الجزء الثالث
2-2-لاكان وإعادة قراءة فرويد قراءة فلسفية
كان للهيدغرية والهيغلية نصف الماركسية التي قدّمها كوجيف (سواء أُخذَت منه بصورة مباشرة أو غير مباشرة) تأثيرها الهائل في الفكر الفرنسي في الأربعينيات والخمسينيات. وكان جاك لاكان، الذي التحق بمحاضرات كوجيف، قد أعاد قراءة كامل أعمال فرويد وأعاد التفكير بها على نحوٍ شديد التدقيق، في ضوء مواقف فلسفية مثل هذه، منذ عام 1936. وقد انطوت إعادة القراءة التي قام بها لاكان على الإطاحة بالجوانب الميكانيكية في مذهب فرويد، وعلى وضع مبدأ الواقع الفرويدي تحت طائلة الشك، وأصبح موضوع هذا العلم هو الواقع النفسي وليس الموضوع، وقُصِرَ موضوع البحث في علم النفس على وقائع تتعلق بالرغبة.
والتمييز الذي أقامه لاكان بين الذات الإنسانية والأنا الفرويدية هو، باعتقادي، ثمرة لهذا النمط من التحليل. ومن المعروف أن لاكان قد اتخذ موقفاً متطرفاً من الأنا الفرويدي. ففي حين كان فرويد قد أعطى للأنا وظيفة هامة تتمثّل في التفاوض مع الواقع الخارجي، فإنّ لاكان نظر إلى الأنا بوصفه نتاجاً لسوء التعرف ولإضفاء طابع موضوعي زائف في مرحلة الطفولة الأولى. فالطفل، تبعاً للاكان، يمرّ أثناء نموه في طور أطلق عليه اسم “طور المرآة”(وهو طور لم تُشر إليه آنا فرويد أو ميلاني كلاين، أو أي طبيب من أطباء الأطفال خارج مدرسة لاكان). وفي هذا الطور يتعلّم الطفل أن يتعرف ذاته، أو أن يتخيلّها على الأقل، عبر انعكاسها، بوصفها كينونة موحدة. وعندئذ ينشأ الأنا بوصفه ذلك الكيان الخياليّ (الموجود في الاستيهام) الذي يلعب بعد ذلك دور عامل سوء التعرف وإضفاء الطابع الموضوعي الزائف. ومن الواضح أن لاكان يعارض معارضة مباشرة تلك المدارس التحليلية التي ترى أن غاية التحليل هي تعزيز الأنا وتحسين حالة التكّيف مع الواقع الاجتماعي الخارجي وكلّ هذا قبل أن يدخل لاكان مرحلته “البنيوية”.
لقد طرأ على البنيوية تغير جديد تماماً مع دخولها البيئة الفلسفية الفرنسية، حيث تحولت من نظرية عن اللغة، والأدب، والمجتمع وما شابه إلى نظرية في بنية “الذات” التي تختبر تلك الموضوعات من لغة، وأدب، ومجتمع وما شابه. ولقد أشرنا من قبل إلى ما كان لدى ليفي شتراوس من نزعات وميول كانطية، أو دافع إلى اكتشاف بنىً كونية للعقل البشري. وقد تبنّى لاكان بعض أفكار ليفي شتراوس، بطريقة غائمة بعض الشيء، وجعلها فرويدية. فقد بدا معقولاً أن يتمّ ربط المرور عبر المرحلة الأوديبية من النمو (مرحلة الرغبة بقتل الأب والزواج من الأم)، التي هي في النظرية الفرويدية بوابة البلوغ الإنساني، مع تابو الزنا بالمحارم عند ليفي شتراوس، الذي يمثّل مصدر الثقافة الإنسانية. فكلاهما يفيد في تفريق الإنسان عن الحيوان. كما أصبح عالم الثقافة الليفي شتراوسي، الذي يقابل الطبيعة، عالم “الرمزي” اللاكاني، الذي يبدو للاكان متمادياً كلياً أو جزئياً مع عالم اللغة. فالدخول إلى هذا العالم هو ما ينقل العضوية أبعد من المرحلة الحيوانية وينتج الذات الإنسانية.
والحقّ أن ثمة فجوة مفاهيمية هنا، لعلّها لم تكن واضحة للاكان، وهي فجوة أجدها واسعة وعسيرة. فاهتمام لاكان بوصفه محللاً نفسانياً هو بالكلام. وقد أقام في البداية تمييزاً بين كلام ممتلئ ينتمي إلى الذات وكلام فارغ يصدر عن الأنا وينتمي إلى مجال الخياليّ. وهو تمييز يشبه ما أقامه هيدغر بين خطاب يفصح عن “فهم الكينونة- في – العالم” و”كلام تافه” لا يعدو أن يكون ثرثرة اجتماعية. والكلام الفارغ هو شيء يقوم المحلّل بتأويله وليس بالاستجابة لمحتواه، وظهور الكلام الممتلئ هو أول ما يشير للاّكاني في بدايات اللاكانية بأنّ المريض قد شُفي. وفي حين يحظى هذان التمييزان بأهمية بالغة عند لاكان، فإنهما بالنسبة لألسني -كسوسور أو جاكوبسون- ليسا سوى طريقتين في استخدام اللغة ذاتها. وهكذا فإنّ مفهوم اللغة لدى الألسني لا يقدّم للاكان أية فائدة في الواقع. إلاّ أنّ هذا المفهوم هو ما نحتاجه لبناء مجال الرمزي بكلّ ما له من أهمية، إذ تتشكّل الذات فيه.
