عندما نقول الأنثروبولوجيا ما الذي نعنيه بها ؟!
من الناحية الإبستمولوجية ، هناك وجهتين : واحدة تدّعي وجود حقيقة عيانية خارجية موضوعية ! وأخرى تنفيها !
ويتفرع عن هاتين الوجهتين نظريات مختلفة ، تجادل بكون المجتمع (أو الثقافة) لها وجود واقعي أم لا !
وهذا يعني أنها موجود خارجي بمعزل عن الذات الملاحِظة ! بمعزل عن الفاعل الإجتماعي ! وهذا يوصل إلى أن للمجتمع كينونة منفصلة عني كذات ، عايشته أم لم أعايشه ! وسيجد البعض أن هذا القول أقرب إلى “الحقيقة” ! لكن وجهة النظر الثانية قوية الحجة ، وهي لا تعترف بوجود خارجي ، بل كله إسقاط من الذات الواعية الملاحِظة !
نتج عن هذه الوجهة ، نظريات وأفكار مهمة ، توحي بأن المجتمع كحقيقة هو حقيقة الفاعلين المتفاعلين ، فنحن في تفاعلنا معاً نخلق واقعنا الخاص الذاتي ، هو ذاتي لأنه مرتبط بتفاعلنا ، ونتاج له ! على عكس الوجهة الأولى التي تراه موجوداً بغض النظر عن الفاعلين وتفاعلهم !
هذا الإفتراق الأول ، أو منشأ الخلاف الأول .
ينبني عليه وجهتي نظر في التوصيف !
الأولى ترى إمكانية التوصيف بموضوعية ، بإعتبار أن الحقيقة خارجية ، فأنا وأنت وهو نرى واقعاً (ووجوداً) واحداً ، ولذا نقدر على توصيفه بموضوعية ، ونقل هذه التجربة لآخر لم يلاحِظ !
وسيكون النقل (إذا إلتزم بالموضوعية) دقيقاً ، وسيشعر المتلقي بأن ما نوصّفه ملموس ! للتوضيح : سنقول أن فلان طوله 180 سم ، بينما معدل المجتمع المحلي 170 سم ، هذا يعني أنه أطول من المعدل ! إذ أن تعبير طويل دون الرقم ، لا توحي بفهم حقيقي ، حيث أن الطول أمر نسبي متعلق بالذات (وثقافتها) ! كما أن الرقم مفرداً دون معياره الثقافي سيبقى منقوصاً ، فلو قلت أن فلان طوله 180 سم ، وسكتّ عن معدل المجتمع المحلي ، قد أعتبره بمعيار ثقافتي قصيراً – إذا كان معدل مجتمعي المحلي 190 سم – !
الوجهة الثانية ، الملتزمة بالحقيقة الذاتية ، تنظّر بأن «الجمال في عين الرائي» ، فلا يعني الطول (كمياً) شيئاً ! بل مقدار ما ينبني عليه ضمن تفاعلنا حقائق تشكل طريقتنا في التصرف ، وسلوكنا ! هذا يعني وإن كان طولك أكثر من المعدّل العام ، فهذا لا يعني شيئاً لك ، بمقدار ما تشعر به كحقيقة ذاتية ! وأبرز مثال للتوضيح هو متلازمة البطة القبيحة ! فهي كحقيقة موضوعية خارجية جميلة ، لكن معنى الجمال ذاتياً مغيب ! وسلوكها لم يعتمد على الحقيقة الملاحَظة من الجميع قدر ما إعتمد على حقيقة ذاتية مرتبطة بطبيعة التفاعل بينها وبين الآخرين !
هذا يعني – بالنسبة لهذه الوجهة – أن التوصيف الموضوعي قد لا يعني شيئاً لمن يعيشه [كما لم يعنِ الجمال الموضوعي شيئاً لحامله ما دامت صورته عن ذاته مشوهة] ، ونحتاج دوماً لأن نعرف طبيعة الحقيقة الذاتية التي يبنيها التفاعل !
