لتحميل المقال بصيغة Pdf انقر هنا
مبروك بوطقوقة
في الثاني عشر من شهر كانون الثاني/ يناير من كل عام، يحتفل الأمازيغ في الجزائر، على غرار إخوانهم في كل بلدان الشمال الإفريقي من واحة سيوة في مصر إلى مدينة طنجة في المغرب، برأس السنة الأمازيغية والفِلاحية الذي يوافق هذه السنة العام 2965 حسب التقويم الأمازيغي، الذي يسبق التقويم الميلادي بحوالي عشرة قرون. يطلق على الاحتفال محليا اسم “ينّاير” (بتشديد النون)، وyanuyar كلمة أمازيغية مركبة من كلمتين: yan وتعني واحد، وayur وتعني الشهر. كما يطلق على الشهر الأول من السنة الأمازيغية كذلك تسميات “إملالن” و “أقورارن” حسب اختلاف المناطق واللهجات، وأيضا “بورت أوسقاس” أي ليلة السنة، ويعتبر البداية السنوية في ممارسة الأعمال الفِلاحية.
يختلف الجزائريون في طريقة إحياء “ينّاير” من منطقة إلى أخرى، وهو أمر يعكس التنوع والثراء الذي يميز الثقافة الجزائرية. إلا أن هناك مجموعة من التقاطعات التي تجعل بعض الطقوس مشتركة بين الجميع، منها ذبح ديك أو دجاجة وتحضير وجبة عشاء فاخرة من أحد مشتقات القمح مثل طبق الكسكسي أو ما يشبهه، كالشخشوخة أو الثريد التي تطبخ باستخدام سبعة أنواع من الخضار. وتقوم المرأة بأغلب طقوس الاحتفال وكذا بمشاركة الأطفال (تعبيرا عن الخصب والنمو)، في الوقت الذي يكتفي فيه الرجال بمساهمة رمزية.
ومع كل دورة عام جديد يطفو إلى السطح تساؤل عن كيفية تمكن طقوس ينّاير الاحتفالية من الصمود لمدة ثلاثين قرناً دون أن تندثر ويلفها النسيان؟ أي كيف تمكن أمازيغ الشمال الإفريقي، رغم الغزو المتكرر لأرضهم بدءا من العهد الفينيقي لغاية الاستعمار الفرنسي، أن يستمروا في إحياء “ينّاير” عاما بعد عام من دون أن يتخلوا عنه أو ينسوه؟
للإجابة، علينا السفر بعيدا إلى لحظة البدء الأول لهذا الاحتفال، أو ما يطلق عليه في الأنثروبولوجيا الدينية “لحظة التكوين”، فنجد أنفسنا مجبرين على الالتجاء للأساطير في محاولة لاستكشاف لحظة الولادة الفارقة تلك. يرى أصحاب نظرية الأصل الطقسي للأسطورة التي ظهرت لأول مرة في كتاب “دين الساميين” لمؤلفه روبرتسون سميث، أن الطقوس القديمة تفقد بمرور الزمن معناها وغاياتها، فتتحول إلى مجرد حركات لا معنى لها. وهنا تأتي الأسطورة لكي توضح أصل الطقس ومعناه، وتقدم تبريراً مقنعاً لتلك الاحتفالات التي تتناقلها الأجيال. وبالتالي فالأسطورة والطقس مترابطان، ولا بقاء لأحدهما دون الآخر، فالأسطورة بحاجة للطقس لضمان خلودها، والطقس بحاجة للأسطورة لتبرير وجوده والحفاظ على فعاليته.
الفرعون الأمازيغي
يرتبط إحياء طقوس”ينّاير” بمجموعة من الأساطير التي يرويها السكان المحليون، وأشهرها على الإطلاق أسطورة القائد الأمازيغي “شيشناق” قاهر الفراعنة الذي حكمت أسرته مصر لمدة قرنين. وتختلف الروايات اختلافا كبيرا في أصل “شيشناق” وكيفية استيلائه على بلد الأهرامات، فتذهب بعض الروايات إلى أنه من بني سويس وأنه صد هجوما قرب مدينة تلمسان غرب الجزائر قام به الفراعنة للسيطرة على بلاد الأمازيغ وهزمهم شر هزيمة وطاردهم حتى بلادهم واستولى عليها ونصب نفسه فرعونا لمصر وما جاورها.. وتم الاحتفال بهذا النصر العظيم واختياره ليكون بداية للتقويم الأمازيغي تقديرا وإجلالا لهذا القائد. في حين تذهب روايات أخرى إلى أن “شيشناق” ينحدر من قبيلة أمازيغية ليبية، وكان عادلا ومتسامحا لدرجة أن المصريين التجأوا إليه ليخلصهم من ظلم الفرعون، وقاموا بتنصيبه ملكا عليهم. فيما تذهب رواية ثالثة إلى أن “شيشناق” كان قائدا عسكريا في جيش الفرعون سمحت له الفوضى والاضطرابات التي عانت منها مصر أن يسيطر على البلاد وينصب نفسه فرعونا عليها.
