خلال القرنين 15 و16 كان الرحالة الأوربيون قد جلبوا معهم لدى عودتهم من أسفارهم معلومات جديدة عن شعوب ما كان للأوربيين سابق معرفة بها. وخلال القرون اللاحقة امتدت حركة التوسع الكشفي التجاري والاستعماري التى خرج معها العالم الأوربي من مكتبات جامعاته ليتجول في أصقاع غير مكتشفة له ليصل إلى إدراك حقيقة إخوة له من بنى الإنسان يختلفون عته مأكلاً ومشرباً وسلوكاً. فكانت الدهشة الأولى: إنهم “البدائيون” الذين تكتشفهم الأنثروبولوجيا الجديدة.
وبعد أن لبس العالم ثوب البدائي وحكى لغته وعاش معه لفترات…كانت الدهشة الثانية. هذا “البدائي” ليس متخلفاً كما صورته المعلومات المختزنة في العقل الأوربي منذ فترات…إن له طريقة حياته التى تختلف عن حياة الأوربي، وله منطقه الخاص. وبعد جولات جديدة جاءت دهشة ثالثة…يختلف منطق “البدائي” عن منطق الأوربي، لكنه منطق متماسك، إن له عالمه الخاص المتماسك بقيمه وبمنطقه وشعائره وطرق إيمانه.
هكذا أخذت في الظهور كتابات يؤلف بعضها خامة جيدة لدراسة بعض العناصر الثقافية. من أهم تلك الكتابات الدراسة الضخمة المكونة من أربعة مجلدات قام بوضعها المبشر الفرنسي الأب جوزيف لافيتو في النصف الأول من القرن الثامن عشر نتيجة تجربة خمس سنوات قضاها بين أفراد الهنود الأمريكيون الإيروكيز في شمال شرقي الولايات المتحدة الأمريكية. انتهت دراسة لافيتو إلى أن التنظيمات الاجتماعية عند الإيروكيز تساوى التنظيمات البدائية لبنى الإنسان. واكتشف لافيتو وجود تشابه بين النظام الأمومي عند الإيروكيز مع ذلك النظام ما قبل التاريخى الذى وصفه هيرودوت (480-425 ق.م.) عند سكان ليكيا في آسيا الصغرى. ولكون لافيتو حاول تفسير وجود هذا التشابه باحتمال انتشار هذا النظام من آسيا الصغرى إلى أمريكا فإنه يجوز عد لافيتو من أوائل القائلين بمبدأ الانتشار الثقافي diffusion of culture.
أثارت كتابات لافيتو والرحالة والمبشرين الذين سبقوه من أمثال بارتولوميو دى لاس كازاس (1502)، تاجر الرقيق الذى تحول إلى الرهبنة والتبشير في أمريكا الوسطى، والدببلوماسى النمساوي سيجموند هربرشتاين الذى كتب عن الروس والفينو-اوجريين (1577)، وشيفر الذى كتب عن النظم الشامانية في شمال سكاندنافيا (1675)، ودابر الذى سافر كثيراً في أفريقيا وكتب عن الأفارقة وعاداتهم (1686)، وبينز كالب الذى وضع مؤلفاً عن شعب الهوتنتوت (السان) في جنوب أفريقيا (1700) وغيرهم، أثارت رد فعل بين الفلاسفة والمفكرين الأوربيين في القرنين 17و18 والذين حاولوا صياغة قوانين عامة يمكنها أن تشرح بطرق طبيعية تطور المجتمعات البشريَّة عبر مراحل من التقدم. وشكلت أعمال أولئك الفلاسفة والمفكرين الأساس الذى نشأت عليه التطورية الثقافوية اتجاهاً نظرياً في الأنثروبولوجيا في القرن 19 بخاصة لدى لويس هترى مورغان وادوارد برنت تايلور.
ففي إيطاليا قدم جيامباتستا فيكو (1668-1744) نظريته حول الدورة التاريخية التى يشير فيها إلى أن المجتمع لا بدَّ أن يتطور وفقاً لقوانين داخلية معينة. طبقاً لذلك رأى فيكو أن كل أمة تمر بثلاث مراحل في تطورها: المرحلة الإلهية، والمرحلة البطولية، والمرحلة الإنسانية، وهى مراحل تمثل دورة الحياة الإنسانية- الطفولة والشباب والنضج. وتمثل الدولة التى لا تنشأ إلا في المرحلة البطولية، سيطرة الأرستقراطية. ويحل محل الدولة في المرحلة الإنسانية مجتمع ديمقراطي تنتصر فيه الحرية و”العدالة الطبيعية”. ويتبع هذا، وهو ذروة التقدم الإنساني، انهيار بحيث يعود المجتمع إلى حالته الأولى الإلهية، ثم يستأنف حركته الصاعدة مجدداً لتبدأ دورة جديدة.
