أوراش الكتابة التاريخية
محمد أبرهموش[1]
حاول المؤرخ المغربي محمد حبيدة في هذا الكتاب انتقاء نصوص مهمة حول مسارات الكتابة التاريخية في العقود الأخيرة، فأصدرها سنة 2004 تحت عنوان، “من أجل تاريخ إشكالي”[2]، قبل أن يتوجها بطبعة ثانية سنة 2015 في حلَّة منقحة سماها “الكتابة التاريخية”. وهي عبارة عن باقة من النصوص تهم التوجهات المعاصرة في المعرفة التاريخية مقتطفة من كتب ودوريات كان لها أثر كبير في تقدم المعرفة التاريخية، مثل “صناعة التاريخ” و”التاريخ الجديد” اللذان أشرف عليهما جاك لوغوف، و”كتابات حول التاريخ” لفيرناند بروديل، و”ورشة المؤرخ لفرانسوا فوري”، و”قاموس العلوم التاريخية” الذي أشرف عليه أندري بورغيير، ومجلة “الحوليات: التاريخ والعلوم الاجتماعية”، وغيرها من المؤلفات المرجعية. وعلى الرغم من مرور عقود من الزمن على صدور البعض منها، فإن أفكارها ما تزال “ترن إلى اليوم في آذان الباحثين في التاريخ والعلوم الإنسانية” (ص 14).
وتعود هذه النصوص لباحثين ومفكرين كبار من أمثال: فيرناند بروديل، وبول ريكور، وجاك لوغوف، وميشيل فوفيل، وأندري بورغيير، وكينيث براون، وفرانسوا فوري، وبيير نورا، وجاك روفيل، وغيرهم.
جاء الكتاب في ثلاثة فصول تضم اثنتي عشر نصا، نقلها محمد حبيدة إلى العربية، من أجل تاريخ إشكالي، وبهدف فتح نوافذ على الإنتاجات الإسطوغرافية بالغرب. وقد تم تقسيمه بطريقة منهجية تستحضر السياق الزمني والبعدين المعرفي والمنهجي، حيث يتطرق الجزء الأول لعلاقات “التاريخ والعلوم الاجتماعية”، بينما يقارب الجزء الثاني إشكالية “التاريخ والذاكرة”. أما الجزء الثالث فيعرض مقالات مهمة حول “تاريخ العقليات”.
تسعى عملية الترجمة إلى جعل المعرفة التاريخية متاحة للجميع، خاصة في الدول التي تشهد في صفوف باحثيها وقرائها تراجعا في مستوى التحكم باللغات الأجنبية، لذلك تعد سلاحا منهجيا في عمليات البحث عن المعارف والمناهج وتجديدها، مادام “المترجم قد تحول راهنا إلى سفير ميتافيزيقي بين الشعوب واللغات والعصور”، قصد تبادل المعارف والنظريات. فالترجمة، إذن، “تحرر من الجهل بما لم تقله لغتنا، على الرغم من أنه جزء من طبيعة العقل البشري فينا”[3]. إنها كتابة ثانية، تمزج بين المعاناة والنشوة، بين الفهم والمعنى، بين الهم المعرفي والانفتاح الثقافي.
تجدر الإشارة، إلى أن هذه النصوص المختارة، قد خضعت لمراجعات عديدة، همت مقدمة الكتاب مع تغيير ترتيب بعض النصوص وتعديل مجموعة من الفقرات والمفاهيم والعناوين، ثم إضافة نص جديد لكينيث بروان بدل نص أوليفيي دي مولان حول تداخلات العلوم الإنسانية.
تقارب النصوص المترجمة في الفصل الأول مستويات التلاقح والانفتاح بين التاريخ والعلوم الاجتماعية والدراسات الأدبية، عبر سياقات مختلفة، منذ ظهور مجلة الحوليات سنة 1929. وكانت مقالة “التاريخ والإثنولوجيا” لفرانسوا فوري أولها، حيث يبيّن فيها التكامل الموجود والمفترض بين هذين المجالين المعرفيين، لكون التاريخ يعمل على جرد الزمن، بينما تقوم الإثنولوجيا بجرد المكان. وهو خط فاصل لا يقوم على معايير إبستيمولوجية، بل على خلفيات أكاديمية، علما أن تطور البحث التاريخي وانتقاله من الاهتمام بتاريخ الدولة إلى دراسة تاريخ المجتمع، ومن المصادر المكتوبة إلى الوثائق غير المكتوبة، ومن المتحول إلى الثابت، ومن الحدث إلى البنية، كلها عوامل يسَّرت ذاك التلاقي الذي ساهم في إبداع بحوث جادة، تمتد من الجنس إلى اللباس، ومن التغذية إلى الأمراض، ومن السلوكات إلى التمثلات. وبصيغة أخرى، اقتحام “المستويات الباردة” في الكتابة التاريخية.
