د. السيد حافظ الأسود
مقدمـــة :
إن التراث الشعبي – الذي هو إبداع شعبي متراكم ، ومستمر ، ومتجدد – كان ولا يزال المحور الجوهري في كثير من العلوم الإنسانية والاجتماعية ، وعلى رأسها الأنثروبولوجيا أو علم الإنسان ، والفولكلور . إن التراث الشعبي نسيج من الرموز لا يمكن فهمه فهمًا علميًا حقيقيًا ووافيًا إلا من خلال دراسة الوحدات والعناصر الرمزية المؤلفة لذلك النسيج . وهذه الرموز أو الوحدات الرمزية في مجملها تؤلف نسقًا أو بناءً رمزيًا يتسم بخصوصية تميزه عن الأنساق الرمزية الأخرى ، والشيء نفسه ينطبق على الأنماط السلوكية الشعبية ، فأنماط السلوك أو أنماط الأداء الشعبي هي أنماط رمزية تتطلب نظريات ومناهج رمزية تأويلية تهتم بالكشف عن معانيها ودلالاتها ، ولا تقنع بمجرد التعرف على أصولها أو وظائفها في المجتمع . إن الموضوع الجوهري لكل من الأنثروبولوجيا والفولكلور هو العمل على اكتشاف وحدات تحليلية جديدة أو منظومات من الوحدات التحليلية ، التي تقود إلى تأسيس نظرية قوية ؛ إذ لا يمكن تأسيس نظرية على دعائم واهية.
البحث ليس مجرد عرض أكاديمي لأهم النظريات والمداخل العلمية التي تتناول التراث الشعبي بالدراسة ، بل – على العكس – يهتم في المحل الأول بمسألة نمو وتطور المناهج التي ظهرت في العقود الأخيرة من هذا القرن ، والتي تتفق وطبيعة التراث الشعبي وأهميته.
إن أهمية هذه الدراسة تكمن في أنها تكشف عن الجهود المبكرة والمعاصرة للمناهج الرمزية والتأويلية في مجال الدراسات الأنثروبولوجية والفولكلورية ، ولقد ظهرت هذه المناهج في منتصف الستينيات ، ونمت ، وتشعبت ، وانتشرت في العقود الثلاثة الأخيرة من هذا القرن ، فهذه الدراسة إذن تهدف إلى تعريف الباحث أو القارئ العربي بالتيارات الحديثة في تلك المناهج ، والتي تظهر أهميتها بصفة خاصة إذا أدركنا أن التحليل الرمزي يساعدنا في الكشف عن الذات أو الهوية الثقافية ، وتواصلها عبر التراث الشعبي بعناصره المختلفة : من أدب شعبي ، ومعتقدات ، ومعارف شعبية ، وفنون الأداء الشعبي ، وغيرها من عناصر الثقافة الشعبية المادية واللامادية.
تسعى هذه الدراسة إلى تحقيق الأهداف التالية :
أولاً : التعرف على الأصول الفلسفية واللغوية في مجال دراسة الإشارات والرموز ، والتي أثرت تأثيرًا مباشرًا في نمو وتطور مناهج التحليل الرمزي للظواهر الاجتماعية والثقافية والتراث الشعبي، باعتبارها ظواهر رمزية أو ذات دلالات رمزية.
ثانياً : التعرف على أهم المناهج المستخدمة في التأويل الرمزي للثقافة الشعبية وعناصر التراث الشعبي مع التركيز بصفة خاصة على المناهج التالية :
1 – المنهج الرمزي اللغوي.
2 – المنهج الرمزي التأويلي.
3 – المنهج الرمزي التاريخي.
ثالثاً : مناقشة وتقييم مناهج التحليل الرمزي ، مع توضيح أهميتها للباحث العربي في مجال دراسة التراث الشعبي.
إن أهمية مناهج التحليل الرمزي تتأكد يومًا بعد يوم، وذلك لاهتمامها بتفسير المادة التراثية من خلال الكشف عن الدلالات الرمزية ، وأنساق المعنى ، ورؤى العالم ، وأنماط التفكير ، وهوية المجتمعات المحلية المتضمنة في تلك المادة ، وتتأكد أهمية هذا النوع من التحليل الرمزي مع تزايد التحديات التي تواجه التراث والثقافة المحلية المتمثلة فيما يُعرف بالعولمة التي نشأت في أحضان التكتلات الاقتصادية المادية ، التي تسعى إلى طمس مقومات ومعالم هذه الثقافة المحلية واحتوائها، أو فرض ثقافة استهلاكية عالمية عليها.
احتلت الرموز حيزًا كبيرًا من اهتمام الفلاسفة والعلماء والمفكرين والمشتغلين بالأنثروبولوجيا والفولكلور؛ لإدراكهم لدورها الحيوي ليس فقط في حياة الإنسان الاجتماعية والثقافية بل أيضًا في اهتماماته الشخصية ، وإبداعاته الفكرية والفنية والأدبية ، فالرموز أبدعها المجتمع والأفراد ، وهي في الوقت نفسه عنصر مهم في تشكيل وإعادة تشكيل هويتهم الثقافية ، ولكن بالرغم من هذا الاهتمام الكبير بالتحليل الرمزي من الصعب أن يجد الفرد دراسة شاملة كاملة حول الجوانب المتعددة والمتداخلة من الرموز ودورها في تشكيل الثقافة الشعبية ، بل – على العكس – يجد أن أغلب الدراسات الأنثروبولوجية والفولكلورية إلى وقت قريب جدًا قد انشغلت بمسائل فكرية ونظرية ، وانحصرت في مجالات تخصصية بحتة منعزلة عن التخصصات الأخرى ، وبالإضـــافة إلى ذلك لم تهــتم معظــم هذه الدراســات بربط الواقع الميداني أو الإثنوجرافي للظاهرة التراثية بنظرية علمية معينة ، أو حتى بالمسائل الفكرية التي انشغلت بها.
الأصول المنهجية وتطورها
لن نتعرض هنا للتفاصيل الدقيقة الخاصة بالتتبع التاريخي لنشأة المداخل الرمزية وتطورها ، بل سوف نركز على أكثر التيارات المنهجية تأثيرًا في الدراسات الأنثروبولوجية والفولكلورية ، ومن أهم وأبرز هذه التيارات تلك التي ارتبطت باسم كل من تشارلز بيرس (1839- 1914) Peirce وفرناند دو سوسير (1857 – 1915) Fernand de Saussure .
