علي هاشم
فيما يلي محاولة لتقديم تصور أولي عن طبيعة الإنسان الرقمي/السيبراني (السايبورج) ، من منظور الأنثروبولوجيا ، مبتدئاً بتحديد مقارباتها المنهجية ، مسقطاً هذه المقاربات على الواقع الخائلي ، وأخيراً ، مقدّماً مطالعة لإشكالية من سؤالين ، دون أن أعلن جواباً خاتماً ، بل هي مجرد مطالعة على مسار البحث الطويل .
يمكن تعريف الأنثروبولوجيا بأنها دراسة الإنسانية ، فهي تهتم بالإنسان في الماضي والحاضر ، بمعزل عن مستوى تطوره التكنولوجي ، وتهتم أيضاً بالنواحي : البيولوجية ، اللغوية ، التكنولوجية ، الفنية ، السياسية ، الدينية ، وكل الأبعاد الأخرى للحياة الإنسانية .[1]
مرّ هذا العلم الذي نشأ حديثاً في القرن التاسع عشر[2] ، بكثير من المحطات والتنوعات[3] ، ويعتمد منظوره على ثلاث دعامات أساسية[4] :
المنظور الشمولي : هو النظر في جميع الترابطات والتشابكات بين الأجزاء ، ومحاولة فهمها في سياق الكل .
المنظور المقارن : إن السبب الرئيسي الذي يدفع الأنثروبولوجيين للإصرار على هذا المنظور بسيط ، إذ بدون مقارنة الثقافات ببعضها ، لا يمكننا أن نكتشف إن كانت بعض السلوكيات (أو العادات) هي خاصية لهذه الثقافة فقط ، أم لبعض الثقافات ، أم هي صفة عالمية ! وبدون هذه المعرفة ، لا يمكننا أن نعرف سببية وجود هذا السلوك (أو العادة) . بإختصار ، إن التعميمات عن الإنسانية هي خاطئة إلا إذا أخذت بالحسبان المدى العريض للتنوع الثقافي .
المنظور النسبي : النسبية الثقافية تعني أنه لا وجود لثقافة أدنى أو أرقى من ثقافة أخرى ، وعند دراسة الثقافة لا يقوم الأنثروبولوجيون بتقييم سلوكيات أفراد الثقافة المدروسة تبعاً لمعايير وقيم ثقافة الدارسين .
السؤال الآن ، كيف يمكن أن تساعد هذه المناظير في العصر الرقمي ؟ وهل هناك حاجة لمناظير مستحدثة توافق البيئة الرقمية الجديدة ؟ وكيف نفهم من خلالها الإنسان الرقمي ؟ ومجال الدراسة الأنثروبولوجية ؟!
إذا تأملنا المنظور الأول ، نجده يتحدث عن رؤية الأشجار وبذات الوقت تأمل هذه المجموعة من الأشجار كغابة . وضمن المجتمعات السيبرانية بتشابكاتها المركبة والمعقدة ، هذا المنظور ضروري ولازب . إذ لا يمكن فهم الفرادة والخصوصية ، دون فهم الصورة الأشمل ، ودون نمذجة مجموع التعقيد (والفوضى الظاهرة) في صورة نظام يظهر جلياً في قدرته على تبسيط المعقد في سلسلة منظمة من الترابطات والبنى ، تسمح للباحث بقراءتها ، فهمها ، وتحليلها .
المنظور الثاني يقيم مقارنة دائمة بين الواقعي والخائلي ، وأيضاً بين المجتمعات السيبرانية المختلفة ، في ما تقدمه وما تطرحه ، وكيفية تشكيلها للهويات السيبرانية ، وكيف يقوم المشتركون السيبرانيون بتشكيلها الدائم عبر طرق إستخدامهم المختلفة .
إن التنوع الثقافي ضمن المجتمع الواقعي ينعكس بكامل تجلياته في المجتمع الخائلي ، فيعتمد المشتركون السيبرانيون (عبر إستخدام ذات التقنية) تشكيلات ومقاربات مختلفة تبعاً لواقعهم وبيئتهم ، تبعاً لثقافتهم . من الأمثلة إستخدام الجوال ، أو إستخدام “تويتر” و”فيسبوك” . إن مؤسسي موقع “فيسبوك”[5] لم يكن من بين أهدافهم إستخدامه كمحركٍ سياسيٍ ، أو في إعتباره مؤسس (أو ساعد على تأسيس) ثورة ! لم ينظروا إلى صفحاته (أو مجموعاته) بإعتبارها أحزاباً سياسية “سيبرانية” تستدعي تواصلاً وتنظيماً وإرتقاءً في الفعل السياسي عبر الحوار والحشد والتأسيس لأفكار الحرية والمشاركة والعدالة ، لم ينظروا إليه كأداة تسمح للشعب بأن ينظر إلى نفسه كقوة ، تسمح للشعب بإستعادة هويته فكرامته فيصرخ مطالباً بإسقاط من سلبه الهوية ! كل هذه التشكيلات المتنوعة ، تختلف من مكان إلى آخر ، تبعاً للحاجات والإتجاهات ، تبعاً للثقافات .
