معضلة الحرب
خبرات الحرب وأخلاقياتها في سراييفو
الفصل العاشر م كتاب “أنثروبولوجيا العنف والصراع”
تأليف: آفانا ماجك
ترجمة: د. هناء خليف غني
حروب الحكومة ليست حروبي، ليست لها علاقة بي، لأن حروبي الخاصة هو كل ما اهتم بهِ (الان سيلتو، وحدة عداء المسافات الطويلة).
مقدمة:
يُعنى هذا الفصل بدراسة الآلية التي تؤثر بوساطتها خبرات الحرب في تصوراتنا عن الحرب، وبالتالي، تُغيرها. والحرب التي تشكلّ محور الدراسة الحالية هي حصار سراييفو عاصمة البوسنة والهرسك في المدة من 1992 إلى 1996.
وبغية بناء الخبرات والمعطيات غير الواضحة والمشتتة عادةً، سأقدم نموذجاً مؤلفاً من ثلاثة أنماط متعلقة بالحرب ومختلفة إلى حدٍ بعيدٍ. وقد أسميت هذه الأنماط بأنماط تصور الحرب المستندة إلى ثلاثة فواعل رئيسين هم ’المدني‘ و ’الجندي‘ و ’الفار من الخدمة العسكرية‘؛ وأود أن أؤكد في هذه المرحلة المبكرة من الدراسة تحديداً على اختلاف المعاني التي أنسبها لهذه الأنماط عن المعاني الشائعة والمألوفة([i]). ففي المقام الأول، تمثل هذه الأنماط الثلاثة ثلاث مقاربات مختلفة أخلاقياً حيال الحرب. وهذه الأنماط تشكل الأساس للتفاعل الاجتماعي، وهي في المقابل تعمل على شرعنة هذا التفاعل بثلاث طرائق مختلفة. ويلاحظ أن بإمكان الشخص ذاته من الناحية العملية استعمال هذه الطرائق كافة في تصور الحرب. وهذا التداخل في القيم الأخلاقية هو السبب في مشاعر الحيرة والاضطراب التي تستبد بنا عادةً حيال الحروب التي نشهدها على نحوٍ غير مباشر في حياتنا اليومية .
وفضلاً عن ذلك، سنلاحظ أن نمطيّ ’المدني‘ و ’الفار من الخدمة‘ هما أنماطٌ مميزةٌ للنطاق الخاص، وعلى نحوٍ عامٍ للمواقف التي لا تتقاطع كثيراً، وربما لا تتقاطع قط، مع السلطة السياسية. ولذا، سنلاحظ، في المقابلات التي أجريتها، فضلاً عن القصص الخاصة بالرواة أنفسهم وبعض من روايات الصحفيين الأجانب، حضور ’المدنيين‘ ’والفارين من الخدمة‘ في القصص التي تدور حول أشخاص، تعرفهم الراوية/ الراوي حق المعرفة. وفي مقابل ذلك، يتميز ’نمط الجندي‘ بكونه النمط السائد في المواقف العامة والخطابات السياسية والمؤسسات التي تحوز على السلطة السياسية. ولذا، ينتشر هذا النمط في غالبية الكتب التي ألفها رجال يشغلون مواقعاً في السلطة السياسية فضلاً عن الكتب التي تتخذ شكل الوثائق التاريخية والمناهج الدراسية والتعميمات البحثية وكذلك، حينما أتخذ الراوي/الراوية اللذان أجريت لقاءات معهم موقفاً سياسياً. وبالنظر إلى حقيقة سير عملية التنافس على السلطة السياسية في سراييفو جنباً إلى جنب سيرورات بناء ثلاث أمم متصارعة في ما بينها– هي الأمة المسلمة، والبوسنية والصربية والكروات – لا يبدو مدهشاً أن نجد في داخل الخطاب الخاص بالهويات والولاءات الوطنية ذاتهِ اختلافات أخلاقية مهمة بين الخاص والعام؛ وبكلمات أخرى، بين أساليب التحليل المنطقي التي يعتمدها ’المدني‘ و ’الجندي‘ و’الفار من الخدمة العسكرية‘.