قدم بيرس Peirce تعريفًا للرمز حيث أدرجه ضمن تعريفه العام للإشارة Sign ، وطبقًا لذلك التعريف ، فإن الإشارة تضم ثلاثة أنماط هي : الصورة أو الأيقونة Icon ، والدليل Index ثم الرمز Symbol ، ويستند التمييز بين هذه الأنواع الثلاثة من الإشارة على العلاقة بينها وبين الموضوعات التي تشير إليها ، فالصورة هي إشارة تتحدد معالمها من خلال علاقة التشابه أو المماثلة الموجودة بينها والموضوع الذي تشير إليه ، وعلى هذا الأساس تُعد الصور الفوتوغرافية والتماثيل والرسوم البيانية والخرائط نماذج وأمثلة لهذا النوع من الإشارة أو “الصورة” ، والنوع الثاني من الإشارة هو الدليل Index الذي يعتمد على علاقة الاتصال القائمة بينه وبين الموضوع أو الشيء الذي يشير إليه ، بمعنى أن الدليل جزء من الموضوع المشار إليه ، وبالتالي يتأثر بذلك الموضوع على أساس من خاصية الاتصال به ، فطرق الباب دليل على وجود شخص يقوم بعملية الطرق ، وأعراض المرض تعد دليلاً على وجود المرض ، كما أن السحب الداكنة تعد دليلاً على اقتراب سقوط الأمطار أو هطولها بالفعل ، والنوع الثالث من الإشارة هو الرمز الذي يشير إلى الموضوع أو الشيء المشار إليه ، على أساس من قانون أو قاعدة أو عادة أو اتفاق أو ارتباط في التصورات والأفكار ، على أنه يعني ذلك الشيء ، فالعلاقة بين الرمز والمعنى الذي يشير إليه ليست علاقة طبيعية ، بل علاقة تستند إلى اتفاق بين الذين يستخدمون الرمز على أنه يشير إلى معنًى محدد ، وعلى سبيل المثال : يمثل الهلال مرحلة طبيعية من مراحل ظهور القمر ونموه ، لكنه يُستخدم كرمز للعالم الاسلامي. ويتسع مفهوم الرمز ليشمل الكلمات والعبارات والجمل والكتب وسائر الإشارات المعروفة أو المتفق عليها من قبل المستخدمين لها. ولقد أكد بيرس الدور الذي يلعبه الشخص الذي يقوم بعملية تفسير أو تأويل الرمز. فالمؤوّل أو المفسر يعد العنصر الثالث والمهم في العلاقة بين الشيء أو الرمز والمعنى الذي ينسبه إليه ذلك المؤوّل أو المفسر(1).
والرمز عند سوسير Saussure هو دال signifie r وهو نوع من الإشارة sign ، والإشارة عبارة عن ارتباط كامل بين تصور معين وصورة صوتية معينة ، فكلمة شجرة – على سبيل المثال – كما ينطقها الفرد هي عبارة عن صوت مرتبط به تصور معين أو محدد. ولقد كان للتمييز الذي وضعه سوسير بين اللغة (نسق من القواعد) والكلام (الفعل أو الاستخدام الفعلي للغة) – والذي بمقتضاه تكون اللغة هي المجال الموضوعي الجدير بالدراسة العلمية – عظيم الأثر في الدراسات اللغوية والأنثروبولوجية والفولكلورية(2).
يرجع الفضل إذن لكل من بيرس Peirce وسوسير Saussure في جذب اهتمام العلماء للإمكانات القوية وغير المحدودة التي تتسم بها الرموز والإشارات بشكل عام في عملية تأويل أو تفسير وإعادة تفسير الظواهر الاجتماعية ، ويمكن التمييز بين التأثيرات التي تركها كل من بيرس وسوسير على الأنثروبولوجيين والفولكلوريين والمهتمين بالدراسات اللغوية والرمزية. فالذين تأثروا بسوسير يهتمون بوصف وتحليل أنساق الرموز الثقافية ، مثل : الطوطمية ، والأسطورة ، والشعائر ، والطقوس ، والقرابة ، على أنها أنساق معرفية يمكن تجريدها من مضمونها الإثنوجرافي أو من العلاقات الاجتماعية والفعل الاجتماعي أو الشعور الفردي ، بينما الذين يعملون في مجال الدلالة والمتأثرين بآراء بيرس يدرسون نفس الأنساق الرمزية ، لكنهم يفضلون أن يدرسوا الرموز أو الأنساق الرمزية في مضمونها الإثنوجرافي ، ومن واقع العلاقات الاجتماعية والشخصية المتداخلة ، وكذلك العواطف والمشاعر الشخصية المرتبطة بها(3).
وهناك فرق بين التحليل الرمزي للظواهر الاجتماعية أو عناصر التراث الشعبي والتحليل الاجتماعي لتلك الظواهر ، التي هي – بالتعريف – ظواهر ذات أبعاد رمزية ، إذ يستند التحليل الاجتماعي للرموز إلى منظومة من الأفكار تتمحور حول النظرية الوظيفية البنائية ، التي تعالج الظواهر والتصورات الجمعية ، على أساس أنها تؤلف نسقًا وظيفيًا متساندًا ، فالرموز أو الظواهر الرمزية تُعالج من منظور الوظيفة التي تقوم بها في حفظ المجتمع ، وتحقيق توازنه أو تماسكه الاجتماعي، بينما يهتم التحليل الرمزي بمعنى الظواهر الاجتماعية ودلالاتها عند الأفراد ، وتأويلاتهم لها ، بصورة أكبر من الاهتمام بجوانبها الوظيفية.
البنيوية والتحليل الرمزي
قبل أن نتناول المناهج الرمزية بالدراسة التفصيلية ، نود أن نشير في عجالة إلى إسهامات ليفي ستروس Levi-Strauss البنيوية القائمة على علاقة التقابل بين الوحدات المؤلفة للبناء أو النسق ، والتي تأثرت بكتابات سوسير وتحليلاته اللغوية. إن البنيوية عند ليفي ستروس منهج وليست نظرية ، ولقد أثر ذلك المنهج في تطور مناهج التحليل البنيوي الرمزي عند كثير من الأنثروبولوجيين والفولكلوريين ، وخاصة فيكتور تيرنر الذي سوف نشير إليه فيما بعد. ففي دراسته للأساطير يُعالج ليفي ستروس المعنى على أنه نابع من العلاقات بين الرموز المؤلفة للأسطورة ، والتي تخضع لقوانين أو مبادئ عامة تحكم التفكير الأسطوري ذاته ، ولقد طور ليفي ستروس عددًا من القضايا حول الأساطير ، من حيث اعتمادها على الرموز المشخصة ، ويذهب إلى أن الأسطورة هي نسق من أنساق الاتصال ، ونسق فكري يتصل فيها العقل بنفسه ، وتعتمد الأسطورة على أساسين ، فمن ناحية تعكس أحداثًا واقعية أو تاريخية أو خيالية ، وهذه الأحداث تقدم نماذج وأمثلة أو قصصًا رمزية ، ومن ناحية ثانية يعتمد التفكير الأسطوري على عوامل ذهنية داخلية عضوية (طبيعية) من التذكر والانتباه ، وهذا ما جعل ليفي ستروس يذهب إلى أن اختلاف الأساطير التي تدور حول موضوع معين – داخل المجتمع الواحد ، أو بين المجتمعات – لا يرجع إلى اختلاف البناء الاجتماعي لكل مجتمع ، أو لاختلاف الأزمنة التي تُحكى أو تسرد فيها ، بل إلى العقل ، فكل الأساطير تكشف عن بنية التفكير العام أو العقل البشري ، تُفهم الاختلافات على أنها تحولات ، أو قلب، أو عكس ، أو إعادة تعريف للموضوع نفسه ، وهنا نجد التركيز على الثقافة بوصفها نسقًا رمزيًا ، وعلى الطبيعة متمثلة في العقل البشري ذاته(4).
