الأنثروبولوجيا والتيار الإسلامي المعاصر
من خلال كل ما ذُكر وما سيُذكر، وعلى الرغم من مرور ردح ليس باليسير من الزمن على نضوج هذا العلم، إلا أننا نرى عزوفا بيّنا من المحسوبين على التيار القومي العربي أو الإسلامي (=”المارد)،” لتعلّم هذا العلم الخطر، باستثناء مجموعة قليلة قليلة، تحاول أن تدلي بدلوها على جهد المُقِلِّ دون دعم معنوي أو مادي أو حتى قرار سياسي مؤيد؛ والسبب يكمن ـ من وجهة نظر خاصة ـ في جوانب عدة لا يسع المجال لذكرها في هذه العجالة، لكن أذكر ناحيتين رئيستين، وثالثة هي الأخطر:
الأولى: عدم الاطلاع على سر هذا العلم ومجالات بحوثه، وربطه بواقع الأمة الإسلامية والعربية اليوم وحالها الذي وصلت إليه حتى في ميدان حربها الثقافية الحضارية التي لا مناص من أن تكون طرفا فيها على رغم من الانبطاح السياسي العربي والإسلامي على مستوى الحكومات .
الثانية: تكمن ـ كما يعتقد الدارسون العرب لهذا العلم ـ في عزوف الشباب العربي بوجه عام والمسلم بوجه خاص، وعدم اكتراثهم بعلم يُفرَض فيه على الطالب لاستكمال مقررات تخرجه، أن يعيش في قبيلة نائية يدرس عاداتِها ومعتقداتِها وسلوكَها الاجتماعيَّ وآثارَها وأساطيرَها القديمة، إضافة إلى أنّ مَن يعرف دور الاستعمار وترابطَه الوثيقَ في تطوير آليات هذا العلم يكون أشد هربا وعزوفا عنه.. ا.هـ
الثالثة: هي أن دارسي هذا العلم في البلاد العربية والإسلامية، بكل بساطة، لا مستقبل مهني لهم، فالساسة لا يكترثون ـ بل لا يعرفون ـ بهذا العلم وأهميته، كما تقفر الساحة من مراكز أبحاث متخصصة بتمويل محترم، ويعتمد عليها في اتخاذ القرارات.
وعلى يقين أن الشباب المسلم بالذات (=”المارد)،” الذي تتوافر فيه المؤهِّلات: ومن أهمها الحصيلةُ العلمية الشرعية والتاريخية الكافية أولا، واستشعارُ مدى اتساع نطاق الحرب الثقافية والحضارية فضلا عن الدينية على العالم الإسلامي والعربي (=”مهد” الحضارات العالمية) ثانيا، والعقل السوي الراجح ثالثا، مُؤهَّلٌ لدخول معترك تحصيل هذا العلم بكل ما فيه من قساوة وبُعد مَشَقَّة؛ ذلك أن التراث الإسلامي الصافي قائم على شِقَّين مهمين: شِقِّ النقل الذي لا يتعارض وشقِّ العقل، وبكلا الشقين (=”النقل” والعقل) استطاعت الأمة الإسلامية أن تبني حضارة إنسانية ومادية في فترة وجيزة من عمرها؛ إذ الأول (=”النقل)،” يمثّل منهج إعمار الأرض الذي وُكِل إلى الإنسان من أول يوم وطِئت فيه قدم آدم الأرض .. والثاني (=”العقل)،” يمثّل الدعامة الرئيسة لبلوغ الهدف الإنساني النبيل على هذه المعمورة، وبهما أيضا سيتمكن من القفز فوق عناء عقول الأنثروبولوجيين (في مجال دراسة بيولوجيا الإنسان وحضارته) التائهين المتخبطين في غياهب ما قبل التاريخ، دون هداية أو دليل من عقل أو نقل، ومن شُعاعَيهِما يسير على هداية وبصيرة في ميداني علم الأنثروبولوجيا: الطبيعي والحضاري كما سيأتي..