منشأ الخلاف الثاني هو في مرحلة ما بعد التوصيف !
في المثال السابق ، ذكرت أنه لا بد من تلازم رقمين لكي نفهم السياق ونعايره ! طول الفاعل ومعدّل المجتمع المحلي ! لكن هذا ينطبق على مسائل محدودة ! ومعايرته تحتاج إلى معرفة سياق ثقافة الواصف كما المتلقي !
وبغض النظر عن تشدّد السلوكيين ، فإن السلوك لا يحوي مظهراً فقط ، بل يكمن فيه تفاعل مرتبط بمعرفة وخيارات ! وهي لا تتحدّد بمقدار نقرات الإعجاب لعدد من الصفحات الفيسبوكية – كما أتحفتنا دراسة مؤخراً – !
الوجهة الأولى المؤمنة بالحقيقة الخارجية ، تضطر إلى توصيف كمي ، لا يحوي سوى جزء من الحقيقة ، وتعمد إلى توسيع رقعته ، كي تضمن فهماً أفضل !
هذا مع إقتناعها بأن الواصف ذات ! تتفاعل مع ذوات ! فينبني على تفاعلهم حقائق تبدو موضوعية وهي متخيّلة ! وتلاعُب الذاكرة هنا مفهوم للسيكولوجيين !
الموضوعية ممكنة عندما ينخفض التفاعل إلى حدوده الدنيا ! وهذا ممكن بين ذات واعية وجماد ! لذا تُعتمد التكرارية كشرط أساسي لتأكيد نتيجة التجربة المعملية ! وهي عصية على الذوات الفاعلة المتفاعلة !
وإذا سلّمت الوجهة الثانية بكون الموضوعية شرط التوصيف الأساسي (على أساس خارجية الموصوف) ، إلا أنها تتوقف لديها هنا ! إذ لا إمكانية للتحليل الموضوعي ! بل تعتبره نتاج ضعف المؤسسين أمام العلوم الطبيعية !
هو قصر نظر ، مستمر ، في مطّ ثوب العلم “الطبيعي” عساه يغطي “الإنسانيات” وهو لا يساهم سوى بكشف عوراتها !
الوجهة الأولى ، تلتزم بَعد التوصيف تحليلاً ذا حيادية منهجية ، وهذا غير مختلف عليه بين الوجهتين ! فالحيادية تعني ألا تلوي عنق النتائج لتناسب أغراضك ، أدلوجتك ، فرضياتك ، أو أهدافك السياسية ! وهذا واقعاً – في عالم البحث – قليلاً ما يحصل ! خصوصاً إذا كانت الأبحاث (من الأساس) أبحاثاً موجّهة تخدم الأجندة الإستعمارية ! وكمّ المغالطات التي فنّدها الراحل إدوارد سعيد في كتابه الإستشراق توضّح المقصود .
إن إستخدام فرضيات مسبقة ضمن الأنثروبولوجيا ، يرتبط بالنشأة الإستعمارية لهذا الإختصاص ! فالمستعمِر إستخدمها لتبرير سيطرته وعنصريته ، كما لتأكيد تفوق ثقافته عبر تفكيك ثقافة المستضعف ، إبادتها ، أو هجرها ! وهو نجح في تحقيق هذا إلى حدٍ كبير عند الشعوب المستعمَرة التي إلتزم البعض منها عنه (من جماعة المثقفين) عملية جلد الذات وتهميش تاريخها ، وتحقير ذاتها ! ما أطلق عليه “الهنود الحمر” مصطلح التفاح الأحمر ، أحمر من الخارج (كأنه واحد منا) أبيض من الداخل (يستبطن دونية تدفعه لإحتقار أبناء جلدته فيكون أسوء عليهم من الأبيض) !