والحقيقة أنّ مناقشة مسائل كهذه هي أمر بالغ الصعوبة. فكتابات لاكان المنشورة هي كتابات برقية، مبرمجة، فضلاً عن كونها عقائدية جامدة، وتترك انطباعاً في بعض الأحيان بأنها ضروب من المحاكاة لعمليات التفكير اللاواعية (كانت للاكان صلاته بالسرياليين، وظلّ على تعاطفه معهم). وما يلاحظه المرء هو أن هذه الصفات التي ميّزت كتابات لاكان قد لازمتها منذ الخمسينيات وكانت تشتد وتتعمق كلما تقدّم الزمن. أمّا حلقات البحث التي أدارها لاكان في الخمسينيات فكانت أكثر وضوحاً، غير أن من الصعب أن نجد فيها أيضاً أيّ قول واضح عن هذه الفرضيات المذكورة منذ قليل أو عن غيرها، فما بالك بأي اعتبار يتعلّق بإثبات هذه الفرضيات أو بدحضها. وأنا شخصياً لا أملك أي دليل أو إثبات على أنّ لاكتساب اللغة (مثلاً) أية علاقة بالمرور في عقدة أوديب، على الرغم من دراستي المكثفة لكليهما. ويضاف إلى كل ذلك أنّ الصيغ التي يقدمها لاكان غامضة جداً، ولذا لم يتضح لي إلى الآن ما إذا كان لهذا الافتقار إلى الأدلة والبراهين أيّ تأثير على دعاويه ومزاعمه. ويبدو أنّ من المستحيل أن نعلم ما إذا كان لدعاوي لاكان المتعلقة بما يدعوه اسم الأب وباللغة أية علاقة بالدراسات التي يقوم بها نفساني ألسني في موضوع اكتساب اللغة، مع أن من المفترض أن تكون هنالك صلة ما إذا ما كان لاكان منكباً حقاً على عمل علمي يتعلّق بنمو الطفل وتطوره. وغياب هذه الصلة مع علم ألسنيّ خشن هو شيء لا يزال يقلق كل من يلتحق في التسعينيات بحلقات بحث تتناول لاكان (لقد التقى شومسكي لاكان في أواخر حياته ووصفه بأنّه دجّال متعمد يقوم بألاعيبه في الأوساط الثقافية الباريسية ليرى إلى أيّ حدّ من السخف يمكنه أن يصل بها) (شومسكي 1989).
2-3-النظرية البنيوية في الذات الإنسانية
على الرغم من كلّ ما سبق، فإنّه لم يكن من غير العقلانيّ، في الخمسينيات، أن يُنظر إلى ليفي شتراوس ولاكان على أنهما يضعان أساساً لعلم جديد عن الإنسان، علم يُفترض به أن يجمع في وقت واحد كلاً من الموضوعية وتناول الذاتية الإنسانية تناولاً بنيوياً. بل كان من الممكن أيضاً أن يُنظر إليهما بوصفهما تجسيداً للتناول “العلمي” للطبيعة الإنسانية، بعكس أتباع الوجودية البعيدين عن العلم، على الرغم من أنّ سلوكياً أميركياً ربما كان سيرى أنّ كلا طرفي هذه المناظرة الفرنسية مجرد مجانين .
والحقيقة أننا لو بنينا، بأنفسنا وعلى أساس فجّ، نوعاً من وجهة النظر الوجودية والظاهراتية النمطية البدئية، فإن ذلك سيكون أكثر فائدة من الدراسة المدرسية لسارتر وميرلوبونتي في تبيان ما كانت البنيوية تعارضه وتقف في وجهه. ويشكّل مفهوم الذات الإنسانية، المتطابق أيضاً مع الوعي ومع النفس، نقطة ارتكاز أساسية في هذا الموقف الفجّ الذي يرى أنّ “الذات” ليست مجرد وجهة النظر المنفعلة أو السلبية التي تُعاش منها التجربة الذاتية، بل هي المكان الذي تُتخذ منه الخيارات العملية وتصدر عنه أحكام القيمة. كما أنها موحدة وحرّة أيضاً. فهي تجد نفسها مقذوفة في عالم لم تبنه؛ غير أنها حرّة في الفعل في ذلك العالم وهي تبني نفسها في سياق هذا الفعل. وما من تحديد أو تقييد لا واعٍ لخيارات الذات، فمثل هذه المزاعم لا تعدو أن تكون ضرباً من الإيمان الفاسد.
بيد أنّ هذا الموقف الفلسفي (الذي أكرر أنني لا أنسبه إلى أيّ فيلسوف محدّد، وإنّما أعتبره بمثابة تمثيل معقول لمناخ فلسفيّ عام) ليس موقفاً متماسكاً. فمفهوم الذات، الذي يمكن القول إنه يبرز بوصفه القطب المقابل للقطب الموضوعي في تحليل تجربة ما إلى علاقات ذات – موضوع، لا يمكن أن يكون متطابقاً مع مفهوم الوعي، الذي ينطوي على درجة ما من إدراك السيرورات الفكرية، أو مع مفهوم النفس، الذي يشتمل تبعاً للمحللين النفسانيين على مكوّن لا واعٍ عريض. وإذا ما كان من المقبول القول إنّ واحداً من هذه البناءات -الذات- هو بناء موحد أو أحادي، فإنّ البنائين الآخرين- الوعي والنفس- هما بناءان معقدان.
لكنّ البنيوية تواصل في العادة هذا الردّ فترى أن الدليل على تعقيد الوعي، أو النفس، هو بمثابة دليل على انعدام وحدة ذلك الشيء الذي يدعى “الذات الإنسانية”، أو على بنائيته، بل وعلى موته. فما هو هذا الدليل؟ لقد سبق لسقراط أن أشار في الجمهورية إلى أنّه يكفي القيام باستبطان بسيط لكي يظهر لنا أن ثمّة صراعات ضمن الوعي، كما أنّ المدارس النفسانية جميعها متفقة على أنّ النفس بناء معقد تستغرق إقامته كامل حياة المرء. فما الجديد الذي قدّمته البنيوية؟
لقد قدّمت البنيوية اعتبارين اثنين، يمكن لكلّ منهما أن يُصاغ صياغة عامةً تماماً، ولكن ربما كان أفضل وجه للتعرف عليهما هو من خلال النظر في اوجه استخدام اللغة. ويتعلق أوّل هذين الاعتبارين بعملية بناء كلّ من الإدراك الحسيّ والفعل. فلنأخذ النحو الذي يتعامل به المرء مع دفق من الكلام. إنّ من لا يعرفون لغة محددة أيّة معرفة (أي لا يعرفونها ولا يعرفون أية لغة قريبة منها) يسمعون ذلك التيار من الأصوات الصادرة عن ناطق بهذه اللغة على نحو يختلف تماماً عن أولئك الذين يعرفونها. فالفريق الأول لا يسعهم سماع الأصوات المفردة في هذه اللغة، لا يسعهم سماع الوقفات أو التقطعات ضمن الكلمات. وإدراكاتهم الحسيّة للأصوات تكون محكومة ببنية اللغة التي يعرفونها.