* ميدان الدراسات الأنثروبولوجية (تقريب الصورة):
معرفة أي علم ومدى أثره في بلورة التصور العقلي ـ الاستعماري أو غيره ـ لا تتأتى إلا في حال معرفة الميدان الذي تتحرك فيه تلك الدراسة المعرفية، وبما أن الأنثروبولوجيا علم معرفي فما يقال عن سائر العلوم يقال عنه أيضا، فهي الدراسة العلمية للإنسان منذ ظهوره على سطح الأرض: تكوينه، صفاته الجسدية، والاجتماعية، والسلوكية، ونمو حضارته وتقدمها وسقوطها، ولهذا فالأنثروبولوجيا تنقسم من حيث ميدان البحث إلى قسمين رئيسين هما: الأنثروبولوجيا الطبيعية (=”بيولوجية)،” والأنثروبولوجيا الحضارية (=”إنسانية)،” ولكل من هذين القسمين ميادين فرعية متعددة يمكن إجمالها فيما يلي:
أولا: الأنثروبولوجيا الطبيعية
وتنقسم إلى ميدانين رئيسين:
دراسة التطور الإنساني: منذ الإنسان الأول، ويتنازع هذا الميدان نظريتان هما نظرية الخلق ونظرية النشوء والتطور.. ولهذا تكثر النقاشات عند كل اكتشاف حفري يأتي بشئ جديد عن الإنسان الماضي. [هنا عششت وفرّخت نظرية داروين]
دراسة الصفات الطبيعية للإنسان/ علم الإنسان الطبيعي (=”البيولوجي):” يدرس هذا القسم التغيرات التي تحدثها العوامل الطبيعية الجغرافية في بيولوجية الإنسان بين مجموعات الإنسان الأخرى، ويساعد في ذلك علم التشريح المقارن، ويعتمد علم الاجتماع في تصنيفات البشرية على معايير مخصوصة كشكل الجمجمة والتركيب العضلي للجسم ولون العين وتشكيلة الوجه وطبيعة الشعر ولونه، وفوق كل هذا فصائل الدم والجينات الوراثية، وربما استخدم في هذا الفرع الميداني علم وظائف الأعضاء لدراسة الفروق الجسدية بين الشعوب والحضارات الإنسانية، والهدف من هذا الميدان دراسة الإنسان ككائن بيولوجي من حيث تكوينه الجسدي وتطوره بواسطة الوراثة والعوامل المناخية، ودراسة توزُّع السلالات والحضارات على وجه الأرض.. [وهذا الميدان هو الذي استغله العنصريون في تفضيل جنس على آخر].
ثانيا: الأنثروبولوجيا الحضارية
وتنقسم إلى ثلاثة ميادين رئيسة هي:
ـ ميدان الأركيولوجيا (=”الحفريات)” وما قبل التاريخ: وهذا ميدان فرعي يعطينا تصورا عن تاريخ الشعوب المختلفة ومراحل ظهورها قبل كتابة التاريخ الإنساني، وتتم عن طريق التنقيب وكشف مخلفات الحضارة المادية للقدماء، وهو ميدان يستفيد جدا من علم الجيولوجيا لتحديد عمر الحفريات وتصنيفها تاريخيا، وهو الميدان الذي ساهم في التقسيم الحضاري للإنسان من الحجري فصاعدا. [وهنا تراوح الدولة العبرية حول المسجد الأقصى].
ـ ميدان الدراسات اللغوية: وهذا ميدان فرعي يفيدنا في معرفة العلاقة بين لغات البشر التي تبلغ الآن 27 لغة إنسانية، وأسباب تطورها وتحديد العوامل الاجتماعية والحضارية المساهمة في هذا التغيير.