إن الشعوب البدائية التي تنتشر فيها الأساطير بصورة واضحة تُفكر تمامًا مثلما يفكر المتحضرون أو أصحاب التفكير العلمي ، لكنها – أي تلك الشعوب – تستخدم الرموز بصورة مختلفة عن التفكير العلمي ؛ بمعنى أنها عند التفكير تستخدم رموزًا مشخصة وموضوعات محسوسة ، وبعبارة أخرى يعبرون عن أفكارهم من خلال رموز مشخصة وصور حسية ، مثل الطعام كما هي الحال في النيء والمطبوخ ، أو ظواهر طبيعية مثل النار والماء ، والشمس والأرض. وهذا ما تؤكده البنيوية في تحليلها للأنساق الرمزية ، مثل : الأساطير ، والطوطمية، والمحرمات ، إذ أن البناء العميق الذي يكمن فيه المعنى المستتر يمكن فهمه من خلال العلاقات القائمة بين الرموز أو الموضوعات أو الوحدات التي تأخذ شكل التقابل الرمزي أو التقابل الثنائي ، وطبقًا لهذه الخاصية فإن العقل أو التفكير في كل الأنساق الرمزية يعمل من خلال علاقة التضاد أو التقابل أو الثنائية الرمزية بين التصورات أو الرموز ذات الدلالات المشخصة ، مثل : السماء ، الأرض ، الشمس ، القمر ، الرجل ، المرأة ، الذكر ، الأنثى ، النيء ، المطبوخ ، الجاف، المبلل. ونحو ذلك. فبنيوية ليفي ستروس تركز على دراسة الأنساق الفكرية والرمزية ، من خلال إدراك العلاقة بين الوحدات الرمزية المتقابلة أو الأضداد الثنائية(5).
واجه المنهج البنيوي أو البنيوية كثيرًا من الانتقادات، إذ أنها أغفلت الجانب الاجتماعي للرموز ، بل وأغفلت أهم خاصية للتحليل الرمزي ، وهي التركيز على المضمون الثقافي بغرض إبراز المعاني المرتبطة بالرموز، ومدى اختلافها بين جماعات معينة ، وبدلاً من البحث عن المعنى ركزت البنيوية – بصورة مكثفة – على الأبنية الصورية المجردة ، التي تستند في وجودها على العلاقات بين الرموز أو الوحدات المؤلفة لها ، وقد اختفى الأفراد تمامًا من التحليل البنيوي ، كما أن الأحداث والأفعال – وحتى التأويلات الرمزية الخاصة بالأفراد موضوع الدراسة – لم تجد لها مكانًا في البناء الرمزي المجرد ، إن البناء القائم على العلاقات الداخلية بين الوحـــــدات الرمزيــــة – ســــواء أكانت رمــوزًا مشــخصة أم طبيعية – هو بناء من عمل الأنثروبولوجي ، ولا يعبر عن الأفراد أنفسهم الذين يُنسب إليهم هذا البناء أو الرموز المؤلفة له. اهتمت البنيوية بما هو عام وعالمي وصوري ، على حساب ما هو خاص ومحلي ومعنوي. وهذا ناجم – في المحل الأول – عن اهتمامها بالصورة والشكل أو البناء أكثر من اهتمامها بالمضمون أو الفعل الاجتماعي ، وبالرغم من أن ليفي ستروس أشار إلى مضمون التفكير والرموز ، من حيث هو المقياس الذي به يميز أنماط التفكير البدائي عن أنماط التفكير العلمي ، فإنه لم يعالج ذلك المضمون بنفس العمق والتركيز ، مثلما فعل بمفهوم البناء الفكري الصوري.
المنهج الرمزي اللغوي
اهتم الأنثروبولوجيون والفولكلوريون بالتحليل الرمزي اللغوي للأدب الشعبي أو الشفاهي ، بعناصره المتعددة ، من أساطير وحكايات وأغانٍ وأمثال شعبية ، كما أنهم اهتموا بتحليل أشكال التعبير الشفهي والدلالات الرمزية المتضمنة فيها. وقد حاول دِل هايمز Dell Hymes في دراسته لإثنوجرافيا الكلام Ethnography of speakin g أن يملأ الفجوة بين ما يُوصف على أنه قواعد Grammar وما يُوصف على أنه إثنوجرافيا ، حيث إنهما – أي القواعد والكلام – يستخدمان شواهد أو أدلة على وجود أنماط فكرية أو رمزية معينة(6)، وبالإضافة إلى ذلك يسعى المنهج الرمزي اللغوي إلى تتبع العلاقة بين ظهور أنماط معينة من البلاغة والتعبيرات اللغوية ، مثل : المجاز أو الاستعارة والمجاز المرسل والدلالات والمعاني الرمزية المتضمنة فيها ، وبصفة خاصة في مضمون الفعل الاجتماعي.
إن المشكلة التي يواجهها التحليل الرمزي لأشكال التعبير الشفهي أو اللغوي هي كيفية تطوير نظرية معينة حول طبيعة الرموز المجازية ، أو أشكال الاستعارة والكناية ، بصورة تتسق وتتطابق مع أهميتها ودورها في فهم الأنماط السلوكية والأشكال الثقافية ، وبصورة أكثر تحديدًا : كيف يمكن تأويل بعض العبارات والقضايا ، وما يرتبط بها من أفعال وشعائر وطقوس معينة تبدو للآخر أو الباحث – في ظاهرها – عبارات وشعائر غريبة أو غير منطقية ، فكيف نفهم على سبيل المثال قول شعب بورورو Bororo إنهم “ببغاوات” أو اعتقاد النوير Nuer “أن التوائم طيور” أو تصور فتى الدنكا لنفسه على أنه “ثور” أو قول البدوي إنه ذئب “ديب”.
يوضح لينهارت الدلالات الرمزية الخاصة بلغة شعب الدنكا قائلاً : إن هذه اللغة تختلف عن اللغة الإنجليزية من حيث إنها تلزم من يستخدمها من المواطنين أن يحقق نوعًا من الاتساق والتكامل بين الخصائص الأخلاقية والفيزيقية للشخص ، في وحدة واحدة ، داخل الرحم الفيزيقي للجسد البشري ، ففي اللغة الانجليزية يناقش الفرد السمات الأخلاقية والعقلية في مفردات وكلمات مجردة ، مثل : الغضب ، والشك ، والتسامح ، ونحو ذلك ، دون الاهتمام بجذورها اللغوية ، فقد يقول فرد ما “إنني أثق به” ، على سبيل المثال ، وقد يسأل الفرد : ماذا تعني كلمة ثقة ؟ بينما يقول الفرد في مجتمع الدنكا “أنا أعرف قلبه” ، وهنا يمكن أن نتساءل : ماذا يعني أن نعرف قلب شخص ما ؟ إن العبارة التي يستخدمها الفرد في مجتمع الدنكا تفهم من خلال علاقة القلب بالجسد ككل ، إذ أن الجسد يعد الخلفية الجوهرية في التصورات المتعلقة بالنفس والعقل ، فمعرفة شخص ما لقلب شخص آخر تعني إحاطته بذلك الشخص إحاطة قوية قائمة على معرفته لأحوال نفسه وعقله ، إذ لا توجد بين أفراد مجتمع الدنكا الثنائية الصارمة بين النفس أو العقل والجسد الموجودة في المجتمعات الغريبة ، فعبارة “أنا بدني أو جسدي” تستخدم داخل مجتمع الدنكا ، كي تعني “أنا نفسي” ، والشيء نفسه عند القول “نفسك” إذ تعني “جسدك” ، و “أنت نفسك” بمعنى “أنت بدنك” ، لكن “الجسد” لا يستخدم كضمير مثل “النفس أو الذات” self ، بل يكون مركزًا ومشبعًا بالضمير الشخصي ، فعندما يصف شخص ما حالته الصحية الجيدة ، يقول : “بدني خفيف” ، كما أنه يقول : “جسدي حلو” ، كي يصـف حظه السعيد ، أما في حالة المرض والخجل ، فيقول – على التوالي – : “جسدي ثقيل” و “جسدي خائف”(7) ، ومثل هذا المنهج في التحليل الرمزي اللغوي من شأنه أن يثري الدراسات الفولكلورية من خلال تطبيقه على الاستخدامات اليومية لأشكال التعبير الشفهية من مرددات ، وأمثال ، وأغانٍ شعبية.
