موقع أرنتروبوس

هل يمكن أن يكون الإسلام فرنسيّا؟

بقلم: ياسمين بوعقة

ترجمة: سامي الرّياحي

تقديم:
يقترح جون.ر. بوان “John R. Bowen” انتروبولوجيا للإسلام  في المجتمع الفرنسي المعاصر. فعلى إثر وصف مشهد الإسلام بفرنسا  قام باثنوغرافيا للمؤسّسات الموجودة في هذه السّوق الدّينية أو المحلّية.إنّ الكتاب مقنع , فهو ينتهي باستحضار دوافع ممكنة للمصالحة ـ و التكامل أيضا ـ بين بنية المجتمعات الإسلاميّة و الاندماج الجمهوري.

المقال:

في خضمّ المنشورات المتعلّقة بالإسلام,فإنّ الأعمال الأكاديميّة الجيدة بفرنسا  قليلة جدّا. و مؤلّف جون بوان John R. Bowen,  الجديد  ـ  عنوانه “هل يمكن أن يكون الإسلام فرنسيّا؟”  ?Can Islam be French يمكن أن يثير  صدى ساخرا  في تحقيقات رجال الإعلام حول استحالة اندماج المسلمين ـ هو أحد الكتب التي تسلّط الضوء بواسطة البحث الدّقيق و التحاليل الطريفة.

ـ تكيّف الإسلام مع الجمهوريّة:
إنّ سؤال البداية مضلّل ببساطة , لأنّ الأمر لا يتعلّق بمعرفة ما إن كانت  طبيعة الإسلام  تتلاءم مع الثقافة الفرنسية أو مع هويّتها أم لا. ففي انتروبولوجيا الأديان يقترح جون بوان زاوية للمقاربة أكثر تعقيدا تتمثّل في التساؤل عن كيفيّة تأقلم المعياريّة الإسلاميّة مع السيّاق الفرنسي.  ففرنسا تجسّد حالة لمدرسة موسومة بوجود أقليّة مسلمة هامّة ميزتها  التجانس الكبير( الأغلبيّة ّالسّاحقة منها من  أصل مغاربي) ولها وجود منذ عقود بفرنسا. و هي من جهة أخرى موسومة بنظام سيّاسي يمنح مكانة ضئيلة للدّين ـ  بل يعتبره تهديدا لوحدة الجسم الاجتماعي, وهو ما تختصّ به اللاّئكيّة الفرنسيّة ـ ولتوظيفه في التعامل العمومي مع مسألة الحجاب ـ  وهو موضوع كتاب سابق لبوان “لماذا يكره الفرنسيّون الحجاب؟”( 2006 منشورات جامعة برنستون)ـ.  إنّ المسألة  تتعلّق بمعرفة كيفية التعامل مع الإسلام في الفضاء العمومي الفرنسي و كيفيّة تبرير المنطق الفكري العام المتأثّر بتاريخ الفصل بين الكنيسة و الدّولة, وبالقيم الجمهوريّة وبالحركة النسويّة (و باعتراف أقلّ, بتاريخ الحضور الاستعماري و ما بعده) الإطار الشرعي لممارسة الشعائر الدّينيّة  بفرنسا. وفي كتاب “هل يمكن أن يكون الإسلام فرنسيّا؟” يطرح السؤال من زاويّة أخرى فيسائل الجهات الفاعلة من المسلمين عن مبرّراتهم لتجسيد الإسلام في فرنسا , إذ كيف يمكن إرساء الشعائر الدينية محليّا دون التخلّي عن التقاليد؟ و ما هي وسائل تبرير التكيف الذي تمّ اختياره؟