ميدان الإثنولوجيا (=”علم” الإنسان الحضاري/ الاجتماعي): وهو ميدان يدرس الوراثة الاجتماعية من جيل إلى جيل عن طريق غير الطريق البيولوجي الداخلي؛ وهي ما تعرف بالحضارة الإنسانية، ومهمة هذا الميدان وصف وتحليل كل مظاهر الحياة الحضارية، من قياس المتغيرات المختلفة للعادات وأوجه الحضارة الاجتماعية والمادية والمعنوية والروحية، ويدخل في هذا دراسة التنظيم السياسي والعسكري والقانوني والاقتصادي، وشكل الأسرة تنظيم العشائري والقبلي، والجمعيات السرية والدينية، والعقائد والفنون والأساطير وغيرها من أوجه النشاط والسلوك الحضاري؛ وهو الميدان الذي استغله الاستعمار الكلاسيكي.
* مهام علم الأنثروبولوجيا الأساسية:
لهذا العلم أهداف واضحة وهي:
وصف مظاهر الحياة البشرية والحضارية وصفا دقيقا.
تصنيف تلك المظاهر بعد دراستها للوصول إلى أنماط عامة للبشرية.
تحديد أصول وأسباب التغير وعملياته، مع وصف التغير وعمليات التغيير بدقة.
استخلاص مؤشرات أو توقعات للاتجاهات المحتملة للتغير في الظواهر المدروسة.
تحديد الرؤى المستقبلية لتطور أو تدهور التجمعات الإنسانية.
* قصة التعارف:
كنت قبل ثمانية عشر عاما (إبان نشوب حرب الخليج وما تبعها من انقسام حاد في صفوف التيار الإسلامي) أطالع التقلبات السياسية على الساحة الإقليمية والعالمية بكل استغراب ودهشة؛ ذلك لأنني كنت كباقي المحسوبين على هذا التيار المتقوقع داخل أسوار كتب العقيدة والفقه والتاريخ ـ إلا ما رحم الله ـ، فأرى الصورة النموذجية في عالمنا الافتراضي، وعكسها تماما في الخارج، وأشعر في قرارة نفسي أن ثمة خطأ؛ إما في مصادر تصوري للواقع المعاصر أو في الواقع نفسه..
والحق أن الواقع المعاصر فيه من الخطأ والخطل ما الله به عليم؛ لأن المعمورة لا تسير على منهج الله، وبالمقابل هناك خطأ في مصادر تصورنا عن فقه واقعنا السياسي وما يشكّله من تيارات عسكرية واقتصادية وثقافية وعقدية، وهذا ما حاولت فهمه بعيدا عن المصادر التي كانت تُفرض نفسها علينا كطلبة، لتُفهمنا الواقع من منظورها هي لا كما يجب أن نراه بتجرد وموضوعية لنُحكِّم عقلنا ونستخدم أدوات موازنتنا قبل أن يتم توجيهنا.
