البعد الأنثروبولوجي للنص الأدبي
داود محمد *
تمهيد منهجي
ستظل النصوص الأدبية، الشفوية منها و المكتوبة، محل دراسة و بحث من قبل الباحثين في مختلف حقول العلوم الإنسانية : (تاريخ الأدب، النقد الأدبي، علم الاجتماع الأدبي و السوسيونقد، علم النفس التحليلي و البسيكونقد، السيميوطيك، و غيرها من المناهج التحليلية و الوصفية…
و يدل هذا الاهتمام، أن دراسة الأدب و معالجة نصوصه ستظلان ممارسة ثابتة على مر الزمن. و على الرغم من اختلاف هذه المناهج في طرقها التحليلية، و في النتائج التي قد تتوصل إليها، فإنها، و لا شك في ذلك، تتعامل مع النصوص، انطلاقا من كونها إنتاج فني في ظل سياق معين. و تعتبر الظروف المحيطة و المؤطرة لإنتاج النص حجة في حد ذاتها، تمهد و تبلور الفكرة الأساسية لعملية الكتابة، أي ما قبل النص (Le pré-texte). و عليه، فإن دراسة النصوص، لا بد لها أن تأخذ بعين الاعتبار هذه الجوانب المختلف التي أنشأت الكتابة و الإنتاج الأدبي. و على خلاف الشعرية البنيوية، التي كانت تركز في بداياتها الأولى، على أدبية النص في حد ذاتها، مختزلة بذلك النصوص إلى بنيات لغوية و أنساق أسلوبية، دون إلحاقها بالسياق التاريخي و الاجتماعي، فإن تطور هذه التوجهات العلمية نحو السيميوطيك جعلها تخضع هذه النصوص إلى مقاييس جديدة، و من ضمن هذه المقاييس، يمكن الوقوف عند اعتبار النص الأدبي خطابا يملك آلية داخلية، لكنه يرتبط بالسياق الذي أنتجه.
و في ظل هذا الحديث، يمكن القول، أن عملية إنتاج الأدب معقدة تتدخل فيها عدة عوامل، و بسبب أنه “يملك طريقة خاصة به لقول العالم و كذا رؤية متميزة، فإن الأدب يوجد بشكل مختلف لا كوثيقة أو كلعبة للأشكال، مما يدعو إلى محاولة تعريفه و كذا تحديده بشكل ملائم” [1].
و على هذا الأساس، يمكن النظر إلى الأدب ضمن نظرة متكاملة، تحاول أن تستفيد من مختلف نتائج العلوم الإنسانية، و منها على الخصوص الأنثروبولوجيا، التي تدرس “المؤسسات و التقنيات في مختلف المجتمعات”[2]. فمعالجة النص الأدبي في هذا الإطار هي في حد ذاتها “تفكير حول مسألة التمثل la représentation، ومنها على الأخص التمثل الرمزي، أي ذلك الإطار الأنثروبولوجي الواسع الذي يدعو لوضع النصوص الأدبية في مجموع الانتاجات التي يحاول الإنسان بواسطتها معرفة العالم، و الآخرين،و بالتالي معرفة ذاته أيضا” [3].
و يشكل لقاء الإثنولوجيا و السيميوطيك و الايثنوسيميوطيك التي تدرس الأدب الإرثي مثل الحكايات الخرافية (فلاديمير بروب) و الأسطورية (ج. ديميويل و ك. ليفي سترون)) حدثا هاما في بلورة و تحديد إشكالية الخطابات الأدبي من وجهة نظرا إبيستيمولوجية جديدة، و قد تشكل انطلاقا من هذه المجهودات النظرية فرع آخر في حقل الدراسات الأدبية، هو السيميوطيك، الإثينو أدبية، التي تدرس الأداب الخاصة بالجماعات القديمة أو (بالمجتمعات الفلاحية المتعلقة نسبيا) [4].
و يقوم هذا التلاقح المنهجي المتعدد بفرز قضايا جديدة ضمن مسار الكتابة الأدبية، و منها علاقة التحليل الأنثروبولوجي بالأدب.