ومن خلال التحليل اللغوي لمعاني الكلمات المؤلفة لعبارة بورورو موضع الجدل ، وجد تيرينس تيرنر Terence Turne r أن عبارة “نحن ببغاوات” يجب أن تقرأ أو تفهم على أنها “نحن نجعل من أنفسنا ببغاوات” أو “نحن نصبح ببغاوات” إذ أن ذلك يتسق مع مضمون الشعيرة التي يستخدم فيها الأفراد ريش الببغاء من أجل أن يصبحوا ببغاوات ، إن المجاز المرسل أو الكناية تتمثل في أداء الأفراد للشعيرة على أنهم أرواح بفضل ريش الببغاء الموضوع على رؤوسهم ، أما الجانب الاستعاري فيتمثل في قدرة الأفراد على إعادة إنتاج الشكل الثقافي للمجتمع ، من خلال الطقس الجمعي أو الشعيرة التي من خلالها يصبح الأفراد ببغاوات ، وبصورة عكسية نجد أن الأفراد يفعلون ذلك ، أي يؤدون الشعائر ويقولون إنهم أصبحوا ببغاوات ، من أجل أن يصبحوا أنفسهم ، أو يؤكدوا هويتهم بشكل كامل(8).
وعند تحليل نعت الفتى البدوي لنفسه على أنه ذئب “ديب” نجد أن ذلك التشبيه يرتبط ارتباطًا قويًا بطبيعة الحياة التي يعيشها البدو في الصحراء ، إذ أن العمل الرئيسي للبدو هو رعي الحيوانات من إبل وأغنام ، وغالبًا ما تتعرض هذه الحيوانات – خاصة الأغنام – إلى هجمات شرسة من الذئاب ، فالذئب يمثل تهديدًا للحيوان الضعيف، ومن ثمة فإنه يرمز للقوة والبطش والدهاء ، فمن يتعامل مع الذئب يجب أن يكون ذئبًا ، أي يجب أن يكون قويًا وماكرًا في آنٍ واحد ، ويتسع هذا المجاز ليشمل علاقة البدوي بالأفراد الذين يكنون له العداوة ، إذ يكشف لهم عن قوته وشجاعته ومكره بقوله : إنه ذئب، وليس من السهل النيل منه(9).
وباختصار ، من الحالات الإثنوجرافية السابقة ، يظهر دور التحليل اللغوي جليًا في إلقاء الضوء على الجوانب الرمزية المميزة لأنماط فكرية معينة من خلال التركيز على الأشكال اللغوية من المجاز المرسل أو الكناية والاستعارة التي هي شكل من التعبير الرمزي. إن تأويل القضايا أو العبارات اللغوية لا ينفصل عن الواقع الاجتماعي أو المضمون الفعلي للثقافة ، فالمعنى الثقافي لتأكيدات بورورو على أنهم ببغاوات يصبح واضحًا في المضمون المجازي الرمزي لعلاقات الاستعارة والكناية في الفعل الشعائري ، فداخل الشعيرة يوجد ترابط بين المؤدين، وهذا الترابط يعتمد على اشتراكهم في وضع ريش الببغاء على رؤوسهم ، والريش المفصول عن جسد الببغاء يرمز للببغاء ككل ، على أساس من علاقة الجزء بالكل ، كما أنه يرمز لقوة الببغاء وقدرته على الطيران إلى آفاق عالية ، بالإضافة إلى خاصية إعادة نمو الريش عند الطائر ، والتي تشير إلى عودة الحياة وتجددها. وباختصار إن لبس الأفراد للريش ، كلبس شعائري – يتضمن رموزًا مجازية تشير إلى اكتساب خصائص الببغاء ، فبالنسبة لبورورو أن “تصبح ببغاء” هو أن تصبح إنسانًا كاملاً ، بمعنى الكائن الاجتماعي القادر على إعادة إنتاج معنى الحياة الاجتماعية بصورة مبدعة ، وبالنسبة للنوير فإن خاصية كون الإنسان طائرًا تعني – مجازًا – اكتساب القدرة على عزل نفسه عن المكان التقليدي من الوجود الاجتماعي ، والتمتع بقوة التسامي على الأشكال التقليدية من الحياة اليومية.
منهج التأويل الرمزي
يمثل منهج التأويل الرمزي Symbolic-hermeneutic مرحلة تبلور مناهج التحليل الرمزي ، التي تنطلق من الاستخدام المجازي للتراث أو الثقافة ، على أنها نص Text ، وهذا النص يحتاج للقراءة والتأويل ، وأن عملية كتابة النص يشترك فيها الإثنوجرافي ، والإخباري أو حامل التراث ، حيث يعكس ذلك النص رؤية المواطنين ، وحساسية ، وحصافة الإثنوجرافي في وحدة واحدة( 10 ).
لقد حول منهج التأويل الرمزي الاهتمام من الدراسات التي تركز على السلوك الوظيفي والبناء الاجتماعي إلى الاهتمام بالمعنى والرمز ، والتأكيد على رؤية المبحوثين ووجهة نظرهم ، كجزء من العمل الأنثروبولوجي أو الفولكلوري ، كما أن الاتجاه الرمزي التأويلي حول – تدريجيًا – الاهتمام ببناء نظرية عامة عن الثقافة ، والتي كانت تعتمد على المنهج البنيوي التجريدي إلى الاهتمام بالعمل الإثنوجرافي أو الكتابة الإثنوجرافية المكثفة ، والنظر إلى المجتمع على أنه نص يمكن قراءته وتأويله ، وهذا الاتجاه الحديث الذي يتزعمه من الأنثروبولوجيين كليفورد جيرتز Geertz ومن الفولكلوريين آلان دندز Alan Dundes لا يزال أحد الاتجاهات الحديثة في الدراسات الأنثروبولوجية والفولكلورية ، فمع ظهور منهج التأويل الرمزي أصبحت الإثنوجرافيا ليست مجرد تجربة ميدانية بالمفهوم التقليدي – مثل : جمع المادة الإثنوجرافية – بل نتاجاً مكتوبًا للدراسة الميدانية.
يؤكد جيرتز Geertz على استخدام المنهج الإثنوجرافي المكثف ، الذي يسعى إلى الكشف عن رؤى المواطنين موضع الدراسة ، مع توضيح كيفية تأثير الأبنية الثقافية المختلفة على الفعل الاجتماعي ؛ ذلك لأن ما يواجهه الإثنوجرافي ليس مجرد ظواهر متفرقة ، بل هو عدد كبير من الأبنية التصورية المعقدة المتداخلة فيما بينها ، والتي تتطلب نوعًا خاصًا من الوصف الإثنوجرافي المكثف ، وليس مجرد جمع وتبويب وتصنيف المعطيات أو المادة التراثية ، وحفظها في أرشيفات.
وطبقًا لآراء جيرتز ، فإن الثقافة ينظر إليها على أنها حوار للمعاني ، ونقاش يتعلق بالرموز المتضمنة لتلك المعاني ، فالثقافة لا ينحصر مفهومها على مجرد التصورات والأفكار والجوانب المعرفية في عقول الأفراد ، إذ أنها عامة وخارجية ، وتخضع للدراسة العلمية ، وبعبارة أخرى : الثقافة تكون متضمنة ، ويعبر عنها في رموز عامة ، وهذه الرموز العامة تشير ليس فقط إلى الجوانب المعرفية (من أفكار وتصورات ورؤى العالم) بل أيضًا – وفي وحدة واحدة – إلى الجوانب المعيارية والتقييمية والوجدانية ، أو ما يطلق عليه روح الثقافة(11).