تاريخنا المكتوب نحن المسلمين على ما فيه من دخن وضبابية أحيانا، يُطلِعُنا على أمة كانت سبّاقة بين أمم الأرض في جميع الميادين، ودون استثناء؛ بدأ من عصر النبي عليه الصلاة والسلام ووصولا إلى سقوط الدولة الإسلامية العثمانية مع مطالع القرن العشرين، والسؤال الذي يتبادر إلى أذهان كل شاب مسلم : ما السبب؟ وأين الخلل؟ هل من أصابع خفية؟
أسئلة حاولت الإجابة عليها بطريقتي الخاصة، فكان تركيزي بداية على الدولة العثمانية صاحبة النفوذ والعظمة في تاريخ الإسلام القريب، فرأيت اليهود (=”الدونمه)” ظاهرين أمامي؛ نخروا دولة الخلافة من الداخل حتى أهلكوها اقتصاديا، ثم ورّطوها في حرب عصابات الأمم فأتوا على البقية الباقية فيها.. أدرت نظري إلى الأمم التي تكالبت على تركة “الرجل المريض”، فرأيتها تتقاسم وطنا واحدا لا غير، هو الذي كان يسمى من قريب بالعالم الإسلامي؟! ورأيت اليهود أيضا بارزي الحضور على الساحة الدولية والإقليمية؛ جرثومةً زرعت في أحشاء التركة (=”فلسطين)؟”
إلى ذلك كنت أرى العالم بأسره يتكلم عن حرب دهياء مرتقبة بين المسلمين وكلٍّ من اليهود والنصارى، وهو ما تتفق عليه هذه الأديان بالفعل: هي عند الغرب معركة “هرمجدون”، وعندنا نحن المسلمين “الملحمة الكبرى” وهي من أشراط الساعة (=”القيامة)” الصغرى .. ومن هنا أرى ملامح الصراع العقدي بارزة وجِدَّ ملموس على الصعيد السياسي والثقافي بل الاقتصادي أيضا!! لكن ترى الغرب (=”المستعمر)” لا يركز ـ ظاهرا ـ على الجانب العقدي، بل يستخدم العلم كسُلَّم في إثبات كلِّ ما يريد عرضَه ومناقشتَه أمام أمم العالم الإسلامي بالذات؛ بسبب ادعائه “العلمانية” والتمسح بالعلم التطبيقي ونتائج التجارب المخبرية في كل توجهاتهم، بخلاف اليهود في دويلتهم الذين يركبون التيارين (=”العَقدي” والعلمي).. ومن هنا كان لزاما عليَّ لأجل أن أفكّ الرموز، أن أطالع مجالين:
العقائد الثلاث من خلال نصوصها التراثية (=”التوراة” والإنجيل والقرآن)، وقد ساعدني في رسم الصورة واضحةً أن هذا الميدان خُدم أيما خدمة من قبل أتباع الأديان الثلاثة، وكان السبق فيه واضحا للتيار الإسلامي؛ نظرا لعدم تعارض عقله بنقله، وعدم تعارض كليهما (=”النقل” والعقل) مع الحقائق العلمية للمادة أو الإنسان وتاريخ كلٍّ.
ثم أبحث عن سر تطور العالم الغربي في وسائل إقناعه العلمية للعالم الإسلامي والعربي بصواب كل نظرياته وفرضياته، فرأيت علوما شتى ووسائل يردف بعضها بعضا، لكن لمحت أنها تنبثق من معين منهجي واحد؛ هو “الإنسان” أولا ثم “المادة” ثانيا وكل ما يَمُتُّ إليهما بصِلة، فوقعت فيما يخص الإنسان على علم الأنثروبولوجيا، ومن هنا كان اهتمامي به كعلم يساعدني على فك بعض الرموز فيما يعرف اليوم بـ”صدام الحضارات” على اختيار التيار الصهيوني، أو “حوار الحضارات” على اختيار التيار الفلسفي المتزن، وبالنسبة للتسمية الأولى ترى أنها تسمية تحدد إطار ونمط هذا التدافع الإنساني الحضاري؛ إذ نحن نعلم أن التقنية ليست بملكنا معاشر العرب أو المسلمين: أي أن “المادة” خرجت من حساب الصدام ليبقى “الإنسان” ظاهرا وباطنا هو المحور، و”الإنسان” بيولوجيا وحضاريا هو موضوع علم الأنثروبولوجيا.
* التأصيل الفكري والأنثروبولوجيا:
لكل حضارة تصوُّر كَوني للعالم (=”صورة” إدراكية) هو الذي يحدد نظرتها ويوجه معارفها، وتصورنا للعالم هو من الأهمية بحيث لا ندرك أن لدينا تصورا ما إلا حين نواجه تصورا بديلا؛ إما بسفرنا إلى حضارة أخرى، وإما باطّلاعنا على أخبار العصور الغابرة، وإما حين يكون تصور حضارتنا للعالم في طور التحول؛ طبيعيا كان أم قسريا.
