الجزء الأول
ا
تأليف: ليونارد جاكسون
ترجمة: ثائر ديب
يبدأ الطور الفرنسي للبنيوية في الأربعينيات مع تكييف ليفي شتراوس أعمال جاكوبسون بحيث تتوافق مع الأنثروبولوجيا، وربما مع تكييف لاكان بعض المصطلحات السوسورية في الخمسينيات بحيث تتوافق مع طبعته الخاصة من التحليل النفسي. وقد بلغ هذا الطور ذروته في أوائل الستينيات وكان آنئذ ضرباً من الجنون الفكري طغى على كلّ المباحث التي أمكنه أن يطالها من التاريخ حتى الرياضيات؛ جنونٌ يصعب إيجازه هنا (أو ربما في أيّ مكان آخر). أمّا العناصر الألسنية في هذا الطور فلم تكن في الغالب أكثر من نثار متفرّق من الرطانة (انظر بياجيه 1968). في حين تمثّل الحدث اللافت بالنسبة للنظرية الأدبية في محاولة التوليف بين النموذج الألسني وفلسفة الذات الإنسانية التي عُرِفَت في فرنسا، حيث تمّ تفسير العقل والمجتمع بوصفهما أثرين لبنىً، ألسنيةٍ في الغالب. كما شهدت هذه الفترة إعادة تصوّر سوسور بوصفه فيلسوفاً. وحوالي عام 1967، كان انهيار المشروع البنيوي، بتأثير لاكان، وديريدا، وغيرهما، وبتأثير الأحداث السياسية، ليعقب هذا المشروع تشكيلة متنوعة من ما بعد البنيويات التي انتشرت في جميع أرجاء أوروبا وأمريكا.
1-البنيوي الفرنسي الأول: كلود ليفي شتراوس
1-1إلهام الأ لسنية البنيوية
كان كلود ليفي شتراوس واحداً من أعضاء الهيئة التعليمية الذين تابعوا محاضرات جاكوبسون في نيويورك. وكان ليفي شتراوس فيلسوفاً في السابق، أمّا في حينها فكان أنثروبولوجياً، وسوف يعود نوعاً من الفيلسوف مرّة أخرى (كما سنرى). والحقيقة أنّ ليفي شتراوس كان يرتجي من حضوره تلك المحاضرات غايةً عمليةً إلى حدٍّ بعيد، غير أنّ ما تلقّاه لم يكن سوى ضربٍ من الرؤيا الفكرية:
لم أزل مدركاً بشدّة تلك الصعوبة التي واجهتني، نظراً لعدم خبرتي،طوال ثلاث سنين أو أربع لدى محاولتي إيجاد ترميز مرضٍ أسجّل به لغات وسط البرازيل فمنّيت نفسي بأن أحصل من جاكوبسون على الأوّليات التي أفتقر إليها. غير أنّ ما تلقيته من دروسه كان في الواقع شيئاً مختلفاً تماماً، وأكاد لا أحتاج أن أقول إنه كان شيئاً أكثر أهمية بكثير، ألا وهو إلهام الألسنية البنيوية، الذي مكّنني لاحقاً من أن أبلور في مجموعة من الأفكار المتماسكة رؤىً ألهمني إيّاها تأمّل الزهور البرّية في مكان قرب حدود اللوكسمبورغ في أوائل أيار عام 1940…
وكذلك بعض المسائل التقنية التي أثارتها معالجة مارسيل غرانيه لإثنوغرافيا الصين القديمة ممّا كان يشغله في ذلك الوقت (يضيف ليفي شتراوس في عودةٍ محسوبةٍ إلى التجريبي)، (انظر تقديم ليفي شتراوس لكتاب جاكوبسون الصوت والمعنى، 1976؛ ص ص ii-xi).
إنّ ما يتمّ التشديد عليه هنا هو تلك القوة الملهمة التي تنطوي عليها رؤيا الترتيب والنظام الفكريين التي توفرّها الألسنية. والحقيقة أنّ هذا الإلهام، وليس أيّ تطبيق فعلي للنموذج الألسني أو أيّة نتائج كبرى ناجمة عنه، هو ما شكّل القوة الدافعة الأساسية للبنيوية القائمة على الألسنية في طورها الثالث؛ طور الطموح الفكري الشامل، وطور الطريقة الدينية في الستينيات. ومع أنّ هذه الرؤيا كانت في البداية علميّةً، مهما يكن من أمرها، إلا أنّ ما بقي لاحقاً، كما سنرى، هو الرؤيا وحدها، في حين راح العلم ينكمش، ويتضاءل مفسحاً المجال للشعرية الأسطورية كي تتغلّب وتسيطر.