تظهر بعد ذلك تأملات شارل دى مونتسكيو (1689-1755) التى تجعله من مؤسسي نظرية الحتمية الجغرافية بادعائه أن السيماء الأخلاقية للشعوب وطابع قوانينها وأشكال حكوماتها يحددها المناخ والتربة ومساحة الإقليم. في كل عمل مونتسكيو تنتشر فكرة أن القوانين تؤلف نظاماً “ثمة أشياء عديدة تحكم الناس: المناخ والدين والقوانين والمبادئ الأساسية للحكومة وأمثلة الأشياء الماضيَّة والطبائع والآداب”. قد تبدو اللائحة للوهلة الأولى مجرد تعداد، لكن مونتسكيو يدخل معياراً يسمح بتمييز الطريقة التى تؤثر فيها هذه الضغوط المختلفة على الأنواع المتباينة للقوانين. كلما كان التمايز في المجتمع أقل، كلما كان الأساس “التشكلى” (المناخ والبيئة والبنية الديموغرافية) أكثر إلزاماً. كلما كان الناس أكثر “تمدناً” كلما ازداد استناد قانونية النظام الاجتماعي على القوانين والطبائع والآداب. يميز مونتسكيو التعابير الثلاثة، لكنه يميز أولاً الاثنين الأخيرين عن الأول. إن الصين حيث ينم الانتظام عن طريق “الآداب” و”العبادات والطقوس”، تختلف عن إسبارطة حيث الأولوية كانت دائماً “للطبائع”، أي لقواعد السلوك إزاء الآخر. فبعد أن ميز بينها يعود فيجمع الطبائع والآداب التى يضعها معاً في مواجهة القوانين التى هي “أعراف أقرها المُشرع”. إن الشعوب الحرة هى التى يحكمها القانون، في حين أن البلدان التى تسيطر فيها الطبائع والآداب تكون عرضة للاستبداد والطغيان. لكن الضبط عن طريق القوانين هو نفسه معقد وموضع خلاف. صحيح أن الحرية السياسية، كما يوحى بذلك مثل إنجلترا، يمكن أن تنتج طبائع وآداب حرة في نطاق التجارة والحياة الخاصة. ولكن يمكن أن يحصل كذلك، كما في إسبرطة وروما، أن لا تكون القوانين إلا اصطناعا من المُشرع الذى يسعى إلى استعادة “العادات القديمة”، أي إلى استعادة الطبائع والآداب، سلطة كانت قد فقدتها. وبما أن قوانين كل بلد تشكل نظاماً، فإننا نستطيع أن نقارن بين هذه البلدان. يقارن مونتسكيو إنجلترا بروما، والصين باسبرطة، لكنه يبدى حذره لكي يحدد تحت أية علاقة يقارنها، يمكن لمجتمعين أن يتشابها تحت علاقة ما، في حين أنهما مختلفان تحت علاقة أخرى.
نادى آن روبير جاك تيرغو (1727-1781) بالفكرة القائلة بأن تقدم المجتمع يرتبط ارتباطا وثيقاً بتطور الحياة الاقتصادية. وكان تيرغو يعترف بأهمية النمو الاقتصادي وتقدم العلم والتقنية لما فيه صالح التطور الاجتماعي، واعتقد بأن “الناتج الصافي”، أي فائض القيمة يتم خلقه في مجال الإنتاج لا في مجال التداول، وقدم بعض الأفكار عن التقسيم الطبقي للمجتمع وجوهر الأجور.
أما جان أنطوان كوندورسيه (1743-1794) ففقد دعا إلى طرح الخرافات جانباً وتطوير المعرفة العلميَّة. يتصور كوندورسيه التاريخ نتاجاً للعقل الإنساني معلناً بأن النظام البورجوازي هو قمة المعقولية و”الطبيعة”. قسم كوندورسيه التاريخ إلى عشر فترات على أساس الصفات الاتفاقية، وأخذ على عاتقه مهمة تبرير أن الرأسمالية تضمن تقدماً لا نهائياً. وعارض كوندورسيه نظام المقاطعات الاجتماعية، وحارب من أجل المساواة السياسية داعياً إلى استئصال الحكم الدكتاتوري وإلى التطور الحر للفرد. لكنه اعتقد في الوقت نفسه أن عدم المساواة فيما يتعلق بالملكية أمراً مفيداً.