ولا بدّ لكلّ نظرية نفسانية في الإدراك الحسيّ أن تأخذ هذا الأمر بحسبانها، وهو أمر وثيق الصلة بالفلسفة الفرنسية دون أن يكون سبب ذلك مقتصراً على أنّ فلسفة ميرلوبونتي غالباً ما تُعتبر نظرية رصينة وموسعة في الإدراك الحسيّ. فالإدراك الحسي يتحول عند ميرلوبونتي إلى شيء يعمل بمثابة قاعدة للمعرفة دون أي توسط في حين يشير مثال اللغة إلى أنّ مثل هذا الإدراك الحسيّ الذي لا يتوسطه أيّ شيء ليس موجوداً. الأمر الذي يشكّل نقداً جذرياً لفكرة الإدراك الحسي بأكملها. (ولقد سبق لديريدا أن علّق في مؤتمر بالتيمور عام 1966 قائلاً: “.. لا أعلم ما هو الإدراك الحسيّ ولا أعتقد بوجود شيء كهذا”).
وإذا ما عدنا إلى اللغة لبدا لنا، في هذه الحالة الخاصة، أنّ قدراً كبيراً من معرفتنا الوثيقة بلغة ما يمكن ردّه أو اختزاله إلى مجموعة من الأنساق البنيوية، وتكون هذه المعرفة، في حالة اللغة الأولى، معرفة لا واعية في العادة، وتُكتسب في مرحلة باكرة جداً من مراحل نمو النفس. والحقيقة أنّ من المستحيل تصوّر نفس إنسانية لا تمتلك هذا القدر من المعرفة بلغة واحدة على الأقل. ويمكن القول إنّ النفس في جزء منها مبنية من هذه القطعة أو الجزء من شيفرة؛ أي أنّ العقل ينظّم إدراكاته الحسيّة الأساسية بالعلاقة مع هذه القطعة أو الجزء من شيفرة.
وإذا ما كان هذا يصحّ على اللغة، فما الذي يمنع من أن يصحّ عموماً؟ ماذا لو كانت جميع إدراكاتنا الحسيّة يتمّ التعامل معها بالعلاقة مع تشفيرات بنيوية، تُبنى فينا عند الولادة، أو نتعلمها من خلال التشريط الاجتماعي؟ (إذْ يمكن لنا أن نضيف أنّ قدراً كبيراً من الأدلة التي ظهرت مؤخراً يشير إلى أن الأمر على هذا النحو). ألا يصحّ أن نقول إن النفس التي تدرك حسياً ليست سوى المحلّ الذي تتموقع فيه جميع هذه الشيفرات؟ فحين ندرك أيّ شيء حسياً، فإنّ الأنساق المُشفّرة التي تشكّل جزءاً من تكويننا تتعامل مع التنبيهات التي يتمّ تلقيها من الخارج وتحولها إلى إدراكات حسية لموضوع ما.
وما يصحّ على الإدراك الحسيّ يصحّ أيضاً على الفعل. فنحن حين نتكلّم، نتكلّم كلمات، مؤلّفة من أصوات نتعرفها لكونها جزءاً من لغتنا. إلا أنّ الأنساق البنيوية التي بُنيت في أنفسنا أوّل تعلّم اللغة هي ما يترجم ذلك إلى أفعال عضلية فعلية تنتج أصواتاً فيزيقية يمكن لمكبر الصوت أن يتلقاها. فإذا ما قمنا بتعميم هاتين الحالتين، قد يمكن لنا أن نفترض أنّ جميع إدراكاتنا الحسية، وجميع أفعالنا، تتوسطها بنىّ لا نعيها، ولكنها شروط مسبقة للوعي.
وأنا لم أشر حتى الآن إلى الترميز. فقد عُنيت باللغة كمثال وحسب على الطبيعة البنيوية للإدراك الحسيّ والفعل الإنسانيين، أي أننا في عالم البنيوية ولسنا بعد في عالم السيميولوجيا. ونحن نصادف حتى على هذا المستوى أدلة تشير إلى أنّ النفس مبنيّة من بنى، وأنّ هذه البنى موجودة في شيفرات اجتماعية قائمة قبل وجود النفس. غير أنّ اللغة ليست مجرد شكل بنيوي للسلوك والتجربة. فهي أيضاً وسيلة للترميز. وأفكارنا يتمّ تمثيلها في اللغة كما لو كانت هذه اللغة واسطة لذلك، ولا يبدو أنّ ثمة وسيطاً آخر يمكن عن طريقه تمثيل معظم هذه الأفكار. إذْ كيف يمكن لنا أن نمثّل مفهوماً كمفهوم “الاقتصاد البريطاني” أو “الشعراء الميتافيزيقيين” بغير اللغة؟ وحتى لو وُجدت هذه الواسطة، فإنها لا بد أن تقوم بوظيفتها مثل لغة، فضلاً عن أنها قد تكون مبنية من بعض النواحي مثل لغة. وقد يحصل أن نجد مفهوماً ليس له تمثيل في اللغة، ولكن هل نجد مفهوماً ليس له أي تمثيل بواسطة هذا الدالول أو ذاك؟ ألا يبدو وكأن من الممكن أن ندرس كلّ المفاهيم عن طريقة دراسة أنظمة الدواليل التي تُمثّل فيها هذه المفاهيم؟ إنّ هذا ما تقوم به السيميولوجيا.
لكن المفاهيم جزء جوهري من المحتوى الفعلي للوعي. ومصطلح الوعي هذا يغطي كلّ ما في العقل ما عدا الإدراكات الحسيّة، ودوافع الفعل وما إلى ذلك. وفي هذه الحالة ستكون السيميولوجيا، التي هي دراسة أنظمة الدواليل، دراسة للمفاهيم الموجودة في العقل، وبذا دراسة لتشكل النفس. فبقدر ما تمكن رؤية أنظمة الدواليل بوصفها شيفرات مستدخلة أو مُذوتّة، تمكن رؤية العقل بوصفه مشكّلاً في جزء منه من خلال هذه الشيفرات.