وحين نقول: “التأصيل الفكري” فنعني دائرةً محدودة هي التأصيل “الإسلامي” على وجه التحديد لأسباب جوهرية وموضوعية؛ إذ هو مشروع حضاري كبير ينهض الفكر الإسلامي الحديث بإنجازه، وهو “إسلامية/ أسلمة المعرفة” دون أن ننكر أننا في مرحلة افتتاحية التأصيل، وما زلنا في بداية الحديث عن بديل إسلامي في علوم العصر المتنوعة.
إن التقدّم الذي أحرزته الحضارة المعاصرة ـ غربية كانت أم شرقية ـ ليست مدينة للعلوم الطبيعية فحسب، بل للعلوم الإنسانية أيضا؛ لأن الحضارة لا تتعامل مع مشاكل “المادة” الظاهرة وحدها، بل مع مشاكل “الإنسان” الباطنة؛ لذا، فإن الاهتمام بهما (=”مادة” وإنسانا/ ظاهرا وباطنا) معا في مشروعنا الحضاري شرط رئيس لنجاحه.
ولابد من البيان هنا، أن الصلة التي تربط الفكر الإسلامي بمشروع التأصيل الإسلامي لـ”المعرفة” هي أن هذا المشروع وثيق الارتباط بذات الفكر والتيار الأيديولوجي الإسلامي الثابت الذي يرمي إلى ترسيخ مفهوم صلاحية الإسلام لقيادة البشرية، فضلا عن الأمة المسلمة، وقدرته على استيعاب التطورات والمستجدات التي تفرزها حركة الحياة اليومية.
والواقع المشاهد أن هذا التيار لا يسلّم به حتى بعض المحسوبين على التيار الإسلامي، حيث يصرّح بعضهم عن موضوع التأصيل الإسلامي للعلوم بالقول: “فيم الكلام عن التأصيل الإسلامي للعلوم الإنسانية في مجتمع لا يطبق شريعة الله ولا يعمل بأحكام الله؟!”، كأنه يرى أن التأصيل الإسلامي لهذه العلوم لا يكون إلا بعد تطبيق كامل لبنود الشريعة!!
إن المشروع الفكري لا يقل أهمية عن المشروع السياسي؛ لأنهما وجهان لعملة واحدة هي المشروع الحضاري الإنساني، ومن يربط بين الحركتين وجودا وعدما فكأنه يحكم على مسارين بالإعدام.
والإسلام نفسه لم يربط حركة الاجتهاد بوضعية الشريعة في المجتمع؛ فالاجتهاد ماض سواء أخذت نتائجه طريقها إلى الواقع أم تأخر ذلك، بل إن التأصيل الإسلامي للعلوم الإنسانية ينبغي أن يكون مواكبا لتطبيق الشريعة الإسلامية إن لم يكن سابقا عليه، إن علينا لكي ينجح التشريع الإسلامي في حياتنا أن نهيئ له الفرد الذي يؤمن بعدالة هذا التشريع، يقول الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي: “بعبارة موجزة لابد من إيجاد الروح الإسلامية وبناء الشخصية الإسلامية التي يقوم عليها عبء تطبيق الإسلام، وهذه الشخصية تعني العقلية الإسلامية، التي تفكر بمنطق الإسلام في الحكم على الأشياء والأحداث والأشخاص والمواقف كما تعني النفسية الإسلامية التي تكيّف تعاملها مع من حولها وما حولها وفقا لمنهج الإسلام”.
إن النظرة الواعية لطبيعة التشريع السماوي الذي يربط الإنسان بالوجود زمانا ومكانا تطلعنا على مراعاة التشريع السماوي في رسالاته المتعاقبة للتغيّرات التي تطرأ على حياة الإنسان، ولذا عولجت بأسلوبَين:
الأول: تجدد الرسالات والشرائع، وهو ما كان سائدا قبل رسالة الإسلام؛
والثاني: تضمين عناصر الخلود وشروط الصلاحية لكل زمان ومكان، ومراعاة التغيرات المحتملة والتطورات المتوقعة، وهو القانون المرِن الذي يتميز به التشريع الخاتم للرسالات السماوية (=”الإسلام).”