وتلي هذه المقدمة مباشرةً الجزء الخاص بأنماط تصور الحرب الثلاثة. وفي كل واحد من هذه الأنماط، سأناقش أربعة من جوانب الحياة الاجتماعية المهمة، في تقديري، في الحرب في سراييفو. وهذه الجوانب هي عامل الزمن، والتصورات الخاصة بالنظام الاجتماعي والخيارات التي اُُتخذت ومشروعيتها وهويات الجماعة. وقد اخترت لأغراض الدراسة الحالية الاعتماد على رواية راوٍ واحدٍ رئيسٍ([ii]) لتسليط الضوء على الخيارات والمواقف التي شاعت في أوساط أبناء سراييفو. وعليهِ، تتألف المصادر التي استندت إليها الدراسة من روايات الراوي الرئيس المدعومة سياقياً بالكتب الخاصة بالحرب التي ألفها السراييفويون وكتب الحرب في يوغسلافيا السابقة بعامة وفي البوسنة والهرسك بخاصة التي كتبها الدبلوماسيون والصحفيون الأجانب وبعض المؤلفات الكلاسيكية عن الأفكار الخاصة بالحرب في الغرب والأدبيات الانثروبولوجية الحديثة المعنية بأوجه الحياة المدنية اليومية المتأثرة بالعنف، وأخيراً خبراتي الشخصية عن الحرب التي جمعتها في أثناء السنة التي قضيتها في إعداد دراستي الميدانية هناك (تنظر ماجك 2000). وآمل أن يساعد هذا في إدخال بضعة أبعاد مهمة في الصورة التي قدمها الراوي الرئيس؛ أبعاد تجعله وخياراته أكثر قابلية للفهم وأقرب إلى خبرات القارئ الشخصية. وآمل كذلك أن يتمكن هذا الراوي من أن يكون مثالاً مناسباً يبيّن كيف تجتمع أنماط التصور الثلاثة هذه وتتداخل في ما بينها في تعاملنا مع خبرات الحرب.
نمط تصور الحرب الخاص بالمدنيين: يتميز نمط التفكير بالحرب ’المدني‘ بالحضور القوي لتصور الحرب بوصفها مقابلاً متعارضاً مع السلام، حيث يُعدَّ السلام نمطاً عادياً ومألوفاً للحياة المتحضرة والأخلاقية حيث يسود القانون وتُتخذ الإجراءات اللازمة للتعامل مع الجرائم ومظاهر الدمار غير المقبولة التي تفضي إلى معاقبة المعتدين والمجرمين. في مقابل ذلك، تمثل الحرب حالةَ ارتباكٍ وقطيعةً ومدةً زمنيةً فاصلةً غير عادية ويستحيل، على نحوٍ عام، أن تحدث ’لنا-نحن‘. والحرب، بكلمات أخرى، هي شيء ما يختبرهُ ’الآخرون‘، سواء ظهر هؤلاء ’الآخرون‘ بصيغ الزمان أم المكان.
انهيار النظام المُميز لوقت السلم: بادئ ذي بدء، لا يتوقع أحدٌ أن يتورط أو ينخرط في الحرب. فالحروب تقع في أماكن أخرى، وتنخرط فيها جماعات أخرى. وبصرف النظر عن قربها منا، وتداخلها مع جملة من الظروف والعوامل المحيطة بنا، من المحال أن نتخيل تورطنا في الحرب طالما بقيت بعيدةً عن حياتنا اليومية المعتادة وخارج أسوارها. وتُعدّ الروايات المتكررة التي أدلى بها السراييفويون عن مراقبتهم لمجريات الحرب في كرواتيا المجاورة وشعورهم بالدهشة والصدمة حينما تعرضت سراييفو للقصف لأول مرةٍ مثالاً مناسباً في هذا المجال([iii]). وثمة مثال آخر يعكس هذا الشعور باستحالة تورط المرء في الحرب وأعمال العنف، إذ تجاهل الراوي الرئيس الخطر القادم حتى بعدما أُغلقت نصف مناطق سراييفو بالصهاريج واكتظت بالمسلحين الملثمين.
