أنثروبولوجيا العنفقة
قراءة في تحولات جمال اللحية والهوية الذاتية
عبدالرحمن بن عبدالله الشقير
تداول المجتمع السعودي (شعبان 1446هـ/ فبراير 2025) مقطع فيديو لأب مسن يرفض السلام على ابنه الشاب الذي حلق حليته وأبقى عنفقته وغادر بغضب، فتداول الناس سؤالا عن حكم حلق اللحية، إلا أن هذا الموقف البسيط يتجاوز البعد الفقهي؛ لأنه يعكس تحولًا ثقافيًا أعمق.
فاللحية كانت إلى وقت قريب رمزًا للالتزام الديني والانضباط الاجتماعي، بينما أصبحت الآن موضع جدل بين الأجيال، واستبدلها كثير من الشباب بالاهتمام بالشعيرات التي تحت الشفة السفلى وفوق الذقن، وأصبحت موضة صغيرة لها رمزية ثقافية كبيرة ودور في تعزيز مفاهيم الفردانية وتحدي الثقافة التقليدية، وقد ظهرت هذه الروح في ثقة الشاب في مقطع الفيديو في صحة قراره؛ لأنه ينتمي لثقافة جيله، وبالتالي بدأت تأخذ موقعًا جديدًا في المشهد الاجتماعي.
وقد تعتبر العنفقة احتجاجا صامتا لدى جيل الألفية وتعتبرها من أشكال الأناقة والموضة والانتماء لمجموعات لا تقبل السائد في المجتمع، وترى هويتها في مشاهير الرياضة والفن.
سنوف نحلل في هذا المقال العنفقة من منظور أنثروبولوجي وكيف أصبحت أحد محددات الهوية الذاتية ومن معايير الجمال.
العنفقة من الإهمال إلى الموضة
العنفقة في اللغة الفصحى تعني الشعيرات الخفيفة في الذقن، وجمعها عنافق، وهي نادرة الاستخدام اللغوي، كما أنها كانت مهملة في معايير الأناقة.
جاء في “لسان العرب”: “العنفقة ما بين الذقن وطرف الشفة السفلى، كان عليها شعر أو لم يكن”[1]، مما يعني أن الشعر جزء من العنفقة، ولكن السياق اللغوي يحددها بالشعر.
وتأتي في سياق طهارة المسلم، وتسمى “المَغْفَلَةُ: هي العَنْفَقَةُ، وسُمِّيَتْ بذلك لأنَّ كثيراً من الناس يَغْفُلُ عنها عند الوضوءِ”[2].
ويرد العنفقة في الفتاوى لأغراض أحكام حلقه وقصه وصبغه، كما يرد في معاجم اللغة من باب الوصف، ولم يتحول إلى جماليات إلا في السنوات الأخيرة.
رغم صغر حجم العنفقة وإهمالها في الثقافة المحلية، إلا أنها أصبحت ساحة للموضة، وبدأ يتشكل حولها تقاليد جديدة وهوية ذاتية، فما الذي يجعل هذه البقعة الصغيرة مثارًا للجدل، وتحويلها إلى جانب جمالي، رغم ابتكار ألقاب بذيئة لها مثل التفلة والنقطة والصفر؟
وهذه التسميات الحديثة تؤكد على إهمالها في الثقافة الشعبية في الماضي، وعلى اهتمام بعض الشباب بها تبعًا للموضة رغم انتقاصهم لها، وتسليط الضوء عليها كرمز جمالي جاء من مشاهير اللاعبين والممثلين العالميين.
وقد كانت العنفقة مهملة في جماليات الوجه وليس لها تشخيص تشريحي أو طبي، ثم أخذت نصيبًا من الأناقة الشبابية بفضل انتشار قيم العولمة وصعود رموز المشاهير في العالم للترويج لهوية الشباب الشكلية.
رقعة الروح في أوروبا
كتب فيل إدوارد مقالة (أغسطس 2014) عن تاريخ رقعة الروح، وهذا اللقب التشريفي للعنفقة في أوروبا، وتسمى في فرنسا “موش” وتعني الذبابة، وهي تسمية تحقيرية ايضًا، وأشار إلى ارتباطها الكبير بالمجتمع الفني؛ فقد كان للملحن الأمريكي فرانك زابا رقعة روح طويلة وشارب كث، وسجلها كعلامة تجارية لشهرتها.