وقد يرى القارئ أن من السهل استيعاب طبعة حديثة، وضعية، من هذه النظرية في العلوم الطبيعية، لا في العلوم الإنسانية، وهذا ما يراه علماء الحاسوب الذين يعملون على ما يُدعى بـ الذكاء الاصطناعي. فالشيفرات، بالنسبة لهم، هي عملياً برامج حاسوبية جارية في الدماغ، الذي يُنظر إليه هنا بوصفه حاسوباً. والحقيقة أنّ هذه النظرية تروق لي، وتبدو اختزالية على نحوٍ يثير الإعجاب. غير أنّ أحداً من بنيويي المرحلة الكلاسيكية ما كان ليفكر على هذا النحو، مع أن نظرياتهم تفضي إلى ذلك. فقبضة الفلسفة كانت قوية إلى أبعد حدّ. والحقيقة أنها لا تزال قوية إلى أبعد حدّ، وبما أنّ تلك البنيوية قد ماتت الآن، فإنّ معظم ما بعد البنيويين سيجدونني ساذجاً على نحوٍ لا شفاء منه إذْ أقبل مثل هذه النظرة الحاسوبية إلى العقل.
ما كان واضحاً في تلك المرحلة هو الصلة الوثيقة التي تصل أنظمة الدواليل بدراسة الاتصال في المجتمع. وهذا في الحقيقة هو التصوّر السوسوري الأصلي القديم للسيميولوجيا. والشيء الأساسي هنا هو أنّ الشيفرات التي تحمل معنى تُكتسب من المجتمع. ولذا يمكن القول إن من الممكن أن نُحلّ دراسة الشيفرات التي يوفرها المجتمع محلّ دراسة الوعي الفردي.
وهكذا فإنّ الذات الإنسانية، ذلك الشبح الموحّد، قد ماتت مرتين بين يدي البنيوية. فقد كانت من قبل محلّ مجموعة من شيفرات الإدراك الحسيّ، التي هي ما يمكّنها من إدراك العالم حسيّاً. وها هي تصبح الآن محلّ مجموعة من الشيفرات الرمزية، التي تعطيها معرفتها وأنظمتها القيمية. ولم يعد المجتمع – هذا إن كان في أي يوم من الأيام- ذلك الترتيب الملائم الذي يقيمه جمعٌ من الأنفس البشرية المستقلة بذاتها. بل على العكس، فإنّ كل ّنفس يُزعمُ أنها مستقلة بذاتها هي مشكّلة من شيفرات اجتماعية موجودة مسبقاً. وحده الجسد البشري الخالي من الطابع الاجتماعي يوجد قبل التحديد أو التشريط الاجتماعي، أما الشخص فلا . (وهذا ما قد يفسّر سبب إقامة بارت كتابته على الجسد ورغباته حين بدأ بالابتعاد عن البنيوية).
ويكتسي هذا التحليل للذات دلالة سياسية في عيون البعض. فألتوسر، مثلاً، يستخدم هذه المقاربة (متكئاً إلى لاكان في صياغة نظريته البنيوية عن الذات) في بناء نظرية عن الطريقة التي تتشكل بها الذات الإنسانية الفردية في الأيديولوجيا، فتقبل طواعية ما يقدّمه لها المجتمع من خيارات، كما لو كانت هذه الأخيرة خياراتها الخاصة، مع أنها خيارات قمعية كما يعتقد ألتوسر. ولقد تحدّر من هذه النظرية الألتوسرية في الأيديولوجيا بعض النقد المعاصر بالغ الأهمية مع أن هذا النقد غالباً ما يتنكر لأصوله متطلعاً بدلاً من ذلك إلى شخص مثل فوكو.
ولا بدّ أن أقول إنني لم أستطيع أبداً أن أفهم لماذا تمّ النظر إلى التحليل البنيوي وكأنه هجوم على وحدة الذات أو فرديتها. فالقول بأنّ شيئاً ما هو بنية مشكّلة من أجزاء موجودة مسبقاً لا يكافئ القول إن هذا الشيء غير موجود، أو أنه ليس وحدة. وهذا ما يظلّ صحيحاً حين تكون الأجزاء شيفرات اجتماعية أو بنى رمزية موجودة مسبقاً. ويمكن أن يكون هناك مئات الملايين من الأنفس الفردية الفريدة مُشكّلة من الأجزاء الأساسية التي يوفّرها مجتمع معقد. وفي النهاية، فإنّ لكلّ من على هذه الأرض، باستثناء بضعة توائم حقيقية، نسقه الوراثي الفريد، مع أن هذه الأنساق جميعاً مُركبّة من أربع وحدات كيميائية مختلفة ليس إلا، فلماذا لا ينطبق على العقول ما ينطبق على الأجساد؟
2-4-إعادة كتابة سوسور بوصفه فيلسوفاً
إنّ سياق هذه المناظرة الفلسفية، بين تصور بنيويّ وتصور ظاهراتيّ أو وجوديّ للإنسان، هو السياق الذي تمتّ فيه تلك العملية الكبرى، عملية إعادة كتابة سوسور بوصفه فيلسوفاً.
إنّ سوسور الذي صادفناه إلى الآن ينتمي بقوة إلى ما يُدعى أحياناً -وبنيّة سيئة على الدوام- بمدرسة المفكّرين “الوضعيين”. إنه سوسور أقسام الألسنية في إنجلترا وأميركا، واحدٌ من أعظم فقهاء اللغة (الفيلولوجيين) التاريخيين تمثّل إنجازه في إيجاد ألسنية تزامنية جديدة، وعالمٌ حقق تطوراً حاسماً في علمه. وهذا السوسور لم يفقد أبداً اهتمامه ببراغي دراسة اللغة وصواميلها، ولذا نجد أنّ جزءاً أساسياً من “محاضرات في الألسنية العامة” قد طُبع بأحرف مائلة تشير إلى أمثلة ألسنية، توضح نقاطاً قواعدية، أو صوتية، أو دلالية تاريخية في بعض الأحيان. وكانت السيميولوجيا بالنسبة لهذا السوسور ضرباً من الإضافة، وهُدباً ملحقاً، وإمكانية مأمولة، واقتراحاً على هامش تطورات من المفترض حدوثها.
وهذا السوسور يختلف تماماً عن سوسور التقليد البنيوي، سوسور رولان بارت والدمية التي شنّ عليها ديريدا هجومه. فسوسور هذا التقليد هو سيميولوجي في المقام الأول، منظّر في العلوم الاجتماعية، وفيلسوف تستمد منه نظريات بديلة لنظريات سارتر وشركاه حول تشكّل النفس. ولا بدّ من الاعتراف بأن أعمال هذا السوسور الجديد تُقرأ وتُقرأ بكثافة واهتمام استثنائيين، بوصفها نموذجاً لتطوير فروع جديدة من السيميولوجيا غير الألسنية ومن ثم من أجل المشاكل الميتافيزيقية التي يُفترض أنها تتكشّف عنها من خلال تناقضاتها الداخلية، كما يرى جاك ديريدا أو أمثاله من المعلّقين. ولقد تمّ في هذا السياق أخذ كل تمييز نظري أقامه سوسور، والنفخ فيه، وتحليله ونقله إلى سياقات أخرى غالباً ما يعني فيها شيئاً مختلفاً تماماً عمّا كان يعنيه. أما الأمثلة الألسنية التي تثبّت هذه التمييزات النظرية إلى الأرض فقد تمّ تجاهلها. وهكذا فإن “محاضرات” سوسور تُقرأ، لكن المكتوب بحروف مائلة يغفل ويتمّ القفز عنه.
كان من الصعب أن يحظى سوسور بمثل هذا النفوذ والتأثير لو لم يكن في عمله عناصر تسند مثل هذه القراءات الجذرية. غير أنه ليس من السهل على القارئ غير الملتزم أن يضع يده على هذه العناصر من خلال قراءة بسيطة للـ “محاضرات”. أمّا في العروض الجذرية لعمل سوسور، فهذه العناصر مطمورة في عمق ما تشتمل عليه هذه العروض من افتراضات وسجالات لاحقة من نوع سياسي أو مناهض للميتافيزيقا، ولذا يصعب أيضاً وضع اليد عليها أو التقاطها. ولعل أوضح عرض لهذه العناصر هو ما نجده في الأقسام الأخيرة من كتاب صغير جداً كتبه جوناثان كوللر (1976)، حيث نرى سوسور واحداً من الأعلام في “سلسلة فونتانا للأعلام المعاصرين”. ويقدّم هذا الكتاب، على الرغم من اقتضابه، عرضاً وافياً لبعض ألسنية سوسور ولا يغفل الأمثلة الألسنية. إلا أنه يتبنّى النظرة الفرنسية اللاحقة في تناوله لأهمية سوسور العامة، الأمر الذي نجده في الصفحات 70-117 من هذا الكتاب والتي سأستند إليها فيما يلي.
يبدأ كوللر، شأنه شأن كلّ العروض التي تناولت جذرية سوسور، بنظرية هذا الأخير في المعنى. ولقد سبق لكثير من المفكّرين، ومن بينهم مفكرون بارزون مثل هيدغر، أن عزوا أهمية خاصة لدراسة أصل الكلمات وتاريخها باعتبارها مرشداً إلى معنى ما أصليّ وجوهري للكلمات التي نستخدمها. واعتبروا التغيرات اللاحقة التي اعترت هذا المعنى نوعاً من الإضافات الخارجية التي يمكن نزعها وإزالتها إذا ما دعت الضرورة. وبالطبع، فإنّ من الصعب على ألسنّي تاريخي أنْ يرى مثل هذا الرأي، ذلك أنّ كلاً من شكل الكلمة ومعناها يتغيران بمرور الوقت، بحيث تصبح كياناً جديداً في حقيقة الأمر.
ولقد رفض سوسور ذلك الرأي الذي يقول إنّ سلسلة تاريخية كاملة معينة من الأشكال [أشكال الكلمة] يكون لها معنى جوهري مشترك معين بحيث يمكن القول إنّ هذه الأشكال هي طبعات متعاقبة مختلفة من “الكلمة ذاتها”. وأدرك سوسور أنّ كلاً من الصوت والمعنى يتغيران، وأنّ العلاقة بين الصوت والمعنى هي علاقة اعتباطية، وأن كلاً من الصوت المُدرَك والمعنى المُدرك تشكّلهما أنساق من التقابل بين الأصوات في الحالة الأولى وبين الأفكار في الحالة الثانية. ونحن لا نملك مفردة فردية واحدة تقف بحدّ ذاتها، لا في حالة الدالّ، أي الكلمة التي نتلفّظ بها، ولا في حالة المدلول، أي المفهوم الذي نربطه بهذه الكلمة. فكلّ مفردة تستمدّ هويتها من موقعها ضمن نظام كليّ.
وهذا أمر لـه أهميته العظيمة من الناحية المنهجية، لكنّه أمر ينتمي إلى الألسنية الصرفة بوصفها حقل دراسة مستقلاً بذاته. فما الذي يحدث حين يتمّ النظر إليه من طرف فلسفة الذات البنيوية الجديدة؟ يمكن لنا أن نقارب ذلك باستخدام إحدى استعارتين. فحين ننظر إلى العقل بوصفه نوعاً من الوعاء، يمكن أن نقول إنّ بنى اللغة التي قال بها سوسور متوضّعة داخل العقل، إلى جانب الشيفرات البنيوية التي تحدد المجتمع أو تعرّفه. وحين ننظر إلى العقل بوصفه وجهة نظر تجاه العالم، فسوف نقول إنه يدخل في عالم رمزيّ مبنيّ من هذه الشيفرات. وهذه الاستعارة الثانية هي التي يميل كلّ من ليفي شتراوس ولاكان إلى استخدامها.
والملاحظ في كلا الحالين أنّ الشيفرات ليست نتاجاً لخبرة الذات المعنية إلا إلى حدّ قليل. أمّا في جزئها الأكبر فهي موجودة من قبل أن تكتسبها الذات، فليس سوسور من ابتدع اللغة الفرنسية، ولا دوركهايم من ابتدع المجتمع الفرنسي. وهذه الشيفرات تبني التجربة التي تتمكّن الذات من خوضها. فلكي أدرك أنني أمام تعليقات معينة باللغة الفرنسية لا بدّ لي من أنْ أكون على ألفة ببنية اللغة الفرنسية، كما يتوجب عليّ أن أكون على ألفة ببنية المؤسسات الاجتماعية، كالزواج مثلاً، لكي أدرك أنني أمام زواج معين حين أصادف واحداً.
وتبعاً لكوللر، فإن من الممكن مقارنة أهمية سوسور بالنسبة للعلوم الإنسانية بأهمية معاصِرَيْه، فرويد ودوركهايم، الأبوين المؤسسين لعلم النفس الحديث وعلم الاجتماع الحديث على التوالي. وما يجده كوللر محورياً في مقاربة هؤلاء المفكرين الثلاثة معاً هو شيء كان من الممكن لكثير منا أن يقرنوه بفيلسوف مثل هوسرل، حيث يرى كوللر أنهم جميعاً يضعون “الذات” -النفس، الـ “أنا”، مَنْ يدرك حسياً، ويفكّر، ويتكّلم- في المركز من ميدان تحليلهم. ومن ثم يرى كوللر، مُقتبساً ديريدا خارج السياق الزمني المناسب ومبدلاً قصد هذا الأخير قليلاً، باعتقادي، يرى أن هؤلاء المفكرين “يفككون” الذات. أي أنهم يفسّرون المعاني تبعاً لأنظمة العُرف والتقليد التي لا تسيطر عليها الذات سيطرة واعية. وهكذا تتحلّل الذات، أو النفس، إلى مكوناتها التي تصبح أنظمة عرفيّة قائمة بين الأشخاص. كم تنحلَ النفس إذ تُعزَى وظائفها إلى مُنَوّعٍ من الأنظمة التي تفعل فعلها عبر هذه النفس.
باختصار، فإنّ من غير الممكن قيام علم الاجتماع، أو الألسنية، أو علم النفس التحليلي إلاّ حين يتمّ أخذ المعاني المنسوبة إلى الموضوعات والأفعال في المجتمع، والتي تفرق هذه الموضوعات والأفعال، بوصفها واقعاً بدئياً، وبوصفها وقائع ينبغي تفسيرها.
ولأنّ المعاني نتاج اجتماعي، فإنّ التفسير يجب أن يجري بمصطلحات اجتماعية. ويبدو الأمر وكأنّ سوسور، وفرويد، ودوركهايم قد تساءلوا: “ما الذي يجعل التجربة الفردية ممكنة؟ ما الذي يمكّن البشر من أن يضطلعوا بموضوعات وأفعال ذات معنى؟ ما الذي يمكّنّهم من الاتصال والفعل على نحو له معنى؟” وجوابهم الذي طرحوه هو المؤسسات الاجتماعية التي هي شرط التجربة مع أن النشاطات والفعاليات البشرية هي التي تشكّلها. فلكي نفهم التجربة الإنسانية لا بدّ من دراسة المعايير الاجتماعية التي تجعلها ممكنة.
(كوللر 1976، ص72).
يضع كوللر مقاربته هذه مقابل الوضعيّة التجريبية التي تتحدّر من هيوم، والتي تميّز بين ضربين من الواقع: واقع الموضوعات والأحداث الفيزيقي الموضوعي، والإدراك الحسيّ الفردي الذاتي للواقع. والمجتمع عند هيوم ليس من النوع الأول، ولذا لا بدّ أن يكون مجرد نتيجة للنوع الثاني، وربما مجرد قصة خيالية جمعية. كما يضع كوللر مقاربته مقابل المثالية الهيغلية التي ترى في كل شيء تعبيراً عن العقل في سيرورة تطوره.
وهكذا تمّ جمع كلّ من سوسور وفرويد ودوركهايم معاً بوصفهم فلاسفة، أو ربما فيلسوفاً واحداً، يحلّل طبيعة التجربة الإنسانية، وليس بوصفهم علماء، يقدّمون معلومات وقائعية وتفسيرات نظرية لها. كما ينظر كوللر بعين الازدراء إلى الفكرة التي ترى أنّ كلاً من هؤلاء الثلاثة قد كان منشغلاً بالتفسير السببيّ، على الرغم من قول فرويد ودوركهايم إنهما كانا كذلك (فرويد 1915-1917، دوركهايم 1895). وهكذا يتمكن كوللر بعملية قياس وتشبيه واضحة – وهي عملية فرنسية مميزة تعود إلى أواخر الخمسينيات – من أن يتدبّر أمر الجمع بين ثلاثة مفاهيم متباينة إلى حدّ بعيد: فكرة البنية، وفكرة التمثيلات أو المعايير الجمعيّة، وفكرة اللاوعي.
يربط التفسير البنيويّ الأفعال بنظام من المعايير- قواعد لغة معينة، التمثيلات الجمعية الخاصة بمجتمع معين، آليات اقتصاد نفسي معين- ومفهوم اللاوعي هو طريقة لتفسير الكيفية التي تمتلك بها هذه الأنظمة قوة تفسيرية. فهو طريقة لتفسير الكيفية التي يمكن بها لهذه الأنظمة أن تكون مجهولةً إنّما حاضرةً على نحوٍ فاعلٍ ومؤثّر في الوقت ذاته. وإذا ما كنّا نعتبر توصيف النظام الألسنيّ بمثابة تحليل للغّة فذلك لأن النظام ليس شيئاً “معطى” للوعي مباشرة ولكنه يُرى مع ذلك على أنه حاضر دوماً، وفاعل دوماً، في السلوك الذي يبنيه ويجعله ممكناً. (المصدر السابق، ص76).