س: فجأة لم يعدّ بمقدورك الذهاب إلى غربافكا ([iv])، ثم باشروا بوضع بعض الصهاريج والسيطرات التي تمنعك من التوجه إلى كوسفسكو بردو([v]) نهاراً. شعرت حينها أن الأمور لم تعدّ كما كانت عليهِ في السابق، ثمة أمورٌ عدة تجري في المنطقة. ولكن حينما كنت أفكر بالأمر، لم تكن عندي أدنى فكرة عنها. لم يكن بمقدوري حتى تخيل وقوع هذا النوع من الحروب في منطقتي… ولذا، واصلت الذهاب إلى الشركة، ولكنك لا تعرف حقاً هل ينبغي لك الذهاب أو لا؟ لم تكن باصات النقل تعمل، وكان بعض الأشخاص يأتون وبعضهم الأخر يغيب عن الدوام الرسمي. كنت أذهب إلى العمل، ولكن لم يكن ثمة ما أعمله. أنها الفوضى الشاملة.
وتكررت القصة ذاتها على لسان جميع السراييفويين الذين خرجوا من المدينة في آذار 1992، ثم عادوا إليها ليتم توقيفهم عند حواجز التفتيش. وفي حين تجاهل البعض هذا الحدث، وسخرَ آخرون منه، عدهّ بعضهم الآخر مؤشراً مؤقتاً على المخاطر التي تُحيق بهم، فغادروا البلدة، أو أرسلوا أطفالهم خارجها لقضاء فصل الصيف ، كما كانوا يعتقدون. ومع تصاعد حدة التوتر ومخاطر اندلاع الصراع المسلح، قرر المزيد من السكان مغادرة البلدة بصورة مؤقتة. وبذل آخرون ما بوسعهم لمنع الصراع الذي تزايدت حدته وأعدت العدة لهُ بوصفه صراعاً بين ثلاث أمم بوسنية رئيسة هي الأمة المسلمة والصربية والكرواتية. وحالما بدأت عمليات إطلاق النار، شرعت الحرب التي لم تفلح الجهود المدنية في إيقافها في الدخول إلى النسيج الاجتماعي السراييفوي تدريجياً. وهكذا، شيئاً فشيئاً بدأ الناس يدركون أن الحرب الحالية لا تدور رحاها في مكانٍ أخر، بل أنها تحدث ’لنا – نحن‘.
وكانت الحرب بمثابة مفاجئة لغالبية السكان، وكما قال الراوي ، كانت بمثابة ’البرق المنبعث من السموات الوضاءة‘ وكان هذا الوصف مصحوباً بأفكار الفوضى واللامعقولية وعدم القدرة على الفهم المميزة للعديد من الروايات الحربية التي تتحدث عن الحرب كونها حدثاً ’لم يكن بمقدور أحدٍ تخيلهُ‘ (مورو كفاسيكج 1998: 66)، و’لم يختبره أحدٌ من قبل‘ (بروجفلد ولفاين 1998: 77؛ فوكوفيج 1993: 14- 15؛ أماموفج وبوسنجفاك 1994: 17)، و /أو الحدث الأكثر قسوةً في التاريخ البشري (كوبرت 1996: 141؛ فوكوفيج 1993: 14- 15؛ أماموفج وبوسنجاك 1994: 17). وحول ذلك، قال اساكوفج: “لا أعلم إذا ما كانت هذه حرباً. الحرب ليست كلمةً شاملةً وجامعةً. ينبغي أن يكون للحرب قواعد وأحكام محددة، هذا شيءٌ لم يشهد التاريخ له مثيلاً. إنها أشكال ٌ من الشر والوضاعة لم تخطر على بال أحد ولم يختبرها احدٌ من قبل.” (اساكوفج 1994: 13، المقطع من ترجمتي).
إن الفرادة المزعومة عادةً والمنسوبة إلى تجربة حربٍ ما تشير إلى خيطٍ جامعٍ تشترك فيه هذه الروايات هو عجز الناس عن نسيان أفكارهم وذكرياتهم عن حياتهم في أوقات السلم العادية أو على الأقل تجاهلها. ويبدو الأمر كما لو أن رفضهم إدراك النتائج المحتملة لما يدور من حولهم سيحميهم، إلى حدٍ ما، من الشيء الذي يخافون منهُ. وفي واقع الأمر، يكشف حديث السراييفويين عن ’الحرب‘ عن اعتقادهم أنها لن تستمر طويلاً، وان الأوضاع في بلادهم ستعود إلى سابق عهدها كما كانت عليه من قبل.