انتقى المترجم في نفس الفصل نصا ثانيا بعنوان: “التاريخ المقارن” بقلم جوفري باراكلوغ، ينظر إلى هذا التاريخ كعملية أساسية في عمليات استشكال وتفسير، ثم مفهمة الماضي، لأن المقارنة هي الكفيلة بإبراز الثابت والمتحول، وكشف العام والخاص. وبصيغة أخرى، “التوجه نحو مقارنة البنيات والمجتمعات والثقافات من منظور تزامني” بدل البحث عن منحى التاريخ، “عبر رصد آليات ارتقاء الحضارات وأفولها”[4]. إن التاريخ المقارن، يخلق الكونية والشمولية التواقة إلى صهر جميع العلوم الاجتماعية والإنسانية في بوتقة التاريخ.
إذا كان فيرناند بروديل من أهم أعلام التاريخ والإنسانيات في القرن العشرين، فقد ارتأى محمد حبيدة أن يدرج مقالا له سماه: “من التاريخ السردي إلى التاريخ الإشكالي”. وهو عبارة عن سيرة ذاتية حول تكوينه كمؤرخ، مستعرضا فيها سياق احتكاكه بمؤسسي مدرسة الحوليات لوسيان فيفر ومارك بلوك وتأثره بهم من جهة، وتفاعله مع العلوم الاجتماعية الأخرى من جهة ثانية، مما مكنه من كتابة العديد من الدراسات والأبحاث الرصينة، وخاصة “الحوض المتوسط” و”الحضارة المادية”، وإبداعه لثلاثيته الزمنية المشهورة: الزمن الجغرافي، الزمن الدوري، الزمن الفردي.
في نهاية هذا الفصل، نقل محمد حبيدة من الفرنسية إلى العربية، مقالا لكينيث براون: “من الأنثربولوجيا إلى الأدب”، يبرز فيه مسار حياته الفكرية والمهنية، وانشغالاته العلمية الغزيرة. فقد انتقل من الاستشراق إلى التاريخ الاجتماعي، ثم إلى الأنثربولوجيا، وأخيرا إلى الأدب، نتيجة شعوره ووعيه بأزمته المنهجية كباحث في الأنثربولوجيا. إنه مسار يشي بإشكالية النص في الأنثربولوجيا، وعملية السرد في التاريخ، فعلى مستوى الأنثربولوجيا، لم ينتصر براون لا للانقساميين ولا للتأويليين، بل ظل يبحث عن وعاء جديد يحتضن الوجود الإنساني المركب. إنها الكتابة الأدبية التي تمكن الباحثين من بناء تصورات حول “الآخر والإحساس به وتقمص الحالات البشرية”(ص 71)، إذ يرتبط تفكيك وتركيب معنى الأشياء الملاحَظة بالصيرورة ويحتاج إلى بعد سردي. ورغم ذلك، نشير إلى تأثر بروان بالتأويلية والانتصار لها في عمليتي الفهم والتفسير، بل تفضيله الكتابة القائمة على الصور القابلة للتأويل، مادامت تعبر عن الواقع بصورة مباشرة. وبالمناسبة، فكينيث براون من بين الباحثين الذين اهتموا بتاريخ المغرب، حيث بحث في البنيات الاجتماعية بمدينة سلا قبل الاستعمار.
بفعل تحول الذاكرة إلى إشكالية تاريخية، أضحى موضوع التاريخ والذاكرة من أهم الحقول المعرفية الراهنة، التي أثيرت حولها العديد من النقاشات والسجالات، نتيجة اهتمام المؤرخ الحديث بالذاكرة بشكل ملحوظ[5]. وفي نفس السياق، أدرج صاحب الكتاب، مقالا نظريا حول “الذاكرة الجماعية” للمؤرخ بيير نورا، باعتباره رائد هذا الحقل وأول مؤرخ أثار هذه الإشكالية. فكان أول نص في الفصل الثالث المعنون ب”التاريخ والذاكرة”.