المنظور الثالث النسبي ، يقترب من الثاني عبر إضفاء فكرة التنوع ، من خلال قراءة الوقائع من وجهة نظر حامليها ومحركيها ، هذا في البدء ، ليتسنى لاحقاً للباحث أن يحلل البنى ، ويفهم المجريات ، دون أن يضفي عليها خياراته وقيمه ، ودون أن يفاضل بينها وبين ثقافته .
يعايش الباحث الوقائع مع من يدرسهم ، فيفهم إنفعالاتهم وسلوكياتهم ، وبالتالي يكوّن تصوراته عما يظنه معتقداتهم وقيمهم التي تحركهم . بعدها ، يحلّلها ، ويقارن بينها وبين تجارب ضمن ثقافات أخرى ، ليقدم صورة أشمل لغابة العلاقات والتشابكات .
وعلى الشبكة العنكبوتية ، نفهم أكثر ضرورة مثل هذا المنظار ، الذي أبدل القيم الخاصة الواقعية ، بقيم خائلية خاصة بالمجتمع السيبراني ، هي أشمل وأبسط ، وتتوافق مع طيف واسع من الثقافات الواقعية التي أوجدت لها هوامش تَلاقُح ، يتكثّف كل لحظة ، مع إزدياد المشتركين السيبرانيين ، إذ تخطى عدد “الفيسبوكيين” عتبة 830 مليوناً [6] ، ووصل عددهم في لبنان إلى 1444200 [7] .
أضحت القيم تتشكل كل لحظة أثناء التواصل السيبراني ، ولم يعد من الممكن إيقاف طبيعة هكذا تلاقح ، إلا عبر منع التواصل من الأساس ! ما سبق وأخذ عقوداً لينتشر (دخول أول تلفاز في الستينيات على سبيل المثال) ينتشر اليوم بأيام وأحياناً ساعات (عبر يوتيوب مثلاً) .
بعد هذا العرض ، لا بد أن أسأل :
ما الذي أدخلته التقانة الحديثة على تعريف الطبيعة البشرية ؟ وما الذي غيرته فيها ؟
الإنسان العاقل (homo sapiens) هو ما يدرسه الأنثروبولوجيون[8] ، ومحاولة تفكيك طبيعة الإنسان ، محاولة فك ألغازها وشيفرتها ، هو مسعى العلم والفلسفة ، وكل ضمن حقل إختصاصه (الجينوم البشري مثال من ضمن البيولوجيا) . ومع دخول التكنولوجيا وإستخدامها بهذا الشكل المتسارع والشامل ، بدأنا نخطو حثيثاً نحو إنسان (وطبيعة) مختلفة ، هو تزاوج بين الإنسان والآلة ، الإنسالة ! الإنسان-الروبوت ، الذكاء الإصطناعي العضوي ، الآلة التي تفكر وتشعر .
إن هذا التزاوج يؤسس للإنسان السيبراني/الرقمي ، الذي أُطلق عليه مصطلح “السايبورج” (cyborg)[9] ، هذا الإنسان المابعد إنسان (posthuman) ، أو السوبرمان (superman) بتعبير نيتشه[10] هو ذو طبيعة إنسالية مختلفة .
إذا أمكن توسيع مقدرات العقل البشري عبر زرع شرائح إلكترونية فيه ، إذا أمكن إسترجاع المعلومات وتخزينها أسرع من قبل[11] ألا يؤسس هذا لوقائع وطبائع جديدة ؟!
إنّ تواصلنا مع الآلة (جوال ، حاسوب ، إنترنت) ألا يدفعها لأن تكون جزءاً ممتداً لنا ، ولأفكارنا ، ومشاعرنا ، فنكرهها ، ونحبها ! ألا تؤثر في طبائعنا ، ألا تكوّن جزءاً من ذاكرتنا ؟ وألا يمكننا القول أن جميع من في لائحة أصدقائنا هم معنا دوماً وعلى بُعد نقرة ![12]
ما الذي تغير في الإنسان بعد أن أصبح سيبرانياً ؟! وهل ما زال إنساناً ؟
الكائن السيبراني ، أو بتعبير آخر السايبورج ، هو تطور آخر (بالمعنى الدارويني) للإنسان . لم يعد الإنسان إنساناً ، إستخدامه للتقنية غيّره ، فَنَحَتَه إنسالة ! أو هذا ما سيحدث …!
