محمود عبد الغني
كان اسم الأنثروبولوجية المغربية زكية زوانات غير معروف حتى وقت قريب. والأسباب عديدة، أوّلها أنها من الجيل الجديد، وثانيها لأنها تكتب باللغة الفرنسية، وثالثها – وهذا أنبل الأسباب – لأنّها لا تسعى إلى الشهرة… وإنّ من لا يسعى إلى الشهرة، يخافها حتماً. لكنَّ كتابها السادس “مملكة الأولياء” الصادر العام الماضي عن دار ADEVA Art في النمسا، أخرجها إلى الضوء مرغمة. الكتاب الأوّل من نوعه في المغرب، يتطرّق بطريقة أكاديميّة ومعرفيّة موسّعة إلى القيم التي يتمتع بها كلّ وليّ من الأولياء المغاربة. من أجل إنجازه، زارت ثلاثمئة ضريح، وجعلته مزيّناً بصور تلك الأضرحة، ليظهر بالملموس الجمالية والروحانية الخاصة بكل ولي. عملها الموسوعي هذا أراد تصحيح العديد من الأفكار السائدة عن صاحب الضريح، وقد قدّمته إلى الملك المغربي محمد الخامس، وأرفقته باقتراح مشروع لإنشاء هيئة عليا للحفاظ على التراث الصوفي في المغرب.
هذه الباحثة في معهد الدراسات الأفريقية في الرباط، والأستاذة في «جامعة محمد الخامس» لم تأتِ إلى عالم التصوّف مصادفة. عملها على هذا التراث العريق يعود إلى عام 1983، حين شرعت في تحضير دكتوراه الدولة عن عبد السلام بنمشيش، أبي الطريقة الشاذليّة في جامعة «السوربون» في باريس. حين انتهت من أطروحتها، عادت إلى المغرب وشرعت في العمل على مخطوطات كثيرة عن تاريخ الأولياء الصالحين.
كانت الأبحاث الأنثروبولوجية طريقها إلى اكتشاف جذورها العائليّة. زوانات المولودة في مدينة سطات (تقع بين الرباط ومراكش)، يعود أصلها البعيد إلى منطقة الجديدة على ساحل الأطلسي، التي تعدّ «مزرعة للأولياء». وإذا ذهبنا أبعد من ذلك في التنقيب عن جذورها الأولى، نجد بشيء من الدهشة أنّها تعود إلى المنطقة الأمازيغية طيط أنفطر القديمة، وهي المعروفة بأوليائها الأوائل. لذلك، يمكن اعتبار التصوّف في حالة هذه الأنثروبولوجية المغربية إرثاً عائلياً… وما تقوم به الآن هو بمثابة بحث عن ذاكرة خاصة تكاد تفقد.
بعد تعمّقها في عالم التصوف والروحانيات، لا تلوم زوانات بعض الكتّاب العرب «الذين يتحدثون عن الشخصيات الروحية بسطحية مخجلة»، تقول. وإن بدأت السير معها على أرض التصوف والمتصوفين، تجيبك مستهلةً جملتها: «قال لي شيخي…». ويكفي أن تنطق بتلك العبارة ليدرك محدّثها أنّ بها رغبة قوية في عناق الذات، والبحث عن المعتقدات الفطرية الكامنة في كل منّا. يكفيها في ذلك ضرب مثال أنّ «جلال الدين الرومي، أحد أعلام الشعر الصوفي في الأدب الفارسي، يُقرأ في الولايات المتحدة اليوم»، كما تخبرنا.