و ضمن هذا التوجه يلح جيلبير دوران، في إحدى خلاصاته حول دراسات الأساطير، على نقطة أساسية حيث يرى، أنه على عكس المفاهيم المعتمدة من طرف الباحثين الجامعيين. لا يمكن الفصل بين علوم الثقافة مثل النقد الأدبي و الأدب وعلوم المجتمع.
و يبدو أن التوجه نحو سوسيولوجيا بدون اعتماد الجانب الثقافي للمجتمع، أو التوجه نحو الثقافة دون تأصيل اجتماعي و دون ذلك الأساس “الشعبي” كما تمناه ريشارد فاقنر هو في حد ذاته اللامعنى المطلق [5].
إذا، فالقطيعة بين الثقافي و الاجتماعي، غير واردة في توجه هذا الباحث الأنثروبولوجي، و في اختيار أنه الابستيمولوجية، فإن العلاقة بين “النصوص” الثقافية و الأدبية بخاصة، و بين “السياقات” الاجتماعية التي أنتجتها واضحة جدا[6].
فبين الوعي الفردي الذي يتلفظ، أو بالأحرى يكتب “نصه” و مجموع التبليغات السياقية intimations للبيئة و المجتمع ذهاب و إياب غير منقطع، أي مسيرة أنثروبولوجيةTrajet anthropologique[7].
و يمكن القول أن الأدب كان دائما تأويلا رمزيا للواقع، تضفي على هذا الأخير مسحة جمالية، تجمع في طياتها الجانب “الحقيقي” و الخيالي-الأسطوري.
و لعل توظيف الأسطورة من طرف النص الروائي، هو في حد ذاته يطرح قضية ذات طابع جنسي générique. و لكن هل يمكن معالجة نص روائي مثلما نعالج نص لحكاية أسطورية أو خرافية ؟ لاشك أن اشتراك هذه الأجناس كلها في البنيات السردية و الخطابية، يمكن أن يكون قاعدة منهجية للتعامل مع النصوص المختلفة، إن ما يهمنا هنا هو الكشف عن سبب و كذا كيفية توظيف هذه الأساطير.
كانت دراسة الأساطير تنتمي في السابق إلى مجال علم الفلكلور و الأنثروبولوجيا، و تاريخ الديانات و علم الاجتماع، و قد كانت هذه الاختصاصات تعطي “للموضوع معاني محقرة، و بطيبة خاطر” [8] لكن تطور مجال هذه الدراسات طرح إشكالات علمية جديدة.
I. انتقال الأسطورة من الشفوي إلى المكتوب
يمكن اعتبار تحوّل الأسطورة الإيثنو-دينية إلى الأسطورة الأدبية كسيرورة مضيئة لعملية الانتقال من المقدس إلى المدنس. “و إذا كان الأدب بخاصة و الفنون على العموم مخزنا أساسيا لحفظ الأساطير، فإن الأسطورة “الأدبية” تضيف إلى الأسطورة البدائية دلالات جديدة”[9].
و يتضح أن توظيف الأسطورة في النص الأدبي ليس إلا حجة أو ما قبل النص Pré-texte للتعبير عن قضايا ذات بعد واقعي ترتبط بقضايا الراهن الاجتماعي والسياسي. و قد حاول دارسو الأدب معالجة مثل هذه المسائل في العديد من المناسبات. و في هذا الشأن، أشار بيير برونيل المختص في الأدب العام و المقارن، إلى منهج جديد يعالج النصوص الأدبية التي تتضمن الأساطير القديمة، يحمل اسم الميتو-نقد Mythocritique، و يعني بالتحولات التي تعرفها الأساطير القديمة من خلال التوظيفات المختلفة التي تقوم بها النصوص الأدبية على مر الزمن.
و قد لاحظ غريماس، في هذا الأفق المنهجي، أن توظيف الأسطورة في الأدب هو إعادة تنشيط للمعنى و ذلك “بإعادة إدماج لفعل التدليل Le sémantisme في البنية الشكلية، مع الاختلاف الكبير، بالطبع أن الحكايات الأدبية تعبر عن أنظمة من القيم المفردنة، بينما الأساطير فهي تعبر عن نظم القيم الجماعية” [10].
