أنثروبولوجيا الضيافة
عبدلله المطيري
في تركيا جماعات تبقي مكانا خاليا على مأدبة الطعام انتظارا لضيف قد يقبل في أي لحظة. المقعد الخالي، الطعام المعد، الحساسية العالية تجاه ما يحدث في الباب المفتوح،؛ كلها مشاهد احتفاء بالآخر الذي قد يأتي وقد لا يأتي
الحديث عن الضيافة أنثروبولوجيا يعني التعامل معها كحدث لا كفكرة. الضيافة بهذا المعنى مشهد لعلاقة تجمع جماعة من الناس يسعى المنهج الأنثروبولوجي لوصفها بالقدر الأكبر من الدقة، أنثروبولوجيا هذه الدقة تتحقق بمعايشة مجتمع الدراسة، بالعيش معهم حتى يتسنى للباحث الوصول إلى معاني ودلالات العلاقات والأحداث، كما يتصورها مجتمع الدراسة ذاته.
المنهج البحثي الأكثر انتشارا في الدراسات الأنثروبولوجية هو المنهج الإثنوجرافي القائم على نقل وجهة نظر مجتمع الدراسة، بدلا عن الحديث نيابة عنهم، أن تتحدث عن الضيافة بهذا المعنى يعني أن تصفها وأن تصف دلالاتها الوجودية على أطرافها. هذا بحث ظاهراتي بالمعنى التالي: الظاهراتية هي دراسة بناء الوعي كما تمت خبرته من منظور صاحب الخبرة. أي أن ندرس بناء وعي المضيف أو الضيف في مشهد الضيافة من منظورهم الخاص، بهذا المعنى نحاول تصوير كيف يعي المضيف ذاته ووجوده ومعناه وعلاقته مع الآخر في هذه العلاقة، لكن هنا يجب أن نحذر من قضية مهمة جدا وهي أن الضيافة وإن كانت مشهدا في الوعي إلا أنه لا يمكن استغراقها في هذا الوعي، هناك دائما ما هو مؤسس للوعي في الضيافة وتحديدا: الآخر، الآخر هنا لا يظهر في الوعي فقط بل يؤسس الوعي، هذا مفترق طرق مهم جدا لفلسفة ليفيناز أو كل فلسفة الغياب في مقابل الفلسفة الظاهراتية، فلسفة الوعي، فلسفة الظهور الهوسرلية.
يشير ليفيناز إلى أن العلاقة مع الآخر سابقة للوعي وسابقة للتصورات الذهنية عن الوجود. للتوضيح يشير ليفيناز إلى الظاهرة اللغوية ويتساءل: هل الآخر منتج لغوي أم شرط أولي لوجود اللغة؟ هل يمكن وجود لغة بدون آخر؟ اللغة هنا ليست الكلام بل المسؤولية بين الذات والآخر التي ينتج عنها الكلام. نلاحظ هنا أن الكلام ينقطع ويتلاشى بمجرد أن يقرر أحد الأطراف عدم اهتمامه أو عنايته بما يقوله الآخر. أي بمجرد أن يقف عن الشعور بأن مسؤول للاستماع والاستجابة لما يقوله الآخر. هذه المسؤولية تحديدا هي شرط أولي للغة، شرط أخلاقي، لذا فالأخلاق هي الفلسفة الأولى.
نعود للوعي. السؤال الليفينازي سيكون: هل يظهر الآخر في الوعي أم أن الآخر شرط لإمكان الوعي وتوجيه الاهتمام. الآخر يظهر في الوعي هذا أكيد ولكن هذا ليس كل المشهد. وجود الآخر (ويمكن توسيعه هنا ليشمل الأشياء كذلك) هو ما يجعل من الوعي ذاته ممكنا. في عالم بلا آخرين لن يتوجه الاهتمام إلى شيء ولن يحدث وعي، لن يتشكل الأفق الذي تظهر فيه تلك الأشياء. بهذا المعنى فإن وجودي مع الأشياء شرط لوعيي بهذه الأشياء. يضيف ليفيناز أن العلاقة مع الآخر هي ما جعلت من وجودي ممكنا منذ البداية. “لا وجود بلا آخر” يعلن ليفيناز.