وأقام كلود هنرى سان سيمون (1760-1825) مبدأ الفلسفة الطبيعية، أى دراسة الطبيعة في مواجهة التقاليد المثالية بخاصة المثالية الألمانية. واعتنق الحتميَّة بصورة حاسمة ومدَّ نطاقها إلى تطور المجتمع البشرى موجهاً اهتماما خاصاً بدعم الفكرة القائلة بأن التاريخ تحكمه قوانين. وكان يعتقد أن التاريخ لا بدَّ أن يسهم في التقدم البشرى بالقدر الذى تسهم به العلوم الطبيعية. فكل نظام اجتماعي هو خطوة للأمام في التاريخ. ولكن القوى المحركة للتطور الاجتماعي هي تقدم المعرفة العلمية والأخلاق والدين. وبالتالي فإن التاريخ يمر بثلاث مراحل: لاهوتية (وهى فترة سيطرة الدين) وتشمل النظامين العبودي والإقطاعي، وميتافيزيقية (وهى فترة سقوط النظامين العبودي والإقطاعي)، ووضعية (وهى النظام الاجتماعي المستقبلي القائم على العلم). وقد ساعده مفهومه الاجتماعي على أن يبين أن كل نظام اجتماعي ينبثق انبثاقا طبيعياً من التطور التاريخى السابق له. وسوف يقوم المجتمع المستقبلي على أساس صناعة واسعة النطاق منظمة تنظيماً علمياً، ولكن مع الاحتفاظ بالملكية الخاصة والطبقات، وسوف يكون الدور الرائد فيه من نصيب العلم والصناعة وسينهض به العلماء ورجال الصناعة. وينبغي أن يعطى حق العمل لكل إنسان كل حسب قدرته.
وفي عام 1859 ظهر عمل شارلس داروين (1809-1882) “أصل الأنواع” الذى جاء إيذاناً باندلاع عاصفة لم تنقشع حتى يومنا هذا. لقد تم بفضل عمل داروين تفسير لغز الأنواع: الأنواع غير ثابتة بل هي متحولة تطورت عن أنواع أخرى عبر بميكانيزم الاصطفاء الطبيعي. وشرح داروين في كتابه المذكور مفهوم التطور في خمس نقاط يمكن اختزالها في الآتي:
أولاً، أن كل الأنواع قادرة على إنتاج نسل بصورة أسرع مما هو عليه الحال بالنسبة للزيادات في إنتاج الطعام.
ثانياً، تظهر كل الكائنات الحية تنوعات، فليس هناك من فردين للنوع الواحد متشابهين تماماً.
ثالثاً، بما أن عدد الأفراد الموجودين أكثر مما يفترض بقاءه فإن صراعاً مريراً ينشأ تكون الغلبة فيه لأولئك الأفراد الذين يؤلفون نوعاً إيجابياً كماً، وقوة، ومقدرة على الجري أو أية خصائص إيجابية أخرى ضرورية للبقاء.
رابعاً، تنتقل تلك التنوعات الإيجابية بالوراثة إلى الجيل اللاحق.
خامساً، تنتج تلك الأنواع الناجحة، على مدى فترات من الزمن الجيولوجي، اختلافات تؤدى إلى ظهور أنواع جديدة.
وكان العلماء في وقت سابق يرون في الأنواع وحدة غير متغيرة إذ أنه إذا تبدلت الأنواع فلن تكون أنواعاً. فالأنواع كانت، إذن، في أساس المناقشات حول النباتات والحيوانات ولم تكن للأفراد أهمية في داخل الأنواع. من هنا صَعُّب على العديد من العلماء رؤية الكيفية التى يمكن بها حدوث التغير. وكان داروين يرى أن تنوع الأفراد هو ما قد يفسر كيفية حدوث التغير. التنوعات الأكثر كفاءة تم اصطفاءها عن طريق الطبيعة للبقاء بينما الأقل كفاءة تم استثناءها. ومن ثم فإن مفكري علم السكان أصبحوا يؤكدون على تفرد كل شئ في العالم العضوي. الأهم بالنسبة لهم هو الفرد لا النوع. إنهم يؤكدون على أن كل فرد من الأنواع التى تعيد إنتاج نفسها جنسياً هو نوع مختلف فرداً عن كل الآخرين. ليس هناك فرد نموذجي في تصورهم. وقد تم التأكيد على تفرد الفرد (أي التنوع الذى يحدث في كل المجموعات السكانية- بمعنى أن السكان هم مجموعة من الأفراد المتفاعلين، لا نوعاً) وهذا هو ما قاد داروين إلى مفهوم الاصطفاء الطبيعي ميكانيزماً مكن التطور من أن يكون فاعلاً. فالاصطفاء الطبيعي يفعل في الأفراد، إيجاباً أو سلباً، لكن السكان هم الذين يتطورون. وحدة الاصطفاء الطبيعي أصبحت انطلاقا من هذا الفهم هى الفرد بينما أصبح السكان هم وحدة التطور.
هكذا فإن نظرية التطور في الطبيعة الحية كما صاغها داروين يمكن اختزالها في أن العوامل الرئيسة في تطور الكائنات الحيَّة هي التحول والوراثة والاصطفاء الطبيعي. الأصلح بين الكائنات الحية هو وحده الذى يبقى ويتكاثر في الصراع من أجل البقاء تحت تأثير البيئة الخارجية. ويُحسن الاصطفاء الطبيعي بصورة مستمرة بنيان الكائنات العضوية ووظائفها دافعاً قدرتها على التكيف مع الأشياء الخارجية المحيطة…هكذا لم يعد العلم بعد داروين كما كان عليه أبداً.
* منقول : مجلة الانثروبولوجيا السودانية