و هكذا تملك الأسطورة الأدبية تداخلا بين القيم الفردية و القيم الجماعية، فهذا الوضع الغامض للأسطورة في النص الأدبي يبرز من حيث “الجمع بين الوصف و التأويل، على السجل المزدوج للقصة (الحكاية) المؤسسة و للتمثل (الصورة المسننة image codifiée” [11].
و على دارس هذا المتن المكتوب أن يميز بين هذه المسائل المختلف في كيفية توظيف الأسطورة الأدبية و اتخاذها الدلالات الجديدة المرتبطة من ناحية بالجانبين الفردي و الجماعي، و الجانب الوظيفي داخل النص.
و إذا كان لزاما علينا التمييز لأسباب ديداكتيكية بين المناهج التي تدرس الأسطورة و إن اجتمعت حول الموضوع، فإنها تختلف من حيث الطريقة أو المنهج؛ “فالمنهجية “الميثونقدية” (التي تنطلق من النص) أو المنهجيات “الميثا-تحليلية” Mythanalyses” (تلك التي تجعل “المسيرة الأنثروبولوجية” تمضي من السياقات الاجتماعية)، فإن كلمة “أسطورة” التي هي أصل هذين المفهومين المنهجين تبيين لنا بوضوح على أننا نشتغل على المادة الأولية نفسها materia prima. و لا يوجد، بالطبع، أي فرق بين الأسطورة المنتشرة و غير المكتوية، و أسطورة الآداب الشفوية “أورا ليتور” Oralitures، كما يقول بعض الإيثنولوجيين، و كذا ما تتضمنه آداب المكتبات” [12].
و ضمن هذا التصور المنهجي،يملك النص الشفوي و مثله النص المكتوب نفس المقام، و يمكن تطبيق عليهما بعض عناصر النقد الأدبي و التي يمكن تصنيفها في منهجية “الميثو-نقد”. و قد برز هذا التوجه النقدي ضمن تيار “النقد الجديد” الذي تدعم بانبعاث الاهتمام بالأسطورة، و الدراسات البنيوية – الأنثروبولوجية، و كذا بإعادة إدماج الفكر الأسطوري في باب الأفكار “الجادة” و التي تتمثل في الكشف على أن خلف كل حكاية التي هي في الأصل نص (شفوي أو مكتوب)، نواة أسطورية أو على الأصح نموذج أسطوري.
و بصفة أخرى، لا يمكن للنص الأدبي أن يشارك في المعنى بصفة بريئة، لسبب بسيط و هو كل ما يحمله من لغة و ثقافة في نسيجه يعمق داخله عدة مستويات للدلالة. و لعل الأسطورة تقوم بالدور الأساسي في تحديد الدلالة العميقة له، و كذلك جعله أكثر و أمثل فهم من النصوص الغير الأسطورية.
II. الأسطورة و الرواية الجزائرية
توظف الرواية الجزائرية، من خلال تعاملها مع التراث الشعبي الشفوي منه و المكتوب، الأساطير لتفتح نافذة جديدة على التاريخ و المجتمع. و عليه فإن قراءة التاريخ من خلال الأسطورة “ستمكن الكتابة الروائية، التي تسترجع التاريخ، أن تحقق تأثيرا فعليا” [13].
و الملاحظ أن الرموز الأساطير الموظفة من طرف كل من محمد الديب و كاتب ياسين لا تختزل في معنى واحد، بل تستدعى قراءات متعددة، لكن الأسطورة عند صاحب رواية “نجمة” لا تأتي لتدعم التاريخ و حسب، بل فإنها تتحول إلى عنصر تأريخي élément historisant، لا يمكن النظر إلى التاريخ دونه. و لعل من الأساطير الأكثر توظيفا في الآداب الجزائرية الشفوية منها و المكتوبة، هي أسطورة الجازية و كذا السيرة الهلالية التي “أندثرث(…) كشكل فني، غير أن صورة الجازية ظلت قائمة في الأذهان عن بقاياها، التي تحولت إلى الْغَاز و أمثال و مجوعة مواقف. و الجازية في التصور الشعبي، امرأة بديعة الجمال و خارقة الذكاء، حسنها لا يوصف، و نفاذ بصيرتها لا يحد” [14].