مقاومة الإيديولوجيات القومية الجديدة: فضلاً عن الأفراد ، عمت مشاعر الدهشة وعدم التصديق مفاصل المشهد السياسي حيث أظهر السراييفويون مقاومةً للتغيرات السياسية والأيديولوجية التي تشهدها بلادهم. ففي السادس من نيسان 1992، تظاهر عشرون ألف شخصٍ على الأقل([vi]) ضد السياسات القومية أمام البرلمان، معلنين ولاءهم لأرث ’الأخوة والمساواة‘ الذي أرسى دعائمه المارشال تيتو وتمسكهم بالبوسنة والهرسك متعددة القوميات. وأقتحم المتظاهرون مبنى البرلمان وأجبروا رئيس الوزراء على الاستقالة واستولوا على محطة التلفزيون وأذاعوا بياناتهم على الهواء. وذكر أحد المتحدثين: “فليذهب الشوفينيون الصرب إلى صربيا، وليذهب الشوفينيون الكروات إلى كرواتيا. نريد أن نبقى هنا ونعيش معاً. نريد أن تبقى البوسنة موحدةً” (تقرير أعده مايكل مونتغمري، الديلي تلغراف، 7 نيسان 1992، مقتبس في مالكولم 1994: 235). وفي مذكراتها اليومية، لاحظت إحدى النساء السراييفويات : [في البرلمان]، بدأ المتحدثون، المعروفون منهم وغير المعروفين، بالحديث الواحد تلو الآخر. وما أن تعالت صيحات الناس المطالبة بطرد ازتبغوفج، حتى جنّ جنونه وطفق يكرر طوال الوقت: ’ما كان ينبغي لي المجيء هنا، ولكني جئت…‘ وفي نهاية المطاف، سمحوا لهُ بالتحدث ثانية، غير أن فرص نجاحهِ في إقناعهم أخذت بالتلاشي. وبلغ الغضب الذي شعر به (اليجا) حداً جعلهُ يطالب بإلغاء اجتماع برلمان الشعب قبل أن يوافق على إجراء مقابلة مع راديو الشباب. هذا ما قاله أحد العاملين في راديو الشباب. (سوفتج 1994: 14، المقطع من ترجمتي).
وفي واقع الأمر، قاوم العديد من السراييفويين التقسيم القومي لا في هذه المظاهرات فحسب، بل حيثما ظهر، كما فعل الراوي الرئيس حينما كان في مقر عملهِ:
س: في بادئ الأمر، كنا، نحن الشباب، نعقد اجتماعات سرية. كنا نريد أن نتابع مسارنا الخاص، لن نسمح بهذا التقسيم، كنا ضد المؤسسات المحلية. إلا أننا أدركنا كم كان كل ما فعلناه ساذجاً. كنا نعتقد أن بمقدورنا ان نفعل شيئاً ما، ولكنا كنا واهمين. لم يكن ثمة ما يمكن القيام بهِ. كانت مراكز السلطة حيث تتُخذ القرارات بعيدة كل البعد عن مؤسستنا، ولم يكن بمقدورنا قط بلوغ هذهِ المراكز.
