كاتب المقال : ساري حنفي
هذا كتاب يستحق القراءة لأنه يتجاوز الفكر التبسيطي الذي نجده لدى مفكري ما بعد الكولونيالية: “إنتاج المعرفة العالمية في العلوم الاجتماعية”، تحرير وبكه كايم، أرجومنت جيليك، وكريستيان إيرش، وفيرونيكا وهرر. فصوله تكشف عن العمليات والمشاكل المتعلقة بالإنتاج العالمي للمعرفة وتداول المعرفة في العلوم الاجتماعية. سأتناول في هذا المقال فقط مراجعتي للجزء الأول والذي هو حول التاريخ والوضع المعاصر لعدم التناظر في تداول المعرفة وترتيبات التعاون الدولي التي تُعطل أو تُمكّن التداول غير المهيمن للمعرفة. تكمن أهمية هذا الجزء في تشكيكه في نظرية فريدمان أن “العالم مسطح” (Friedman 2005) من دون حدود، حيث اختفت تقريبا بنى السلطة، ونظرية بيير بورديو أن النصوص تتنقل بدون سياقها.
يفترض مفهوم تداول المعرفة أن المعرفة لا تتنقل فقط، ولكن يتم إنتاجها أيضاً في مكانها الجديد. ولذلك ينبغي أن تتم دراسة التنقل من خلال دراسة الحالة والمنهجيات النوعية التي تساعدنا لمتابعة فاعليها.
يوضح لياندرو رودريجيز ـ مادينا كيف كان يُنظر إلى عالم الاجتماع الألماني نيكولاس لومان وكيف تم نشر فكره في بعض بلدان أميركا اللاتينية و(إعادة) تكوين المعرفة من خلال إدخالها في شبكة من الناس والأشياء التي تمكّن أو تقيّد إمكانية التداول. استطاع رودريجيز ـ مادينا تقديم أفكار مثيرة للاهتمام للغاية، كما أنه استخدم مفهوم العمل الحدودي (boundary work) لفهم ممارسات نقل النصوص والتي وصفها بالمعقدة، وليست دائماً واضحة، والتي من خلالها خلق بعض الباحثين الظروف الملائمة لنظرية التداول. ويقول إنه “عندما ينتقل عمل حدودي من موقع قوي (مثل الجامعات الكبرى) إلى مكان أقل أهمية (مثل سوق كتاب طرفي)، يتحول إلى أداة إخضاع (subordinating objects)”. وفي هذا المعنى، يمكن أن تعيد هذه الأدوات هيكلة الحقول الطرفية من خلال تشجيع (أو إجبار) الباحثين المحليين على الاستجابة لهذا الإنتاج الفكري. ولكن (إعادة) الهيكلة هذه لا تعني تغييراً عاماً وجذرياً من المؤسسات والتقاليد الفكرية ونظرتها للعالم، بل تحولات حاذِقة من الممارسات اليومية التي تساهم في (إعادة) تشكيل التدخلات الفكرية الجديدة في هذا المجال.
يقدم نيكولا جيلهوت مثالاً جميلاً آخر حول التداول الدولي للأفكار، إذ يرفض تعريف العلاقات الدولية على أنها “علم اجتماعي أميركي”، حيث تم تطويره لأول مرة في الولايات المتحدة وتصديره في وقت لاحق إلى فرنسا، لأن نظرية العلاقات الدولية لم تصمم لتكون “علوماً اجتماعية”. وكان هذا لا يتماشى مع التقاليد الفكرية الأميركية، لأن الواقعية في ما بعد الحرب لا تمت بصلة إلى البيئة الأميركية آنذاك. لقد دان جيلهوت النزعة القومية المنهجية (methodological nationalism) التي تبعها بورديو في نظريته حول الحقل (field) ليفهم التداول الدولي للأفكار.
وفي ما يتجاوز هذه الحالتين، قدمت وبكيه كايم تصوراً لتكوينات مختلفة من التداول تتجاوز فكرة الانتشار الطبيعي (diffusionism) البسيط الذي نجده كثيراً في التاريخ الحالي للعلوم، مع إيلاء اهتمام خاص للتداول عبر بنى المركز والأطراف. لقد بحثت كيم في تداول المعرفة بين المجالات الأكاديمية وخارج الأكاديمية من خلال التركيز على الالتزام الفكري لصالح الحركة العمالية في جنوب أفريقيا. كسلفها مايكل بوراوي الذي نبهنا بأهمية التفاوض بين النظرية والممارسة وضرورة إنتاج علم الاجتماع ذي الصلة بالمجتمع في مناطق الأطراف، قامت كيم بإضاءة الضوء على التحركات نحو أنواع مختلفة من الجُمْهُور وساحات المنافسة التي لديها إمكانات لتكون بديلة لنزعة الهيمنة كما أنها تضعف الاعتراف والتوجه نحو الساحات المرموقة المركزية للمنافسة. وقد بيّنت أن الدراسات التاريخية قد كشفت أنه كان هناك تداولاً للمعرفة بين بلدان الجنوب في كثير من الأحيان من خلال التفاوض بين النظرية والممارسة وليس من خلال الاهتمامات الأكاديمية البحتة. لقد أعطت كيم أمثلة من خلال الحركات المناهضة للاستعمار والمناقشات الفكرية التي ولدت من التفاوض المستمر مع الممارسة السياسية.
(أستاذ علم الاجتماع، الجامعة الأميركية – بيروت)
الرابط الأساسي للمقال
http://www.alaraby.co.uk/supplementbo…