د. طيبات لمير
جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية – قسنطينة
العنف ظاهرة شائعة في كثير من المجتمعات، إذ اصبحت مشكلة تؤرّق الجميع، يتطلب الأمر الإهتمام بها، و من باب تظاهر الجهود، و استكمالا لدراسات العلماء و الخبراء في ميدان علوم النفس و الاجتماع و السلوك لتشخيص الظاهرة و تفسيرها و علاجها، فإنه من الأهمية بمكان دراسة هذه الظاهرة من وجهة تأصيلية دينية (إسلامية). فما هو العنف ؟ وما هي أسبابه الأساسية ؟ وهل يمكن علاجه ؟
سنجيب عن هذه الأسئلة من خلال استنطاق النصوص الدينية الإسلامية، وإيراد أقوال علماء الإسلام في هذه المسألة.
العنف ضد الرفق([1])، كما أن الرفق ضد العنف، وهو لين الجانب و لطافة القول والفعل([1]) فاالفظاظة والخشونة والغلظة والقساوة في الطبع و القول والمعاملة والفعل هي صفات الإنسان العنيف.
الإسلام و الرفق :
من الضروري أن نطلّ على نظرة الإسلام لمفهومي العنف والرفق لنحدّد موقعهما في الحياة وفق الرؤية الإسلامية، و غير خفيّ أن الرفق قيمة كبرى يريدنا الإسلام أن نحملها في قلوبنا و نجسدها على أرض الواقع، يقول رسول الله (ص) : “إن الله رفيق يحب الرفق و يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف”([1]) و قال أيضا : “الرفق لم يوضع على شيء إلاّ زانه و لم ينزع من شيء إلاّ شانه”([1]).
و لن يستطيع الإنسان بلوغ غاياته بدون إنتهاج سبيل الرفق، وهل انتشر الإسلام إلاّ بثقافة الرفق و لغة المحبة ؟ وهل دخل رسول الله (ص) قلوب الناس لو لم يكن رحمة شاملة ومهداة لهم جميعا ؟!
وقد غدا الحديث عن رحابة الإسلام وأنه دين المحبة والرفق حديثا استهلاكيا، وآن الأوان أن نخرج من لغة التعميمات وطوباوية الكلمات وضبابيتها وندخل في التفاصيل والجزئيات وننزل إلى أرض الواقع و ننشر ثقافة الرحمة، ونبرهن على أن الرفق ليس مجرد قيمة متسامية
وشعار عريض نزيّن به ساحاتنا ونردده في البروج العاجية، بل إنه سلوك ومنهج حياة ينبغي أن يحكم كل مرافق الحياة ومختلف الدوائر الإنسانية العامة والخاصة، وأنه من جهة أخرى محميّ بتشريعات قوانين تكفل تطبيقه وتمنع تجاوزه، آن الأوان لننقذ الرحمة نفسها من نصال العنف و أنيابه المتوحشة، لأنّ الضحية الكبرى لمنطق العنف هو غياب قيمة الرحمة نفسها و تلاشيها.
الرفق منهج حياة :
أمّا الجانب الأول : وهو أن الرفق ليس مجرد شعارات عامة نطلقها بل هو سلوك يفترض أن يحكم كل الدوائر الإنسانية فهذا ما تسعفنا النصوص و التعاليم الإسلامية لإثباته بشكل واضح، حيث نجدها تؤكد : أن العلاقات الإنسانية برمتها لابدّ أن تتحرك على أساس الرفق لا العنف، فالعلاقة بين المرء وزوجته عمادها المحبة والرحمة ) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً… (([1]) ، وكذلك العلاقة بين الولد و والديه ) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ…(([1]).
و لو خرجنا من دائرة الأسرة إلى دائرة الأرحام و الجيران والاخوان، سنجد الدعوة واضحة إلى أن يكون الرفق منهاج حياتنا، فعن رسول الله (ص) : “الراحمون يرحمهم الرحمان، إرحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء”([1])، و قد وصف الله المؤمنين بأنهم ) أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ (([1]).