هذا النقاش مهم عند تفكيرنا في الضيافة. تحويل الضيافة إلى فكرة، إلى أطروحة ذهنية يغفل كونها احتفاء بما لا نعرف وبما هو جديد وما هو مختلف وغريب. الجديد والغريب والمختلف والمفاجئ بالضرورة متجاوز لما نعرف وما نعي. لو لم يكن كذلك لكان مألوفا ومتسقا بشكل أو بآخر بما تم تصوره ووعيه وفهمه. الضيافة هنا لم يعد من المجدي أو حتى الممكن وضعها في محاججة. المحاججة لها ستشبه تقديم أدلة وبراهين أن الخبز لذيذ. كل هذا الحجاج لا يساوي شيئا أمام تذوق الخبز. الحجاج بلذة الخبز يتجه للطريق الخطأ، الذوق ليس حاسة نظرية وكذلك الضيافة. الضيافة بهذا المعنى هي وجود مع ما لم يوجد بعد أو مع ما يوجد باستمرار، لذا فهي وجد مع إمكان واحتمال. يرصد بعض الأنثروبولوجيين عن جماعات في تركيا أنهم يبقون مكانا خاليا على مأدبة الطعام انتظارا لضيف قد يقبل في أي لحظة. المقعد الخالي، الطعام المعد، التوق للقادم، الحساسية العالية تجاه ما يحدث في الباب المفتوح كلها مشاهد احتفاء وعناية بالآخر الذي قد يأتي وقد لا يأتي. من يعرف أهل الضيافة يعرف حساسيتهم تجاه مشهد الباب وما يجري حوله. إن كان الباب مغلقا فإن حدث الطرق على الباب أو النداء من خلفه ينقل من في الداخل إلى أفق آخر من الوجود. اهتمامهم يختلف، سلوكهم يختلف، نظرتهم لمكانهم تختلف. يتحول أهل البيت من أسياد فيه إلى خدم للقادم الجديد. خدمة الضيف، من لا نعرفه بعد، ليس قرارا يتم اتخاذا، بل حدث يترافق مع حدث طرق الباب. قد تتفاوت المواقف في كيفية الخدمة ولكن الخدمة ذاتها ليست خيارا. الخدمة هذه واضحة حتى في أسوأ الأحوال: في رد الضيف. تظهر في الأسف والحزن والاعتذار عن رده. عن العار الذي تلحقه الذات بذاتها بسبب رد الضيف بسبب الشعور بالجريمة. أو بإعلان العجز. لن أستضيفك ولكن هذا عذري: استضافتك مستحيلة، أنا أعجز عنها، قانون العالم يفرض علي ردك: فقري وجوعي. العالم بكل حتميته وجبريته أضعه بين يديك لعله يخفف قليلا من وطأة ردي لك. هذا الاعتذار علامة حادة عن واجب ومسؤولية الخدمة تجاه الضيف: تجاه من لم نعرف بعد، تجاه من طرق الباب، من أقبل علينا. من تفضل بالقدوم.
كل هذا لا يتأتى إلا بالعيش مع أهل الضيافة إلا بممارسة الضيافة. هنا نفهم قول مارتن بوبر حين قال “أنا لا أعلّمكم شيئا، كل ما أفعل هو أنني رأيت أمرا وقضيت عمري في الإشارة للنافذة التي أوصلتني له”.
المصدر: جريدة الوطن
https://goo.gl/cErHbh
شكرا جزيلا على هذا الموضوع
هل يمكنكم تزويدنا ببعض المراجع حوله (الضيافة)؟