وما دام أن موضوع الدراسة هو نسيج المعاني والرموز المؤلف للتراث أو الثقافة ، والموجه للفعل الاجتماعي ، فإنه يتطلب ليس العلم التجريبي الذي يبحث عن القانون والأسباب التي ينجم عنها نتائج معينة، بل يتطلب التحليل الوصفي التأويلي الذي يبحث عن المعنى. ومن أجل تفسير المعنى فإن الأنثروبولوجي يبحث عنه بين الناس في تفاعلهم الاجتماعي ؛ إذ إن هؤلاء الناس هم الذين أضافوا أو فرضوا المعنى على الأفعال والموضوعات والظواهر التي يتعاملون معها.
ويعمل منهج التأويل الرمزي على مستويين ، أولاً : يعمل على أن يقدم تقارير مكثفة عن العالم الذي يعيش فيه الأفراد ، وهذه التقارير تكون من الداخل ، أو طبقًا لرؤى الأفراد أنفسهم ، ويعرف ذلك المنهج باسم الدراسة من الداخل Emic ، أو من وجهة نظر المواطن Native’s point of view . ثانيًا : التفكير بإمعان في الأسس المعرفية والفكرية والشواهد الإثنوجرافية الميدانية لهذه التقارير ، بغرض استنتاج الرموز أو أنساق الرموز والمعاني المرتبطة بها ، ويعرف ذلك بالدراسة من الخارج Etic أو الدراسة الإجرائية التي تخضع للملاحظة الموضوعية.
إن الإثنوجرافيا تشبه قراءة النص ، أو هي تحليل للنص ، فقراءة النص تعني هنا العملية التي من خلالها تصبح الأنماط غير المكتوبة – من السلوك ، واللغة ، أو الكلام ، أو التراث الشفاهي ، والمعتقدات ، والشعائر – مؤلفة لنص متسق ذي معنًى ومغزى ، ودور الإثنوجرافي يتمثل في التعامل مع الأحداث الاجتماعية وأفعال الأفراد على أنها نصوص يمكن عزلها مؤقتًا عن الموقف ، بحيث يمكن قراءتها وفهم معناها ، أي النصوص ، فيما بعد ، وفي غياب الموقف ذاته ، ولكن ليست منفصلة عن المضمون( 12 ).
يركز المنهج الإثنوجرافي المكثف على الرموز الثقافية، ليس في شكل مجرد منفصل عن الواقع ، أو في شكل مادي مخزون ، أو معروض في متحف ، بل في وجودها وتغلغلها في نسيج الحياة الاجتماعية والثقافية ، كما يعيشها الأفراد في تفاعلهم الاجتماعي. والثقافة عند جيرتز عامة Public لأنها تتألف من رموز ومعانٍ هي أيضًا عامة ، وعلى سبيل المثال وجد جيرتز في بالي Bali بأندونيسيا أن هناك اهتماماً كبيرًا لدى الرجال بصراع الديكة Cock fight وقد شاهد بنفسه هذه الرياضة الشعبية القائمة على التنافس والرهان أو القمار بين الرجال ، ويقدم جيرتز وصفًا مكثفًا لأنواع القمار والرهان طبقًا لتدرجها الهرمي ، وطبقًا لأهميتها لدى الناس ، وعلى قمة هذا التدرج توجد لعبة صراع الديكة التي تهدف إلى إظهار المكانة الاجتماعية بصورة رمزية ، في مقابل صراع الديكة الذي يهدف إلى الحصول على المال ، والذي يعتبر صراعًا ضحلاً سطحيًّا وليس عميقًا ، وصراع الديكة مظهر أو فعل رمزي يكشف عن نرجسية ذاتية لدى الرجال ، كما أنها تعبر بصورة عن التغير نحو الاتجاه المعاكس للجوانب الأخلاقية والجمالية لمكانة الإنسان ، بمعنى أنها ترمز للنزعة الحيوانية التي تتملك الانسان( 13 ).
ويعتمد صراع الديكة على الرهان بين رجلين ، كل منهما يمتلك ديكًا يضعه في حالة انتظار وتأهب ، حتى تبدأ المنافسة ، والرجال الذين يراهنون بمبالغ كبيرة من المال يضعون أنفسهم أو مكانتهم العامة عند الحد الذي يكون فيه الديك الخاص بهم وسيطًا رمزيًا ، قد يخذلهم أو يجلب لهم الفخر والزهو ، وإن كان بعض الرجال يخاطرون بأموال كبيرة قابلة للخسارة ، فإنهم يفعلون ذلك مدفوعين بالمعنى أو المغزى الذي يضفونه على الحياة، والذي يعوضهم اجتماعيًا ومعنويًا عن الخسارة أو التكاليف الاقتصادية.
ويقول جيرتز : في صراع الديكة يرى البالينيزيون أنفسهم ونظامهم الاجتماعي ، والرجولة المجردة المكروهة، والقوة الشيطانية ، كما أنهم في نفس الوقت يرون أنماطًا من قيم المكانة ، والزهو ، والفخر ، والشرف. وصراع الديكة هو صورة ، قصة ، نموذج ، مجاز ، وسيلة للتعبير عن المتناقضات في الحياة الاجتماعية ، فمن خلال وسيط الريش ، والدم ، والزحام حول حلقة العرض ، والهتافات، والمال ، والترقب ، يكشف صراع الديكة عن المعنى والعاطفة في بناءٍ مركب ، لا يفهمه إلا من ينتمي إلى ذلك المجتمع ، فهو أي صراع الديكة ، قراءة بالينيزية لتجربة بالينيزية( 14 ).
ولقد قام عالم الفولكلور الشهير آلان دندز حديثًا بتحرير كتاب يجمع عددًا من الدراسات المتعلقة بموضوع صراع الديكة ، والتي طُبق فيها المنهج الإثنوجرافي المكثف ، والكتاب يحمل نفس اسم الموضوع ، أي صراع الديكة( 15 ). ومن الجدير بالذكر أن دندز عالج موضوعات أخرى تدخل ضمن الموضوعات التي تخضع للتحليل أو التأويل الرمزي ، مثل : موضوع رؤي العالم في المجتمع الأمريكي( 16 ). وفي هذه الدراسة يؤكد دندز على استخدام ما أطلق عليه : الأفكار الشعبية Folk Ideas كوحدات تحليلية في بناء رؤى العالم ، ويقصد بالأفكار الشعبية المبادئ والمسلمات المستترة وغير المعلنة التي تتعلق بطبيعة الإنسان والمجتمع والعالم أو الكون ، وهذه الأفكار تمثل الأساس الجوهري والعميق لكل من التفكير والفعل لدى أفراد المجتمع ، وبالرغم من حقيقة أن هذه الأفكار الشعبية لا تكون في بؤرة الشعور أو الإدراك ، فإن أفراد المجتمع الشعبي يعبرون عنها في تراثهم الشعبي بأشكاله المتعددة ، من أمثال ، وحكايات، وعادات ، ومعتقدات. ومن خلال تطبيق المنهج التأويلي على عناصر التراث الشعبي في المجتمع الأمريكي يستنتج دندز Dundes بعض الأفكار الشعبية الجوهرية المؤلفة لرؤى العالم في ذلك المجتمع ، ومن هذه الأفكار أو المبادئ فكرة “الخير اللامحدود” التي تتحقق ليس فقط نتيجة الثروات الطبيعية الهائلة التي يتمتع بها ذلك المجتمع ، بل أيضًا من خلال العمل الجاد والمتواصل الذي يبذله الأفراد في استغلال هذه الثروات والحفاظ عليها ، ومن الأفكار الشعبية الجوهرية في المجتمع الأمريكي : فكرة النظرة المستقبلية التي تتضمن أن الخير سيكون أكثر وأعظم من خلال العمل والإنجاز ، والشيء المهم هنا ليس مجرد العمل أو الإنجاز في حد ذاته ، بل في عملية الإنجاز أو في الطريقة التي يتحقق بها( 17 ). وفي مقابل فكرة الخير اللامحدود المميزة للمجتمع الأمريكي توجد فكرة الخير المحدود المميزة للمجتمع الشعبي المكسيكي ، والتي توصل إليها فوستر Foster من خلال دراسته لذلك المجتمع ، وطبقًا لهذه الفكرة يوجد الخير في الطبيعة والمجتمع وسائر المصادر الأخرى بكميات ضئيلة جدًا ، ومن ثمة فإن الخير أو الثراء الذي يصيب فردًا معينًا يمثل تهديدًا للأفراد الآخرين ، بينما في المجتمع الأمريكي لا يمثل ثراء شخص معين تهديدًا للآخرين نتيجة هيمنة فكرة الخير اللامحدود.