إنّ هذه التساؤلات المتعلقة بالمفاصل العامة للمنطق الدّيني  تهدف  بطريقة ما إلى ” انتروبولوجيا التفكير العمومي “(anthropology of public reasoning)  حيث لا تزال الخطوط النّظريّة في حاجة إلى وضوح. فالكاتب ينوي  في مرحلة أولى عبر الانتروبولوجيا دراسة  الوضعيّات الاجتماعيّة  نوعيّا و هو منكب عليها الآن. إنّ المنهج المقترح هو اثنوغرافيا نشأة المؤسّسات الإسلاميّة ومناقشة الممارسة الدّينية للإسلام في فرنسا: فهو يقترح من خلال اللّقاءات و الملاحظات  في أماكن مثل المساجد و المؤسّسات الدّينيّة  والمدارس الإسلاميّة الخاصّة  بيان كيفية تشكّل التفكير الإسلامي داخل المجال العمومي الفرنسي.و عليه فهو يمنح الكلمة للمسلمين في فرنسا الذين سيستفيدون  من مثل هذا, والذين يواجهون مهمّة صعبة تتمثّل في تحديد الإسلام  بفرنسا.
إنّ المهمّة صعبة لأنّ الأمر يتعلّق بعرض أدلّة من عالميْن ذي مرجعيْن مختلفيْن:  ذاك المتعلّق بفرنسا الجمهوريّة,و الآخر المتصل بالإسلام الكوْني.و من الضّروري أن تكون الحلول متسامحة وعمليّة وفاعلة في الآن ذاته ـ على المستوى الشرعي كما على المستوى الأخلاقي ـ في كلا المجالين (  ففي حالة التعليم مثلا يتعلّق الأمر ببناء معرفة إسلاميّة تكون  مشروعة في الاصطلاحات الدّوْليّة, و متصلة بالوضع الفرنسي في ذات الوقت).
المؤسّسات ومنطق التفكير:
يتألّف الكتاب من ثلاثة أقسام:  يهتم الأوّل  بسياق تشكّل المشهد الإسلامي في فرنسا, ويشتمل الثّاني  على دراسة حالة ظهور المؤسّسات الإسلاميّة ,أمّا الثالث فهو يتعلّق  بالنقاش الذي يمكن استخلاصه من التعليم الدّيني في السيّاق الإسلامي بفرنسا.و يوضّح الكتاب بشكل جيّد المعطيات الميْدانيّة و التحاليل الدقيقة كما يقدّم حججا مقنعة.
يذكّر الكاتب أنّ المشهد الإسلامي بفرنسا يتميّز بسمتيْن: فهو  يتّسم أولا بالتجانس الكبير بين المسلمين و بضعف مؤسّساتهم(فباستثناء الجاليّة التركيّة و الغرب إفريقيّة  فإنّ الغالبيّة السّاحقة من المسلمين منحدرة من الهجرة المغاربيّة  و هي تتّسم بممارسات متشابهة إلاّ أنّها تفتقد كذلك للتنظيم الاجتماعي).  ويتسم من جهة ثانية بالمساهمة الفعّالة للدولة في تأطير الإسلام و مراقبته  منذ الفترة الاستعماريّة و إلى حدود نشأة المجلس الفرنسي للدين الإسلامي. وتتمثّل السّمة الثالثة للمشهد الإسلامي بفرنسا  حسب الكاتب في توضيحه جيّدا  لنزاعات لا تتصل بالسيّاق الدوليّ فحسب ( مرادفة الإسلام للتهديد الإرهابي) و لكن أيضا بالأزمات الاجتماعيّة الوطنيّة مثل أعمال الشغب في الضّواحي حيث وقع التشهير بالدّين في الغالب باعتباره عقبة أمام تحقيق الاندماج الاجتماعي . إنّ هذه “المناطق السّاخنة”  في ضواحي باريس تحتلّ حيّزا خاصّا في البحث, فقد وقع اقتيادنا إلى جامع كليشي سو بوا Clichy sous-Bois, و إلى معهد الدّراسات الإسلاميّة بسان دوني(CERSI) ,  ومدرسة ” النجاح” الخاصّة في  أوبريفيي Aubervilliers  .إلاّ أن الكاتب لا يتخلّى عن الإثارة قطّ , بل على العكس إذ تعتبر قيمة هذه الأماكن  مقارنة بمجال المؤسّسات الإسلاميّة بفرنسا على نفس القدر من الأهميّة مثل المساجد الكبرى في باريس و ليون وكذلك المعهد الأوروبّي للعلوم الإنسانيّة ( المكلّف بتكوين الأئمّة) في شاتوـ شينون Château-Chinon.
و تقدّم كل مؤسسة نفسها من خلال صورة رؤسائها الذين ينشّطونها و سيرهم: فهم مقاولون حقيقيون في الدّين ويجهدون أنفسهم في بناء شبكات لاكتساب الشرعيّة في المشهد الإسلامي الفرنسي, وهي شرعيّة في مواجهة السلطات الفرنسيّة إلى حدّ ما, كما أنّها في مواجهة الجاليّة المسلمة برمتها أيضا. و هذا ليس أمرا هيّنا نظرا لصعوبة المنافسة في المجال الدّيني,إذ أنّ أصحاب المشاريع المؤسّساتية يجدون أنفسهم في مواجهة بعضهم البعض و في مواجهة مجموعات أخرى لا سيّما المجموعات السلفيّة من أجل الاستيلاء على السّوق الدينيّة.إنّ الصعوبات من جهة العلاقات مع السلطات الفرنسيّة ليست قليلة كما  تبيّن ذلك طرفة التعليمات المتضاربة التي وجّهت إلى إمام كليشي سوبوا Clichy sous-Bois للتدخّل و لعدم التدخّل  بهدف تهدئة  أعمال الشغب في الأحياء, وكذلك خيبة أمل مدير مدرسة “النّجاح” التي كانت ضحيّة لنجاحها. و على الرّغم من كونها  نتاجا للمساومة المحلّية مع رؤساء البلديّات على وجه الخصوص,فإنّ المؤسّسات الإسلاميّة تظل موضع شكّ لإحداث الفتنة.