لقد كان ليفي شتراوس في هذه المرحلة شديد التأثّر بالألسنية التي تعلّمها من محاضرات جاكوبسون ثمّ أتبعها بقراءة مكثّفة. وهو يبيّن في تقديمه لكتاب جاكوبسون الصوت والمعنى ما أخذه من هذه المحاضرات. كما أنّ الفصول الأربعة الأولى من المجلد الأول لكتاب ليفي شتراوس الأنثروبولوجيا البنيوية هي مقالات تعود إلى الأربعينيات والخمسينيات (وكانت إحداها، “التحليل البنيويّ في الألسنية والأنثروبولوجيا”، قد نشرت من قبل في المجلة الألسنية، word، عام 1945). وتقوم هذه المقالات بعملية سبر لاستخدام النماذج الألسنية في الأنثروبولوجيا، وتنطوي على تحليل رفيع ومتكلّف يتطلّع إلى ماهو أبعد من مجرد استيراد التقنيات الألسنية لتحليل مكوّنات مصطلحات القرابة، كما يبحث عن نمط من التأثّر أعمق بكثير.
وما أثار اهتمام ليفي شتراوس في الأربعينيات وخلّف لديه أثراً عميقاً هو الصرامة العلمية التي اتّسمت بها الألسنية ونجاحاتها التفسيرية. يقول:
إننا نجد أنفسنا نحن الأنثروبولوجيين في وضعٍ حرجٍ بإزاء الألسنيين. فقد اشتغلنا معهم طوال سنوات عديدة، جنباً إلى جنب، ثم بدا لنا فجأةً أن الألسنيين أخذوا يتملّصون منا، فرأيناهم يتنقلّون إلى الجهة الأخرى من الحاجز الذي يفصل العلوم الدقيقة والطبيعية عن العلوم الإنسانية والاجتماعية، والذي اعتقدنا زماناً طويلاً أن عبوره أمر متعذّر. وكما لو أنهم أرادوا نكايتنا، فقد راحوا ينكبّون على العمل بتلك الصورة الصارمة الحازمة التي كنّا قد استسلمنا لأمر اعتقادنا بأنها من شيم العلوم الطبيعية وحدها. فكان أن ألمّ بنا من جهتنا شيء من الحزن، كما انتابنا – ولنعترف بذلك- كثير من الحسد. إننا نريد أن نتعلّم من الألسنيين سرّ نجاحهم. ألا يسعنا نحن أيضاً أن نطبّق على هذا الحقل المعقّد الذي تدور فيه أبحاثنا -القرابة، التنظيم الاجتماعي، الدين، الفولكلور، الفن – تلك المناهج الصارمة التي تبرهن الألسنية كلّ يوم عن فعاليتها؟
(من مقالة مكتوبة1952 وتشكّل الفصل الرابع من الأنثروبولوجيا البنيوية، انظر ص 69).
ثمّة مقاطع كثيرة من هذا النمط في أعمال ليفي شتراوس الباكرة، وهي تكشف عن الباعث الأساسي الذي يقف خلف الحركة البنيوية الفرنسية الأصلية. وهذا الباعث هو الأمل بجعل العلوم الإنسانية علميةً، في عصر كان لا يزال ينظر إلى التقدّم العلمي كواحد من الأشياء القليلة المرغوبة على نحوٍ لا يطاله الشكّ. ولقد دام هذا الأمل، وما صاحبه من تفاؤل شديد، حتى الستينيات، لتعقبه بعد ذلك موجة من الشعور المناهض للعلم؛ شعورٌ لا يقتصر على استحالة إضفاء الطابع العلمي على العلوم الإنسانية، بل يتعدّاه إلى عدم الرغبة بأن تكون هذه العلوم علميةً. والحقّ أنّ اسم “ما بعد البنيوية” الذي أطلقته الصحافة، لا ينطبق على شيء بقدر ما ينطبق على النتاج الفكري الذي قدّمته هذه الموجة من الشعور المناهض للعلم، بل المناهض للعقلانية باعتقادي، والتي لا تزال مستمرةً إلى اليوم.
