كنت قد ذكرت في المقاربة (1) تفاصيلًا ستُظهر الإثنوغرافيا قريبة من مجال الإستخبارات، وعلاقة الأنثروبولوجيا بالإستعمار قديمة، ولن أعيد تفنيد الحجج التي سيقت لتبريرها، أو تأكيد براءتها حاليًا من ذلك.[1]
والإثنوغرافيا – كما فصّلت فيها – هي كعمل الإستخبارات من حيث الإندماج في المجتمع المحلي، ومصادقة الجميع، وحتى التماثل باللباس والعادات، والهدف منهما هو الحصول على المعلومات!
لكن الإختلاف بينهما واضح بنقطتين جوهريتين:
- الأولى هي في النية،
- الثانية هي في الهدف
*** *** *** *** *** *** *** *** ***
النية:
الإنطلاق المؤسس للفعل الإثنوغرافي هو توضيح المهمة للمجتمع المحلي، هو الإعلان عن طبيعة البحث، وأخذ موافقات مكتوبة أحيانًا، وبالطبع حماية مصادر المعلومات عبر تجهيلهم لاحقًا، لأن المعلومات التي سيقدمونها قد تؤثر على وضعهم الإجتماعي (status) وأحيانًا قد تؤذيهم – إذا وقعت في اليدين الخطأ –!
للتوضيح، تقوم بإجراء بحثك حول المثلية، عليك أن تخفي أي معلومة قد توصل إلى الإخباري، لأن المثلية مثلًا، في البلد الذي تقوم ببحثك فيه، تمس منظومة القيم وقد تؤثر على الوضع الإجتماعي للإخباري !
تقوم بإجراء بحثك حول الجانب المظلم من الفضاء الرقمي، ومن صورة لأخرى قد تصل إلى الفتاة التي تقف وراء الحساب، فالمعلومات التي تذكرها عنها –إذا لم تكن مموهة– قد توصل إلى جريمة –فيما يطلق عليه جزافًا جريمة شرف–.
أنت، كباحث، تترتب عليك مسؤولية أخلاقية أمام المجتمع المحلي، وهي توضيح بحثك، وأهدافه، والأهم حماية مصادر المعلومات.
هذه المسؤولية معدومة في حالة الإستخبارات، فهو سيخترق المجتمع المحلي، وسيحاول قدر إستطاعته أن يصبح واحدًا منهم، وكل المعطيات التي سيحصل عليها، سيسلمها لمرؤوسيه، حتى ولو أدت إلى أذيتهم، وأحيانًا هدفه هو أذيتهم!
*** *** *** *** *** *** *** *** *** ***
الهدف:
الهدف هو النتيجة المتوخاة المرتجاة من البحث ككل، إذ قد يكون لفهم الأنثروبولوجي المعمق للمجتمع المحلي تبعات إيجابية على أكثر من صعيد.
الأنثروبولوجي، سيحاول أن يبرز هموم وطموحات الناس، لكن ضمن سياق شمولي، هو سيرى الصورة الكبيرة، وهم لاستغراقهم في جزء منها توقفوا عن الإندهاش!
هذا السياق يمنح الأنثروبولوجي فرصة، قل بل هي قدرة على تمثيل المجتمع، وهنا تأتي أهمية شرحه مسبقًا لهدفه/أهدافه، حيث سيشارك المجتمع ككل في تقديم أفضل صورة [وهنا تبرز مهارة الإثنوغرافي في تفنيد الصورة المثالية مقابل الواقعية، وفي مدى ثقة المجتمع المحلي به ليتصرف بواقعية أمامه].
الإستخباري، هدفه فهم المجتمع لتفكيكه من الداخل، فبركة إنقلاب[2]، تدمير ممنهج لمحصول زراعي مقابل محصول آخر، إستبدال قيمة بقيمة، أو وجبة غذائية بوجبة!
للتوضيح، هدف الأنثروبولوجي من دراسة حول تأثير المناجم على الموئل الطبيعي المقدس لشعب الماشكو-بيرو (Mashco-Piro)، هو في إيصال رسالة عن خطر المناجم عبر توضيح خطورة تدمير الموئل الطبيعي على البنية الإجتماعية، البيئة، الإقتصاد، السياحة، و…! بينما هدف الإستخباري هو تعيين الناشطين لتصفيتهم لاحقًا!