والحاكم المسؤول لا بدّ أن ينتهج أسلوب الرفق مع الأمة ) فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ (([1]).
ولا بدّ أن تمتد حبال المودة و سياسة الرفق إلى الآخر الذي يختلف معك في الدين، قال تعالى : ) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ(([1]).
أنواع العنف :
العنف اللفظي :
تتفشى في مجتماعاتنا الإسلامية وغيرها عادة سيئة غدت تشكل ظاهرة عامة وذهنية راسخة، هي ظاهرة السب والشتم، فأتباع هذا الدين يسبّون أتباع الدين الآخر أو مقدساتهم وأتباع هذا المذهب يسبّون أتباع المذهب الآخر أو مقدساتهم وجماعة هذا الحزب يشتمون جماعة الحزب الآخر، والزوج يشتم زوجته، والأب إبنه والأخ أخاه والأستاذ تلميذه والمدير يشتم الموظف العادي وهكذا، فالكل يشتم الكل وإذا لم يجد البعض من يشتمه من الناس فإنه يتجرأ على سب الله جل وعلا أو أنبيائه و أوليائه أو بعض مخلوقاته ؟.. و من العنف اللفظي الخطابات السياسية المهيجة و المحرضة ضد الآخرين.
وهذه الظاهرة تحتاج إلى دراسة متأنية للوقوف على أسبابها ثم كيفية علاجها والموقف الإسلامي منها، وفيما يلي نحاول أن نسلط الأضواء على هذا الموضوع الهام من الناحية الاجتماعية و الرسالية.
معنى السب :
السب أو الشتم هو عبارة عن توصيف الآخر بما فيه نقص وإزراء بقصد إهانته، كوصفه بالحقير والوضيع، و الظلامي والرجعي أو الكلب والخنزير والكافر والمرتد والخائن والملعون والفاجر إلى غير ذلك من كلمات السباب التي نستهلكها وإذا لم تسعفنا القواميس العربية بها –رغم وفرتها- إستوردنا من اللغات الأخرى شتائمها.
ومن أسباب ذلك :
- 1. العامل النفسي : و هو الحقد و الحسد و الضغينة التي قد يحملها الإنسان في قلبه تجاه الآخر، فالحاقد سوف يترجم حقده ولو بشكل غير شعوري إلى شتائم وسباب للمحقود عليه فإنه “ما أضمر أحدّ شيئا إلاّ ظهر في فلتات لسانه و صفحات وجهه”.
- 2. العامل الفكري : وهو ضعف الحجة و البرهان فإن ذلك يدفع صاحبه إلى شتم الآخر وسبه إيحاء منه لنفسه وللآخرين بأنه قوي في الجدال و المناظرة. لكن هذا العامل لا يبتعد كثيرا عن العامل النفسي لأن ضعف الحجة يستثير غضب الإنسان و حنقه و يدفعه إلى الشتم.
3 و 4. العامل الاجتماعي و السياسي : ويتمثل ذلك بالفقرو القهر فإن الفقر الاقتصادي أو القهر السياسي يملآن النفوس غضبا وحنقا وإذا لم يجدا متنفسا فإنهما سيتفجران و يعبران عن نفسيهما بكلمات الشتائم و السباب..
ولهذا فإن ظاهرة السباب تعكس في طياتها الانحطاط الأخلاقي والفقر الاقتصادي والقهر السياسي وضعف الحجة والبرهان لأن الإنسان السويّ خلقيا والقوي ماديا وسياسيا وفكريا لا يحتاج إلى كل كلمات الشتم و قواميسه.