و تعتبر السيرة الهلالية، من الناحية التاريخية، النص المؤسس لمجموعة من الكتابات الروائية. كان الهدف من توظيف السيرة، بإضافة دلالات جديدة و حذف جوانب أخرى، أي إخراجها من سياقها الاجتماعي و التاريخي و الاشتغال عليها بصفة مبدعة، هو الوصول إلى تأسيس خطاب روائي جديد حول الأسطورة ذاتها، للكشف عن قضايا اجتماعية و سياسية معاصرة. إذ وظفها الروائي لعرج واسيني في روايته “نوار اللوز” للحديث عن الفئات المهمشة و المظلومة من الشعب الجزائري، كما وظفها الروائي عبد الحميد بن هدوقة في روايته “الجازية و الدراويش” لطرح إشكالية المشروع الاجتماعي و السياسي الذي تبنته الجزائر المستقلة.
III. الأسطورة و النص الروائي (الجازية و الدراويش)
تملك هذه الرواية كل مواصفات الحكاية الأسطورة المصاغة في شكل روائي، ذلك بتركيزها على “الجازية” تلك الذات الاجتماعية و ذلك الموضوع للرغبة، حيث يتدخل الفردي و الاجتماعي. فالجازية، في معاناتها اليومية تواجه قدرها، و تتحول إلى أسطورة جماعية. يتمثل بها المكان الذي تقطنه و كذا الناس و الزمن الذي تتحرك في طياته. كما تشير هذه الذات الأسطورة الفردية و الجماعية إلى الأبعاد الثقافية للمجتمع المصغر النموذجي التي تعيش بين أحضانه و إلى الروابط التي تجمع بين أفراده على جميع المستويات. و يشمل ذلك جميع التعبيرات الثقافية من عادات و تقاليد و طقوس و سلوكات تتحول بحكمها “الجازية” إلى مركز استقطاب لكل عناصر البنية الاجتماعية.
تعتمد الرواية في بنيتها الزمنية و المكانية على ثنائية، ثنائية الزمن؛ الزمن الأول، أي الما بعد، و الزمن الثاني، أي الما قبل. و ثنائية المكان : الهناك (السجن) و الهنا (الدشرة)؛ و هي نفسها ثنائية المقدس و المدنس، الحياة و الموت، الخاصة بالعوالم الأسطورية.
كما تنبنى الرواية على الصراع بين إرادتين – إرادة التمسك بالماضي، و إرادة التغيير و الانتقال إلى القرية الجديدة التي يقوم الشامبيط بالتهيئة لها، و هذا هو الخطاب الروائي الجديد الذي يضفيه النص على الأسطورة الهلالية.
لكن مصير الدشرة يتحدد في كيفية الفوز بالجازية من طرف الخطاب الأربعة المتصارعين بشكل خفي و غير معلن إذ يمثل كل خطيب مشروعا خاصا بالقرية ورؤية معينة للجازية، و يلعب الشرف القيمة الأخلاقية المؤسسة للجماعة، السلطة الخفية التي ترعى انسجام النظام الاجتماعي، و هي هنا طاعة الكبار و الخوف من المقدس. و كل خرق لهذا النظام الذي تعتمده الدشرة في حياتها اليومية يؤدي إلى الكارثة و تنتج عنه الفوضى.
IV. البنية المكانية “الجازية و الدراويش”
يقول غريماس أن : “الحكاية تقع في تشاكلين isotopies، مختلفين و مفصولين، المكان الذي يستقر فيه المجتمع و المكان الذي ينجز فيه البطل كفاءته و قدرته” [15]. ينطبق هذا الكلام تماما على رواية “الجازية و الدراويش” حيث تنقسم إلى فضائين : فضاء أسطوري و فضاء بطولي.