وفي مجال الدراسات العربية – ومن خلال تطبيق منهج التأويل الرمزي في دراسة “رموز محورية في التراث الشعبي لمجتمع الامارات” ودراسة “رؤى العالم في الأدب الشعبي لمجتمع الامارات” وبعض الدراسات الأخرى – توصل الباحث إلى هيمنة فكرتي الخير والكرم في ذلك المجتمع( 18 ).
المنهج التأويلي الإجرائي البنيوي
ومن العلماء الذين اهتموا بمناهج التحليل الرمزي فيكتور تيرنر V.Turner الذي طورما يمكن أن يطلق عليه : المنهج التأويلي الإجرائي البنيوي الذي يتفق مع المجالات الرئيسة لعلم الإشارة Semiotics . ويعرف تيرنر ذلك العلم بأنه عبارة عن “نظرية عامة عن الإشارات والرموز تتعلق بتحليل طبيعة وعلاقة الرموز في اللغة ، وغالبًا ما يتضمن ذلك العلم ثلاثة فروع هي البناء أو التركيب Syntactics ، والدلالة أو المعنى semantics والاستخدام العملي Pragmatics (19) .
أولاً : علم التركيب اللغوي Syntactics ، وهذا العلم يدرس العلاقات الصورية الشكلية القائمة بين الإشارات والرموز ، وبعيدًا عن المرجع الخارجي ، بمعنى أنها تنتظم بصورة داخلية كما هو الحال في بناء الجملة ، أو تنظيم الكلمات في عبارات وجمل ، ويتفق علم التركيب اللغوي Sentactics مع ما أطلق علىه تيرنر “المعنى القائم على العلاقة” Positional meaning .
ثانياً : علم الدلالة أو المعنى semantics ، وهو يشير إلى علاقة الإشارات والرموز بالأشياء التي تعنيها وتشير إليها ، بمعنى أنها تؤلف معناها المرجعي ، ويتفق علم الدلالة مع ما أسماه تيرنر “المعنى المحلي” الخاص بتأويل الأفراد أنفسهم exegetical meaning .
ثالثاً : الاستخدام Pragmatic s ، والذي يعني عند تيرنر علاقة الإشارات والرموز بمستخدميها أو الذين يستخدمونها في مواقف مختلفة. ويتفق ذلك المجال من التصنيف مع ما أطلق عليه تيرنر : المعنى الإجرائي( 20 ) Operational meaning .
فالمنهج التأويلي الإجرائي البنيوي يضم – في وحدة واحدة – ثلاثة أنواع من طرق وأساليب التحليل الرمزي ، والتي يمكن توضيحها على النحو التالي :
1 – المنهج التأويلي :
ويقصد به استنتاج المعنى المحلي من خلال التأويلات التي يقدمها الأفراد أو الإخباريون ، والمتعلقة بموضوع معين ، ففي مجتمع ديمبو Ndembu ، على سبيل المثال ، يفسر الأفراد شجرة اللبن Milk tree التي تدخل في شعيرة نضج الفتاة Girl’s Puberty ، على أنها رمز يشير إلى وحدة واستمرار المجتمع ، أو أنها بمثابة علم Flag يميز مجتمعهم دون غيره من مجتمعات.
2 – الفهم الإجرائي Operational Understanding
ويقصد به استخلاص المعلومات المتعلقة بالرموز الشعائرية عن طريق الاهتمام بتسجيل الخصائص الخارجية للرموز وأفعال الأفراد المرتبطة بها. فالفهم الإجرائي لا يتحقق فقط من خلال ملاحظة ما يقوله الأفراد ، بل أيضًا من خلال ما يفعلونه ، وبعبارة أخرى يتحقق الفهم الإجرائي من خلال إدراك الاستخدامات المختلفة والمتعددة للرموز الشعائرية في مناسبات مختلفة أو حول مجموعات مختلفة من الأفراد على أساس العمر والجنس والمكانة الاجتماعية ، وعلى سبيل المثال ، تتمثل الخصائص الخارجية لشعيرة نضج الفتاة في مجتمع ديمبو في الطريقة التي تلف بها الفتاة في ثوب أو رداء ، ثم تستلقي عند جذع شجرة اللبن ، بينما المشاركون يرتلون ترتيلات معينة، وشجرة اللبن ذاتها تكشف عن جوانب حسية متمثلة في المادة البيضاء التي تشبه اللبن( 21 ).
3 – المنهج البنيوي :
ويهتم هذا المنهج بتتبع العلاقات بين الوحدات أو الرموز المؤلفة للنسق الرمزي ، من خلال الكشف عن علاقة كل رمز بالرموز الأخرى داخل ذلك النسق ، وبالرغم من أن فيكتور تيرنر استعان بمنهج البنيوية عند ليفي ستروس – وبصفة خاصة علاقة التقابل والأضداد الثنائية – كان حريصًا على عدم معالجة الرموز على أنها عناصر خارج الزمن ، أو وحدات آنية وساكنة أو ثابتة داخل النسق الرمزي ، بل – على العكس – عمل ، أي تيرنر ، على إظهار الخاصية الدينامية المتغيرة لكل من الرموز المهيمنة والرموز الوسيلية. ذهب تيرنر خطوة أبعد من بنيوية ليفي ستروس الجامدة ، وذلك عندما وظف علاقة التقابل أو الأضداد الثنائية بغرض دراسة الصراع والانقسام داخل مجتمع ديمبو ، الذي يبدو متحدًا ومتماسكًا ، لكنه في الحقيقة يعاني من الانقسام والصراع ، فالرموز التي تكشف عن الوحدة والتضامن في موقف معين ، هي نفس الرموز التي تكشف عن الصراعات في موقف آخر. ويظهر ذلك بوضوح في شعيرة نضج الفتاة المرتبطة بشجرة اللبن ، حيث يوجد تقابل قائم على أساس الجنس أو النوع أو بين النساء اللائي يرقصن ويؤدين الشعيرة ، وبين الرجال الذين لا يشتركون في تلك الشعيرة. وهنا نجد التقابل : نساء/رجال ، بينما يوجد تقابل آخر قائم على أساس العمر أو الجيل (داخل نفس النوع) : الأم / الابنة ، فالشعيرة تقام من أجل الفتاة كي تنضج ، بينما شجرة اللبن ترمز إلى الأم الناضجة. إن المنهج البنيوي عند تيرنر يكشف عن وجود الأضداد وتكاملها في وحدة واحدة وفي آنٍ واحد(22).