العنف الفكري :
هناك سبب آخر يسهم في ظهور التطرف والعنف الفكري الذي يؤدي إلى أنواع العنف الأخرى وهو سوء الفهم للنص الديني، وهي ظاهرة شائعة في كل الأديان، وهي تؤدي إلى عقليات صدامية تكفيرية ضيقة تحكم على الآخر دون أن تفهمه و تستعديه دون موجب أو مبرر، وتقوّله ما لا يقول وتحمله ما لا يحمل، فما المراد بسوء الفهم وما هي مناشئه و مخاطره ؟
إن ما نعنيه بسوء الفهم أو عجمته عجز الشخص عن إدراك النصوص –دينية أو بشرية- و فهمها على حقيقتها فضلا عن إدراك أبعادها ومراميها، و يأتي فهمه مبتورا وحكمه منقوصا و خاطئا، لأن الحكم الصحيح على الشيء فرع تصوره وفهمه، وسوء الفهم يعود : إمّا إلى حالة السفه الفكري والنظرة السطحية للأمور، أو لإفتقاد الرؤية المتكاملة والشمولية عن الدين و دوره في الحياة، أو لإعوجاج في السليقة و الذائقة الفقهية التي تتعاملمع النصوص و تستنطقها، أو لعدم الإلمام الكافي بالقواعد اللغوية والفقهية والأصولية المعدّة لفهم النصوص واستنطاقها والموازنة بينها وملاحظة عامها وخاصّها، ناسخها ومنسوخها، ومحكمها و متشابهها، مكّيها و مدنيها.
وإن افتقاد الرؤية المتكاملة والذوق الفقهي وآليات الاستنباط وقواعده معناه افتقاد المنهج السوي في التفكير والاستنباط، وليس مجرد وقوع الشخص في اجتهادات خاطئة في بعض المفردات، كما أن لذلك انعكاسات كبيرة و آثار خطيرة على الواقع الإسلامي برمّمته وعلى قدرة الإسلام على استيعاب المستجدات و الاستجابة لمتطلبات الحياة المتغيرة، فعندما يقود الفهم الخاطئ –مثلا- بعض الناس إلى أن يفهموا من قوله تعالى : ) أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ( أنه مختص بالعقود المتعارفة زمن نزول الآية ولا يشمل العقود المستحدثة، إن ذلك يعطي انطباعا عن الدين بأنه جاء لمعالجة مشاكل ابن الصحراء، و يريد للحياة أن ترجع إلى الوراء و تجمد على الماضي، و لذا حذر بعض أعاظم الفقهاء من هذه العجمة في الفهم قائلا : “ولا أظن يختلج ببال أحد من العرف العارف باللسـان العـاري الذهـن مـن الوسـواس أن قولـه تعالـى : ) أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ (، الوارد في مقام التقنين المستمر إلى يوم القيامة، منحصر في العهود المعمول بها في ذلك الزمان، فإن مثل هذا الجمود مستلزم للخروج عن دائرة الفقه بل عن ربقة الدين نعوذ بالله من ذلك”([1]).
العنف البدني :
ويشمل التحرش البدني والضرب والاعتقال والحبس والتعذيب والقتل والتمثيل، والتجويع.
من المبادئ الإسلامية الهامة على المستوى الإنساني مبدأ عصمة الدماء والنفوس والأعراض، والحديث عن هذا المبدأ يكتسب أهمية خاصة في وقتنا الراهن، ذلك أن الأخبار ووسائل الإعلام لا تزال تفاجئنا بين الفينة والأخرى بأخبار ومشاهد مروعة عن أعمال عنف تتسم بالوحشية المفرطة تنسب إلى أطراف كثيرة من العالم
محقونية الدماء :
إن القاعدة الأساسية في الإسلام هي محقونية الدماء وعصمتها مع غضّ النظر عن هوية أصحابها المذهبية والدينية، لأن القتل و سفك الدماء قبيح في شريعة العقل والعقلاء باعتباره مصداقا واضحا للظلم وهو مما استقل العقل بقبحه، وأمّا في شريعة السماء فإن حفظ النفوس من أهم المقاصد التي هدفت الشريعة إلى تحقيقها، ولذا اعتبر الله سبحانه أن قتل نفس واحدة تعادل قتل البشر جميعا و أن إحياءها يعادل إحياءهم جميعا ) مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً (([1]).