لقد قارب بيير نورا في مقالته تلك، العلاقات القائمة بين التاريخ والذاكرة، وإمكانية تجديد الكتابة التاريخية عبر هذه الأخيرة. منتحلا صفة مخبر إبستيمولوجي، يسترق النظر في الحدود بين الذاكرة والتاريخ، مقارنا بين الذاكرة التاريخية والذاكرة الجماعية في زمن تؤثر فيه الذاكرة أكثر مما يؤثر فيه التاريخ، بل يمكنها أن تكون -خاصة الذاكرة الجماعية- أداة فعالة لإعادة كتابة التاريخ وتحديثه. وباعتبار الذاكرة مشاركا أساسيا لإنتاجات المؤرخ، اختار محمد حبيدة نصا ثانيا لبول ريكور وسمه بِـ “التاريخ والذاكرة”.
اتجهت المقاربة الريكورية نحو إشكالية “كتابة التاريخ وتمثل الماضي”، مركزا على مشكلة التمثل، التي تتموضع منذ مدة على مستوى الذاكرة بمختلف أنواعها. وهو أمر يتوجه بالنقد إلى تاريخ العقليات، مقترحا مفهوما بديلا أكثر شمولية ووضوحا من مفهوم العقلية[6]. إنه مفهوم التمثل، الذي يمكننا من تأسيس مبحث تاريخ التمثلات على أسس إبستيمولوجية رصينة، كما يسهم في الكشف عن نقطة التقاء التاريخ والذاكرة، لأن مسألة تمثل الماضي تبدأ، برأيه، مع الذاكرة وليس مع التاريخ.
وانتصر بول ريكور في مقاله للتاريخ على حساب الذاكرة، بطريقة مقارِنة، لأن الذاكرة “تمتاز باستعراف الماضي كشيء موجود ومنعدم في ذات الوقت، أما التاريخ فيحظى بالقدرة على توسيع النظرة في المكان وفي الزمان، بقوة النقد ضمن تسلسل الشهادة والتفسير والفهم، بالتحكم البلاغي للنص” (ص 114).
إذا كانت الذاكرة والتاريخ يعتمدان على الرواية الشفهية، فقد أورد المؤرخ محمد حبيدة ضمن الفصل الثالث مقالا بعنوان: “التاريخ الشفهي” للباحث فيليب جوتار، يبين فيه دور “المدرسة الأمريكية” في ظهور هذا الفرع من التاريخ، بإعادتها الاعتبار للوثيقة الشفهية كمصدر تاريخي أصيل، عند البحث في مجتمعات لا تتوفر على وثائق مكتوبة. وأحيانا حتى في دراسة المجتمعات الحديثة، التي تغلب عليها الثقافة المكتوبة، بفعل انتقال الدراسات التاريخية إلى البحث في تاريخ فئات همشها النص المكتوب، كالنساء والكادحين والأقليات. ومن جهة أخرى، لا يمكن فهم تاريخ الحياة اليومية والتقنيات أو الحساسيات والسلوكيات والطقوس الجماعية، بعيدا عن البحث الميداني والرواية الشفوية. يتطلب الأمر، إذن، من الباحث في التاريخ توظيف المناهج الإثنولوجية، إن كان يسعى إلى مقاربة أنثربولوجية للتاريخ.
بينما قارب بيرنار بايار في المقال الأخير، حقلا جديدا في المعرفة التاريخية يثير الكثير من التساؤلات الإبستمولوجية. إنه “التاريخ الفوري” أو الآني، والذي يطرح صعوبات عديدة، تتمثل في الوثائق والمناهج، واقتحام الصحفيين والسوسيولوجيين لمهنة المؤرخ بطريقة خفية أحيانا، ومعلنة أحيانا أخرى. وتتجلى أهمية التاريخ الفوري في “خلق تراكم للمعطيات وتوليد الأفكار في نفس الوقت” (ص 126). ومع ذلك، فمن الصعوبة أن يتحول الحاضر إلى تخصص تاريخي قائم بذاته، نظرا لعموميته وانصهاره في خطابات ومجالات معرفية أخرى، خاصة السوسيولوجيا والصحافة.