وهنا يطلق كوللر زعماً صاعقاً تماماً، زعماً يُظهر مدى الجذرية التي تسمُ إعادة قراءة سوسور هذه. فسوسور، كما يقول كوللر، يقدّم أدلة على وجود اللاوعي أفضل من تلك التي يقدّمها فرويد!
على الرغم من أنّ مفهوم اللاوعي قد ظهر في أعمال فرويد، إلا أنه مفهوم أساسي بالنسبة لنمط من التفسير يسعى وراءه صف كامل من الفروع الحديثة، ولا بدّ أنه كان سيوجد ولو لم تكن مساهمة فرويد موجودةً. ويمكن القول إن هذا المفهوم يظهر في الألسنية بشكله الأوضح والأصعب نقضاً. فاللاوعي هو المفهوم الذي يمكّن المرء من تفسير واقعة لا ريب فيها، ألا وهي أنه يعرف لغةً (بمعنى أنه يستطيع أن يُطلق منطوقات جديدة مفهومة، وأن يقول ما إذا كانت جملة ما من لغته أم لا، إلخ) مع أنه لا يعرف ما يعرفه. فهو يعرف لغة معينة لكنه يحتاج إلى ألسنيّ لكي يشرح لـه بدقة ما الذي يعرفه. ومفهوم اللاوعي يصل بين هاتين الواقعتين ويضفي عليهما معنى ويفسح مجالاً للشرح والتفسير. ولسوف تفسر الألسنية أفعالي، شأنها شأن علم النفس وعلم اجتماع التمثيلات الجمعية، عن طريق إظهارها المُفَصّل للمعرفة الضمنية التي لا أعيها أنا نفسي(المصدر السابق، ص76).
يبدو أن ثمّة شيئاً من السحر اللغوي يتمّ من خلاله توحيد نظرياتٍ متباينة جداً عن طريق إلصاق لصاقة واحدة وحسب عليها جميعاً. غير أنّ قواعد لغة ما، ومعايير مجتمع ما، وآليات اقتصاد نفسي معيّن، لا تصبح متماثلة بمجرد أن نسميّها “أنظمة معايير”. فمفهوم اللاوعي الفرويدي بوصفه المكبوت- والذي يجب تفريقه عمّا هو قبل الوعي أو غير الملحوظ – يختلف تماماً عن فكرة الألسني الخاصة بامتلاك معرفة ضمنية بالقواعد أو فكرته الخاصة بـ “المفردة الأخرى التي لا نستخدمها في هذه اللحظة من مفردات مجموعة استبدالية معينة”. كما يختلف كلّ هذا عن لا وعي دوركهايم الجمعيّ. ومن العسير أن نجمع معاً هؤلاء الآباء المؤسسين دون أن نتجاهل كلّ ما هو مميّز ولافت للانتباه في مباحثهم الخاصة. حيث لا بدّ عندئذ من ترك التفاصيل الألسنية، والإحصاءات الاجتماعية -من بين أشياء أخرى- خارج علم الاجتماع، ولا بد من ترك الوضع والإجراء التحليليين خارج التحليل النفسي.
إن جمع كلّ من سوسور، وفرويد، ودوركهايم على هذا النحو قد يبدو غريباً، غير أنّه يصبح مفهوماً حين نأخذ في الحسبان تلك التقاليد الفكرية الكبرى التي نبعت من كلّ من هؤلاء المفكرين الثلاثة. مع أنّ كلاً من هذه التقاليد يحتّل موقع “الأقلية” ضمن فرعه، على الرغم من الأهمية التي قد تكون له.
فالتقليد الأساسي المتحدّر من سوسور هو، كما رأينا، علم الألسنية الحديث، أمّا التقليد الأقلويّ، الذي يثير دهشة معظم الألسنيين، فهو ذلك الذي يرى سوسور بوصفه فيلسوفاً عُنيَ، ضمن إطار السيميولوجيا الواسع، بطبيعة التجربة الذاتية، ووضع الخطوط الكبرى لمفاهيمنا ولأسس الوعي اللاواعية.
والتقليد الأساسي المتحدّر من فرويد هو تقليد التحليل النفسي الأرثوذكسي، على الرغم من وجود تباينات انشقاقية لا تُعدّ ولا تُحصى. أمّا التقليد الأقلويّ فهو تقليد جاك لاكان، الذي سخر من العلمية الموضوعية لدى الفرويديين الأرثوذكس وزعم أنّ اللاوعي مبنيّ مثل لغة، لأنه، في حقيقة الأمر، أثر للغة. ومع أنّ ما يعنيه لاكان باللغة يبدو مختلفاً تماماً عمّا يمكن أن يكون قد عناه ألسني مثل سوسور، إلا أنه غالباً ما يشير إلى سوسور وكأنه هو المسؤول عن تصوراته، وذلك بتلك الطريقة التلميحية وغير المفهومة التي تتعمدّ الإثارة والإزعاج. وكما قال لي دكتور أميركي في الفلسفة بكثير من الوقار والرزانة: “كلّ ذلك موجود لدى سوسور كما تعلم”.
والتقليد الفكري الأساسي المتحدّر من دوركهايم هو تقليد علم الاجتماع والأنثروبولوجيا. ويمثل ليفي شتراوس شخصية كبرى في هذا المجال، شخصية قد لا يمكن لأيّ انثروبولوجي أن يتجاهلها مع أن قلّة قليلة هم الذين يقبلونه ككلّ. وكان ليفي شتراوس في الأربعينيات قد اتّخذ الألسنية مثالاً للمنهج وانتهى في الستينيات إلى تعريف الأنثروبولوجيا بأنها فرع من السيميولوجيا. ومن الصعب على المرء أن يرى أن ليفي شتراوس يشغل مكان الأقلية ضمن الأنثروبولوجيا الفرنسية، إلا أنه أقلية ضمن الأنثروبولوجيا ككلّ.