يلاحظ أن الآية لم تضف أي قيد على النفس التي يحرم قتلها مثل قيد الإسلام أو الإيمان، في دلالة واضحة على أن عصمة الدماء تتجاوز كل الأطر الدينية أو غيرها، وإذا كانت بعض الروايات أضافت قيد المسلم أو المؤمن على النفس التي يحرم قتلها، كما في قوله (ص) –في رواية ابن عمر– “من أعان على دم امرئ مسلم بشطر كلمة كتب بين عينيه يوم القيامة : آيس من رحمة الله”([1]) فإن ذلك خاضع لظروف الكلام ومناسبة قوله، و لا دلالة فيه على نفي العصمة عن دم غير المسلم، ومن هنا ورد في الروايات الكثيرة الأخرى التأكيد على حرمة غير المسلم و عصمة دمه، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص عنه (ص) “من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة و إن ريحها يوجد من مسيرة أربعين عاما”([1]).
وتبقى إباحة القتل في بعض الموارد استثناء تجوّزه بعض الضرورات الإنسانية وتفرضه المصالح النوعية النظامية، من قبيل القتل قصاصا أو دفاعا عن النفس أو قتل المفسد في الأرض أو غير ذلك، و قد أشارت الآية أعلاه إلى موردين من هذه الموارد.
أصالة الاحتياط في الدماء :
ولمزيد من الاهتمام بالنفس الإنسانية وردت في النصوص الإسلامية تحذيرات شديدة اللهجة بشأن الإقدام على سفك الدماء و الاستهانة بالأرواح و الإعانة على الجريمة ولو بشطر كلمة، ففي الحديث عن ابن عمر قال : قال رسول الله (ص) : “إنّ من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حله”([1]).
وعنه (ص) : “لزوال الدنيا أهون على الله من دم يسفك بغير حق”([1]).
وانطلاقا من هذه النصوص وغيرها أسّس الفقهاء قاعدة خاصة في باب النفوس والدماء، هي قاعدة الاحتياط، خلافا للقاعدة العامة المحكّمة في أكثر الأبواب الفقهية وهي قاعدة البراءة والإباحة، ومفاد الاحتياط هنا : أن أدنى شبهة كفيلة بحقن دم الإنسان ولو كان قاتلا أو متهما بالقتل.
إن ذلك كلّه لا بدّ أن يؤسّس لذهنية إسلامية تتورع عن سفك الدماء وتتجنب الخوض في كل ما يؤدي أو يعين على سفكها بغير حق.
درأ الحدود بالشبهات :
إلى ذلك ثمة قاعدة شرعية أخرى تصب في نفس الاتجاه، وهي قاعدة “درأ الحدود بالشبهات”، وهي قاعدة مستالم عليها لدى فقهاء المسلمين([1])، والأصل فيها ما وردعنه (ص) : “أدرأوا الحدود بالشبهات([1])، ومؤداها : أن إقامة الحد منوطة بعدم وجود شبهة في البيّن، و من الأمثلة الواضحة لذلك ما يرتبط بمقامنا :
فقد أفادوا أنه لو نطق شخص بكلمة الكفر و ظنّ أنه قالها مكرها أو مشتبها، فيسقط الحد عنه و لا يكفّر، لأن الحدود مبنيّة على التخفيف، و هكذا لو صدر القتل من شخص لكن التحقيقات القضائية لم توصل القاضي إلى قناعة بأنه قام بالقتل العمد، بل احتمل قويا أن يكون ذلك شبهة أو دفاعا عن النفس، فلا يصار إلى القصاص منه.
قتل المسلم و ترويعه !
قال تعالى : ) وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً(([1]).
وعنه (ص) : “كل المسلم على المسلم حرام ماله و عرضه و دمه، حسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم”([1])، وقد نه (ص) عن ترويع المؤمن وتخويفه، ففي الحديث عنه (ص) : “من روّع مؤمنا لم يؤمن الله روعته يوم القيامة…” ([1]) واعتبر (ص) : أن حرمة المؤمن هي قدس الأقداس وليس فوقها حرمة ولذا تراه يقول مخاطبا الكعبة : “ما أطيبك و أطيب ريحك ! ما أعظمك و أعظم حرمتك ! و الذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك، ماله و دمه و أن يظن به إلاّ خيرا”([1]).