لكن بالرغم من أن فيكتور تيرنر ميز بين المناهج المختلفة التأويلية والإجرائية والبنيوية ، نجد أنه يستخدمها في وحدة واحدة من خلال التحليل الرمزي النهائي الذي يقدمه ، فهو يعرض لتأويلات الإخباريين أو المواطنين ، ويلاحظ أفعالهم ، ويستنتج العلاقة البنائية المتقابلة الموجودة بين الرموز المؤلفة للشعيرة.
يشير تيرنر إلى خاصية القطبية المميزة للرموز المهيمنة ، فكل رمز من الرموز المهيمنة يحتوي على بعدين أو قطبين متباعدين ومتقابلين أحدهما : القطب المادي أو الفسيولوجي أو الحسي sensory ، والآخر القطب الفكري أو المعياري أو الأيديولوجي Ideological . وإذا كان القطب الحسي أو المادي يرتبط بالشكل الخارجي للرمز، وكذلك الرغبات والمشاعر نحو هذا الرمز ، فان القطب الفكري أو الأيديولوجي يتعلق بالتصورات والأفكار والمعايير والقيم التي تؤثر في سلوك الأفراد في تفاعلهم اليومي ، ومثال على ذلك : شجرة اللبن ، حيث يتجسد القطب المادي أو الحسي في العلاقة القائمة على التشابه بين المادة البيضاء اللزجة التي تفرزها الشجرة ، واللبن الذي يخرج من صدر المرأة ، أما القطب المقابل ، وهو القطب الأيديولوجي والمعياري ، فيتمثل في أن شجرة اللبن ترمز إلى معاني وقيم الأمومة ، والرعاية الغذائية ، وانتظام الجماعات في مجتمع ديمبو طبقًا للمبدأ الأمـــومي الذي يـــكون النســـل فيـــه في خــط الإنـــــاث أو الأم( 23 ).
وفي مجال الدراسات العربية طبق المؤلف المنهج التأويلي الإجرائي البنيوي على عناصر التراث الشعبي في كل من المجتمع المصري ، ومجتمع الإمارات. فقد وجد الباحث أن “الصبر” يمثل أحد الرموز المحورية المهيمنة في التراث الشعبي المصري ، ويرتبط هذا الرمز بنبات الصبار ارتباطًا قويًا ، وتتدرج المعاني المرتبطة بهذا الرمز بين قطبين ، أحدهما : حسي ، والآخر ، فكري أو أخلاقي. ويتمثل القطب الحسي أو الطبيعي لقيمة الصبر في نبات الصبار الذي يجمع بين خاصية دوام الخضرة ، وخاصية المرارة الشديدة الناتجة عن العصارة التي يحتويها، ويتمثل البعد الفكري أو الأخلاقي في معاني ضبط النفس ، وقوة التحمل ، و الابتعاد عن المحرمات ، وحسن الإيمان( 24 ). ومن أهم الرموز المحورية في التراث الشعبي لمجتمع الإمارات ، رمز النخلة ، والنخلة مصدر لا ينضب من المجاز ، وهي تشتمل على جانبين أو قطبين، أحدهما : حسي ، والآخر معنوي. وتتدرج بينهما الدلالات الحسية ، والمعاني المجردة. ويرتبط بالقطب الحسي بعض الخصائص المهمة ، مثل : دوام الخضرة، واختلاف ثمارها (باختلاف النخيل) من حيث : الشكل ، والحجم ، واللون ، والمذاق ، والملمس ، والرائحة ، والقدرة على التكيف مع البيئة الصحراوية. فيما يتعلق بالقطب المعنوي أو الفكري لرمز النخلة ، فإنه يتضمن تصورات ، وقيم الخير ، والعطاء ، والخصوبة ، والكرم( 25 ).
المنهج الرمزي التاريخي
من الانتقادات التي كانت توجه لكل من الأنثروبولوجيا والفولكلور في تطبيق المنهج التاريخي خاصة الذي كان يعرف بالاتجاه التاريخي الجغرافي ، هو حرص كلٍ منهما على تحقيق هدف جوهري ، وهو التعرف على الأصول التاريخية لعناصر الثقافة الشعبية من أساطير وحكايات شعبية من خلال التعرف على المراحل الزمنية أو التاريخية ، وكذلك المناطق الجغرافية التي ظهرت فيها تلك العناصر ، وهذه المعرفة التاريخية لعناصر التراث الشعبي أو الثقافة ، ترتبط بهدف آخر ، وهو إعادة بناء أو تركيب المجتمع القديم للتعرف على أساليب وطرق حياة الأفراد في تلك الحقبات التاريخية القديمة ، والمشكلة الجوهرية التي تواجه أصحاب الاتجاه التاريخي الجغرافي تتمثل في عدم القدرة أو الاهتمام بدراسة المضمون أو المحتوى الرمزي الذي تختزنه الثقافة الشعبية ، والاقتصار على عمليات الجمع ، والتصنيف ، والوصف ، والمقارنة( 26 ).
وفي الثمانينيات من هذا القرن ، ظهر ما يعرف الآن بالمنهج الرمزي التأويلي التاريخي ، ويعالج هذا المنهج مشكلة تغير الأشكال الثقافية الرمزية في مراحل زمنية معينة ، كما أن هذا المنهج لا يهتم بمجرد التتبع التاريخي للأحداث بغرض توثيقها ، بل يركز على آليات عملية التغير التي ينجم عنها تحول أشكال رمزية معينة إلى أشكال رمزية أخرى ذات دلالات ومعانٍ تختلف عن تلك المتضمنة في الأشكال الرمزية السابقة.
يعد مارشال سالينز Marshall Sahlins الرائد الحقيقي للمنهج الرمزي التاريخي الذي استخدمه عام 1981 في دراسته “استعارات تاريخية وواقع أسطوري” Historical Metaphors and Mythical Realities حيث درس التغيرات الثقافية التي حدثت بجزر هاواي ، والتي نجمت عن رحلة كابتن كوك إلى تلك الجزر ، ومقتله هناك نتيجة العلاقة التي أسسها أفراد ذلك المجتمع بين تراثهم الأسطوري وكابتن كوك ، وتؤكد هذه الدراسة أن التحدي الوحيد الذي يواجه المنهج الرمزي التاريخي لا يكمن في مجرد معرفة كيف يمكن للثقافة أن تنظم الأحداث ، بل كيف يمكن تنظيم الثقافة ذاتها من خلال تنظيمها للأحداث ، وكيف أن عملية تحول البناء تصبح – في نفس الوقت – إعادة إنتاج لذلك البناء ، أو بعبارة أخرى أن إعادة الإنتاج هذه تتضمن تحولاً للبناء نفسه( 27 ).
يهتم المنهج الرمزي التاريخي بتصور الأفراد لتاريخهم من خلال المنظور التراثي السائد أو المهيمن في مجتمعهم ، فالثقافة تاريخ ، بمعنى أن الأفراد يدركون الحاضر على أنه تاريخ ، ولا يدعي سالينز أنه يقدم تقريرًا تاريخيًا للأحداث التي وقعت في فترات زمنية أو تاريخية في مجتمع معين ، إذ يقول : “إنني لا أقدم نظرية منافسة حول التاريخ ، لأنه من الواضح أنني لا أتكلم عمّا حدث بالفعل ، بل ما أتحدث عنه هو أنساق أو خطط محلية وضعها المواطنون عن نسب أو علاقات كونية ، وهذه الخطط من الناحية التاريخية تكون ذات مغزًى ومعنًى كبير لديهم”( 28 ).