1- فالفضاء الأول و هو هنا ممثل بالقرية، ينتمي إلى الزمن الثاني من حيث البناء السردي، أي أين تجري الوقائع، و هو الفضاء العاطفي و الثقافي للجماعة التي تسكنه، و هو الأصل في كل شيء حيث أن “العروق هنا !… و الإنسان كالشجرة تربطها بالأرض عروق، إذا اجتـثت من عروقها ماتت” [16].
و هكذا فإن الخروج من هذا الفضاء الأسطوري، يعني الموت بالنسبة لمعظم سكانها. و تقع الدشرة في قيمة الجبل، تحدها في الأسفل هاوية، و هي ثنائية الأعلى و الأسفل بمعنى الحياة و الموت، و بالدشرة أيضا، عين هي عين الحياة وكذا أشجار الصفصاف رمز الشموخ و العلو.
و إلى جانب هذه الدلالات (العلو، الحياة…) فإنها تحمل دلالات أخرى أي (الأصالة و الثبات)، باعتبارها موطن الأنفة و الدفاع عن الشرف و المقاومة الثورية خلال حرب التحريرية و الصلابة في وجه التغيير :
“فالصعود إلى الدشرة، صعود مزدوج إلى الجبل و إلى الماضي”. لكن هذه القرية تنتمي إلى الزمن عكس فضاءات الحكايات العجيبة التي تقع خارج الزمن و التاريخ.
و مما يعطي لهذا الفضاء كل طابع التقديس، تواجد معالم تضفي عليه كل الاحترام و التبجيل الكبيرين : الجازية، الأولياء السبعة و الدراويش.
أ- فالأولياء السبعة و الذين ينسب لهم مسجد القرية، و هو المعلم الثقافي الديني و الأسطوري المركزي في القرية، حيث يجتمع بساحته السكان لإقامة الزردات و طقوس العبادة المتعلقة بالأولياء و حيث تقرر شؤونهم و تقدم الأضحية للذبح و تختلط النساء بالرجال قصد التعارف و من تم الزواج… فالمسجد هو الفضاء الروحي للجماعة، مركز التقديس و العبادة :
” و يقال عن الجامع أنه مدفون به سبعة أولياء، لهم من يخلفهم أبد الدهر، كلما مات سبعة جاء من بعدهم سبعة، يعبر السكان عن ذلك بعبارة متداولة بينهم : ” سبعة يغباو، سبعة ينباو [17]”.
ب- أما الدراويش، و هم العنصر الفعال في إشاعة الجانب الروحي في الدشرة، هم الوسيط بين العالمين، عالم الغيب و عالم الدشرة، حيث الجمع بين الواقع واللاواقع شيء وارد عادي :
“في الدشرة صاحب الرأي هو الغيب، و المذيعون هم الدراويش [18]، و ينتمي الدراويش للطرقية الصوفية، حيث التماهي مع العوالم الغيبية و الابتعاد عن العوالم المحسوسة هم ممارسات طقوسية تنبئ عن عالم غريب و عجيب. و للدراويش وظائف عدة، منها : الإشراف على الزردة و توجيه الحضرة، و قراءة المستقبل واستشراف العواقب في شتى المناسبات و خلال الزردات بخاصة.
و لعل وجود الجامع و الأولياء و الدراويش بالدشرة جعل من هذه الأخيرة فضاءا مقدسا و أسطوريا حيث : “وقع بين السكان غبيهم و عاقلهم، شبه اتفاق على إسناد الكرامة و الخوارق للجامع و الأولياء و الدراويش، لم يكن ذلك يضر في شيء حيواتهم الخاصة. بل اكسبهم لدى سكان المداشر الأخرى مهابة، و جعلهم أهل غيب [19]”. و ينتمي هذا الفضاء الأسطوري إلى الزمن البدائي القديم و الأصلي، الذي ولد مع ميلاد الجازية… و قد كان ظهور الجازية في الدشرة حدثا عظيما.
ج- تلعب الجازية كشخصية أسطورية دور المستقطب لمجموع العلاقات الاجتماعية، و القلب النابض للدشرة يتحدد بها عالم النص، و يُطبع بقيم رمزية ذات بعد إيديولوجي.