المرحلة التحليلة إذن ، تختلف بين الوجهتين ، بين من يعتبرها ذاتية منبنية على تفاعل – لذا هي نسبية – ، وبين من يعتبرها موضوعية قادرة على إستبطان فهم أعمق ، ومن ثم – وهذا هو الأخطر – كشف العوامل وتفسير المسبّبات ، فيصبح الفهم الخاص للمحلِّل هو حقيقة المحلَّلين !!
وكأن تحليل ما خفي ، الذي إنبنى على تفاعل ، هو حقيقة موضوعية خارجية أيضاً غير مرتبطة بالذات – لذا هي حقيقية – وهذه معضلة لم يجد لها أصحابها حلاً !
هذا على صعيد المنشأ النظري !
أما إذا أردنا تعريفها ، فسنقول أنها تدرس الإنسان كتاريخ وتطور ، كطبيعة ووراثة ، كنفس وجماعة !
- التاريخ الإنساني منذ بداياته الأحفورية (والكتابية) ، والتطور الذي يعتمد التناغم لا الصراع !
- الطبيعة من حيث البيئة الجغرافية والمناخية، والوراثة من حيث التلاقح الجيني بين مجموعات مختلفة (سيستتبعه لا بد ، تلاقح ثقافي)
- النفس كذات منفردة باحثة عن معنى وجودها، وجماعة تجد في إجتماعها ذاتها !
الأنثروبولوجيا من هذا المنطلق ترتكز على صيغة التكامل مع البيئة ، فالإنسان هو مجرد حلقة ضمن حلقاتها ، يمارس تأثيره على البيئة كما ينفعل بها ، كأي كائن آخر !
هي أنثروبولوجيا واعية للحدود ! واعية للقدرات البشرية ! هي أنثروبولوجيا تناغمية لا صراعية .
وجوهر الأنثروبولوجيا هو فهم الذات كآخر ومن خلاله ! لذا تشترط المقارنة ، فبدونها لا يمكن تحديد مكانة ، ولا فهم دور ، ولا تأثير ثقافة ! هي مقارنة ضرورية ، ليس لوضع الآخر في مواجهة ، بل لعقد تعارف معه فتآلف ! إذ تعتبر (هكذا أنثروبولوجيا) أن الإختلاف ضرورة لا عائقاً أو عقبة .
إذ لا يكفي أن ندرس الإنسان من منظور ثقافي – إجتماعي – إقتصادي ، ونرى نتاجاته المادية وغير المادية ! بل لا بد أن نرى تفاعله تكامله وتعارفه (صراعه وتناكره) مع الموئل ، ومع الآخرين !
الأنثروبولوجيا إذن ، تشدّد على قيمة الإنسان كإنسان ، يستحق أن يتم التعرف إليه ، وفهم حقيقة المجتمع الذي يعيش !
هي أنثروبولوجيا تحوي شرط الإنسانية لا شرط العنصرية والتفوق !
إن الباحث الأنثروبولوجي يعيش في المجتمع المحلي ، ويستبطنه كثقافة ، مما يؤمن له رؤية ذاتية إنطباعية ضرورية لفهم المتخيّل !
فالباحث بمعايشته ، يكتشف المعاني التي يُفرغها الناس على واقعهم وحياتهم وهذا ما يشكل المادة البحثية ! إذ أن حالة الإنغماس (والحيرة) التي يعيشها الباحث الأنثروبولوجي هي ما يعطي بحثه طابعه الخاص ! ومنها يقدر على تقديم فهم لذاته ومعنى لوجوده !
لذا (وربطاً بما سبق) لا يمكن تحقيق القفزة المعرفية إلا عبر الإندماج الكامل ، وإلا فسيبقى هو هو ! وسيكون تأثيره المجتمعي ظرفياً ومحدوداً ! بينما يعايش “المندمج” الإختلاف ، ويعمد إلى تغيير الواقع عبر تفعيله وشحنه إيجابياً للحراك .
لكي تكون أنثروبولوجياً بهذا المعنى الخاص ، عليك أن تعيش الإندماج ، وتقبل فكرة الذاتية ، فلربما تنجح عندها في إضفاء لون على الحياة !