إن القواعد الآنفة حول عصمة الدماء و الأعراض هي أسس قانونية لا بد من مراعاتها في حال السلم، أمّا في حالة الحرب التي تفرض على المسلمين و تؤدي إلى انتهاك حرماتهم واحتلال ديارهم وتهجيرهم واستلاب خيراتهم، فتختلف الصورة وتتبدل الأحكام ويصبح من حق المسلم بل واجبه أن يدافع عن نفسه، و يواجه الاحتلال و يقاومه مقاومة الشرفاء ويقاتله دون تهاون أ هوادة، لكن رغم ذلك فإن للحرب في الإسلام ضوابط وأخلاقيات كثيرة تقيّد حركة المجاهد المسلم ويمنع من تجاوزها و إلاّ فقد أجره ولم يعد مجاهدا في سبيل الله([1]).
أسباب العنف :
1. الظلم
قال تعالى : ) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (([1]). إن الدولة الكافرة قد تكون عادلة بمعنى أن حكامها لا يظلمون الناس والناس أنفسهم لا يتظالمون فيما بينهم، فهذه الدولة مع كفرها تبقى، إذ ليس من سنّته تعالى إهلاك الدولة بكفرها فقط، ولكن إذا انضم إلى كفرها ظلم حكامها للرعية و تظالم الناس فيما بينهم، و بهذا قال المفسرون وأهل العلم. قال الإمام الرازي في تفسيره “إن المراد من الظلم في هذه الآية الشرك. والمعنى أن الله تعالى لا يهلك أهل القرى بمجرد كونهم مشركين، إذا كانوا مصلحين في المعاملات فيما بينهم يعامل بعضهم بعضا على الصلاح، و عدم الفساد”([1]).
وفي تفسير القرطبي قوله تعالى : ) بِظُلْمٍ ( أي بشرك و كفر ) وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ( أي فيما بينهم في تعاطي الحقوق. ومعنى الآية : إن الله تعالى لم يكن ليهلكهم بالكفر وحده حتى ينضاف إليه الفساد كما أهلك قوم شعيب ببخس المكيال و الميزان وقوم لوط باللواط([1]).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : “وأمور الناس إنما تستقيم في الدنيا مع العدل الذي قد يكون فيه الاشتراك في بعض أنواع الإثم أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم تشترك في إثم، ولهذا قيل : إن الله يقيم الدلة العادلة وإن كانت كافرة،ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة. ويقال : الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والإسلام. وذلك أن العدل نظام كل شيء فإذا أقيم أمر الدنيا بالعدل قامت وإن لم يكن لصاحبها من خلاق –أي في الآخرة– وإن لم تقم بالعدل لم تقم وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزى به الآخرة”([1]).
فتطبيق القانون على الجميع وبالسوية وبدون محاباة يبعث الطمأنينة في النفوس، ويجعل الضعيف المحق يوقن بأنه في مأمن من ظلم القوي، لأن الدولة معه ممثلة بقانونها الذي تطبقه محاكمها بعدل وبجدية وعلى الجميع وبدون محاباة لأحد، ومن كانت معه الدولة وقانونها فهو أقوى من غيره مهما كان هذا الغير ذا نفوذ و جاه و سلطان.
فإذا اختل هذا الوضع فلم يطبق القانون على الجميع أخذت المحاباة تفعل فعلها وهي التي يأخذ بها الحاكم، كان ذلك من الظلم الذي تباشره الدولة أو تعين على وقوعه أو تسكت عنه فلا تمنعه، فتتلبس الدولة بالظلم و تغشاها ظلمته فيقوم فيها سبب الهلاك فتهلك، هذا ما حذرنا منه رسول الله (ص)، فقد جاء في الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أن قريشا أهمها شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا من يكلم فيها رسول الله (ص) ؟ فقالوا من يجترئ عليه إلاّ أسامة بن زيد حبّ رسول الله (ص). فكلمه فيها فتلوّن وجه رسول الله (ص) و قال : أتشفع ف يحدّ من حدود الله ؟ فقال له أسامة : استغفر لي يا رسول الله.