ومع أنّ ليفي شتراوس لم يكن أبداً ما بعد بنيويّ، إلاّ أنه انتهى هو أيضاً إلى التخفّف من مزاعمه العلمية بصورة تكاد أن تكون خفيّة بعض الشيء. ففي السبعينيات صار يعتبر أنّ الدراسة الوصفيّة للأسطورة هي ضربٌ من بناء أسطورة عن الأسطورة؛ تماماً كما تعتبر ما بعد البنيوية أنّ “النظرية الأدبية” هي بمثابة شكل أدبيّ عن الأدب لا مجموعة من التفسيرات التي يكمن إخضاعها للاختبار التجريبيّ. والحقيقة أننا نجد في مقدمة المجلد الثاني من الأنثروبولوجيا البنيوية، والذي نشر بعد خمسة عشر عاماً على نشر المجلد الأول وبعد واحد وعشرين عاماً على نشر المقالة التي اقتطفنا منها منذ قليل، نبرةً مختلفةً تماماً عمّا وجدناه من قبل:
بل ويمكن أن نتساءل ما إذا كان يمكن لمعيار “قابلية النقض” هذا أن ينطبق حقّاً على العلوم الإنسانية. فالمكانة الإبستمولوجية لهذه العلوم ليست أبداً كتلك التي يمكن للعلوم الفيزيقية والطبيعية أنّ تدّعيها لنفسها. فهذه الأخيرة تتّصف بنوع من الانسجام أو التناغم لطالما فرض سلطانه في كلّ وقت بين أولئك الذين يمارسونها على مستوى يُعَدَّ ذا صلة بحالة البحث المعاصرة، في حين أن حال العلوم الإنسانية ليس كهذا الحال أبداً. فهنا لا نجد إلا القليل من النقاش، إن وجدنا، بخصوص شرعيّة هذه الفرضيات أو تلك. فالنقاش متركّز بدلاً من ذلك على اختيار مستوىً معين للمرجع الذي تحيل إليه هذه الفرضية، وليس مستوىً آخر قد يحبّذه الخصم.
إنه لمن الاستثنائي بالنسبة للأنثروبولوجيين البنيويين أن يُقَال لهم: “إنّ تأويلكم لهذه الظاهرة أو هذه المجموعة من الظواهر ليس بالتأويل الذي يحسب حساب الوقائع على أفضل وجه”. وإنّما يُقال لهم بدلاً من ذلك “إنّ الطريقة التي تفككون بها الظواهر ليست بالطريقة التي تثير اهتمامنا؛ وإننا لنختار أن نفككها بطريقة أخرى”. إنّ موضوع العلوم الإنسانية هو الإنسان، إلاّ أنّ الإنسان الذي يدرس نفسه وهو يمارس العلوم الإنسانية لابدّ أن يترك لأفضلياته وتحيّزاته أن تتدخّل في الطريقة التي يعرّف بها نفسه لنفسه. وما يثير في الإنسان ويلفت الانتباه لا يخضع لقرار علميّ بل ينتج وسيظل ينتج من خيار له ترتيبه الفلسفي في جوهر الأمر.
ولذا فإنّ علينا أن ندرك أنّ فرضيات العلوم الإنسانية لا يمكن نقضها، لا الآن ولا في أي حين آخر.
(الأنثروبولوجيا البنيوية، المجلد الثاني، 1973، ص ص ix-viii).
لقد تخلّى ليفي شتراوس عن الغاية العلمية التي وضعها لنفسه في البداية؛ وهو يسلّم بأنّ المشتغلين في العلوم الإنسانية متّفقون على ذلك إلى حدّ بعيد. وهو بقولـه هذا يلقي ضوءاً ساطعاً على الشروط والأوضاع الثقافية الفرنسية، التي لا تزال مختلفةً كثيراً عن مثيلتها الأنجلو – أميركية. والحقيقة أنّ ليفي شتراوس قد تعرّض لعدد من الانتقادات اللاذعة وجّهها إليه أنثروبولوجيون إنجليز وأمريكيون لما رأوه لديه من قصور تجريبي وتأويل قائم على بنات الخيال. وبعض هذه الانتقادات موثّقة في مقالة كتبها نيفين دايسن – هدسن وقدّمها في مؤتمر عام 1966 وكان لها بعيد الأثر في إدخال ما بعد البنيوية إلى الولايات المتحدة (انظر ماكزي ودوناتو 1970).
وحتى اليوم، لا يزال هناك عدد وافر من علماء الاجتماع الغربيين الذين يعتبرون أنهم يمارسون علماً بالمعنى التقليديّ الكامل لهذه الكلمة، وأنّ عليهم أن يقتصروا على فرضيات قابلة للنقض وإثبات الزيف في ضوء المعطيات التجريبية. وثمّة نقد رصين لعمل كلود ليفي شتراوس، من وجهة النظر هذه، في كتاب مارفن هاريس الضخم “نشوء النظرية الأنثروبولوجية” (1968)، الذي تناول فيه تاريخ الأنثروبولوجيا. وهاريس هو واحد من أتباع ما يمكن أن ندعوه بالماديّة الثقافية، وهذه الأخيرة موقف نظري في الأنثروبولوجيا (وينبغي ألاّ تُخلط مع المادية الثقافية لدى ناقد أدبيّ مثل ريموند وليامز)؛ حيث يتّفق هاريس مع الماركسيين التقليديين على أنّ من الممكن تفسير كلّ منّوعات الثقافات البشرية على أساس الضغوط الاقتصادية؛ إلا أنه يضيف إلى ذلك ضغط السكان والمتغيّرات البيئية، ويرفض الديالكتيك الماركسي. وهذا ما يوفّر لهاريس أساساً مادياً علمياً شاملاً وكاملاً لنقد المثالية التي تتّسم بها مقاربة ليفي شتراوس لموضوعه، واقتصار هذا الموضوع على الاهتمام بالتمثيلات الذهنية وحدها. وبالطبع، فإنّ هاريس ليس الناقد الوحيد الذي نحا هذا المنحى.