تضيف الجازية أبعادا جديدة للفضاء الأسطوري باعتبارها الذات الفاعلة و الموضوع –القيمة. إذ تتعد صورها في النص، تحمل ملامح “الشخصية الملحمية، و المتمثلة في كمال جسمي و عقلي و امتلاء بالحياة بـجميع معانيها”[20]؛ و هي رمز خرافي و موضوع لعملية استيهام جماعية. فتجمع بين ثنائية “الرغية و العدول، مطبوعة بالمقدس الذي يحمل في ذاته قوى خفية تجذب أحيانا و تبعد أحيانا أخرى، و غالبا ما تقوم بالعمليتين معا” [21].
يقول أحد الدراويش :
“الجازية !أتدري أي شيء هي الجازية بالنسبة للدشرة ؟ هي الحلم الذي يبيت كل ليلة في فراش كل راع و كل فلاح و كل درويش ! هي العروق الماضية و هي الثمار التي ستولد ! هي حمامة حائمة فوق رأس جبل، من يستطيع قبضها ؟”[22].
فهي مثل أي أسطورة، غريبة الأطوار، ” لا تستقر على حال، عيونها تقد وتتوعد، بسمتها ترتفع بالنفس إلى البعيد من السدم، لكنها كالنور قربها محرق” [23].
و من صفاتها أيضا : ذيوع الصيت إلى المهجر، و هي الحياة و الحلم و الجنون، و هي فكرة و هي الجنون، جمالها إلا هي، و هي رمز الثورة و الغناء، هي مجموع القيم و الرذائل، و هي الفتاة الأسطورة في الإباء، و هي في المحصلة فتنة، كل من سمع بها أو رآها هام بها و سقط في حبال حبها و غرامها.
و قد أضيفت إلى أسطورة الجازية، أسطورة أبيها الشهيد الذي قتل بألف بندقية و دفن في حناجر الطيور. أبوها ” لم يكن شخصا، بل كان شعبا ” [24] و قد ” كان وحده جيشا”[25]. فالجازية هي أيضا شخصية تاريخية، تتخذ في هذا النص وجهين : وجه الإنسان العادي، ووجه الميثي أو الأسطوري و لا يبرز الوجه الأول في نهاية الرواية. فالشخصية المحورية التي تمثلها الجازية غير واضحة في وجهها، لكنها متينة في بنيتها، هي رمز الأنوثة الخالدة، تحظى باحترام وهيبة كبيرين، فهي نموذج العروس المثالية و رمز للخلاف بين كل الخطاب الذين يرغبون في الظفر بها.
2- أما الفضاء البطولي، فإنه هنا السجن، و هو فضاء الهناك، حيث يقبع الطيب (أحد خطاب الجازية) الذي ينتظر حكم العدالة في جريمة قتل لم يرتكبها في حق الأحمر الطالب المتطوع الذي تحدى الأعراف و راقص الجازية في الزردة التي أقيمت على شرف الطلبة المتطوعين. و علاقة الجازية بهذا الفضاء، علاقة قوية أيضا، فسببها دخل الطيب السجن، و من أجلها سيعود للحياة الاجتماعية ليندمج من جديد في إحضان دشرته مرة ثانية.
و يمثل السجن، هذا المكان المغلق، فضاءا للذاكرة حيث يتذكر الطيب كل الوقائع التي عرفتها الدشرة قبل مجيئه إلى هنا، و هو بذلك فضاء لنزع الطابع الأسطوري démystification عن الأحداث لمعرفة ما وقع بالضبط، و كذلك فضاء للامتحان l’épreuve، لإعادة الوضع إلى مجراه الطبيعي و بالتالي الفوز بالجازية. لقد اضطر الطيب إلى الإبلاغ عن نفسه دفاعا عن شرف الدشرة المرتبط بشرف الجازية التي اقتحم الأحمر حرمتها و قد سيتها خلال الزردة غير مكترث بالأعراف التي تواضع عليها أهل القرية.