* مشكلتنا الفكرية مع العلوم الإنسانية وضرورة التصحيح:
عندما بدأ الغرب أولى احتكاكاته بالعالم العربي والإسلامي كان يَعي شيئا فشيئا أهمية الجبهة الفكرية في صراعها الحضاري (خاصة بعد هزيمة لويس التاسع في المنصورة ووصيته للغرب بالعناية بالفكر قبل السيف) فقام المستشرقون ومن بعدهم المبشرون – تأليفا وتحقيقا وتدريسا – بتوجيه مسار الفكر العربي والإسلامي وجهة تكرس عزل الإسلام عن الأمة بدل ردها إليه، وهذا أمر طبيعي في ملحمة الصراع الحضاري، فمرّت بالفكر الإسلامي الحديث مرحلة تلمس فيها المِسحة الاستشراقية التي تنهج تيار التشكيك في صدق العقيدة المحمدية وعدل شريعته، فتكوّنت سحابة قاتمة في سماء الفكر العربي والإسلامي، ونشأ على معلوماتها أو تأثر بها ـ جزئيا أو كليا ـ جيل من المفكرين الشرقيين، وأصبح الفكر الإسلامي يؤدي جراء ذلك عكس مهمته وانشغل بنقاشات فلسفية وكلامية لا علاقة لها بواقع المسلمين، حتى صار مفهوم “الفكر الإسلامي” مرادفا للمناقشات الكلامية والتاريخية.
وكما عانى الفكر العربي والإسلامي من هذا التضييق على مستوى الموضوع؛ مورس عليه تضييق مماثل على مستوى المنهج، فبعد أن كان الإسلام يحكم الحياة السياسية والاجتماعية للمسلمين، ولو على صورة ليست متكاملة، دخل الاستعمار (=”الاستدمار)” وأدخل معه العلمانية (=”اللادينية)” وانتدب المناهج التعليمية لترسيخها في الفكر، كما انتدب القوة السياسية والعسكرية لتثبيتها في الواقع، فعرف الفكر الإسلامي هذه المشكلة المنهجية، وتنازَعَه اتجاهان يبدو أحدهما نقيضا للآخر، لكنهما بالنسبة للإسلام شئ واحد؛ لأنهما معا يكرسان “العلمانية” التي تعني: عزل الإسلام وأيدلوجياته عن قيادة الأمة وفصل الدين عن حياتها.
وأصبح الخطأ الأيديولوجي المتكرر في كتابات هؤلاء المفكرين ليبراليين وماركسيين، هو اتخاذ الإسلام وتاريخه مادة للاستشهاد على صلاحية النموذج الليبرالي أو التجربة الاشتراكية، وأغفلوا الدور الأصيل للفكر الإسلامي في حياة الإنسان.
أصبح المفكرون المتأثرون بعلمانية الغرب يتعاملون مع الإسلام وتاريخه كما يتعامل النحوي أو البلاغي مع الآية القرآنية، لا يهمه منها إلا الشاهد اللغوي أو البلاغي، وعليه جرت صنوف من المصادرات والتحكمات وانتقاء النصوص وتحريف معانيها والتكلف في تأويلها وتفسيرها!!
هذا المشكل المنهجي (=”لبرالي/ماركسي)،” بالإضافة إلى المشكل الموضوعي (=”المناقشات” الكلامية والتاريخية العقيمة) دفعا الفكر العربي الإسلامي بعيدا عن مهمته الحضارية؛ مما استدعى تصحيحا شاملا من داخله..