برزت رقعة الروح في الغرب في الخمسينيات مع الهيبيز، الذين ورثوها من ثقافة الجاز وتفننوا في تربية رقعة الروح، ثم تراجعت وعادت بقوة في أواخر التسعينيات مع ظهورها على أبطال بعض الأفلام[3].
وتزامن انتشارها الجديد مع الألفية يفسر دور التقنية والأفلام والفن في جذب شباب العالم لها وتحسين صورتها لارتباطها بالمشاهير.
لماذا سميت بأسماء سلبية؟
للشعر المتكوم تحت الشفة السفلى شهرة وجمال، ورغم ذلك ليس له اسم شعبي متعارف عليه، وقد نشأ له مسمى رديء مؤخرًا، وهو “التفلة”، وهذا الاسم المعتمد عند حلاقي بعض الأحياء الشعبية، والبعض يسميه “النقطة” و”الصفر”.
يمكن أن نتساءل عمن الذي منح الألقاب الرديئة للعنفقة؟
الإجابة سوف تزيد الموضوع تعقيدًا، ولكنه تعقيد يؤدي إلى كشف بعض تحولات الهوية الفردية، فالعنفقة الفصيحة كلمة ثقيلة على اللسان والأذن، ولا تناسب روح العصر.
وتسميات التفلة والنقطة تنتمي لبيئة الحلاقين في الأحياء الشعبية، فهم يتعاملون مع الشباب بالإشارة إليها بالإصبع، وفي كل مرة تطلب الوضع ابتكار تسمية متفق عليها، وبما أن موروث الشباب اللغوي والشعبي لا يسعفهم، فقد تركوا التسمية للحلاقين، وتقبلوها وانتشرت بينهم بسرعة.
ويبقى إشكال آخر، وهو تداول المصطلح بين الشباب وعدم الاعتراف به ضمن القاموس اللغوي الشعبي، وتأخر معاجم اللغة عن مواكبة مستجدات الموضة وتقليعات الشباب.
الحالات الثمان الجمالية للعنفقة
لجماليات العنفقة ثمان حالات، وقد أصبح تصميم العنفقة فن لا يتقنه كل الحلاقين، وهي التالي:
– العنفقة البيضاء، وهي خاصة بالشيب، وكان الحسين بن علي بن أبي طالب أول من تركها بيضاء مع صبغ اللحية، عبد الرحمن بن بزرج، قال: “رأيت الحسن، والحسين يتخضبان بالسواد إلا أني رأيت الحسين له عنفقة بيضاء”[4].
وقد يكون ترك الحسين رضي الله عنه عنفقته بيضاء يحمل بعدًا دينيًا كالزهد وعدم التصنع ومقاومة تقدم العمر، أو تعزيز هيبته بترك رمزية بيضاء، أو جعلها سمة تميز شخصيته القيادية، مما يعكس شخصية مستقلة ضمن القيم الاجتماعية السائدة.
– العنفقة الكثيفة المنفردة في الوجه مع حلق الشارب واللحية، وهذا النمط نادر الاستخدام.
– حلاقة العنفقة مع إبقاء الشارب واللحية، وهي عكس الحالة السابقة، وهي تعكس ثقافة اجتماعية تركز على الشارب اللحية، وحلقت العنفقة لعدم وجود نصوص صريحة مكثفة حولها.
– إبقاء العنفقة والشارب مع حلق اللحية، وهذا نمط كلاسيكي ذكوري شائع، وخاصة بين شباب الستينيات في أمريكا، كما تظهرها الأفلام.
– العنفقة المتصلة بالذقن، وتسمى في المجتمع السعودي “سكسوكة” إذا كانت اللحية منفصلة عن الشارب، وهي شائعة لدى جيل الستينيات وكبار السن، أما إذا كانت اللحية متصلة بالشارب كالدائرة فيمسى “مخنجر لحيته”؛ لأنها تكون ملتفة وتبدأ سميكة ثم يصغر طرفها كالخنجر.
– العنفقة المنفصلة عن الذقن، تكون العنفقة أكثر وضوحًا إذا انفصلت عما تحتها من شعر الذقن واللحية.
– العنفقة الكثيفة، وتعبر عن المظهر الرجولي.
– العنفقة الخفيفة، وتعبر عن الأناقة الطبيعية.
أصبح وجود العنفقة أو غيابها وشكلها يعبر عن الخيارات الشخصية وتوقيع جمالي، مما يعكس حالة أنثروبولوجية عميقة حول معايير الجمال المتعلق بالهوية الفردية والتعبير عن الذات.