ويشكل تاريخ العقليات مبحثا إشكاليا مهما في المعرفة التاريخية، يلتقي فيه التاريخ الاجتماعي بتاريخ الأنساق الثقافية والإحساسات والسلوكيات الجماعية. كما يسمح بالانفتاح على مختلف العلوم الإنسانية، واستعارة أدواتها، قصد تفكيك وبناء بعض التموجات الذهنية وتجلياتها السلوكية والطقوس. وقد ختم المترجم محمد حبيدة مجمعه/كتابه الإشكالي والمفاهيمي، بملف يضم نصوصا حول تاريخ العقليات.
حاول جاك ريفيل في مقاله “العقليات”، البحث عن السياقات الإبستمولوجية لظهور تاريخ العقليات وإثارة صعوباته المتمثلة في غموض مفهوم العقليات وضبابيته، التي تتيح له إمكانيات عديدة للتكيف مع مختلف الموضوعات. وتجدر الإشارة إلى أن تاريخ العقليات، قد تطور بوتيرة سريعة منذ النصف الثاني من القرن العشرين، بفضل خصوبته وشموليته لكل “أصناف الإنتاجات الثقافية والانفعالية”، وإمكانية إعادة بناء “العالم الذي فقدناه”، وتحقيق استراتيجية واقعية “لاحتواء طموحات العلوم الاجتماعية الأخرى داخل سديم المؤرخين الممتدد” (ص137)، مما ولّد أبحاثا ودراسات عميقة، تلامس السلوكات والطقوس والتمثلات، في حين يرى جاك لوغوف أن العقليات عبارة عن “تاريخ مبهم”، يلامس فضاء ما وراء التاريخ، ويرضي شغف المؤرخين الراغبين في الذهاب بعيدا لمعانقة مختلف العلوم الإنسانية الأخرى. فهل تستطيع عبارة العقليات تغطية وقع علمي أو احتواء تجانس مفاهيمي أو تملك فعالية إبستمولوجية؟ تلك هي الأسئلة التي حاول زعيم التاريخ الجديد الإجابة عنها.
تحول تاريخ العقليات، بفضل إنتاجات الجيل الثالث من الحوليات، إلى جبهة ريادية، وفضاء بكر، يتموضع في نقطة تقاطع الفردي بالجماعي، الزمن الطويل باليومي، الوعي باللاوعي، البنيوي بالظرفي، المهمش بالعام. ورغم الانتقادات التي تعرض لها، فإن جاك لوغوف يتشوف له بمكانة مهمة ضمن العلوم الإنسانية، شريطة الالتزام بأدواته ومناهجه مع الصرامة الإبستمولوجية في تناوله.
لقد تخصص العديد من مؤرخي الحوليات في تاريخ العقليات، وأبدعوا الكثير من الدراسات والأبحاث ذات الصلة بالحياة والجنس والمرض والموت. وهي المجالات المفضلة لدارسي تاريخ العقليات، حيث يلتقي ما هو بيولوجي بما هو ثقافي. هذا ما دفع ميشيل فوفيل إلى إثارة إشكالية “العقليات واللاشعور الجماعي”، باعتباره -تاريخ العقليات- مبحثا يمكننا من ملامسة المواقف الجماعية، انطلاقا من أفعال وسلوكات وإشارات وأحلام، أي كل ما يعبر عن الصدى اللاشعوري للتمثلات المتجدرة.
يتطلب تاريخ العقليات حسب ميشيل فوفيل، الاشتغال وفق تاريخ عمودي في أمد طويل، وذلك بالانتقال من مستويات أسفل إلى مستويات أعلى، أي من الواقع المعاش إلى خطاباته، مرورا بالواقع المتخيل، من دراسة الواقع السوسيو-ديمغرفي إلى أشكال الخطاب، مرورا بالمواقف وردود الفعل. إنها “مجموعة مركبة تفرض بحثا في الأمد الطويل” (ص178).
وختم المؤرخ محمد حبيدة ترجماته بمقال لأندري بورغيير حول “الأنثربولوجيا التاريخية”، نشر أول الأمر في كتاب “التاريخ الجديد”[7]، تحت إشراف جاك لوغوف، في إطار مشروع بناء “قاموس” معرفي ومنهجي همّ حقول الكتابة التاريخية المعاصرة.
لقد أفضى انفتاح التاريخ على العلوم الإنسانية الأخرى إلى خلق حقول معرفية تزاوج بين التاريخ الاقتصادي والتاريخ الاجتماعي، ثم إلى الأنثربولوجية التاريخية، التي رأى فيها البعض مستقبل الكتابة التاريخية، كما عبَّر عن ذلك إيفانس بريتشارد بقوله: “أمام التاريخ خيار واحد، إما أن يصير أنثربولوجيا اجتماعية أو لا شيء” (ص4).
