يستغرق البعض بما تعلمه ، فلا يمكن له أن يخط سطراً خارجه ! هو مسجون ضمن الإطار الفكري الذي نسجه له أساتذته ! ضمن البراديغم الذي تشربه من سنوات الدراسة التي حولته إلى جاهل مركب [لا يعلم ولا يعلم أنه لا يعلم]!
هو يعلم معلومات ، مصطلحات ، لكنها غير كافية لتصنع وعياً ! ليس لقصور منه (وأحياناً بلى) لكن لأنها غير مجهزة لصناعة هكذا وعي ! هي علبة عدّة ، مجهزة ببعض الأدوات وغير قادرة على توصيف/تحليل إلا ظاهرة محددة !
للتوضيح : عندما يحضر السمكري ليصلح صنبوراً يرشح ماءً لن يقدر على تصليحه إلا بإستخدام مجموعة أدوات من عدته ! فإذا كانت كل عدته مفك براغي وشـريط لاصق ، فلن يقدر على فعل شيء ! وسيبقى الصنبور يرشح ماءً !
هذا يوضح أيضاً فكرة الإطار/البراديغم/النموذج الإرشادي ، الذي يرزح تحت ثقله البعض ، لذا هو لا يفهم بعض المسائل ، ولا يفهم أخرى كما يجب أن تفهم ، ليس لحمق فيه ، بل لعقم منهجي في تدريبه ، ولغياب الوعي ! هذا النوع ، مجرد ببغاء ، غير مدفوع له ، فهو مغيب الوعي وبالتالي التأثير !
وهناك بعضٌ مفكر ، يحمل عدة متنوعة ، متغيرة ، تناسـب كماً أكبر من الظواهر ، لذا يـتـم التعاطي معه بإحدى طريقتين :
- الشراء ، مباشرة أو غير مباشرة ! فإما يقبض ثمن سكوته أو تحريفه – مباشرة : يعني أنه يعرف أنه أضحى مستزلماً لا مبدأ له إلا لمن يدفع أكثر – .
وإما غير مباشرة : عبر تعيينه مديراً لمركز بحثي أو غيره ، فهنا قد يبرّر/يموّه على نفسه أنه يخدم القضية عبر الدراسات العلمية التي ينشرها (هو/مركزه) ، وأنه إذا لم يكن هو في هذا المركز ، سيأتي غير كفؤ ، لينهب ويزوّر ، فهو الضمانة ليبقى (على الأقل) المركز فاعلاً ولو بالحد الأدنى !
وقد يكون الشراء ، بالحد الأدنى ، إعتماداً على الشخص الذي يتم شراؤه ، وقد يكون بغير المال ، لكنه يوصل لذات الغاية ! وهي أن الشخص (باحثاً ، مفكراً ، منظراً …) يخدم عكس قضيته ! هو ينشر الظلام بحجة التنوير !
إنه لا يعي الأزمة التي يعيشها ، فهو منغمس لدرجة ألا يجد الفرصة للتفكير والتأمل وإعادة الحساب ، لكنه يجد سهولة في التبرير ، إذ للثروة حساباتها …
- الإسكات ، عبر الإلغاء الجسدي ، وهذا الأشهر ، أو عبر تشويه السمعة ، فيمتنع على الناس سماعه ! أو عبر تهديده بعزيز على قلبه ! أو تلفيق تهمة … أو غيره !
والأخطر هو عبر إستدخال العجز في وعيه ، فيمتنع من تلقاء نفسه عن الصراخ ! يتعلم العجز ، فيعترف بأنه غير قادر على تحقيق شيء – فتغيير الحال من المحال – ، ويتوجه لتحقير ذاته ، ثقافته/حضارته ، ويستبطن الحل السحري بترك الكل من أجل حداثة موهومة ! [بذلك يتحول إلى مستزلم من غير نفع مالي ، لكنه مؤثر … لأن الفساد لم يتغلغل فيه ، وكلامه مسموع ، لأنه مشهور بحسن الطوية ونظافة الكف ! ويتحول بذلك أتباعه للجهل المركب]
وهناك أخيراً ، قلة مفكرة ، واعية ، نابهة ، صامدة ، مقاومة ، القلة التي شخصت الداء بدقة ، وقدمت الدواء الناجع ، وتسعى من أجل تحقيقه ولو كانت لوحدها ، معزولة ، أو منبوذة ، فطريق الحق قليل السيّارة … ووحشة الطريق لا تمنع من تنكّبه ، وتنكّب مشاق تمهيده للأجيال اللاحقة !
آه .. ما أقسى الجدار
عندما ينهض فى وجه الشروق
ربما ننفق كل العمر .. كى ننقب ثغرة
ليمر النور للأجيال .. مرة !
ربما لو لم يكن هذا الجدار ..
ما عرفنا قيمة الضوء الطليق !!
ملاحظة 1 : الأبيات الشعرية لـ “أمل دنقل” من ديوان : البكاء بين يدي زرقاء اليمامة .