ومع ذلك,فإنّ الاثنوغرافيا الحذرة التي يقترحها “بوان” تسعى إلى دحض وهم خطر استهواء  عموم المسلمين بالسيّاسة.وفي الواقع فإنّ الكتاب يبيّن من خلال جرد لدروس المؤسّسات الدّينيّة على وجه الخصوص تمحور التعليم حول شعائر الإسلام اليوميّة و طقوسه مثل الصلاة والوضوء.ويشير الطلبة المستجوبون إلى أنّهم يسعوْن قبل كلّ شيء للتّعرف عن بعضهم بشكل أفضل من خلال تعلّم الدّين. إنّ سوق هذه المؤسّسات سيكون سوقا دينيّا أكثر من كونه سوقا ذا هويّة.و من شأن علم اجتماع الجماهير أن يسمح بمزيد فهم كيفيّة تمفصل استراتيجيات تميّز الزعماء(الرّؤساء) و تشكّل هيئات الجاليّة المسلمة أكثر من اقتفاء خطى عالم الإناسة .و إجمالا نحن لا نعرف إلاّ شيئا قليلا عن مسارات الجمهور الساعي إلى تقديس هذه المؤسّسات الجديدة كمؤسّسات شرعيّة ـ أو لا.
أماّ الجزء الأخير من الكتاب فهو يدرس المجادلات حيث ينتشر المنطق الفكري العام للمسلمين. و قد يكون هذا القسم زهيدا كي لا يكون متآلفا مع طريقة الجدل اللّاهوتي. و مع ذلك يمكن لنا هنا قياس مدى أصالة رؤية عالم انتروبولوجيا الأديان حول قضيّة الإسلام في فرنسا: فمن خلال انتظام مختلف الجهات الفاعلة يمكن أن نرى كيف يتصاعد التوتّر فعلا بين قيود الحياة و الواجبات  الدّينيّة .و هو توتّر ليس ذا نظام صراعي ,ومن المؤكد أنّ حالتيْ الرّبا والفائض البنكي مثلا يبيّنان أنّ هناك تناقضا حقيقيّا بين النّظام الفرنسي( حيْث تطبّق البنوك الاقتراض مع الفائدة)و المحرّم الدّيني,و هو تناقض لا يتولّد عنه سوى انعدام الإسهام في نّظام المواءمة العملية مع الواجب الدّينيّ. وخلافا لذلك ففي حالة الزّواج يمكن للمكتسبات القانونيّة الفرنسيّة و الإسلاميّة على الرغم من اختلافها أن تجد  نقاط التقاء بسهولة في  نطاق الاهتمام بالحفاظ على النّظام العامّ. إنّ التناقض بين هاتين الحالتين يمكن أنْ  يلاحظ في مستوى المجال  المتّصل  بالنقاش المطروح سابقا  ,ففي الحالة الأولى تنتشر الآراء الدّينيّة (الفتاوى)  عبر الحدود الوطنيّة (من خلال التلفاز و الانترنات) وتطرح على المسلمين مسألة احترام المعايير الكونيّة وخلافا لذلك ففي حالة الزّواج فإنّ الذي يطغى هو آراء زعمائهم المحلّيين و همّهم في الانخراط ضمن الإطار الشرعي الفرنسي ـ غير أنّه يمكن للمؤمنين أنفسهم  أن يأملوا في التخلّص منه. إنّ هذا التوتّر  بين النخب الدّينيّة التي وقع اصطفاؤها بشكل أو بآخر ومنطق التفكير المعارض  لدى الشبان الذين هم في وضع غير قانوني لم يقع الاسهاب فيها  جيّدا في الكتاب رغم أنّه ألمح إلى ذلك عدّة مرّات.إنّ الموضوع يتعدّى المعياريّة الإسلاميّة حقّا ولكنّه يظلّ مركزيّا في الجدل العامّ حول مسألة الاندماج.
المجتمعات المحليّة و الاندماج:
يعرض كتاب “هل يمكن أن يكون الإسلام فرنسيّا؟”  رغم هذا التحفّظ  إسهاما مهمّا في الجدل الفرنسي مختتما البحث  بتحليل محفّز جدّا لمفهوم الجماعويّة la notion de communautarisme .وهكذا, فإنّ تشكّل الجاليّة المسلمة المنتظمة حول المؤسسة و زعماء الجاليّات و الجمعيّات الثقافيّة  لا تعلن عن نهاية الوحدة الجمهوريّة  بل العكس فقد تسمح باندماج المسلمين كمجموعة من المواطنين كاملي العضويّة.وهنا, لا يتعلّق الأمر بمجرّد تحوّل نابع من الثقافة الانجلوسكسونيّة التي يصدر عنها الكاتب ,ف”بوان” يذكّر أنّ الكاثوليك و اليهود اندمجوا في الجمهوريّة من خلال الجمعيّات الأهليّة التي سمحت لهم بتجسيم مصالحهم.وعليه,فإنّ مشاركة  المواطنين في الحياة العامّة عبر المجموعات الوسيطة تشكّل مع ذلك حقيقة تاريخيّة واجتماعيّة رغم أنّها غريبة عن الايديولوجيّة الفرنسيّة.فبدلا من توثيق “القيم الجمهوريّة” ورفض التعدّدية باسم الاندماج الوطني( كما بيّنته أيضا القضيّة الأخيرة حول البرقع) ينبغي إقامة ” براغماتية للتقارب” وفقا لرأي الكاتب.

Exit mobile version