والمثير في مقال أندري بورغيير، هو تتبُّعه لأصول المقاربة الأنثربولوجية للظواهر التاريخية، وطرحه لقضايا إبستمولوجية ذات نفحة أنثربولوجية، تظهر في طريقة تناول بعض المواضيع كالتغذية والجسم والأمراض ثم الجنس والموت والحياة، وما يرتبط بها من سلوكات وطقوس وتمثلات. فالبحث في الأنثربولوجيا التاريخية يثري دراسة العقليات، ويجعلها منفتحة على مختلف الأبعاد الثقافية حتى لا تنحصر في إطار سيكولوجي أو في تاريخ للأفكار. إن البحث في الأنثربولوجيا التاريخية من شأنه تخليص تاريخ العقليات من الانتقادات التي وجهت له، وفتح الكتابة التاريخية على إشكاليات وآفاق ومجالات جديدة.
لقد أحدثت موجة تاريخ العقليات، حسب أطروحة فرنسوا دوس في كتابه “التاريخ المفتت”[8]، انشطارا وتعددا في الموضوعات التاريخية لدرجة التخمة، بعد ضياع هويتها وتفتتها مع الجيل الثالث من الحوليات؛ فانحرف التاريخ عن هدفه المنشود، المتمثل في تأسيس تاريخ شمولي يقارب البنيات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في آن واحد، في حين يرى جاك لوغوف عكس ذلك، لأن “كل شكل من أشكال التاريخ الجديد هو محاولة لإنشاء تاريخ كلي”[9].
عموما، تتميز كل النصوص والمقالات السابقة بقوة الرؤية والمنهاج والأسلوب، بفضل أعمال رواد “التاريخ الجديد”، الذي تجاوزت أصداؤه أوروبا، ليحدث تحولات في الكتابة التاريخية غير الأوروبية، لكن تأثيره ظل محدودا ومتفاوتا بحسب البلدان والأفراد. والملاحظ حسب الدارسين، أن تأثير هذا التاريخ الجديد يظهر بشكل كبير في الكتابة التاريخية المغاربية مقارنة بالمشرق العربي[10]. وبذلك يحق لنا أن نقدِّر مثل هذه الترجمات التي تعرِّف جمهور القراء بأهمية الكتابة التاريخية واتجاهات استشكالها، وفتح التاريخيات المغاربية والعربية أمام هذه الاتجاهات.
محمد أبرهموش/ باحث في التاريخ الاجتماعي
جامعة ابن طفيل القنيطرة
[1] يتعلق الأمر بقراءة في كتاب: محمد حبيدة، الكتابة التاريخية، الدار البيضاء، إفريقيا الشرق، الطبعة الثانية 2015.
[2] محمد حبيدة، من أجل تاريخ إشكالي. ترجمات مختارة، القنيطرة، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، 2004.
[3] فتحي المسكيني، التفكير بعد هيدغر أو كيف الخروج من العصر التأويلي للعقل؟، جداول، بيروت، 2011، ص 9.
[4] محمد حبيدة، من أجل تاريخ إشكالي، م س، ص 8.
[5] عبد الأحد السبتي، التاريخ والذاكرة. أوراش في تاريخ المغرب، الدارالبيضاء/بيروت، المركز الثقافي العربي، 2012، ص 203.
[6] للمزيد من التفاصيل حول نقد بول ريكور لمفهوم العقليات وتاريخه. انظر: بول ريكور، الذاكرة والتاريخ والنسيان، ترجمة جورج زيناتي، بيروت، الكتاب الجديد، 2009، ص 285-300.
[7] جاك لوغوف (إشراف)، التاريخ الجديد، ترجمة محمد الطاهر المنصوري، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2007.
[8] فرنسوا دوس، التاريخ المفتت. من الحوليات إلى التاريخ الجديد، ترجمة محمد الطاهر المنصوري، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2009.
[9] جاك لوغوف، ن م، ص 79.
[10] يفسر محمد الطاهر المنصوري ذلك التفاوت بطبيعة العلاقة التي تربط الجامعات المغربية والتونسية بالجامعات الفرنسية. للمزيد من التفاصيل، راجع: جاك لوغوف، ن م، ص 20.