سُبل قضائية وغايات سياسية: أنثروبولوجيا العدالة الانتقالية والمحاكمات السياسية
بقلم: جيرهارد أنديرز
ترجمة: ضي رحمي
هناك تشابه مثير، وصلة وثيقة بين المحاكمات السياسية والعدالة الانتقالية. فكليهما يهدف لخدمة غايات وأغراض أخرى تختلف عن كونها مجرد وسيلة لمعاقبة الأفراد من مرتكبي الجرائم. وغالبًا ما يعملا على إضفاء الشرعية على نظام جديد، أو على نظام قائم بالفعل. وربما تستخدم السُلطات المحاكمات لتجريم المعارضين السياسيين. وفي بعض الأحيان، يحاول المتهم استخدام المحاكمة كمنبر لتحدي الوضع الراهن، وإرسال رسالة سياسية. وغالبًا ما تسعى المحاكمات الجنائية ولجان تقصي الحقائق إلى توجيه الناس من خلال خلق رواية تاريخية ونسب المسؤولية عن عنف الماضي لمختلف الأطراف.
أسرت المحاكمات السياسية مخيلة البشر منذ العصور القديمة. ولا تزال محاكمة سقراط، الذي أُدين بإفساد شباب أثينا عام 399 قبل الميلاد، ويسوع المسيح، تستخدم كأمثلة تاريخية على استغلال الوسائل القانونية لخدمة أغراض سياسية. ومن أمثلة المحاكمات التاريخية الشهيرة محاكمة جان دارك عام 1431، ومحاكمة تشارلز الأول ملك بريطانيا عام 1649، ولويس السادس عشر في 1792. ومن الأمثلة الحديثة قضية دريفوس ومحاكمات موسكو خلال عقد الثلاثينيات من القرن العشرين.
كانت محاكمات موسكو مثالًا حيًا لاعتداء القضاء الصارخ على المعارضين السياسين. وكانت تلك المحاكمات تجسيدًا لتجريم المنافسين السياسيين والمحاكمات الجنائية ذات النتائج المحددة سلفًا، ألا وهي إدانة المتهم.
إنً عنصر الريبة أو عدم اليقين، والذي يعد عنصرًا حاسمًا في المحاكمة، هو مثالٌ حاد وصريح على إخفاء ما هو سياسي وراء ما هو شرعي. والقضاء السياسي لا يقتصر، بأي حال من الأحول، على الأنظمة الاستبدادية وحسب. ففي دراسته الرائدة (1961)، يقول أوتو كيرتشايمر أنّ الديموقراطيات الليبرالية تشهد محاكمات سياسية بوتيرة منتظمة، رغم أن محاكمها تعتبر مستقلة عن النفوذ السياسي ويحكمها الالتزام بسيادة القانون
وعلى النقيض من المحاكمات الصورية التي أجريت بأمرٍ من ستالين، تميل الديموقراطيات الليبرالية لاستخدام عنصر عدم اليقين. إن مفهومي ضمان سلامة إجراءات المحاكمة، والحق في المحاكمة العادلة يعطيان المتهم “فرصة المعارضة” (يوريا بيلسكي، المحاكمات الجزائية السياسية في عصر الإرهاب، 2001:11713) في حين أن اللجان العسكرية في جوانتانامو تقع في المنتصف بين المحاكمات الصورية والمحاكمات التي تحترم حقوق المتهم.
انتقدت المحاكمات ضد مجرمي الحرب من مرتكبي الهولوكوست، مثل نورمبرج وإيخمان، بوصفها محاكمات سياسية. كذلك انتقد المراقبون من أمثال “هنا أرنت” (1963) استخدام تلك المحاكمات كأدوات تعليمية وتشريعية للفت الإنتباه بعيدًا عن مسألة الجريمة الفردية. وفي الآونة الأخيرة طال هذا النقد أيضًا المحاكم الجنائية الدولية، مثل المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة في لاهاي، ومحكمة رواندا في أروشا.
من منظور أنثروبولوجيا القانون، لا يمكن فصل القانون عن “سياقه”. فالقانون هو تجسيد لديناميات اجتماعية وثقافية وسياسية، وهو يُدرَس من هذا المنطلق.
فالمسألة ليست على هذا النحو: القانون والثقافة، بل القانون كثقافة، أو كظاهرة اجتماعية. من هذه الزاوية، جميع لجان تقصي الحقائق والمحاكم الجنائية وآليات العدالة الانتقالية الأخرى سياسيّة، لكن هناك أيضًا محاولات لتوظيف تلك المؤسسات لخدمة أغراض سياسية في صورة أكثر دقة ووضوح: لتحييد المعارضين السياسيين، ولإضفاء أو إنكار الشرعية على حكومة ما، وكوسيلة لكسب أو تقليص السلطة السياسية والنفوذ.
ولقد تمكنت، أثناء دراستي الميدانية في سيراليون، من ملاحظة كل من سياسات العدالة الجنائية الدولية في المحكمة الخاصة بسيراليون، ومحاولات استخدام المحاكمات الجنائية لخدمة أغراض سياسية وفقًا لتفسير لـ كيرتشايمر. كان من الواضح أن المحاكمات التي اجريت في المحكمة الخاصة تهدف إلى تعزيز شرعية الحكومة المنتخبة ديموقراطيًا. وأكد العدد القليل ممن ثبت اتهامهم بإرتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية على الطبيعة الرمزية للمحكمة الخاصة لسيراليون.
ورغمًا عن طبيعتها السياسية، بذل ممثلي المحكمة الخاصة جهودًا كبيرة لضمان احترام حقوق المحاكمة العادلة للمتهمين، والتأكيد على استقلال القضاء. ومع ذلك، لم يمتد عنصر احترام سيادة القانون هذا إلى النظام القانوني المحلي.
وبينما كان يخضع قادة مختلف الفصائل المسلحة للمحاكمة في قاعات المحكمة الخاصة لسيراليون، كان هناك المئات من الأعضاء السابقين، في اثنين من الجماعات المتمردة الرئيسية، رهن الاعتقال في سجن باديمبا رود شديد الحراسة بموجب حالة الطواريء، فقط على بُعد بضع مئات من الأمتار من مقر المحكمة الخاصة.
وفي النهاية، وبعد مرور سنوات على اعتقالهم دون تهمة، حاكمت السلطات في سيراليون أكثر من ثمانين متمرداً سابقاً بتهمة الخيانة والقتل والتآمر. بالطبع، معظم هذه الأحكام ألغيت في الاستئناف لعدم كفاية الأدلة، لكن حين أتى آوان إطلاق سراحهم عام 2006، كان الغرض من اعتقالهم قد أٌنجز، وهو تحييد هؤلاء المتمردين السابقين خلال الفترة الانتقالية المضطربة.
ويمكن القول بأن احتجاز مئات المتمردين، والمحاكمات في المحاكم الوطنية لعبا دورًا هامًا أيضًا في عملية انتقال البلاد. وفي الواقع، إن تأمل الصلة بينهما وبين المحكمة الخاصة لسيراليون واللجنة المحلية لتقصي الحقائق، يعكس صورة أكثر تعقيدًا وغموضًا.
المصدر: http://goo.gl/ecxOps