فيما يلي مجموعة إشكاليات تطال ألفباء الأنثروبولوجيا، تهدف إلى تأسيس دقيق لها، معتبرًا أن الإنطلاق بكوب فارغ أمر ضروري للبدء بتأصيل هذا التخصص وتجذيره معرفيًا.
*** *** *** *** *** *** *** *** ***
الإشكالية الأولى: هل الأنثروبولوجيا فرع من العلوم الإجتماعية أم الإنسانيات؟!
ينقسم المتخصصون إلى قسمين: مؤمنون بعلميتها فيسعون جهدهم إلى تكميمها وقوننتها للتحكم اللاحق بالسلوكيات! ولهذا القسم أدلته وتجاربه!
القسم الآخر، يراها ذاتية تهدف إلى تعميق الفهم بالتجربة الإنسانية، دون أن يكون للتكميم فالتحكم من معنى، سوى كقراءة لاحقة! أي أنه يقرأ الحدث بعد حدوثه، فيزهد بالتحكم المسبق به، لأن طبيعة وتشابكات العوامل المؤثرة لحدوثه عصية على التحقق، ولأن التدخل سينتج لا شك آثار وتبعات (منها خطير ومدمر) لم تكن بالحسبان، ولهذا القسم أدلته وتجاربه!
للتوضيح، أولهما ليس خاطئًا وثانيهما ليس مصيبًا، ولدى كل منهما إيجابيات وسلبيات، وعلاقة الباحث بهما متعلقة بالطمأنينة!
فما اطمأن إليه، التزمه… وأحيانًا يتجاهل سلبيات طريقه، في مقابل تعظيم سلبيات الطريق الآخر! وقيمة هذا متعلقة بأخلاقيات الباحث/البحث، فإن امتلك دربتها نجح، وإن لم يفعل حوّلها إلى بوق دعائي مأجور!
إذن، هل هي علم أم لا؟!
هذا يحتاج منك أن تتأمله، لتجيب عليه إجابتك الخاصة التي تطمئن إليها! ولا ينفع فيه إتباع أساتذتك!
*** *** *** *** *** *** *** *** ***
الإشكالية الثانية: الموضوعية/الذاتية
هي إشكالية إبستيمولوجية، وقد تكلمت فيها أكثر من مرة، لكن ضمن سياق هذا النص، لا بد أن أوضّح ما يلي:
الموضوعية تعني هنا الوجود الخارجي العيني المشخص، هو موجود إلتفت له الباحث أم لم يلتفت! وللتوضيح: شجرة التفاح موضوع مشخص رأيتها ووعيتها أو لا!
بالطبع المثل يضرب ولا يقاس، والهدف منه التوضيح لا أكثر…
الذاتية تشير إلى أسبقية الوعي، وهذا يعني أن وعيك بوجود شجرة التفاح أوجدها! أي أن فكرة الدجاجة أسبق على الدجاجة ذاتها!
وهناك تفاصيل وتعالقات لكل وجهة نظر، تؤسس لطرق بحثية، كما لمنطلق علمي/لاعلمي! ولاعلمي في هذه الحالة لا يعني أنه منطلق تحريفي، تجهيلي، خاضع للأهواء! وهي شبهة بحاجة لتدقيق.
إذا قرّر المتخصص أن يلتزم بالذاتية (بعد إطمئنانه لها) فهذا سيقربه أكثر إلى أنسنتها، ومنه سيحاول عبر الإثنوغرافيات تعميق فهمنا للإنسان، وتجاربه، وصراعاته، وسلوكياته!
الإنسان هو نتاج ثقافة في حالة تواصل (ندّي – دوني/فوقي) مع ثقافات أخرى، وكلما قبلنا الإختلاف، كلما كان التواصل ندّيًا، فالذاتية تؤمّن لنا قبول الإختلاف!
المتخصص المطمئن للموضوعية، سيجتهد في التكميم، لأنه يكمم مشخّصات عينية، ومنها سيتجه حكمًا للتحكم بآليات الإنتاج والقولبة، وإثنوغرافياته هدفها تحقيق الوحدة! وعلاقاته الثقافية فوقية، يستبطن فيها الآخر دونية! وما عقدة الرجل الأبيض إلا نتيجة ما زالت فاعلة في المجتمعات المستعمَرة، عقدة الرجل الأبيض هي ما عبّر عنه “مالك بن نبي” عبر مصطلح “الأرَضَة المتعلمة”!