لفتت زوانات الانتباه إلى أعمالها ومشروعها التوثيقي منذ كتاب «ابن مشيش شيخ الشاذلي»، الذي كتبته بالفرنسية عام 1998، وعرّبه عام 2006 المؤرخ والروائي ووزير الأوقاف المغربي حالياً أحمد التوفيق. بهذه الدراسة، كانت زوانات تضع لبنة صلبة في حقل الأنثروبولوجيا الدينية، وهو شكل جديد من الأنثروبولوجيا، تُعدّ مبتكرته. هي من أوائل الذين فكّكوا التصوف المغربي، وأرّخوا له، وبيّنوا خصائصه، واستبينوا استثناءه. ولأجل هذه النتائج المبهرة، رجعت إلى تاريخ الشيوخ الأعلام المعروفين في الدولتين المرابطية والموحدية على الخصوص. أبرزت اندماجهم الروحي والاجتماعي، بل وحتى السياسي. وقد خلصت إلى أنّ هذا الاندماج يجد تعبيره في أدوار الوساطة التي كانوا يقومون بها بين عامّة الناس والحكّام.
ومن أبرز منجزاتها الأكاديميّة أيضاً ترجمتها لكتاب «الذهب الإبريز من كلام سيدي عبد العزيز» لابن مبارك اللمطي، الذي صدر في فرنسا عام 2007 تحت عنوان Paroles d ‘or. يتحدث الكتاب عن بدايات الصوفية في المغرب. وتعتقد زوانات أنّها «بدراستها لوليّ من الأولياء المغاربة تكون تدرس التصوف المغربي عبر كل العصور»، تقول. وهي تقوم بذلك بوعي شامل «يحترس من اتّباع طريق الشائعات التي أرهقت مجال التصوف بأكمله». لذلك علاقة لا واعية بأصولها التي تضرب في تربة التصوف. إنّه وفاء خاص لهذا الحقل الساحر، الذي رغم مرور القرون تلو القرون لا يزال ينبض بالبقاء.
ولا تكتفي زوانات في بحثها بالبعد المحسوس، أي الضريح وكرامات الشيخ وقيمته الروحية، بل تضع أيضاً ملاحظات ميدانية عن الروايات التي جمعتها، وترصد سلوك الزائرين وحال مستقبليهم. كما تتأمّل الصلوات والابتهالات والهدايا الموضوعة عند قبر الشيخ. وبذلك، تقف عند المكوّنات التاريخية لهذه التقاليد. ولا تهمل طبعاً مسارب الجبال التي كان يسلكها القاصدون على ظهور الحمير والبغال والأفراس. هذا هو المعيش الطقوسي الذي كرّست له هذه الباحثة جهدها ووقتها…
من جملة مشاريعها الحالية تأسيس أطلس للتصوف في العالم، وأطلس لأولياء المغرب، الذي يهدف إلى إعداد كتيّب عن كل ولي، ويتضمّن خرائط عن أكثر من ألفي وليّ، إضافةً إلى إنشاء موقع إلكتروني شامل. وفي مقلب آخر، أصدرت «في بساتين حواء» وهو كتاب من 12 قصة، يتحدث عن المرأة المغربية قديماً، وعن طبيعة العلاقة التي تجمع الابنة المغربيّة بأمها.
في إحدى المقابلات الصحافية، سُئلت زكية زوانات عن سبب عدم ارتدائها الحجاب رغم إيمانها بالتصوّف فقالت إنّ «الحجاب واجب على من يخاف إثارة الفتنة (…) على أن الحجاب بقطعة من القماش ما كان في يوم من الأيام ملغياً لأيّ نوع من أنواع السقوط. (…) من يأتِ إلى الدين من جانب الروحانية يركّز أكثر على جوهر الأمور. وإذا عجز المجتمع عن الارتقاء بنفسه، يمكن أن يلجأ إلى حجاب النساء بشكله التقليدي، وفي الأمر شيء من النفاق، لأنّ المسألة شكلية. وهذا لا يعني أنني أنكر ما جاء في القضية من النصوص، لكنني مع من يفسرونها تفسيراً إيجابياً. على كلّ حال عندما أقرر تغطية شعري فسأرتدي جلباب أمي ولثامها الأصيل المطرّز».