ومن هنا ترى أن مشكلة الفكر العربي الإسلامي المعاصر تعود إلى وضعية العلوم الإنسانية في أوساطنا التعليمية والثقافية، فأصبح تأصيل الفكر وتحريره من أي أيديولوجية دخيلة مرتبط بالتأصيل الإسلامي لهذه العلوم، وكل خطوة يخطوها الفكر العربي الإسلامي في ذلك هي خطوة لتأصيل نفسه؛ فهذه العلوم الإنسانية وفرضياتها هي ما يحدد مفهوم الحضارة الحديثة لـ”معنى الإنسان” و”مغزى وجوده” و”غايته” على هذه الأرض؛ إذ الإسلام وحده القادر اليوم على الإجابة عن هذه الاستفهامات التي ما يزال العالم لا يحير لها جوابا؛ لأنها مما وراء المرئيات (=”ميتافيزيقيات)،” وقد كان الوحي السماوي ـ وآخره الإسلام ـ قد أجاب عنها منذ مهد الحضارات، والقاعدة المنطقية تقول: “من صدقني فيما أعلم فلا أملك تكذيبه فيما لا أعلم”.
* تأصيل في الفكر من أجل تأصيل في العلم:
لم يكن احتلال الفكر الاستعماري (=”الاستدماري)” لساحة الفكر العربي والإسلامي ـ كليا أو جزئيا ـ ليستمر طويلا، فقد كان الاتجاه الإسلامي المتأصل موجودا إبان طفح الساحة الفكرية بالتيارات التي ذكرتها لك سابقا، إلا أنه موجود في قاع البحر لا على سطحه، هذا التيار كان يتحدث عن الإسلام انطلاقا من روح الإسلام لا من العلمانية ليبرالية كان أم ماركسية، وكان انطلاقها من الجانبين اللذين خُنق بهما الفكر العربي الإسلامي؛ أعني جانب الموضوع وجانب المنهج.
فمن جانب الموضوع: كُسِر الطوق الذي حصر اهتمامات الفكر العربي الإسلامي في قضايا فلسفية وكلامية عقيمة ليصبح مجاله هو التأصيل الإسلامي للمعرفة الإنسانية؛ طبيعية / بيولوجية وحضارية، وأصبح الحديث مفتوحا عن مجلات مفتوحة ذات موضوعات متعددة: في المجال العلمي نظريا وتجريبيا، والحضاري، والسياسي، والاجتماعي، والاقتصادي، والعسكري (=”الحرب)،” والفلسفي، واللغوي، والأدبي، القديم منه والحديث … إلخ.
يدرس الفكر الإسلامي قضاياه في هذه المجالات كلها؛ لأنه ليس علما متخصصا في جزئية محددة، فهو في طبيعته هذه يشبه فلسفة العلم بالنسبة للعلوم، يأخذ مادة بحثه من علوم مختلفة، ويوظفها في التنظير لتلك العلوم بطريقة تنحو منحا شموليا.
إن هذا الاتساع الذي تميزت به مجالات الفكر الإسلامي راجع إلى طبيعة الإسلام الشمولية، فقد تضمنت شريعة الإسلام حكم الله وحكمته فيما يعرض للإنسان (=”موضوع” علوم الأنثروبولوجيا) في حياته الفردية والأسرية والاجتماعية، كما تضمنت عقيدته تصورا للوجود كله (=”الكون” والأرض والمخلوقات والإنسان) وتفسيرا لكل أسئلة الفطرة عن المنشأ والغاية والمصير، فليس غريبا أن يقتبس الفكر الإسلامي هذا الشمول والانفتاح، وهو يصدر أحكامه من مشكاة الإسلام السماوية.