وكما ذكرت، لكل موقف، نتائج وتداعيات، وسلبيات وإيجابيات، وعلى المتخصص أن يدقّق قبل أن يتخذ موقفًا!
*** *** *** *** *** *** *** *** ***
الإشكالية الثالثة: الحياد
الحياد هو أن تلاحظ، فتعبّر بصدق عما لاحظت، حتى ولو خالف آراءك وأهواءك!
الباحث المحايد لا تعني غير الملتزم بطريق أو موقف!
بالعكس، لا بد للباحث من أن يكون عضويًا (بتعبير غرامشي)! وإلا فهو مجرد بوق مأجور!
فالحياد وبتعبير “علي شريعتي” يعني «ألا نضحّي بالحقيقة من أجل المصلحة»!
هناك باحثون، يلوون عنق الحقائق، لأنها تخالف مسبقاتهم! أو يحرفونها لتأكيد ظنونهم! فتنعدم عندهم أخلاقيات البحث، والأنكى أنهم من عينات يعممون، أو يعممون دون تدقيق منهجي!
للتوضيح: نسبة القراءة والقراء في العالم العربي مأساوية كما تتحفنا كتيبات التنمية! لكنها تتجاهل مثلًا:
- التحميل الرقمي للكتب!
- تبادل الكتب ضمن الأسرة وبين الأصدقاء.
- غلاء أسعار الكتب وإنخفاض الأجور، فتتأخر القراءة إلى هاجس أولي وهو العيش (تبعًا لهرم “ماسلو” [Abraham Maslow] الخماسي للحاجات الإنسانية)
- المقارنة مع دول تختلف إختلافًا بيّنًا من حيث الواقع السياسي، الإقتصادي، الثقافي، الإجتماعي…
- العينة صغيرة (وقد تكون إنتقائية) فلا تتيح تعميمًا دقيقًا.
لكن هذا جزء من سردية غير حيادية، تستحكم في اللاوعي لتفعيل جلد الذات، وهو فعل لم ينتج سوى مزيد من الخيبات والشكوك!
الحياد هو أن تصرح بدقة عما وصلت إليه دون محاباة أو خوف.
*** *** *** *** *** *** *** *** ***
الإشكالية الرابعة: الفرضيات
الفرضية هي تصور مسبق لواقع تجهله، ولعلاقات ضمنه، ولتفاعلات بين عوامل تتحكم فيه!
كيف يمكن للمتخصص أن يستقبل حقله دون فرضية؟!
ويأتي الجواب ملغزًا: هل سترى دون فكرة مسبقة؟!
الإشكالية دقيقة، وللتوضيح، يمكن العودة إلى دراسة “ميد” [Margret Mead] الشهيرة “البلوغ في ساموا” [Coming of Age in Samoa]، حيث وقعت الباحثة في شرك فرضياتها المسبقة، وتصوراتها، وتلاعب الفتيات التي قابلتهن بها!
“ميد” لم تقدر على كشف التلاعب، بل دافعت عنه لاحقًا، وأصرت على نتائج دراستها، حتى إضطرت الجمعية الأمريكية للأنثروبولوجيا [AAA] على التصويت (ويتكلم البعض عن علم!!) ضد الباحث “فريمان” [John Derek Freeman] الذي كشف زيف النتائج!
مشكلة ميد هو إنطلاقها من فرضية مسبقة! ولو إعتمدت الكوب الفارغ كمقاربة، لاختلفت نتائجها!
لا يمكنك أن تعمّق فهمك بثقافة وأسلوب حياة مجتمع ما، وأنت ممتلئ بتصوراتك عنه وعما يجب أن يكون!
الإنطلاق من الجهل نحو المعرفة، يسمح للمجتمع الذي تعايشه أن يقدم لك معارفه، أن يعبّر عن نفسه بنفسه، وأن يشاركك تصوراته عن حقيقته!
الإنطلاق من الجهل، يملأ كوبنا الفارغ، ويسمح بتعميق وعينا بالتجارب الإنسانية المختلفة والمخالفة لمألوفاتنا.
الرؤية هي شاملة، إثنوغرافية، ومنطلق التحليل ذاتي، هدفه الفهم لا التحكم!