وفضلاً عن ذلك، أخفقت الاحتجاجات في تحقيق أهدافها، وأضحى الوضع أكثر خطورةً. وفي حين قرر العديد مغادرة البلاد، اختار آخرون البقاء لاعتقادهم بإمكانية حل الأزمة واحتوائها، وأن المنطقة لن تشهد تصعيداً إضافياً. وبالمثل، لم يخطر على بال أحدٍ أن الأمم الثلاثة في البوسنة ستخوض هذه الحرب، وهذا هو السبب الرئيس الذي دفع الراوي إلى التأكد أن وحدات الدفاع التي ينوي الانضمام إليها هي وحدات متعددة القوميات:
س: لبيت نداء الانضمام إلى وحدات الدفاع، وبالطبع، ما زلت عاجزاً عن فهم ما يجري. وسألت هل جميع [القوميات] مُمثلة في هذه الوحدات. وحينما أطلعوني على قائمة الأسماء، لاحظت وجود الكروات والصرب والمسلمين فيها. وهذا طبيعي بما أننا نعيش في أحد أجزاء المدينة المعروف بتعدد الأعراق. ولذا، وافقت على التطوع، وشرعنا بتشكيل وحدة عسكرية من نوعٍ ما. كنا نلتقي في أحدى الغرف، وكان مجموعنا الكلي خمسين شخصاً، ولم تكن بحوزتنا سوى ثلاث بنادق. وكان الجميع منشغل بالحديث، ولم يكن أحد ليفهم الآخر. وفي واقع الأمر، كانت الفوضى تعم المكان. ولم يكن ثمة شخصٌ لهُ من المواصفات ما يؤهله ليكون قائداً. حدث ذلك في مركز البلدية، في مطلع شهر أيار. وكانت القذائف لا تكف عن السقوط وأصوات الطلقات تُسمع من بعيدٍ، وهكذا تحددت خطوط القتال. وعرف الجميع بطريقةٍ أو بأخرى أي المناطق تعود إليهم وأيها تعود للآخرين.. أحياناً، كنا نذهب إلى الخطوط الفاصلة [الخطوط الأمامية] ، على الرغم من تولي الأفراد الساكنين هناك مسؤولية حماية هذه الخطوط. لقد كانوا يحمون مناطقهم وأراضيهم. ولم يكن لدى هؤلاء معرفة كافية بحقيقة الأمور.
تُقدم هذه الرواية الاستعادية وصفاً مهماً لطرائق الفعل وردود الأفعال ’المدنية‘ الأولى، وتخبرنا عن عبثية ردود الأفعال هذه وعدم جدواها. وحينما أشار الراوي إلى سذاجته وافتقاره الوعي، كان قد أتخذ سلفاً موقف ’الجندي‘. وطبقاً لهذا الموقف، فإن فشل المرء في إدراك حقيقة الحرب التي تدور رحاها حولهِ، وحقيقة أن الأطراف المتصارعة في هذه الحرب تتألف من جماعات قومية مختلفة، وأن المجموعة التي ينتمي إليها هي مجموعة المسلمين (أي الحكومة البوسنية) هي السذاجة بعينها. وبالمثل، كان من السذاجة الاعتقاد أنهُ كان بمقدورنا نحن المواطنون تغيير الأوضاع آنذاك أو التأثير في مسارها النهائي؛ لأن المواطنين قد يحوزون السلطة في أوقات السلام، ولكنهم عاجزون تماماً في الحرب.
من أبناء الوطن إلى العائلة: حينما يتعرض وجود المرء ذاته للتهديد المستمر والمخاطر من قبيل الحروب وحصار سراييفو، تتلخص الغاية الأساسية التي يسعى لتحقيقها من وراء انتمائه الى المجموعة وتمسكه بها في حماية حياته والحفاظ على مستوى معيشته. وبناءً على ذلك، تماهي السكان في سراييفو على نحوٍ رئيس مع مجموعة الأشخاص الذين يشعروا بالاطمئنان على حياتهم معهم. وحكمهم هذا مبني على كل من خبراتهم والمعلومات التي استطاعوا الحصول عليها حول وضعهم في الحرب.
وبعد إدراكهم أن هذه الحرب تقع في مناطقهم وتؤثر تأثيراً مباشراً في حياتهم، بدأ السراييفويون، شيئاً فشيئاً، يقلصون دائرة تضامنهم التي كانت تشمل المواطنين كافة فضلاً عن شروعهم في التخلي عن أيديولوجية ’الأخوة والوحدة‘ السياسية القديمة التي اعتمدوها قبل الحرب ، فأصبحت هذه الحلقة لا تضم سوى الجيران والأصدقاء. وبالنظر إلى انهيار غالبية المؤسسات والبنى التحتية المدنية، أصبح الناس معنيين على نحوٍ أكبر بمصائرهم الشخصية ومصائر الأشخاص المقربين منهم. وحينما أدرك الجيران والأصدقاء أنهم لم يعودوا قادرين على الثقة بإحداهم الآخر في ما يتصل بالقرارات الشخصية، تقلصت حلقة التضامن أكثر فأكثر بحيث لم تعد تشتمل سوى على أفراد العائلة. وهكذا، بات الناس يشعرون أنهم لن يكونوا أمنين على أنفسهم أو قادرين على الحصول على الولاء الكامل والاطمئنان الوجودي إلا في داخل الحلقة العائلية الضيقة.