أمّا حين نعتبر أنّ السيميولوجيا (التي أُعيد تعميدها اليوم باسم السيميائية) والتحليل النفسي اللاكاني والأنثروبولوجيا الليفي شتراوسية هي التقاليد الأساسية المتحدرة من هؤلاء المفكّرين الثلاثة (وهذا ما كانت تتوق إليه الطليعة الفرنسية في أوائل الستينيات وما نجد سجالات فيه إلى الآن) فلا عجب أن نجمع سوسور وفرويد ودوركهايم، لأن هذا الجمع سيكون طبيعياً على أساس هذا التأويل. بل إنّ هنالك اليوم من يرى إمكانية القيام بنوع من التوليف الفكري بين هذه الحقول، كالتوليف الذي قام به الكاتبان البريطانيان كوارد وإليس، والذي سنعرض له لاحقاً، على الرغم من أنهما، شأن معظم الجذريين، يستبدلان ماركس بدوركهايم في قراءة ألتوسرية للأول. ولقد بدا مثل هذا التوليف وارداً جداً في آخر أيام البنيوية، وقد ختم كلّ ما دارت حوله تلك الضوضاء السائرة على الموضة. وليس ثمة سبب من حيث المبدأ لأن نهزأ حتى بالموضة، فمن المحقّ أن تكون هنالك إثارة فكرية عندما يبدو توحيدٌ على مثل هذا المستوى قريباً بحيث تمكن رؤيته، حتى لو لم يكن لدينا سوى فكرة ضبابية عما يدور حوله أو يعنيه. وها هو سوسور لا يزال ينال كثيراً من الحظوة بسبب هذا التوحيد الضخم والذي لم يتحقق تماماً قط.
ومجمل القول إنّ المشكلة الفلسفية الأساسية التي يُزعم أنّ جميع هؤلاء المفكّرين قد أسهموا بها هي مشكلة طبيعة النفس، والعقل أو الذات العارفة. والإسهام الذي يقدّمه تقليد البنيوية السيميولوجية في هذا الصدد هو تمثيله العقل، أو الذات، بوصفه مجموعة من الشيفرات المتشابكة المتواشجة لا بوصفه كياناً موحداً. وتشكّل هذه الشيفرات الأساس اللاواعي للوعي. ومن وجهة النظر هذه لا يعود من الصائب القول إنني أعرف لغتي. ففي الوقت الذي بدأت فيه تعلّمها لم أكن أمتلك نفساً متطورة تماماً، أما “الأنا” القائمة الآن فقد أسهمت في تشكّلها اللغة التي أعرفها وأفكّر بها، في حين شكّلت بقيتي شيفرات أخرى وبعبارة أكثر تأنقاً فإنّ “ما لا أعيه هو الذي يشكّلني، ولست أنا من يتكّلم، بل اللغة والشيفرات الأخرى هي التي تتكلّم عبري، إنني أتكلّم من حيث لا أكون”.
ومن وجهة النظر هذه، فإنّ “الذات” لم تعد تشغل الموقع المركزي الذي بوّأها إيّاه التقليد الفلسفي الذاتويّ، وإنما أضحت “غير متمركزة”. وتجربتي المباشرة لم تعد الأساس الذي لا يُناقش للحقيقة العلمية، كما اعتقد هوسرل وكما يعتقد نقّاد الأدب، وإنّما تُعالج عبر الشيفرات التي تشكّل جزءاً مني عن طريق ثقافتي. ويمكن أيضاً ربط ذلك بمفهوم الإيديولوجيا الماركسي على نحو يوضحه ويلقي الضوء عليه. فالإيديولوجيا، عند ألتوسر، هي أكثر بكثير من كونها نظاماً زائفاً من الأفكار التي يصنّعها المجتمع الرأسمالي لكي يشوّش إدراك البروليتاريا مصالحها الطبقية. إنّ الإيديولوجيا بالأحرى هي العنصر الذي نختبر فيه العالم، والعنصر الذي نحيا فيه. ويمكن أن نساوي بين الإيديولوجيا وبين مجال الرمزيّ اللاكانيّ، أو الثقافة الليفي شتراوسية، أو الوعي الجمعيّ الدوركهايميّ، وما من مجتمع -حتى بعد الثورة- يمكن أن يوجد من دونها.
قد لا تبدو هذه النظرة ماركسية على وجه الدقة، إلا أنها تمكّن المرء من تقديم بعض الحلول المثيرة لبعض الإشكاليات التاريخية في المصطلحات النظرية الماركسية، فالمجتمع الرأسمالي، على سبيل المثال، يحتاج لديمومته إلى مصدر لا ينضب يواظب على تزويده بالذوات الإنسانية الحرّة في الظاهر، لكي تقوم باتخاذ قرارات حرّة وتلقائية في الظاهر، أثناء اضطلاعها بأدوارها في الأسواق الحرّة الرأسمالية. غير أنّ هذه “الذوات” لم توجد بصورة تلقائية، بل شكّلتها الشيفرات الرمزية السائدة (أو “الممارسات” كما يفضّل ألتوسر أن يقول بوصفه مادياً ماركسياً) من خلال سيرورة هي تقريباً تلك التي وصفها لاكان. وهكذا يلتحق ألتوسر بذلك الصفّ الطويل من أولئك الذين حاولوا التوليف بين ماركس وفرويد. لكن هذه الممارسات هي أيديولوجيا المجتمع، وتبعاً لألتوسر فيما بعد، فإنّ الدول الرأسمالية لديها عملياً أجهزة الدولة الإيديولوجية، كالمدارس، التي تنتج هذه الممارسات، وتنتج بالتالي هذه “الذوات”.
وليس معروفاً على وجه اليقين ما إذا كان هذا صحيحاً أم لا، أو حتى ماركسياً أم لا، وهو يشكّل حجة لافتةً ومثيرة للماركسيين في تركيز جهودهم الثورية على تبديل المناهج في المدارس والجامعات. ولقد وجد ريتشارد هارلاند
(1987) اسماً موحياً لما بعد البنيوية هذه ولجميع ما بعد البنيويات اللاحقة، بنزوعاتها المثالية المتأصلة. لقد دعاها بـ “السوبر بنيوية”.
* الدواليل (جمع دالول sign) وهو ماجرت العادة على ترجمته بعلامة أو إشارة. غير أنني أعتقد أنها ترجمة غير دقيقة على الرغم من شيوعها(م).
مجلة التراث العربي العدد ـ80 إتحاد الكتاب العرب دمشق
جميل جدا