“ميد” بالمناسبة، شاركت بالمجهود الحربي أثناء الحرب العالمية الثانية، عندما صممت أحذية تشابه أحذية المحليين في الجزر التي تم الإنزال الأمريكي فيها، كي ينخدع اليابانيون!
هل سنرى دون مسبقات؟!
وهل سنرى غيرها إذا انطلقنا منها؟!
مدرسة المسبقات طاغية بين الأنثروبولوجيين، وهذا لا يعني صحّتها!
لكن، كما لاحظ القارئ، المطمئن للعلم هو أقرب للموضوعية والمسبقات، ويرى في البحث الأنثروبولوجي عملية معقدة تستلزم مختبرًا لتحييد عوامل!
هو يدفع باتجاه القوننة للتحكم!
ولماذا يريده بشدّة؟؟
هذا سؤال برسم القارئ النابه!!
*** *** *** *** *** *** *** *** ***
الإشكالية الخامسة: العلاقة مع الإستعمار
نشأت الأنثروبولوجيا نتيجة أزمة إستعمارية، والعلاقة بينهما ما زالت وثيقة إلى اليوم! هذه الأزمة الإستعمارية لم تقدر السوسيولوجيا على حلّها، فكانت الأنثروبولوجيا كتخصص وليد هي الأفضل، لأنها إعتمدت منظورًا شموليًا!
الدراسة السوسيولوجية التي تعتمد على عينة، قد تنفع في المجتمعات الصناعية، حيث التراتبية الإجتماعية وصراع الطبقات أوضح.
بينما في المجتمعات المستعمَرة، التي يتداخل فيها الديني بالثقافي، والإقتصادي بالسياسي، والإجتماعي بالبيئي، لم تقدر العينة على تقديم وضوح أو رؤيا!
وهذا يعني أن القدرة على التحكم معدومة!
لذا كانت الأنثروبولوجيا الوسيلة التي أعادت التحكم في المستعمرات، كما ساهمت بقدر كبير في تدمير البنيات الثقافية، وتحويلها إلى مسوخ مهترئة هدفها ديمومة الإستعمار.
إنتحت عندها السوسيولوجيا لدراسة المجتمعات الصناعية المتقدمة، وبقيت الأنثروبولوجيا في المجتمعات البدائية، وهذه المصطلحات هي جزء من سردية التحكم، وليس مجرد مرحلة ضمن التطور الفكري لهذا التخصص.
المتقدمة – البدائية – العالم الأول – الثالث – النامية – المتخلفة – المتطورة، ليست مصطلحات علمية قدر ما هي مفاهيم تخدم سردية الإستكبار!
والقراءة الأنثروبولوجية عزّزت من جلد الذات عند المستعمَرين، ونشّأتهم على دونية ثقافتهم مقارنة بثقافة الأبيض!
قضت الأنثروبولوجيا على تناغم البنية الثقافية مع البيئة وحوّلتها عبر الإستغلال المجحف للبيئة إلى حالة صراع! وما زلنا نعاني من تداعياتها إلى اليوم!
سيقول البعض أن هذا تاريخ ومضى! وهو ليس كذلك، وحتى لو كان إلا أنه ماضٍ ما نزال نعاني من آثاره بيئيًا وثقافيًا!
أو أن هناك أنثروبولوجيين ساعدوا المحليين وساندوهم في صراعهم مع الإستعمار! وهم قلة قليلة مقارنة مع جيش الباحثين الذين رافقوا المستعمِر وسلاحهم أمضى وأشد!!
*** *** *** *** *** *** *** *** ***
الإشكالية السادسة: العلاقة مع السوسيولوجيا
ذكرت أن الأنثروبولوجيا هي بنت السوسيولوجيا، وهذه الأبوة المفترضة، دفعت ببعض المتخصصين إلى عدم التمييز بينهما!
وهناك أجيال من الباحثين تمارس السوسيولوجيا وهي تظن أنها أنثروبولوجيا! وهذا الخلط يعود إلى ما يظنه البعض تطابق الميدان!
الإنفصال التقليدي بين الميدانين (صناعي للسوسيولوجيا – بدائي للأنثروبولوجيا) لم يعد واضحًا، عندما انتقلت الأنثروبولوجيا إلى دراسة المجتمعات الصناعية، والمدن، والظواهر!
ومع تحفظي على مصطلح الظواهر، إلا أن السوسيولوجيا لفترة قريبة كانت تعرّف نفسها بأنها تدرس الظواهر! وهو يعني ضمنًا تهميش مجالات للرؤية كثيرة!