V. استراتيجية الزواج :
يكشف لنا النص على الصراع الخفي بين أربعة خطاب للجازية و هما :
1- الطيب، و هو ابن الأخضر بن الجبايلي، و قد خطبها منذ صغرها.
2- الأحمر، الطالب المتطوع، الوافد على القرية، و الذي راقصها أثناء الزردة.
3- ابن الشامبيط، يدرس بأمريكا و عاد من أجل الزواج بها.
4- عائد، ابن الهجرة الذي عاد لنفس السبب.
فالجازية ليست ابنة الملك أو لأمير ثري، و لم تطلب مربيتها هدية ثمينة، أو ترغب في امتحان عسير للخطاب، لكن النص في ضمنيته يشتغل مثل الحكاية العجيبة، و كل شروط استراتيجية الزواج متوفرة و لكنها تعتبر عن نفسها بشكل خفي و ضمني. فالزواج من الجازية ليس سهلا، لأنها تطالب بالحب الحقيقي ما لم يوفره لها أحدا، عدا الأحمر الذي عشقته و لكنه تسرع في خرق الطقوس بمراقصته لها. مما جعل الكارثة تنزل عليه و على الدشرة.
فالفوز بالجازية هو الفوز بالقيمة المطلقة، و من يقترن بها، يقترن بكل ما تحمله هذه الدشرة من طقوس و عادات و معالم مقدسة.
فبعد أن قتل أو مات في حادث السقوط في الهاوية، الطالب الأحمر، و دخل الطيب السجن بسبب هذا الموت الغامض، و عدل عائد عن مشروعه بسبب تعرفه على حجيلة، أخت الطيب، خلا الجو لابن الشامبيط، فقرر الزواج من هذه المخلوقة الأسطورية، لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن؛ إذ يموت أبوه خلال الزردة التي أعدت لأجل ذلك، و يعود هو من حيث أتى.
تقول الجازية :
” أن أزواجي الأولين لن يكونوا شرعيين، سيكونون أزواجا حراما. و أن كل واحد منهم يلاقي حتفه عندما يظن أن الحياة استوت له… ثم يمر زمن لا شمس فيه يشبه الليل و ليس ليلا، أعيش أزماته واحدة، واحدة. ثم أتزوج بعدما يموت كل أبنائي المولودين من زيجاتي الحرام. أتزوج زواجا يشهده كل دراويش الدنيا” [26].
إن إقامة علاقة قرابة مع الجازية يعني الفوز بكل هذه القيم، و على رأسها تلك القيمة المطلقة التي تعني السمو إلى مستوى من القيم العليا و الصعود في تراتبية مادية و معنوية، و كلاهما خير لمن يفوز بالجازية. و عليه يملك كل واحد من الخطاب استراتيجية معيشة للوصول إلى مبتغاه، فالطيب يعتمد “القرابة” عن طريق صداقة أبيه لأبي الجازية، و ابن الشامبيط يعتمد جاه و مال ابيه، و عائد يعتمد على حنينه و ارتباطه بالوطن، أما الأحمر فأفكاره الوردية تكفيه.
لكن الواقع يفرض الزواج الداخلي mariage endogène و هو ما يحرض عليه كل سكان الدشرة، و يحسن من يمثله هو الطيب، بينما بقية الخطاب فهم من الوافدين و “الغرباء” على الدشرة، و بالتالي على الجازية.
VI. مراسيم طقوسية :
تفتح الدشرة تفاوضها الرمزي و المادي الداخلي بالزردة، التي لا تقام من أجل استعطاف الجازية فقط، بل لأجل مناسبات متعددة و إن ظل الجازية حاضرا فيها كل مرة. و تقام زردتان في هذه الفترة، الأولى احتفاء بقدوم الطلبة المتطوعين، والثانية بإيعاز من الشامبيط، لأجل “استمالة” سكان الدشرة لمباركة زواج ابنه من الجازية.
و لتنظيم مثل هذه الحفلات، طقوس يجب إتباعها. تبدأ بالدعوة العامة الصريحة، و تحضير الغذاء و ذبح الأضحية، الرقص و الحضرة و تسخين المناجل… إن الزردة في عرف سكان الدشرة حفلة طقوسية تتدخل فيها الأساطير و الخرافات ويقودها الدراويش بماركة من إمام المسجد، يحضرها النساء و الرجال.