وكلما مرت الأيام، ساء الوضع أكثر، والحلقة الضيقة من الأشخاص المحيطة بالفرد والمتمثلة بالعائلة لم تعد مرتكز الاهتمام والدعم فحسب، بل أضحت تمثل المجموعة الوحيدة التي يمكنه التعويل عليها والتشاور معها بشأن خططهِ وآرائهِ. وضمن هذه الحلقة الأضيق، يمكن للأشخاص الاعتماد على بعضهم بعضا في ما يتصل بالحصول على المساعدة غير المشروطة واللازمة لمواجهة ظروف الحياة الحربية المعقدة والتشاور بشأن قرارات مغادرة البلدة أو الفرار من الخدمة العسكرية والتعبير عن المواقف السياسية المثيرة للجدل، وعموماً الحديث عن أي شيء لا يُعدّ إيجابياً أو باعثاً على الطمأنينة. وكما لاحظت بعد مجيئي إلى سراييفو، فإن امتلاك الشخص لعائلةٍ ومنزلٍ يأوي إليه يمنحهُ شعوراً أساسياً بالأمان (الاجتماعي)([vii]). ويُعدَّ إدراك الشخص حقيقة وجود شخصٍ أخر مستعد لفعل أي شيء في حالة حدوث عارضٍ ما أمراً ضرورياً ومطمئناً يجعله يتابع حياته ويؤدي أعماله المختلفة في هذه الظروف المعيشية الخانقة والشديدة الخطورة.
الأسلوب الذي يتبعهُ ’الجندي‘ في تصور الحرب: يُعدّ قبول الحرب بوصفها ظاهرةً اجتماعيةً يتحكم بها البشر إحدى الخصائص المميزة لأسلوب تفكير الجندي بالحرب. وطبقاً لهذا المنظور، تتضمن الحروب قواعد تختلف اختلافاً بيناً عن القواعد المتبعة في وقت السلم. وهذا القواعد تسهم في شرعنة ما يُعدّ في الحالات الأخرى غير مقبول اجتماعياً وأخلاقياً (مثال ذلك، قتل الناس وتدمير الممتلكات)([viii]). وثمة دائماً سببٌ يوجب شن الحرب، وبالمثل، هناك غايات وآليات وأهداف مشروعة. واعترافنا بحقيقة اندلاع الحرب يجعل الأحداث والأفعال غير المقبولة سابقاً مقبولةً في ظل ظروف الحرب– وهذا يعني، ضمناً، أن هذا ألأمر لم يكن ليحدث قط في الظروف العادية (أوقات السلم) بحيث أن ما فعله الشخص (أو يفعله) في وقت الحرب لا يجعل منهُ شخصاً مختلفاً. ومن نافلة القول إدراك الجميع أن أسلوب الحياة هذا سينتهي بنهاية الحرب.
الذاكرة الاجتماعية: تُعدّ الأسئلة المعنية بالإجابة عن’متى بدأت الحرب [في سراييفو]؟ ومتى انتهت؟‘ من بواكير الأسئلة التي نود طرحها حول الحرب. وتبدو معرفة التواريخ والأحداث أمراً ضرورياً بما أن الفكرة العامة عن الحرب هي حقيقة استمرارها لمدةٍ محددةٍ من الوقت (قارن مع هوبز 1997 [1651]: 70؛ وجابري 1996: 34). وعليه، وبغية التحلي بالقدرة على التفكير بمجموعة من الأحداث الاجتماعية بوصفها ’حرباً‘ تحتاج إلى معرفة نقاط بدايتها ونهايتها. وفي واقع الأمر، نلاحظ، في الثقافات الغربية ما بعد الحرب العالمية الثانية (وكذلك في يوغسلافيا السابقة)، إصراراً على التفكير بالحرب وتقديمها شعائرياً في الأعياد والمناسبات المكرسة للاحتفال بهذه التواريخ. وبالطبع، فأن تقديم حدث الحرب شعائرياً لا يرتبط ببداية الحرب ونهايتها فحسب، بل بتواريخٍ وأحداثٍ وشخصيات رئيسةٍ أخرى. ويبدو أن فكرة الحرب كونها حدثاً يستمر لمدةٍ محدودةٍ تنطلق من الحاجة إلى تنظيم ظاهرة الحرب المعقدة والغامضة في الحالات الأخرى .
