيق مزيد من التقدم، دون مخاطر الوقوع في صراع ثقافي أو تناقض حضاري، أو مقاومة من جانب نسق الاعتقاد. والمطلوب هو تحديث المجتمع لا صبغه بالصبغة الغربية، فالذي يحتاجه المجتمع هو النمو والإبداع لا مجرد المحاكاة والتقليد. فالسؤال الذي يفرض نفسه علينا هو: كيف السبيل إلى دمج التراث الثقافي لمجتمعنا بالحياة المعاصرة، فتكون لنا بذلك شخصيتنا الخاصة ذات الملامح والقسمات المحدودة، في نفس الوقت الذي نصبح فيه مجتمعا عصريا؟ وما الذي نأخذه ونقبله وما الذي نتركه من القيم التي انبثت فيما خلف لنا الأقدمون؟. وهل في مستطاعنا أن نأخذ وأن ندع على هوانا؟. ثم ما الذي نأخذه وما الذي نتركه من هذه الثقافة الجديدة التي تهب علينا ريحها من أوروبا وأمريكا؟. ثم هل في وسعنا أن نقف منها هذه الوقفة لكي ننتقي منها ونختار؟. لا شك أن الإجابة عن كل هذه التساؤلات تقتضي مجالا أوسع للعرض والمناقشة والتحليل، لأنها ستعكس قدرا كبيرا من التضارب والاختلاف في الرأي يتراوح بين التأييد المطلق والرفض التام للمشكلة برمتها، ولذلك فإنني أكتفي هنا بإثارتها كي تكون مجالا مفتوحا للتأمل وتبادل وجهات النظر على نحو نستطيع معه أن نتلمس طريق الإجابة الصحيحة دون أن نقع في مخاطر التسرع في الحكم والتعصب.