فلما كان العشي قام رسول الله (ص) فاختطب فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال : أما بعد : فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدّ، وإني و الذي نفسي بيده لو أنّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها. ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها([1]).
وجاء في شرحه : وفيه ترك المحاباة في إقامة الحدّ على من وجب عليه و لو كان ولدا أو قريبا أو كبير القدر و التشديد في ذلك و الإنكار على من رخّص فيه([1]).
فالمحاباة في تطبيق القانون ظلم تقوم به الدولة أو تعين عليه، وكان المأمول أن تمنع الدولة الظلم و تحمي المظلومين و تعاقب الظالمين..
واشد الظلم و أوجعه ما جاءك ممن واجبه أن يحميك..
وهذا الظلم و غيره من أنواعه المشينة، إذا قامت به الدولة أو تسترت عليه أو أعانت عليه، فسيترك أثرا بليغا في نفوس المواطنين يتمثل بخيبة أملهم في الدولة و زعزة ثقتهم بها.. وتسلمهم هذه الحالة إلى حالة عدم الاهتمام بالدولة وضعف الولاء لها وعدم الحرص على بقائها ولا الدفاع عنها.. وتسلمهم هذه الحالة إلى حالة أسوأ منها وهي رغبتهم في هلاكها واضمحلالها و لو باستيلاء الغير عليها ولو كان من أعدائها.. ولسان حالهم يقول في تبرير رغبتهم هذه : إن الدولة لم تعد لنا البيت الكبير الذي نجد فيه الأمن والأمان والحماية والطمأنينة على حقوقنا وعدم اعتداء الظالمين عليها..
وإذا استمر الظلم و انتشر وشاع بفعل الدولة أو بتسترها عليه وعدم منعها له وتغافلها عنه فإن الأمر يؤول بالناس المظلومين والمنتصرين لهم من أقارب وأصدقاء إلى معاونة الأعداء على تهديم الدولة التي صارت في نظرهم عدوّا لهم.. إن ما أقوله ليس تبريرا لفعل المظلومين وإنما هو وصف لواقعهم الذي صاروا إليه بسبب الظلم الذي توقعه الدولة أو تعين الظالمين على وقوعه أو لا تمنع وقوعه مع قدرتها على المنع.
ومن أثار الظلم الذي يجعل في هلاك الدولة الظالمة خراب البلاد اقتصاديا وعمرانيا لزهد الناس في العمل و الإنتاج، وسعيهم الدائم إلى الفرار والخروج منها. وكل هذا يؤثر في قوة الدولة اقتصاديا وعسكريا و يقلل مواردها المالية التي كان يمكن أن تنفقها على إعداد قوتها في مختلف المجالات، مما يجعل الدولة ضعيفة أمام أعدائها الخارجيين وإن بقيت قوية طاغية على مواطنيها الضعفاء المساكين المظلومين.. وكل هذا يؤدي إلى إغراء أعدائها من الدول القوية لتهجم عليها و تستولي عليها أو على بعض أقاليمها أو إلحاق الأذى والضرر بها مما يعجل في هلاكها([1]).
وقد أشار علماؤنا رحمهم الله تعالى إلى أثر الظلم في خراب البلاد، ففي تفسير القرطبي قوله رحمه الله : “فإن الجور و الظلم يخرّب البلاد بقتل أهلها و انجلائهم منها، و ترفع من الأرض البركة”([1]). وفي تفسير الآلوسي : “و روي عن ابن عباس أنه قال : أجد في كتاب الله تعالى أن الظلم يخرب البيوت، و قرأ قوله تعالى : ) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (([1]).
2. التطرف الفكري : (يراجع العنف الفكري).
علاج ظاهرة العنف :
1.علاج الظلم :
القضاء على العنف كفيل بالقضاء على أسبابه.