وليس هذا وحده مصدر الشمول الذي تتسم به اهتمامات الفكر الإسلامي المعاصر، فالواقع الذي يعالجه هذا الفكر “واقع إنساني”، والواقع الإنساني ـ بالأمس فضلا عن اليوم ـ معقد؛ إذ المشكلات الحضارية ذات أبعاد ثقافية وتربوية وسياسية واجتماعية واقتصادية، والفكر الإسلامي أمام واقع حضاري متعدد الأبعاد، وبمرجعية تتسم بالشمول (=”الرسالة” السماوية الخالدة) وبهدف يتجاوز الإجابات الجزئية لبناء فكر وتكوين عقلية، سيكون متنوع الاهتمامات متميزا عن بقية العلوم الإنسانية الجزئية بمعالجته الشاملة للقضايا التي يتناولها.. هذا عن جانب الموضوع.
أما عن جانب المنهج: فقد اختار الاتجاه الأصيل في الفكر الإسلامي أن يتعامل مع مناهج التحليل الوافدة باستقلال وتميّز، يدرس الفكرة في نفسها ويعرضها على ميزانين هما: النقل (=”الشرع)” والعقل؛ ومن هنا ينطلق الفكر المتأصل ليناقش العلمانية لا العكس، بمنهج وصفي ومعياري، تاريخي ومقارن، يعتمد الحوار المستقل لا الحوار التابع، لا يصرفه القشر عن اللب؛ فسواء كان موضوع المعرفة هو عالم الذرة الصغير أم الكون الكبير، أعماق النفس أم سلوك المجتمع أم مسير التأريخ، فإن القاعدة التي لا تنخرم فيه: أن كل ذلك سُنَّة إلهية ومشيئة ربانية واحدة (=”قَدَر” كوني أو إلهي).
والفكر الإسلامي الأصيل يربط العلوم التفصيلية (=”الجزئية)،” حضاريةً كانت أم طبيعية جيولوجية، بوحدة الخالق المبدع سبحانه، الذي تنبثق عنه وحدة الحقيقة في الكون والإنسان والمعرفة، وهي المشكلات العقلية الكبرى التي طالما خاض فيها فلاسفة العالم منذ القديم (=”الألوهية” والنفس والمعرفة).
* الأنثروبولوجيا.. وطبول حرب الحضارات:
أما بعد؛ فلقد قرعت طبول الحرب التي مهّد لها صاموئيل هنتينغتون المفكر الصهيوني، وأعاد صياغتها وتوسيع دائرة مخاوفها لبريان بيدهام الصهيوني، وأصبح التحالف واقعا أمام الأعين ولكن بلبوس “الإرهاب” وليس أي إرهاب!! إنه إرهاب “المارد” الذي يتململ داخل قمقم “علاء الدين”..
أفما آن الأوان لقرار سياسي عربي وإسلامي جرئ يعطي هذا العلم مكانه الذي يجب أن يشغله ليكون سلاحا فاعلا في هذا الصدام الذي لم ترغب فيه الحكومات الشرقية؟ أليس من الأفضل أن ننظر إلى علم الأنثروبولوجيا بشيء من الجدية والاهتمام الموضوعيين؟! أليس من الأجدر بنا أن نبدأ التفاعل معه بدل أن نقف منه موقف العداء والريبة؟ أليس من المجدي لحكومات الدول العربية والإسلامية أن تحسن استغلال هذا العلم لصالحها هي ولبقائها، وتكسر طوق التبعية الفكرية التامة لمستعمرها (=”مستدمرها)” السابق، وتعمل على توطين هذا العلم بل أسلمته؛ حتى يؤتي ثماره النافعة لهم؟! إلى متى تبقى حكوماتنا ومراكز دراساتنا صدى صوت لأحداث العالم تنفعل ولا تفعل؛ أفضل ما عندها من عقول تستهلكها لتحليل ذاك الصدى؟! ألم يحن الوقت لاصطناع طبقة من العلماء المثقفين المتفرغين، تسمع لهم الحكومات العربية وتعمل بمشورتهم، بدلا من الاستيراد غير الصالح للاستهلاك العربي؟!
ليعذرني القارئ عن الإجابة؛ لأنني مثله.. أتمنى أنني أدري ولكن.. لست أدري!!
المصدر: مجلة العصر
http://alasr.me/articles/view/10524