إذا تطابق الميدان، وإذا إستخدمت السوسيولوجيا تقنيات كانت (حتى فترة متأخرة) خاصة بالأنثروبولوجيا، وإذا إندفعت الأنثروبولوجيا نحو التكميم كأمها! فما هو المختلف بينهما؟!
لذا جاء البعض بتخصص مشترك: السوسيوأنثروبولوجيا!
يجمع مقارباتهما وتقنياتهما فيستفيد من الأفضل فيهما معًا، وهو أمر مفهوم، وقد يكون صحّيًا! هذا على شرط أن الأنثروبولوجيا إستنفذت حظوظها بالبقاء منفردة!
الأنثروبولوجيا ما زالت متقدمة على السوسيولوجيا بنقطة المعايشة! وهي شعيرة مرور ذاتية غير خاضعة للتأطير، وبدونها سيضطر الباحث إلى اللجوء للعينات مع مقابلات مفتوحة متباعدة!
وما المشكلة في ذلك؟
المشكلة أن هذا سوسيولوجيا! وهو أمر جيد طالما أنه ملتزم بها! لكن الخلط لا يعني فتح مسارات بينية/تعددية بين التخصصات، الخلط يبقى خلطًا على الصعيد المنهجي، وهو يؤثر على كامل بنية البحث ليصبح تجميعيًا على شاكلة (من كل وادي عصا)!
هل يقوم الأنثروبولوجيون بالمعايشة؟! ومنها يتفرع: هل يحتاج الباحث الأصيل إليها؟!
بوضوح، دون معايشة ليس هناك أنثروبولوجيا! ولن يصبح الباحث أصيلًا إلا بعد المعايشة!
*** *** *** *** *** *** *** *** ***
الإشكالية السابعة: أنثروبولوجيا عربية/إسلامية أم عالمية
وهي فكرة ضرورية عندما نناقش الإنطلاق من الجهل لتجذير المعرفة، فهل هناك أنثروبولوجيا محض؟! أم هي خاضعة للشروط الثقافية التي أنتجتها؟!
قارب هذه المسألة حسين فهيم عندما تكلم عن أنثروبولوجيا محلية![1] وطلال أسد عندما ناقش فكرة أنثروبولوجيا الإسلام![2]
ومع تقادم العهد بالفكرتين (ثلاثة عقود) لم نجد توجهًا حقيقيًا لتطبيقهما!
ليس هناك من أنثروبولوجيا بمعزل عن الثقافة المنتجة! لذا لا بد من التفكير الجدي بإنتاج أنثروبولوجيا محلية تهدف إلى مأسسة وعي يقدر على التحرر المعرفي من الأبيض!
أول خطوة نحو هذه المأسسة هي في تدبر آيات التنزيل العزيز!
للتقريب والتوضيح:
- بداية العصر الحديدي كانت مع النبي/الملك داوود.
- تميز الآيات بين المرحلة البشرية والمرحلة الإنسانية، وهذا من صلب الباليوأنثروبولوجيا [paleoanthropology] (أنثروبولوجيا المستحاثات البشرية).
- تابو المحارم التي تُجمع الإثنوغرافيات على وجوده عند كل الثقافات المعروفة، توضّحه الآية: حرمت عليكم أمهاتكم …… وأن تجمعوا بين الأختين …… (النساء:23). وهي تبدأ بالأم، وتنتقل بتتابع تاريخي يشير إلى تطور مجتمعي ثقافي، حتى تصل إلى الجمع بين الأختين!
ما سبق مجرد أمثلة، لكنها بداية صحيحة للبدء ببناء منظومة معرفية مستقلة عن الإستعمار، ومنتجة لمصطلحاتها لا مستهلكة!
*** *** *** *** *** *** *** *** ***
هي مجموعة أولى، ستلحقها تباعًا مجموعات، أسعى ضمنها إلى تأطير أساسيات رئيسية، لا بد منها لملئ الكوب…
شرط أن نفرغه مسبقًا…
الهوامش:
[1] Hussein Fahim. Indigenous Anthropology in Non-Western Countries. Chapel Hill: Carolina Academic Press.1982.
[2] Talal Asad.The Idea of an Anthropology of Islam. Center for Contemporary Arab Studies. 1986.