يقدم سالينز دراسة مكثفة ومفصلة عن مجتمع جزر هاواي ، والتغيرات التي طرأت عليه عند قدوم كابتن كوك Cook المستكشف والملاح البريطاني الشهير ، الذي اكتشف الجزر الغربية من جزر هاواي في عام 1778 ، والذي يمثل واقعة تاريخية سرعان ما دخلت في النسق الأسطوري (الكوني) المحلي لذلك المجتمع ، ويقول سالينز “إن حياة كوك وموته في جزر هاواي في كثير من الجوانب هي مجازات أو استعارات تاريخية لواقع أسطوري”( 29 ).
يتناول سالينز طبيعة النسق أو البناء الثقافي في جزر هاواي بغرض فهم ما حدث لكابتن كوك من ناحية ، والتغيرات التي طرأت على ذلك المجتمع من ناحية أخرى.
وداخل هذا النسق الثقافي لمجتمع هاواي يعتبر الإله لونو Lono هو إله الثروة والصحة البشرية ، كما أنه يرتبط بصفة خاصة بالزراعة ودورتها الموسمية التي تعتمد على المطر ، والشهر الذي يهطل فيه المطر كان يسمى “صورة لونو” وهي عبارة ترتبط بمعاني كثيرة ، مثل : الضوضاء ، والعواصف ، والبرق ، والرعد ، والرياح العالية التي تسبق المواسم الزراعية ، وخاصة زراعة “البطاطا”. ويأخذ الإله لونو شكلاً مقابلاً للصفات والخصائص السابقة ، إذ أنه يصور في شكل الجفاف أو المناطق الجافة بمعنى أنه يجمع بين الأضداد في وحدة واحدة ، وخاصة المطر والجفاف ، فالرعد وسحب المطر الأسود والنار ترتبط بذلك الإله الذي يسمى أيضًا بإله الرعد ، يأتي الإله لونو مرة كل عام وخاصة في فصل الشتاء ، وعندما تهب الرياح على منطقة كونها (وهي المنطقة التي هبط فيها كابتن كوك) ، فإنها تعتبر مظهرًا فصليًا لمجيء الإله لونو( 30 ).
جاء كابتن كوك إلى جزر هاواي في شهر نوفمبر عام 1778 ، ووصل إلى الساحل الشمالي الغربي في الأول من ديسمبر من نفس العام ، وشهر ديسمبر هو الشهر الذي كانت تقام فيه احتفالات أو طقس ماكاهيكي Makahik i والذي يعني محليًا الميلاد السنوي للطبيعة والذي كان يأخذ شكلاً كونيًا دراميًا ، وكان يبدأ مع عودة ظهور الإله لونو Lono . وكان يوجد اعتقاد بين أهالي جزر هاواي في هذه الفترة من السنة أن لونو يؤثر على تكاثر الطبيعة وإعادة ميلاد المجتمع وتجديد الملكية للملك ، وهي أيضًا فترة سقوط الأمطار ، بالإضافة إلى أنها الفترة التي تتوسط التحول المزدوج من الطبيعة إلى المعنى الكوني أو من الوقت الميت من السنة ، إلى الوقت الذي تصبح فيه الأشياء الحبلى مثمرة ومنتجة ، والتحول من فصل الليالي الطويلة إلى فصل الأيام الطويلة ، وما دام أن الإله لونو هو إله المطر والرعد والتغير ، فإن نهايته تعني بداية عام جديد ، ولذلك فإنه – في كل عام ، وفي نفس الموعد التي يمتد من ديسمبر إلى فبراير – يقتل الإله لونو في ذلك الطقس (ماكاهيكي) بغرض تجديد الحياة ، وتجديد فترة حكم الملك( 31 ).
إن الواقعة التي تؤكد على دخول كابتن كوك في النسق الثقافي الأسطوري لسكان جزر هاواي هي حادثة موته الشعائري التي وقعت في 41 فبراير عام 9771 ، والذي بعدها أصبح كوك سلفًا أسطوريًا ، فعندما أراد كابتن كوك في ذلك اليوم أن يغادر إحدى الجزر إلى جزيرة أخرى ، قابله على الشاطئ جمع غفير من الأهالي بالاحترام أو التوقير المقدس ، إذ إنهم خروا أمامه ساجدين ، ووجوههم نحو الأرض ، اعتقادًا منهم أنه الإله لونو ، لكن في نفس اللحظة التي كان فيها آلاف المواطنين راكعين خوفًا ورهبة منه ، يستل فجأة أحد قادتهم خنجره ويطعن به كابتن كوك الذي خر صريعًا في الماء ، وعندما أدرك المواطنون ما حدث فإنهم هرعوا مندفعين لتبادل الخنجر أو الخناجر والسكاكين كي يحصلوا على شرف قتل كوك / لونو ، وكان ذلك هو نفس المصير الذي كان يلقاه الإله لونو في نهاية احتفال ماكاهيكي ، فلم يكن قتل كابتن كوك إذن مجرد قتل عادي ، بل كان قتلاً شعائريًا شارك فيه عدد من الأفراد اعتقادًا منهم بأنه الإله لونو الذي ظهر في شكل كابتن كوك( 32 ).
يقول سالينز إن ثقافة مجتمع هاواي أعادت إنتاج ذاتها خلال الاحتكاك بالثقافة الأوروبية – متمثلة في كابتن كوك ، والجنود الذين رافقوه في رحلته – وفي سياق إعادة الإنتاج الذي تطابق مع صورتها وأساطيرها ، فإن ثقافة هاواي تغيرت ، بمعنى أنها أعادت إنتاج ذاتها كتاريخ ، إذ عملت هذه الثقافة على احتواء قدوم الأوربيين داخل نسقها الأسطوري الموجود من قبل ، وما قامت به الثقافة – كما يؤكد سالينز – هو تحقيق عملية تكامل للموقف الجديد على أنه بناء ، بمعنى أنها جعلت الحادثة التاريخية نسخة من النمط الأسطوري المميز لها.
الخاتمة :
حاولت هذه الدراسة أن تعرض لأهم التيارات والاتجاهات الحديثة في مناهج التحليل الرمزي للثقافة والتراث ، وكشفت هذه الدراسة عن التنوع الكبير ليس فقط في المناهج الرمزية ذاتها ، بل أيضًا في النتائج التي توصلت إليها تلك المناهج ، وهذه سمة أو خاصية مهمة في تحقيق فهم أفضل وأعمق للثقافة الإنسانية التي تتسم بالتنوع والعمق.
لقد أحدثت مناهج التحليل الرمزي في الدراسات الأنثروبولوجية والفولكلورية نقلة نوعية من خلال تأكيدها على أهمية تكامل روافد المعرفة ، وتساندها ، وعدم الانغلاق على منهج أو إطار نظري واحد ، إن القاسم المشترك بين الأنثروبولوجيا والفولكلور هو السعي نحو تحقيق الرؤية الشمولية للإنسان وثقافته الشعبية ، الزاخرة بالدلالات الرمزية. وهذه الرؤية الشمولية تتطلب الابتعاد عن المناهج التقليدية(33) والموضوعات المتكررة ، مع التركيز على موضوعات تمثل أهمية خاصة لثقافات الشعوب مثل : الدلالات الرمزية لعناصر الثقافة المحلية أو التراث الشعبي ، وأشكال التعبير الرمزي والمجازي ، ورؤى العالم لدى حملة التراث ، والهوية الثقافية ، وتحديات العولمة ، وأنساق المعنى ، وأنماط التفكير ، والجوانب الرمزية لعملية التغير الثقافي ، وغيرها من موضوعات ترتبط بالواقع الاجتماعي والثقافي للمجتمع الشعبي.