هدف الأول فهم البنية الثقافية القائمة، وتمكين المجتمع المحلي من القيام بالتغيير إذا إرتأى ذلك دون تدخل منه! بينما هدف الثاني مصلحة الإستكبار عبر تأبيد الواقع أو تغييره (لا فرق)!
والفرق بين الهدفين شاسع!
لذا نلحظ هذا التداخل بين المجالين، ونلحظ أيضًا إستعانة الإستخبارات بباحثين ضمن الأنثروبولوجيا (إحتلال العراق عام 2003 نموذجًا – ومن التاريخ تطوع مارغريت ميد بالمجهود الحربي الأمريكي أثناء الحرب العالمية الثانية).
*** *** *** *** *** *** *** *** ***
الأنثروبولوجيا وليدة الإستعمار وربيبته وطفلته المدللة، وما زالت إلى اليوم قادرة على خدمته، وهي تقوم بذلك في كثير من الأحيان! لكن هذا لا يعني أن نرفضها، بل لا بد من تعزيز أخلاقياتها، عبر وعي أهميتها، وعبر تدريب الباحثين على ملكة التفكير النقدي، وهي ملكة، يتم تغييبها!
الأنثروبولوجيا، عندما يقوم بها الباحث الأصيل/المحلي، المزود بأخلاقياتها، ستكون رافعة للتغيير عبر تحقيق شرط الوعي، فتمكين المجتمع المحلي!
الباحث الأصيل المساءَل من قبل مجتمعه، والذي يعيش معهم، لا يمكنه أن يتهرب من تأثيرهم عليه، ولا أن يتهرب من آليات الضبط الإجتماعي التي تمارس قهرًا عليهم جميعًا.
هو مسؤول أمامهم، عما كتب؟ وكيف أظهرهم؟ وكلما كان المجتمع المحلي صغيرًا، كلما صعب عليه أن يخفي هويات إخبارييه!
كما لا يمكنه أن ينأى بنفسه عنهم بحجة الموضوعية/الحيادية/الأمانة العلمية، فهي واقعًا تعني تأبيدًا للموجود!
الباحث الأنثروبولوجي، لا بد أن يكون مثقفًا عضويًا، يؤثر على مجتمعه، ويعمل على تغييره، عبر وعيه لطبيعة السيستام الذي يحكمهم.
السيستام، هو ما مارسه الآباء والأجداد، والذي (ربما) نفعهم في عصرهم، لكن ممارسة ذات السيستام –فقط لأنه من سلف لخلف– يوحي بزمن متوقف، ستاتيكي، وكأننا لم نزل هناك!
ليست مقارنة بين تاريخهم وتاريخنا (وبالتالي جهادهم وجهادنا)، وإن كانت الأنثروبولوجيا تمارس التاريخ لتأكيد التغير، فاللحظة التي ندرسها هي جدول ضمن نهر عظيم، كي لا يلتبس على البعض فيؤبد اللحظة المدروسة مذ كان إلى سيكون!
هي قراءة لما كان، وكيف اتخذ (ولماذا) هذا الطريق دون ذاك، وماذا لو كان طريقه مختلف؟! وهي قراءة للآن، في تعدديته، وتنوع طرقه، التي ستؤدي إلى ما سيكون، ففهم ما كان، قد يمنحنا فرصة، القدرة على إختيار طريق جديد قليل السيّارة!
ليس أهل ما كان بأفضل منا، ولا زمانهم أنقى وأجمل! ولسنا في تنافس!! أهل ما كان هم سبب وجودنا في الآن! ونحن سبب لما سيكون!
الأنثروبولوجيا، من هذا المنطلق، هي طريقة، وطريق، ولا مكنة لنا في السير فيها دون شرطها الأصلي، الإثنوغرافيا!
وللإثنوغرافيا، مقاربات …
الهوامش:
[1] أنظر (على سبيل الذكر لا الحصر): جيرار لكـلرك، (1990)، الأنثروبولوجيا والإسـتعمار، ترجمة: جورج كتورة، بيروت، مجد، ط 2.
[2] إسقاط حكومة محمد مصدق عام 1953 مجرد مثال من أمثلة كثيرة!