و يبدو أن الدشرة كانت تعيش وضعية استقرار قبل مجيء الطلبة المتطوعين، أو بالأحرى قبل أن يراقص الأحمر الجازية في الزردة الأولى، الشيء الذي أدى إلى انحراف وفوضى désordre في الحياة الاجتماعية للسكان.
كان فعل الأحمر سببا في غضب الله و غضب أولياء المقام على سكان الدشرة لأن الأحمر مس لطابو و دنسه : “أغضب الإنس و الجن، حتى السماء، أغضبها ! كانت ليلة رهيبة لم تعرفها الدشرة في تاريخها لولا لطف الأولياء لما بقيت في تلك الليلة حتى الحجارة، و لجر السب إلى الهاوية حتى المقابر !” [27].
و تكون الزردة الثانية سببا في العودة إلى الوضعية السابقة rétablissement de l’ordre، حيث يموت الشامبيط و يخلو الجو للطيب، فيحاول مع صافية التي تساعده للعودة إلى أهله بعد أن تبثت براءته، و بالتالي الزواج من الجازية.
و في الختام يمكن القول، أن هذا النص يتضمن العديد من القضايا و الموضوعات التي اهتمت بهم الأنثروبولوجيا، و هي الأساطير و علاقة القرابة و الزواج و الطقوس الشعبية و الثقافية القديمة. لكن الروائي، بتوظيفه لهذه الجوانب الثقافية استطاع أن يجمع بين ما هو شفوي و مكتوب في الثقافة الشعبية الجزائرية. و من خلال هذا التناص بين جنسين، الحكاية الشعبية العجيبة، و الجنس الروائي، أن يبدع شكلا فنيا راقيا راعى فيه الحداثة الأدبية من تداخل أزمنة و أمكنة و طبع البعض بالبطولة و البعض الآخر بالأسطورة، و لعل هنا تكمن قيمة هذه النص الأدبي الذي هو في الذات “وثيقة أنثروبولوجية” تكشف جانبا هاما من مخيالنا الشعبي.
الهوامش
.[1] REICHLER, Claude.- La littérature comme interprétation symbolique (in) l’interprétation des textes (collectif).- Paris, Ed. De Minuit, 1989.- p.109.
[2] . Le Petit Robert.- Paris, 1987.- p.74.
[3] . REICHLER, Claude.- Op.cité.- p.82.
[4] . Voir GREMIAS, A.J et COURTES, J..- Sémiotique dictionnaire raisonné de la théorie du langage.- Paris, Hachette, 1979.- p.p.134-136.
[5] . DURAND, Gilbert.- Introduction à la mythodologie.- Tunis, CERES, 1996.- p.182.
[6] . Idem.- p.187.
[7] . Idem.- p.187.
[8] . PAGEAUX, Daniel-Henri.- Littérature générale et comparée.- Paris, Armand Collin, 1994, p.95.
[9] . Idem. – p.96.
[18] . م.ن.- ص.196.
[19] . م.ن.- ص.58.
[20] . بوريو.- م.س.- ص.120.
[21] . FOULQUIE, Paul.- Dictionnaire de la langue philosophique.- PUF, 4ème édition, 1982.- p.648.
[22] . الرواية.- ص.172.
[23] . م.ن..-ص.25.
[24] . م.ن..-ص.24.
[25] . م.ن..-ص.36.
[26] . م.ن..-ص.77.
[27] . م.ن..-ص.ص.171-172.
* مكلف بالدروس بكلية الآداب، اللغات و الفنون – جامعة وهران، باحث مشارك بالمركز الوطني للبحوث الأنثروبولوجيا الاجتماعية و الثقافية.
المصدر: كتاب: أي مستقبل للأنثروبولوجيا في الجزائر الصادر عن المركز الوطني للبحث في الأنثروبولوجيا الإجتماعية والثقافية، وهران، الجزائر