ما الذي سيتغيّر بالإنسان ؟ في عالم المابعديات[13] لم يتبق شيء من القديم …! أو هي مصالحة وربما محاولة مواءمة القديم مع الجديد ، فما كان تضاداً (أو تناقضاً) أضحى في عالم اليوم ثنائية متكاملة ، في عالم المابعد ، عودة للطاو برمزه الأشهر الين واليانغ ! وهذا ما تشهده المجتمعات الخائلية .
ثقافات قديمة ، أخذ بالثأر ، الشرف ، العرض ، الأرض ، الثورة ، الحرية ، الشعب ، العدالة ، الصداقة ، الحب ، الزواج ، العلاقات ، الموت ، الروح ، الحياة ، الخير ، الشر ، الدين ، هذا مجرد تداعي لبعض الأفكار التي تتبدل معانيها ، وبحاجة لتحديدات معرفية وإصطلاحية جديدة .
وإذا نزعنا عن الثقافة ما يشكّلها ، ما يميّزها .. هل تبقى هي ؟ وأساساً هل تبقى ثقافة ؟! أو ربما مابعد ثقافة ! وإذا دمجناها مع مختلف الثقافات في مجتمع سيبراني مشكّلين ثقافة خائلية جديدة ، ألا نؤسّس بذلك لأول بذور القرية الكونية ؟ وبالتالي لإنتفاء التنوع ! فإنتفاء الهوية !
ما الذي يبقى من الإنسان في عصر المابعد إنسان ؟ وهل يمكن أن نطلق على السايبورج مصطلح إنسان ؟!
قبل ذلك ، أو بعده ، هل تشكّلنا التقانة بهذه السرعة ؟! وهل نتغيّر بذات السرعة ؟!
هل نستخدمها ككل واحد ، أم أننا نمارس عليها ومن خلالها خصوصيتنا ، ثقافتنا ، هويتنا ؟!
الإنسان في عصر المابعد ، يسأل سؤال الهوية الأبدي : من أنا ؟!!
الهوامش :
[1] PEOPLES James, GARRICK Bailey: Humanity: An Introduction to Cultural Anthropology. 5th ed. USA: Wadsworth. 2000. p 11.
[2] Wikipedia: the free encyclopedia. [Electronic resource]. [25 March 2012]. Anthropology. Website: http://en.wikipedia.org/wiki/Anthropology
[3] PEOPLES James, GARRICK Bailey. Op.cit. p 51.
[4] Ibid. p.p. 8, 9.
[5] Wikipedia: The Free Encyclopedia. Op.cit. [25 March 2012]. Facebook. Website: http://en.wikipedia.org/wiki/Facebook
[6] Social bakers: Heart of Facebook statistics. [Electronic resource]. [USA]. [25/Mar/2012]. Facebook Statistics by country. Website: http://www.socialbakers.com/facebook-statistics/
[7] Ibid. Lebanon Facebook Statistics. Website: http://www.socialbakers.com/facebook-statistics/lebanon
[8] وإن كانت الأنثروبولوجيا الفيزيقية (تبعاً للتقسيم الأمريكي) تدرس التطور البيولوجي للإنسان ، إضافة إلى سلوكيات الرئيسات العليا ، من خلال فرعيها : الباليوأنثروبولوجي (Paleoanthropology) ، وعلم الرئيسات (Primatology) . أنظر : PEOPLES James, GARRICK Bailey. Op.cit. p 2.
[9] لرؤية إستخدام هذا المصطلح ، إنطلاقه ، وكيفية إنتشاره ، يرجى العودة إلى الرابط : Wikipedia: The Free Encyclopedia. Op.cit. [20 March 2012]. Cyborg. Website: http://en.wikipedia.org/wiki/Cyborg
[10] NIETZSCHE Friedrich: Thus Spake Zarathustra. USA: NuVision Publications. 2007 [Original Pub Date: 1875] (Translated by: Thomas Common). p.11.
[11] MORE Max: On Becoming Posthuman. 1994. Website: http://www.maxmore.com/becoming.htm
[12] CASE Amber: We are all cyborgs now. 11/Jan/2011. [Youtube]. Website: http://www.youtube.com/watch?feature=player_embedded&v=z1KJAXM3xYA
[13] علي ؛ نبيل : الثقافة العربية وعصر المعلومات : رؤية لمستقبل الخطاب الثقافي العربي . الكويت : المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب . يناير/2011 . (سلسلة عالم المعرفة : 265) . ص 11 .