في القرآن الكريم آيات كثيرة صريحة في تحريم الظلم بذكر اسمه، وآيات كثيرة في تحريم الظلم بصورة غير مباشرة و ذلك بالأمر بالعدل لأن الأمر بالعدل نهي عن الظلم فمن ذلك قوله تعالى : ) إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ (، هكذا أمرا مطلقا بالعدل بكل ما هو عدل ولكل إنسان فلا يجوز ظلمه ولو كان كافرا أو ظالما، قال شيخ الإسلام ابن تيمية : “ولهذا كان العدل أمرا واجبا في كل شيء و على كل أحد و الظلم محرما في كل شيء و لكل أحد فلا يحل ظلم أحد أصلا سواء كان مسلما أو كافرا أو كان ظالما، قال تعالى : ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى(، و معنى شنآن قوم أي بغض قوم و هم الكفار”([1]).
وقال ابن تيمية أيضا : “لأنه –أي العدل- هو الذي أنزلت به الكتب وأرسل به الرسل– وضده الظلم وهو محرّم كما جاء في الحديث القدسي كما يرويه النبي (ص) عن ربه : “يا عبادي إني حرّمت الظلم على نفسي و جعلته بينكم محرما فلا تظالموا”([1]).
وإذا كان الظلم سببا في هلاك الأمة فمن الواجب شرعا الإنكار على الظالم ومنعه من الظلم وعدم الاستكانة له ولا الركون إليه و بهذا تنجو الأمة مما قد يحل بها من عقاب أو هلاك بسبب الظلم الواقع فيها. ونتكلم فيما يلي عن سبل الوقاية من الظلم و عقابه.
أخرج الترمذي في جامعه عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال : “يأيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية : ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ(، وإني سمعت رسول الله (ص) يقول : إن الناس إذا رأوا ظالما فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم بعقاب منه”.
وجاء في شرحه : “أي إذا لم يمنعوه عن ظلمه مع القدرة على منعه أن يعمهم الله بعقاب منه أي بنوع من العذاب”([1]).
ومن الواضح أن الظالم الواجب منعه من الظلم والإنكار عليه يشمل الحاكم الظالم وغيره من الظلمة، كما أن العذاب أو العقاب الذي يعمهم قد يكون به هلاك الأمة، وقد يكون بما دون الهلاك.
2.علاج التطرف الفكري :
لمعالجة هذه الظاهرة يجب معرفة منطلقاته كمقدمة ضرورية لمعالجتها و التخلص منها، فربما كانت الأجواء الاقتصادية والأمنية و السياسية مؤثرة في نمو الأفكار التكفيرية،وطريق المعالجة في هذه الحالة ينحصر برفع تلك الموانع وازالة تلك الأسباب، وأمّا لو كانت أسباب التكفير ثقافية، والمشكلة هنا صعبة وعلاجها أشد صعوبة، ففي هذه الحالة يكون لزاما علينا مواجهة الفكر التكفيري ومقارعته بالحجة والبرهان لا بالسجن والسنان، لأن دروس التاريخ علمتنا أن السيف يقمع و لا يقنع و السجن يعالج المشكلة من الخارج لا من الداخل.
لذا، فإن المطلوب إحداث زلزال في البنى التحتية والركائز الأساسية للفكر التكفيري باثبات وهنه من الناحية الإسلامية وابتعاده عن أسس الشرعية الدينية، هكذا يتم تجفيف منابع الإرهاب والتطرف لا بأسلوب العنف وملاحقة الأشخاص لمجرد ميولهم الإسلامية أو انتسابهم إلى بعض الحركات السلفية وقمعهم وزجهم في زنازين المعتقلات، لأن ذلك سيزيد من ضراوتهم و يحوّلهم إلى قنابل موقوته.
تعزيز ثقافة التسامح :
والخطوة الثالثة في هذا السبيل هي تعزيز ثقافة التسامح و نشر رسالة المحبة والتأكيد على احترام الآخر في نفسه وماله وعرضه، ورعاية حقوقه و حفظ إنسانيته وكف الأذى عنه ما دام لا يتحرك بالظلم والعدوان قال تعالى : ) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (([1]).