1-2-ليفي شتراوس والفونيم
يمكن لنا أن نلقي الضوء على موضوع الخلاف من خلال النظر إلى تعامل ليفي شتراوس مع مفهوم الفونيم والتمييز الأساسي الذي يجريه الألسنيون بين المستوى الصوتي أو الماديّ للّغة ومستواها الفونيميّ أو النظامي. فكما سبق لنا القول، لقد سمع ليفي شتراوس بهذا لأول مرّة من جاكوبسون، الذي عُني بردّ الفونيمات إلى سمات مميّزة مادية وصلبة نسبياً. ومن الطبيعي أن يتوقّع المرء من أنثروبولوجي يقيس الأنثروبولوجيا على الألسنية ويعمل على أساس هذا القياس أن يبدي اهتماماً شديداً بالشروط المادية للحياة الاجتماعية وبالبيولوجيا؛ وخاصةً حين يزعم هذا الانثروبولوجي أنه معنيّ بكلّ من الماركسية والعلوم الطبيعية، وبالجيولوجيا على الأخصّ. بل إنّ المرء قد يتوقّع منه أيضاً أن يقدّم فكرةً ما عن المستويات “الـ…… تيّة” و “الـ.. يميّة” للمجتمع (أي عن المستويات المادية بإزاء المستويات ذات المعنى الاجتماعي)، قياساً بالصوتيات والفونيميات. وهذا ما قدّمه الألسني الأميركي كينيث بيك، حين حاول القيام بتعميم أنثروبولوجي للألسنية (اللغة في علاقتها بنظرية موحّدة في السلوك البشري، 1964). أما المصطلحان “…تيّة” و “..يميّة” فهما لمارفن هاريس.
غير أنّ ليفي شتراوس لم يسرْ، للأسف، في هذا الاتجاه. وما استوقفه هو مبدأ الفونيم؛ مبدأ التقابل المحض بين دواليل* لا حصر لها، وإمكانية تحليل هذه الدواليل المتقابلة إلى تقابلات ثنائية تشكّل أساساً لها وتكون خارج وعي الذات تماماً. وقد قام ليفي شتراوس لاحقاً بتطبيق هذا المبدأ على الأسطورة، مقترحاً تحليل الأساطير إلى وحدات أساسية خالية من المعنى أطلق عليها اسم الأسطوريمات (انظر تقديم ليفي شتراوس لكتاب جاكوبسون الصوت والمعنى 1976). وسوف نصادف هذه اللاحقة (..يمات) مرّات كثيرة. وهي تشير على الدوام إلى استعارة قائمة على الفونيم، وتحتاج على الدوام إلى تفحّص حذر محترس.
ونحن لا نغالي في أهمية النقلة التي قام بها ليفي شتراوس؛ إلا أنها تستحق أن نذكرها بوصفها اللحظة التأسيسية في البنيوية الفرنسية (المثالية). فما يعتقد ليفي شتراوس أنه وجده، في الفونيم، هو أن هذا الأخير وحدة لا معنى لها بحدّ ذاتها. لكنها ما إن تدخل في علاقة مع وحدة أخرى من النوع ذاته حتى تشكّل بنىً ذات معنى. وتقوم هذه البنى في حقيقة الأمر على تقابلات ثنائية نجدها في اللاوعي البشريّ. وقد تبنّى لاكان في الخمسينيات موقفاً قريباً من هذا الموقف فيما يخصّ اللاوعي الفرويدي، على الرغم من اختلاف التفاصيل.
ومن الواضح تماماً أنّ كليهما كانا مخطئين، سواء في نظريتيهما أو في تأويلهما للمصادر. فسوسور لم تكن لديه قناعة راسخة بتلك النظرية التي نُسِبت إليه؛ أما جاكوبسون فكان قد انتقدها صراحةً؛ وهي مستحيلة منطقياً على كلّ حال. والحقّ أنّ هذا الخطأ الذي ارتُكب آنئذٍ راح يتكرر مرّة بعد أخرى على يد أُناس أقلّ أهمية. وهو خطأ لا نزال نجده في أدبيات الثمانينيات والتسعينيات.
انتظروا الجزء الثاني