وتبينّ التجربة السراييفوية أن حاجة الناس إلى رمي أحداث الحرب وراء ظهورهم، من دون نسيانها طبعاً، هي التي فسحت المجال أمام تبسيط التعقيدات التي تنطوي عليها هذه الأحداث، وبالتالي، تحويلها إلى طقس شعائري. بناءً على ذلك، بالإمكان القول ان ’ذاكرة الحرب الاجتماعية‘(قارن مع كونرتون 1989) تتأثر بالحاجة إلى مشاطرة خبرة الحرب، والتي، بدورها، تؤدي إلى معاملة الحرب كونها طقساً شعائرياً يتمحور حول هذه التواريخ والأحداث والأشخاص الذين يمكن أن نضفي عليهم معنى جماعياً مميزاً([ix]).
ومثال على ذلك، بالإمكان الاستشهاد بتسمية الحكومة البوسنية لضحية الحرب الأولى، وهي الطالبة سعادا دلبروفج. إذ نصبت الحكومة في المكان الذي قُتلت فيه سعادا على جسر فربانجا، الذي أعيدت تسميتهِ مؤخراً بجسر سعادا دلبروفج، لوحاً جدارياً ووضعت وروداً لتخليد ذكرى مقتلها. وبعد ذلك بوقتٍ قصير، وتحديداً في ربيع العام 1996 حينما هدأت الأوضاع ولم يُعدّ هناك ، عملياً، المزيد من ضحايا الحرب في سراييفو، أصبح واضحاً أن هذه الفتاة ستكون رمزاً لجميع الذين قُتلوا أو فُقدوا في الحرب لا سيما المدنيون الذين لقوا مصرعهم جراء القصف العشوائي أو نيران القناصة. وبالطبع، لم تكن مسألة اختيار امرأة شابة وطالبة تحمل اسماً مسلماً كـ “ضحية الحرب الأولى” محض مصادفة. إذ أن اختيار رجل شاب يعزز احتمالات أن يكون جندياً. وبالمثل فإن اختيار شيخ لن يكون بذات التأثير الذي خلفهُ اختيار هذه المرأة الشابة التي ماتت في ريعان صباها ولما تزل الحياة أمامها طويلةً مفعمةً بالأحلام والآمال. وبما أنها طالبة، فهي ترمز للذكاء والحضارة ومستقبل الأمة. وتزداد أهمية هذه الاختيار إذا علمنا أن الحكومة السراييفوية تنظر إلى المسلمين بوصفهم الضحايا الفعليين للحرب على الرغم من شيوع الاعتقاد أن المجموعات الأخرى في الصراع كانت لها الحصة ذاتها من المعاناة والخسائر([x]).
وشهد الثاني من آيار عام 1992 ظهور رمزٍ آخر من رموز الحرب المهمة، إذ تعرضت سراييفو في ذلك اليوم لاسيما أجزاؤها الوسطى إلى قصف عنيف بالطائرات للمرة الأولى. ودأب التلفزيون الرسمي في عرض مشاهد الدمار الذي حل بالمدينة لمراتٍ لا تحصى واعتاد الناس تأمل ما حدث في ذلك اليوم واستذكاره. وفي واقع الأمر، أضحى هذا اليوم رمزاً للبربرية الصربية التي فتكت بوحشية بسكان المدينة وموجوداتها، وتذكاراً دائماً بطبيعة العدو، وبالتالي، طبيعة الحرب ذاتها.
……يتبع
([i]) لذا، سأستعمل علامات الاقتباس المزدوجة في كل مرةٍ أناقش فيها المصطلحات والمفردات على وفق مفهومي.