وأخال أن أهم قيمة يجدر بنا التبشير بها والدعوة إليها بعد تأصيلها وتنظيمها هي “حق الاختلاف” بين بني البشر، لأن التكفير ينبت وينمو في أجواء القمع والاستبداد ويتحرك في ظل أحادية الرأي والفهم التي يراد فرضها على الآخرين ومصادرة حقهم في الاختلاف.
العنف بين المشروعية و اللامشروعية
إن كل أنواع العنف التي حرمها الإسلام سابقا هي عنف لا مشروع، عنف سلبي هدام، تعلق بالفرد، الأسرة، الجماعة أو الدولة، فهو من قبيل الاعتداء والظلم والترويع والترهيب بغير حق.
و صاحبه آثم معاقب عند الله.
أمّا العنف المشروع فهو عنف الدفاع عن النفس و المال والعرض والوطن كجهاد الغزاة المستعمرين أعداء الدين والوطن. فهذا الصنف من العنف مأمورية شرعا، والنصوص الدينية في هذا المجال أكثر من أن تحصر. لأن من عوامل النصر والعزة الجهاد واعداد القوة.
قال تعالى : ) وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ ( الأنفال / 60. ) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه ( الأنفال / 39.
الهوامش
([1]) : محمد بن أبي بكر الرازي، مختار الصحاح /192، مكتبة لبنان، 1985.
([1]) : ابن منظور، لسان العرب، ج10/408-410، دار إحياء التراث العربي، بيروت،، لبنان، د. ت.
([1]) : مسند أحمد : 1/112، و صحيح مسلم : 8/22.
([1]) : المرجع نفسه.
([1]) : سورة الروم، آية : 21.
([1]) : سورة الإسراء، آية : 24.
([1]) : سنن الترمذي : 3/217، مستدرك الوسائل : 9/56.
([1]) : سورة الفتح، آية : 29.
([1]) : سورة آل عمران، آية : 159.
([1]) : سورة الممتحنة، آية : 8.
([1]) : حسين الخشن، الإسلام و العنف /120-121.
([1]) : سورة المائدة، آية : 32.
([1]) : أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 15865.
([1]) : أخرجه النسائي 6949 و أبو داوود 2760.
([1]) : أخرجه البخاري 6863 و البيهقي في السنن الكبرى 15829.
([1]) : ذكره ابن أبي عاصم في كتاب الزهد 138.
([1]) : المبسوط للطوسي: 3/66، المبسوط للسرخسي: 18/172، الدر المختار: 7/115، المغني: 10/155، السرائر: 2/351 إلى غير ذلك.
([1]) : كنز العمال : 5/309.
([1]) : سورة النساء، آية : 93.
([1]) : أخرجه الشيخان و النسائي راجع كنز العمال : 1/93.
([1]) : كنز العمال : 16/21.
([1]) : أخرجه النسائي عن ابن عمر راجع كنز العمال : 1/93.
([1]) : حسين الخشن، الإسلام و العنف /64-68.
([1]) : سورة هود، آية : 117.
([1]) : تفسير الرازي، ج18، ص 76.
([1]) : تفسير القرطبي، ج9، ص 114.
([1]) : من رسالة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق صلاح الدين المنجد، ص 40.
([1]) : صحيح البخاري بشرح العسقلاني، ج12، ص 87، صحيح مسلم بشرح النووي، ج11، ص 187.
([1]) : صحيح البخاري بشرح العسقلاني، ج12، ص 96.
([1]) : عبد الكريم زيدان، السنن الآلهية /122-125.
([1]) : تفسير القرطبي، ج9، ص 334.
([1]) : تفسير الآلوسي، ج19، ص 215، و الآية في سورة النمل و رقمها 52.
([1]) : فتاوى ابن تيمية، طبعة فرج الله زكي الكردي الأزهري، ج1، ص 351-352.
([1]) : فتاوى ابن تيمية، طبعة فرج الله زكي الكردي الأزهري، ج1، ص 353.
([1]) : تحفه الأحوذي شرح جامع الترمذي، ج8، ص 423.
([1]) : سورة الممتحنة، آية : 8.