يقول أصدقاؤنا أن إمكانية التفسير ممكنة ! وهذا توقع إبستيمولوجي مبني على أن هناك حقيقة موضوعية يمكن للعقل عبر الحس تناولها كما هي !
إذا إفترضنا أن الواقع الخارجي موجود ، وإمكانية التحصيل المعرفي منه وعنه متوفرة عبر الوسائط الحسية ، فهذا يعني أن القدرة على التوصيف هي الممكنة !
وبتعبيرات أصدقائنا في العلوم الإجتماعية/الإنسانيات توصيف الظاهرة هو البداية ، وإعتباره المنتهى لن يقدم لنا جديداً ! بل سيحوّل العلم (علم أصدقائنا الخفيف بالطبع) إلى قراءة عميقة يمكن للعامي أن يقوم بها ! فلا معنى عندها للتخصص !
تخصصنا – يقولون – هو من يقدم تفسيراً للبنية الكامنة ! هو الذي يقدم تحليلاً للمنظومة الذهنية والمجتمعية !
هذا ما يقوله أصدقاؤنا … ويلوكون خبرياتهم على أساسه … ويبرّرون أبحاثهم ودرجاتهم العلمية ، على أساس أنهم الأجدر في قيادة الشعب نحو فهم الكامن واللاواعي في بنيته الذهنية وشخصيته الوطنية !
قس على هذا ، الخبريات التي تدور حول الجندر مثلاً !
لقد قرأت منذ فترة عدة أبحاث «حديثة» حول موضوع الجندر … فلم أجد فيها إلا تأكيده كسردية ، يخوض فيها مؤلفوها وُحُول ما هو موجود ، ويُسقطون عبر نظريات منجزة «هناك» تفسيراتهم حولها ! ثم … لا شيء !
العنف ضد المرأة ، التمايز الجندري ، المنظومة البطركية !
و… لا شيء !
هم يؤكدون عبر دراسات ميدانية أن التمايز والإختلاف موجود وواقعي … هو موجود وواقعي لأن لدينا القدرة على التحقق الملموس المحسوس له !
- وبعد …
- علينا أن نغيّر هذا الواقع !
- هذا رائع يا أصدقائي ، كيف ..؟
- علينا تغيير المنظومة … علينا تغيير البنية …! منظومة/بنية مجتمعية ، منظومة/بنية ذهنية …
- كيف …؟
- المشكلة الأساس هي الدين … العائق هو الدين … القراءة الجندرية للدين تثبت بما لا يرقى إليه الشك أن الدين متحيز للرجال ! إنه صنيعتهم ، طبيعي أن يكون متحيزاً لهم !
- لضرورة الحوار ، سأفرض أن ذلك صحيح … و
- علينا أن نصبح دولة ديمقراطية علمانية ، للمواطن فيها ذات الحقوق والواجبات …
- وأيضاً ، كلام جميل يا أصدقائي … و
- و… ماذا ؟ أتقف مع المحافظين والمتشددين ؟!
الحوار السابق ليس وهمياً ! هو واقع من يحاول أن يسأل … لذا أسأل :
- هل الدراسة الميدانية تستقي وقائعها من الميدان أم من فرضيات مسبقة وضعها الباحث عن الميدان ؟!
- هل تشرّب الباحث القراءات النسوية قبل الميدان أم بعده ؟!
- هل يعرف باحثنا ما تريده النساء ؟ وما يريده الرجال ؟! دون أن يدّعي مقدرته العجيبة على القيادة ، وعلى إستبطان مكامن رغباتهم دون درايتهم بها !
هو يعتبر نفسه «تنويرياً» يعلم ما لا يعلمون ، وعلى هذا الأساس ينصّب نفسه حامياً لهن/لهم ، ويقدم أفكاره كطوق نجاة وحيد !
صديقنا/أصدقاؤنا يُسقطون على مجتمعهم ما يظنونه الأفضل له ! دون أن يسألوا أنفسهم أفضل لمن ؟! وأفضل لماذا ؟ وهل أثبتت التجربة صحة تفضيلاتهم ؟ وأساس المعايرة ذاته ، كيف تم إعتماده ؟
أوضّح : إذا قلتَ أن التجربة الفلانية بالبلد العلاني نجحت ، فهل قدرت على الإحاطة بكافة العناصر ؟ وإذا قلت أن هذا ما قام به «الغرب» ونجحت تجربته، فهل «الغرب» واحد أم متعدد ؟ وما هي الدولة «الغربية» التي تعاير بلدك معها ؟ وهل درستها أنت …؟ أم أن هذا ما يقوله الآخر عن نفسه ؟! وهل تثق بالتغيير المبني على أقوال الآخر الذي يُضمر لك كـ«مستعمَرة» سابقة ، كل الود والمحبة والرغبة الحقيقية في تقرير مصيرك الخاص !
وأوضّح : أنت في قراءتك الجندرية لا تختبر واقعاً معرفياً خاصاً ، بل تُسقط واقعاً سردياً نظرياً ، فتلوي معه وعبره وله حقيقة المجتمع !
مجموع الدراسات التي إطلعتُ عليها ، لم تعطني جديداً ! فما هو الجديد الذي أبحث عنه ؟!
ببساطة ، أريد توصيفاً موضوعياً لما نتكلم عنه ! وأريد حلاً معقولاً ومقبولاً وضمن مهلة زمنية … ولا أريد تفسيرات أو تحليلات لأنها ببساطة غير ممكنة!
وهنا أعود إلى ما بدأت به ، التفسير الذي يظن أصدقاؤنا أنه ممكن ، وناجز…
«مالينوفسكي» عندما ذهب في رحلته إلى جزر التروبرياند ، وكتب ما كتبه حولها ، جل ما فعله كان وصف وقائع «غريبة» شاهدها ! وعندما «فسّر» نظام «الكولا» ، إعتمد على إسقاطات معرفية يخضع هو لها ! لا على ما يفهمه ويعايشه أصحاب الجزر حول مجتمعهم وعن حياتهم !
هل من معنى لتفسيراته ؟! أم أنها «تقشير» أعمق فتوصيف لعملية تبادل ، ثم إعطاءها إسماً ! هذا دون أن نخوض في عنصريته التي تُسقط حتى موضوعية توصيفاته !
ما هو التفسير إذن ؟
عندما نشرب شاياً محلى ، نصفه بأنه حلو المذاق ! ثم نقول أن علة الحلاوة هي السكر مثلاً ! ثم نصف السكر بأنه يحلّي الشاي (وغيره) ! لكن هل يمكن تفسير لماذا السكر حلو ؟! سيتنطّع كيميائي بالقول أن التركيبة الفلانية هي التي تعطي الطعم الحلو ، وعلى أساسها قدرنا على تشكيل مركبات مصنعة مُحَلِّية . هذا تفسير أم توصيف ؟!
هو توصيف على درجة أعمق ، فقط !
السؤال لماذا السكر حلو ؟ لا يمكن الإجابة عليه بالمركب الكيميائي ! لأننا سنتناسل منه سؤالاً آخراً ولماذا هذه التركيبة تعطي مذاقاً حلواً …؟!
العلم «الصلب» هنا ، يقول : لا شأن لي … هذا بحث فلسفي ! فلماذا يظن العلم «الخفيف» أنه قادر على التفسير ؟!
طيب … سيهتاج أصدقاؤنا ويقولون : وهل تدّعي الفلسفة إمكانية الإجابة…؟!
لكن هذا .. حديث آخر …