([ii]) تعرفت إلى عائلة الراوي الرئيس (س) في ربيع 1995. وبالنظر إلى كونها عائلةً سراييفوية شابةً وعصريةً مؤلفةً من أبوين في بداية الأربعينيات من عمرهما وأبنه وابن شابين، لم نواجه صعوبة كبيرة في العثور على لغة ومصالح مشتركة وحس فكاهة. وقد قضيت بعض الأمسيات إلى ساعات متأخرة معهم، قضيتها في الأكل والشرب والتسامر – في إنشاء العلاقات الاجتماعية، كما يقول السراييفويون. وبما أن الراوي الرئيس قد انضم إلى جيش البوسنة والهرسك (القوات المسلحة الخاضعة لسيطرة حكومة سراييفو) في مطلع الحرب، سألته في ما إذا كان راغباً في الحديث عن هذا الموضوع، وإذا كان بمقدوري توثيق ما يقولهُ على شريطٍ مسجلٍ. وقد وافق على ذلك وشرع في الحديث عن خبراته الحربية والخيارات التي أتخذها: من مدني إلى جندي، ومن جندي إلى شخصٍ يحاول إيجاد الوسائل المناسبة للفرار من الخدمة العسكرية.
([iv]) تقع غربافكا في وسط سراييفو وقد سيطر عليها الصرب البوسنيون في أثناء الحرب وأُعيد استدماجها في آذار 1996.
([vi]) تتراوح الأرقام التي تذكرها التقارير بين (20) ألفاً كما في ماغنوسن (1993: 23) أو غجلتن (1995: 2) و (50) ألفاً إلى (100) الف كما في مالكولم (1994: 235) .
([vii]) هذا هو السبب الذي جعلني أطور علاقة شديدة الخصوصية مع العائلة التي أقمت معها – أصبحت ’طفل الحرب الخاص بهم‘ (كانت أبنتهم تقيم في السويد)، وأصبحوا هم ’أبوي الحربيين‘.
([viii]) في واقع الأمر، ثمة عددٌ كبيرٌ من المصطلحات والمفردات طورت للتعتيم على الرفض الأخلاقي لقواعد الحرب ومبادئها. وبحسب سكاري (1985: 67): ’ لم تعد لغة القتل وإلحاق الأذى لغة مؤثرة أخلاقياً لأن القصف الناجح لأجساد الآلاف من الجنود الألمان الشباب بعمر التاسعة عشر يمكن تسميته بـ ’النتائج المولدة‘ في حين يسمى موت المدنيين جراء نقص الغذاء وانتشار الأوبئة بعد فرض المقاطعة الاقتصادية بـ ’النتائج الملازمة‘. وثمة تعبيرات أخرى تنتمي للنوع ذاته من قبيل ’الصراع منخفض الشدة‘ (قارن مع توسغ 1992: 22) و ’التطهير العرقي‘.
([ix]) يفترض كونرتون (1989: 3) أنه طالما تباينت ذكريات المجتمع عن ماضيه في داخل مجموعة من الأشخاص، فأنهم لن يكونوا قادرين على مشاطرة خبراتهم – وهذا غالباً يتناقض والحاجات الأساسية للناس الذين يعانون من ظروفٍ معيشيةٍ سيئةٍ في الحرب. وفضلاً عن ذلك، من الأهمية بمكان ملاحظة أن ’صور الماضي تسهم على نحوٍ عام في شرعنة النظام الاجتماعي الحالي‘(المصدر نفسه)، وهذا يجعل ’الذاكرة الاجتماعية … بُعداً من أبعاد السلطة السياسية‘ (كونرتون 1989: 1). وهذه، بالطبع، ’مسألة سياسية جوهرية‘ بما أن ’السيطرة على ذاكرة المجتمع تسهم إسهاماً جوهرياً في تحديد تراتبية السلطة‘ (كونرتون 1989: 1) .
([x]) ينطبق تعريف هيدتوفت ’للبطل‘ بوصفه تجميعاً ’للمعاني الوطنية‘ (1993: 281- 300)، في جابري 1996: 140) على هذه الحالة، وأفضل مثال على ذلك تحويل سعادا دلبروفج إلى بطلةٍ وطنيةٍ، وكان هذا الأمر يمثل جزءاً من البنية الوطنية المسلمة التي تشكلت في أثناء الحرب. وبعد اسبوعٍ واحدٍ فقط من موتها، جرى الحديث عن سعادا بوصفها ’أول بطلة في عملية الدفاع عن سراييفو‘ (بريبورود 15 نيسان 1992، المقطع من ترجمتي).
سرني وشرفني ان اطلع على هذا الموضوع وتأثرت كثيرا بقراءته. شكرا جزيلا