ونلحظ تحول أجزاء مهملة من الجسد إلى جماليات شبابية مثل العنفقة، تعكس تطورات ثقافية أنثروبولوجية وتحولات في مفهوم الجمال الفردي والجماعي، وتطورًا جديدًا في الطريقة التي يتفاعل بها الإنسان مع جسده بتفاصيل غير معتادة، بهدف البحث عن الهوية الذاتية والانتماء لثقافة جديدة والبقاء في سياق اجتماعي معولم.
رمز الهوية الشبابية
إذا كان المظهر الخارجي يعتبر عن الهوية البصرية التي تعكس التوجهات الاجتماعية والثقافية، فإن تبنى الشباب للعنفقة يعد تعبيرًا عن التميز والفردانية والانتماء، وإبراز الذات بعيدًا عن الأشكال المألوفة لمظهر الوجه.
وتترك انطباع آني يعبر عند صاحبها عن الحداثة والجرأة والانفصال عن التقاليد، ولكنه انفصال من داخل المنظومة الاجتماعية والثقافية.
كان الشارب واللحية رمز الرجولة والقوة عبر التاريخ، وكانت تحمل معها دلالات الحكمة والنضج والمسؤولية والسلطة الأبوية، بينما أعادت العنفقة تشكيل هذه الرمزية بتخفيف حدة معاني الرجولة والذكورة وإضافة عنصر الأناقة والتميز.
تأثير المشاهير
بدأت العنفقة كموضة عالمية، مما أعادها إلى الواجهة الشبابية، وهي تأكيد على تأثير الإعلام العالمي وفرض أشكال الأنماط السائدة الجديدة حول الجسد بقوة التواصل البصري عالميًا.
وتأتي التأكيدات الكبيرة أحيانًا من المظاهر الصغيرة، فالعنفقة جاءت بقوة العولمة التي تستخدم مشاهير الرياضات والفنون في العالم للترويج لأي موضة وتبسيط تقبلها، وبناء ثقافات معولمة جديدة منفصلة عن سياقها المحلي.
مستقبل العنفقة
هل تعتبر العنفقة موضة عابرة وستنتهي أم ستكون جزءًا من الهوية الجمالية؟
قد تبقى لأجيال. والأخطر أن تستقر أسماؤها السلبية دون تغيير، فالبيئة الاجتماعية المختزلة في اللاوعي مولعة بمنح أسماء سلبية للظواهر الجديدة، ثم تستقر الظاهرة باسمها السلبي عبر الأجيال والقرون.
والعنفقة بدأت تقليعة يفترض أن تبقى لأشهر ثم تزول، ولكنها تحولت إلى موضة وبقيت لسنوات، وتسربت إلى الشباب دون ملاحظة التيار الثقافي والديني حول انتشارها.
ختام
تؤدي العنفقة اليوم دورًا في إعادة تشكيل الطريقة التي يقدم بها الشباب مظهرهم وعلاقتهم بأجسادهم وتصالحهم مع الشكل الأنيق بمصطلح رديء. وأصبح الشباب من أهم ناقلي الثقافات المعولمة إلى البيئة المحلية.
وإذا كان أجيال التسعينيات وما قبل يستخدمون قصات شعر الرأس المميزة وغير المألوفة كتوقيع شخصي، فإن العنفقة لاعب أساسي جديد للتعبير عن الجسد، وتعد استمرارًا لهذه التقاليد الشبابية.
تكمن المفارقة في النزاع الداخلي لدى الشباب بين الاندماج في الموضة بقصات العنفقة والتمسك بالرجولة والقيم بتحقير أسمائها بالتفلة والصفر.
وبالتالي نكون أمام رمز للتحولات الثقافية العميقة التي تعكس تغير مفهوم الجمال والهوية الذاتية، وعصر جديد يمنح التفاصيل الصغيرة التي لا يؤبه لها معاني كبيرة.
[1] ابن منظر، لسان العرب، ج 10 ص 277.
[2] الصاحب بن عباد، المحيط في اللغة، ج 1 ص 413.
[3] https://triviahappy.com/articles/the-meaning-of-the-soul-patch-a-brief-history
[4] أبو نعيم، معرفة الصحابة، تحقيق عادل بن يوسف العزازي، الرياض، دار الوطن، 1998 ج 2 ص 665.