وبغض النظر عن صحة المعلومات التاريخية الواردة في مختلف الروايات، فإن طقوس الاحتفال بـ “ينّاير”، إذا نظرنا إليها من منظور الأنثروبولوجيا الدينية، هي نوع من الطقوس الدورية الكبرى التي ترتبط بأساطير التكوين. فالطقس هنا هو الأسطورة وقد تحولت إلى سلوك يستهدف استعادة الزمن الميثولوجي البدئي حسب تعبير الباحث السوري فراس السوّاح.
أسطورة القائد “شيشناق” هي مجموعة من الأحداث التاريخية التي حدثت في الزمن الغابر، زمن البدايات، وهي تحكي لنا كيف تشكل الأمازيغ واكتشفوا هويتهم في مقابل الآخر – وهو هنا الفراعنة – وانتصروا عليه وأثبتوا تفوقهم وضمنوا تميزهم. وهذا الزمن الأول تتم استعادته وعيشه من خلال الطقس الدوري، لأن الزمن المقدس ليس زمنا خطيا يمتد من الماضي إلى الحاضر، بل هو زمن سرمدي يمكن للإنسان استرجاعه والدخول فيه، والأمازيغ في احتفالهم بـ “ينّاير” يدخلون في الزمن الأول من أجل الاستعانة بقوة الأصول لتجديد الحاضر وبعث الحياة في المستقبل، وبالتالي المشاركة بطريقة ما في إعادة صنع عالمهم وهويتهم.
يوم العجوزة
وبالإضافة إلى أسطورة “شيشناق”، يروي الأمازيغ أسطورة العجوز التي استهانت بقوى الطبيعة واغترت بنفسها ونسبت صمودها ضد الشتاء القاسي إلى قوتها، ولم تشكر السماء وشتمت ينّاير قائلة: “لقد مرت أيامك وكأنها ربيع، وها أنت ستغادر ليحل فورار (شهر شباط/فبراير) الذي لن يصيبني فيه البرد ولن تعرقلني فيه الثلوج”. غضب ينّاير كثيرا وطلب من شهر فبراير إعارته يوما وليلة كي ينتقم من العجوز التي شتمته، فلبى فبراير رغبته وتنازل له عن يومين من عمره. خرجت العجوز إلى حقلها ومعها قطيعها، وهي مطمئنة بأن ينّاير رحل، وهنا استدعى هذا الأخير البرد والثلوج والرياح القوية، فهلكت هي وقطيعها. وانطلاقا من هذه الأسطورة، أصبح شهر شباط/فبراير أقصر شهر في السنة! ولا يزال الكثيرون إلى اليوم يخشون “يوم العجوزة” ولا يخرجون فيه للرعي.
هذه الأسطورة تتناول الروابط الموجودة بين الإنسان والطبيعة، وهي من أساطير الخصب التي ترتبط بالطقوس الدورية، ويجري تكرار أحداثها واستعادة دورة الحياة فيها بهدف الإيحاء للطبيعة النباتية بالانبعاث بعد انقضاء الشتاء، ودفع دورة الفصول التي لا غنى عنها للحياة الزراعية. وما يقوم به المحتفلون من طقوس لا يتخذ صفة العبادة للقوى العلوية، بل المشاركة مع هذه القوى بالرجوع طقسياً إلى زمانها الأول، من أجل مساعدتها على إعادة الانبعاث من جديد. ومن هنا فقط يمكننا فهم حرص ربات البيوت في هذا اليوم على استبدال الأواني القديمة بأخرى جديدة، وتغيير حجارة الموقد التقليدي، بالإضافة إلى نسج أفرشة جديدة وفي مقدمتها الزربية ليتم استقبال العام الأمازيغي الجديد بألبسة وأفرشة وأوان جديدة، بعد أن تتم إعادة طلاء البيت وتزيينه والتخلص من كل ما هو قديم، كعملية مشاركة لقوى الطبيعة في إعادة الانبعاث المتجددة.
فأسطورة “شيشناق” وأسطورة “العجوز” وإن كان يبدو للوهلة الأولى أنهما متباعدتان لا صلة بينهما، إلا أنهما وجهان لحقيقة واحدة، لأن التكوين الأول للأمازيغ مرتبط بالخصب الدوري للأرض، والانبعاث الجديد للفصول، الذي لولاه لما كان لهم أن يستمروا في الزمن. فالأرض هي الأم الحاضنة ومنها تولد كل الخيرات التي تسمح بتأبيد وجود هؤلاء الفلاحين. لهذا تحتل الأرض مساحة واسعة في الطقوس التي تقام في “ينّاير”، تمجيداً لهذه الأم واعترافاً بخيراتها وطلباً للخصب والرخاء والغلة الوفيرة ومحاولة لتجنب غضبها الذي يأتي في شكل جفاف وجدب وأوبئة.
لتحميل المقال بصيغة Pdf انقر هنا
المصدر: جريدة السفير العربي
الرابط: