محمد حسن عبد الحافظ*
1 – تُرى، هل ثمة تطابق بين لغة النساء ولغة الرجال؟ أليس كثيرًا ما ندَّعي متظرفين – حسب زومتور – بأننا نلتقط “كلام نساء” أو ” نبرة نساء”؟ ألا يولد الطابعان الفيزيولوجيان الموجودان في أي صوت بشري توترًا – في نفس كلٍّ منا – مشابهًا للتوتر الناجم عن التمييز بين الجنسين 1.
نعرف – نحن الفولكلوريين – أن للنساء أنواعًا مخصوصة من المأثورات الشعبية الأدبية. معظمها يرجع إلى العادات الحرفية للنساء أو إلى السياق الاجتماعي الخاص الذي يعشن فيه، وهنا نتذكر الأغاني الشعبية التي تؤديها النساء أثناء العمل على الرحى، أو “خض اللبن”، أو في مراحل صناعة الخبز، أو أغاني المهد (تهنين الأطفال)، أو أغاني الأفراح، أو العديد (المراثي الشعبية، وهو النوع الأدبي الشعبي الذي يؤكد أحمد مرسي أنه لا يُروى إلا على لسان النساء، وأنه لم يقم الدليل على أن المجتمع في مصر قد عرف بكائيات تنسب إلى الرجال2)، أو أغاني الحج والزيارة… إلخ. كما درج الباحثون الميدانيون على التعامل مع النساء بوصفهن ينابيع (= مصادر) غنية للحكايات الشعبية والحواديت والأمثال… وغير ذلك من المأثورات التي عُهِدَ للنساء أداؤها، تبعًا لعاداتها الحرفية ولأدوارها العائلية 3.
يواجه هذه القاعدة الثابتة ظواهر استثنائية لم تتمتع بالاهتمام، كأن نجد مؤديًا من الرجال للعديد (البكائيات أو المراثي الشعبية) ولأغاني الحج والزيارة، وأغاني الطهور (ختان الذكور)، وللحكايات الشعبية، أو أن نجد رجلاً يقوم بأداء فرجوي في الأعراس، حيث يمثل دور النساء ويؤدي رقصاتهن، عوضًا عن تحريم المجتمع قيام النساء الحقيقيات بأداء هذا الدور4. مما يجعلنا نفكر في إمكانية وجود مأثورات ثقافية وفنية قديمة ذات أصل نسوي، اضطلع الرجال – في ظروف ما – بحفظها ونقلها وإعادة صوغها، حتى خلنا – بالتراكم – أنهم مبدعوها الأصليون.
ودرج الباحثون على ربط السيرة الشعبية – على مستوى الرواية والأداء الشفاهي، وليس على مستوى مضمون السيرة وشخوصها – بعالم الذكور، فالخبرات الميدانية الجارية والماضية تُصَرِّح بأن رواة السيرة – على تعدد نماذجها – هم من الرجال، ولعل تشكيل قصص سيرة بني هلال – وهي الأنموذج الوحيد تقريبًا الذي لايزال يؤدى شفاهة – في قوالب شعرية عُهد للرجال فحسب إبداعها وروايتها مثل المربع والموال، تمثل محاولة لاحكتار رواية الهلالية على لسان الرجال.
يذكر أحمد شمس الدين الحجاجي أنه ذهب إلى “محافظة قنا” ليجمع القصص الشعبي من أفواه من يعرفهم من الرجال ومن عجائز النساء، فوجد الجميع يقص عن الهلالية، فأخذ يبحث عنها5، لكن الحجاجي لم يوضح لنا إذا كان قد التقى بنساء راويات للسيرة ضمن هذا “الجميع”، أم أن الرواة الرجال وحدهم الذين تسَّيدوا رواية السيرة في تجربته الميدانية المهمة.
تتبدى هذه العُهدة الأدائية للنساء وللرجال في صورة قاعدة مطلقة لا فكاك منها، فلم تُُجرَ، بعد، التجارب الميدانية التي تستهدف التفتيش عن استثناءات فريدة وخفية للقواعد التي تبدو مطلقة بقوة ما “درجنا” عليه (من البديهي أن يحتل الفعل “درج” منصبًا كبيرًا في الخطاب المطلق والثابت والمستقر). ومن ثم، فما عُهد [في / إلى / لـ] النساء، وما عُهد [في / إلى / لـ] الرجال – على صعيد الأداء – يسيران بوصفهما شريطي قطار يتوازيان ولا يلتقيان. وقد دُرِجَ على استعمال هذا المثل في سياق الدلالة على الاختلاف النوعي الذي يتعايش طرفاه ولا يلتقيان، لكن هذا المثل – غير الشعبي بالتأكيد – هو نتاج تصور نخبوي غير واعِ بخبرات عمَّال القطارات والسكك الحديدية والمزلقانات، وبالقيم الرمزية المتصلة بعملهم، لا سيما عامل “التحويلة” الذي ينبني وعيه على قاعدة مختلفة تتمثل في اللحظات الاستثنائية التي تلتقي فيها أشرطة السكك الحديدية، ويتقاطع توازيها، وعلى مفهوم “التحويلة” من اتجاه إلى اتجاه، ومن مسار واحد يبدو مطلقًا إلى مسار مختلف.
إن التسليم بالقواعد الثابتة التي دُرِجَ عليها، يمثل فعلاً ذكوريًّا بامتياز، فما هو مطلق وُظِفَ من أجل ضمان سيادة الرجل المطلقة على المرأة، وسيادة الرجل على الرجل، والرجل على سائر الناس.
ما أود أن أطرحه هنا، دون الخوض في مزيد من “التفلسف”، هو مبادرة في “منهجية التحويلة” التي تجعل – على نحو دائم وفعَّال – من المسارات الذكورية المطلقة مسارات نسبية. وذلك عبر اكتشاف اللحظات الاستثنائية التي يكمن فيها جوهر أنثوي خفي، وعرضها للتحليل الدقيق، والوصول – من ثم – إلى نتائج جديدة. فقد آن الأوان للتنصل من النظريات الفخمة، ومن طرح الأسئلة القديمة، ومن استخدام المقولات القديمة، ومن التعويل على الأطر القديمة. فلن يكون ذلك سوى قطع الطريق على إمكانية استبصار مسالك جديدة، وفتح سبل جديدة. آن الأوان لكي نتجاسر على طرح الأسئلة التي لا تعد أسئلة تُطرح، وتحليل ما لا يُعتبر من باب البيانات والمعلومات، المعممة والمكرسة، والبحث عما ما يصنف في خانة الأسطوري، غير المعقول وغير المعترف به علميًّا. ينبغي لنا أن نبدأ بالبحث خارج الخطاب السائد، في مجال يقع في ما وراء مقاييس المعرفة القائمة، لنكتشف التجارب الخاصة لمجموعات النساء المهمشات، والمنبوذات، والفقيرات، والفلاحات، والراويات، والحكَّاءات، لتبين ما في مأثوراتهن، ومعارفهن، ومقولاتهن، من رؤى أخرى للعالم، وطرائق تصدٍّ جديدة للضغوط.
يتعين علينا مفارقة تقاليد الخطاب الذكوري المهيمن، لنجد أنفسنا في ذلك المجال النسوي الذي احتقره أو همشه أو قوضه هذا الخطاب؛ لنكتشف ما يكتنز به من معارف مطموسة، خبيئة. لنصغي إلى صوت الحكمة يتصاعد من المعارف والفنون التي خلقتها النساء. فقد استمعنا إلى الرجال كثيرًا، وهم يشنون الحروب، ويقترفون آثام الإبادة الجماعية، ويصنعون الأفكار العنصرية. فلنستمع إلى صوت النساء، لعلنا ننتقل- حينئذ – إلى مرحلة استنباط رؤى اجتماعية وسياسية وثقافية وتنموية جديدة، فيها مزيد من الأصالة والعدل، مؤهلة لمجابهة ما في الواقع من تعقد مستمر، رؤى فيها مزيج عضوي من الروح النقدية والإبداع؛ المنطقي والأسطوري؛ السياسي والشعري؛ العلمي والجمالي.
– 2 -يعود الفضل إلى عبدالمجيد فرغلي ** في لقائي بشقيقته السيدة رتيبة فرغلي محمد رفاعي ***، مطلع عام 1996، وهو اللقاء الذي فتح أفقًا واسعًا أمامي. فمن جانب، لم أكن أتوقع أن ألتقي بامرأة تحفظ السيرة، أو تبدي شغفًا بسماعها:
– إِزَّيِّك يا ست ام سابت6؟
= أهلاً بيك يا باشا.
– إزي صحتك؟
= نحمد الله.
– ربنا يخليك لينا.
= ربنا يسترها عليك، ويسترها معانا، ويعليك وينصرك، اللهم آمين، ربنا يكرمك بالستر.
– إنت صحتك عامله ايه دِلْوَقْتِ يا ست ام سابت؟
= آه الصحه برضه عَاطْلَه شويه7؛ عشان الزعل هدنا، لينا سنه حُوَْلْ8، واحنا بعيد عنك في الكيد، الكيد ده، وخدو الواد وحبسوه9.
– هتفرج إن شاء الله.
= ربنا هيوقف ولاد الحلال، مرحبا. يمكن ربنا يفرحنا بوشكم لابيض إن شاء الله.
– إن شاء الله.
= ربنا يبيض بياضكم. إن شاء الله دخلتكم دَخْلِةْ سيدنا القضب10، وسيدنا النبى، مدد يا رب، اللي دخلو حدانا11، انتو زي الأقطاب12، وسيدنا النبى دخل بيتنا، مرحبا.
بس، يُبَّا أنا دلوختِ هاديب لكم من الأول13.
– … الشيخ فرغلى اللي هُوَّ أبوكِ؟
= آه، فرغلي محمد رفاعي.
– الله ينور عليك، كان بيعمل ايه بالظبط؟
= كان برضه يقول في السيره، وهُوَّ والدماعه حواليه كلهم 14، وهمَّ ايه… يتهوو حَوَالِيْهْ 15، ويقولو سِيْرْ علينا يا ابو الشيخ عبده، يا ابو عبدالمديد 16، يا ابو صِدِّيْقْ، سير بينا في الهلاليه، يبقى هُوَّ يقعد يقول قدامهم، وبعدين إيه… يديب يعني في السيرة الهلاليه17، يقول يعني سِيْرْ بيهم، ويوَرِّيْهُمْ اللي حاصل معاهم18.
– انت كنت قريبه منهم، كنت بتقعدي فين، وهم كانو بيقعدو فين؟
= هم يقعدو على مصطبه، قاعدين على مصطبه، زي دِكَكْ كده قدام الباب 19، وانا عليَّ اعمل الشاي، واعمل الوادب 20، وهُوَّ يبقى قاعد هُوَّ والدماعه، ويفتح في السيره الهلاليه، ويقول اللي عليه، إللي معاه.
– وانت سامعاه؟
= وانا سامعاه.
– وانت بتعملى الشاي؟
= وأنا باعمل الشاي، وأعمل الوادب، إللي يقول عليه أعمله، لمالك يقعد يمكن للساعه وحده بالليل 21.
– لتانى يوم؟!
= تانى يوم، تالت يوم، يقعدو برضه، ويقولو، وأنا أبَّا قاعده معاهم 22، بس انا أَصِنّْ 23، وأقول يا بايَ، يقول إيوه، أقول له أقولهم لك، أقولهم لك يا بايَ؟ يقول قوليهم يا بتي.
– يعني كنت بتحفضيهم كمان؟
= آه كنت باحفض، أنا اسمع بس كنت يعني البال فاضى، وكنا صغيرين، والكلمه اللي يقولها برضه ما تطلعش من بالي واستنط للكلام24.
ومن جانب آخر، فإن المدخل الذي بدأت به السيدة رتيبة روايتها لسيرة بني هلال يكشف بوضوح عن رواية نسائية للهلالية، إذا جاز هذا التعبير، فإذا تأملنا استهلالها الذي سجلته – مرئيًا – في إحدى مرات زيارتي لها، نجدها تعيد صوغ الأساس الذي يقوم عليه مولد البطل، حيث تستبدل خضرة الشريفة بالبطل التقليدي المعروف (أبو زيد الهلالي سلامة)، ليتحول البطل المحوري من ذكر إلى أنثى. وفي الوقت نفسه، تحافظ الراوية على تقاليد الأداء التي تلقتها عن أبيها، ومنها قيم البطولة التي تحملها شخصيات السيرة مثل رزق بن نايل وأبوزيد، فالأول هو الفارس الذي تزوج البطلة وظلمها ثم أعادها إليه وفق شروط ابنها، والثاني هو ابنها الذي تحملت بسببه ومن أجله الكثير من الجور والمخاطر.
تقول الراوية رتيبة فرغلي:
“أنا أول خيط السيره عندي… أولها إسمها ايه… خَضْرَه الشريفه بت قرضه خلاصه من عضا النبي. كانت زودة مين…25 كانت زودة السديع… رزق السديع ابن نايل دي هيَّ من عضا النبي26. أول ما أراد ربنا خلفت شِيْحَه، شِيْحَه دي هيَّ قبل أبُوْزِيَْدْ، لما عطا شِيْحَه دي، قبل أبُوْزِيَْدْ يمكن بتمن سنين أو بعشره سنين، يُبَّا راح لمالك ايه27 … خد بعضيه وراد ربنا خلفت ريه، فرحو بيها، وأهلاً وسهلاً يا مرحبا، ورزق عاملينه الفارس اللي فيهم، وكل الأحباب بقيت محاوطاه وعامله معاه الفرح. راد ربنا وولدت شِيْحَه … شِيْحَه دي بت رزق السديع ابن نايل وأمها خَضْرَه الشريفه، بت الشريف قرضه خلاصه، ربنا عطاها شِيْحَه، بقيت فرحانه بيها وربتها، وقالت ايه… البت وراها الواد، راد ربنا ايه… اتوقفت28.
زيك انت كده، البت ووراها الواد.
= ايوه، زيِّي ايوه، انت واخد بالك. فرحانين بيها، وراحت طولت، طولت، ولما طولت ايه… امال خبر ايه يا ست خَضْرَه! شِيْحَه كبرت، ومش راضيه تخلِّفي ليه امال! قعدت تعمل يعني أَنُوْنْ النسوان ديَّ29، يعني تكون متوقفه، تكون عامله كده ولا حاده، وبعدين ايه… قالت لأ، إنت دِلْوَقْتِ عايز أولاد30؟! انا دلوختِ لولاده مش يِدَّهَانِي ربنا، انت طالب ولد، يدينا ويديك ربنا، أنا خاطري أنا فْ ولد، زي ما انت خاطرك، ان كنت انت خاطرك قراط…، أنا خاطري عشره.
إيه.. يُبَّا ايه… راد ربنا… قال لما راد ربنا. قالت أقول لهم انتو نازلين العب، والعب يعني البحر، رايحين الصبايا يملو من على البحر، يملو بايه… بالبتاتي والشعل (يعني الميه، والميه شُعْةْ البحر والبلاليص31). يُبَّا هيَّ فايته، وراحت يعني هيَّ ما هتملاش، بس يعني راحت معاهم تتفسَّح، عشان ايه… سبحان الله وتعالى يفك اللي ايه… يعني ان كانت مْشُوْهَرَهْ 32 حاده… تتفكك.
وبعدين… يبا هي ايه… يعني خَلَّفِتْ شيحه، وبعدين راد ربنا ونازلين البحر… يدَّلو… بيملو… ماسكين ايه… كل واحده بتملا بتيه 33، بتملا بلاص 34، بتملا حاده . وشويه حمامات حلوين كداهو عيدلو… عيرعو. وهي مقلت في دكر الحمام لاسمر الألوان 35. بقي ايه… يِقَتِّل ده ويِقَتِّل ده ويِقَتِّل ده. عامل يعني انا فارس فقيكم؛ ده يعني حتى في الطير. يبا راح الطير يغلب ده ويغلب ده، وهي راحت ناكته عينها فيه 36. يبا دات عاد كانت حامل، وضعت ولدها اسمر الألوان، واتولد الولد، وقالو رزق السديع ابن نايل دالو ولد. قالو طيب… ولد، يبقى نشوفوه. وفرحو بيه وكده. وقالو يعني ولدك اسود واحنا كلنا بِيْضْ. أمال دا هو لمآخزه… قالو داهوَّ من العبيد. قالت له لأ، دا مش م العبيد ولا أي حاده، دا داهَوَّ ابنك، وما فيش كلام من ده”.
من جانب آخر، نجد الراوي على مصبح **** يستهل حلقة المواليد بالصورة التي اعتدنا سماعها، أو غالبًا ما نتوقع سماعها:
“أَوَّلْ سِيْرْةِ الْهَلايْلْ نِبْتَدِيْهَا مِنْ أَبوزيد، مِنِ الْوِلادَه بْتَاعِةْ أَبوزيد، حَكَمْ كُلِّ الشِّعْرْ وِالسِّيْرَه الْهِلالِيَّه، مَبْنِيَّه عَلَى رِزْقْ ابْنِ نَايِلْ، وُابْنُه لاسْمَرْ سَلامَه، يُبَّا الشعر في السيره الهلاليه دلوقت ما فيهاش غير أبو زيد ورزق بن نايل. يَعْنِي أَبوزيد ابْنِ رِزْقْ ابْنِ نَايِلْ، لَمَا طِلِعْ رِزْقْ، وُطَلَبْ لانُه هُوِّ يِدَّوَّزْ 37، قَامْ رَبّنَا رَادْ لُه لانُه هُوَّ يْرُوْحْ يُخْطُبْ بِنْتِ قُرْضَه الشَّرِيْفْ مِنْ مَكَّه، وُرَبِّنَا رَادْ لُه بِالصَلاةِ عَلَى النَّبِي، وِاسْمَعُوِ رِزْقْ عَيْقُوِلْ ايْه، وِالْعَاشِقْ فِي دَمَالِ النَّبِي يْصَلِّي عَلِيْه38”.
ولا يتوقف اختلاف رواية السيدة رتيبة عن روايات الرواة الرجال عند حدود هذا المدخل الذي استهلت به روايتها للسيرة، بل يكتنز نص روايتها بالكثير من التفاصيل والقيم التي تتصل بالنطاق الأسري، حيث يمثل الحرص على توضيح علاقات الزواج والنسب اهتمامها الرئيسي أثناء سردها للسيرة. كما أن روايتها للسيرة تتميز ببطولة النساء لمشاهدها المركزية، وهو الأمر نفسه الذي نجده عند الرواة الذكور؛ ذلك لأنه لا فكاك من الحفاظ على هذه المشاهد التي تمثل صلب بناء السيرة، ومنها:
1. مشهد تأسيسي: رحيل خضرة وولدها وسعيدة وولدها إلى أرض الزحالين، بينما يركن رزق ابن نايل منزويًا في الجبل ندمًا على طرد زوجه. ويختتم هذا المشهد بتنصيب الجازية، وحصولها على ثلث الشورى في القبيلة بعد حلها لعقدة عودة خضرة وولدها إلى قبيلة بني هلال، وهي العقدة التي وقف أمامها الفرسان الرجال حائرون، وكادت تحول دون التئام القبيلة.
2. مشهد حرب الناعسة بنت زيد العجاج لأبي زيد الهلالي قبل زواجه منها.
3. مشهد تربية شمعة الجود زوجة جبر القريشي لأيتام الأشراف في تونس، وتجهيزهم ليكونوا فرسانًا، وفي روايات أخرى تقوم الجازية بنت سرحان بهذا الدور.
– 3 – أثار التقائي بالسيدة رتيبة سؤالاً عما إذا كان حفظها للهلالية يمثل استثناءً فريدًا بحكم كونها امرأة، أم أنها صدفة تفتح الطريق أمام الدارسين للبحث عن النساء الراويات للسيرة؟ وهو السؤال الذي لازمني طوال فترة عمله في الميدان. وقد استطعت أثناء عملي الميداني في قرية قاو النواورة ونواحيها التابعة لمركز البداري بمحافظة أسيوط، في الفترة من 10 يونيو إلى 15 يوليو عام 1998، الحصول على معلومات حول عدد من النساء استمعن إلى السيرة، وحفظن أجزاء منها، وأن منهن من تهتم بسماعها من الإذاعة، أو من خلال أشرطة الكاسيت التي يقتنيها الرجال في الأسرة. مع ملاحظة أن رواية الشاعر جابر أبو حسين التي نسخت على شرائط الكاسيت، وراجت تجارتها، ليست وحدها التي تحظى بالإقبال، فهناك الكثير من رواة السيرة الذين انتهجوا النهج نفسه، وقدموا إنشادهم للسيرة إلى شركات إنتاج الكاسيت، لعل أشهرهم في هذه المنطقة: محمد اليمني وعلى جرمون (قرمون).
وبالرغم من أنني استطعت أن ألتقي – مباشرة – باثنتين منهن يعشن في عزبة سالم بقاو النواورة، وبالرغم من موافقتهما على تسجيل اللقاء، فإنهما رفضتا تسجيل ما يحفظن من السيرة بسبب ضيق الوقت، ولظروف عملهن في الأرض والمنزل. لكن واحدة منهما دفعت ابنها “مدحت” البالغ من العمر 15 سنة إلى تسجيل بعض ما يحفظ من السيرة. وقد بدا عليها سعادة بالغة أثناء سماعها لابنها وهو يقص حكاية أبي زيد مع “شباب” بني زحلان. وقد أدركت بعد مرور ساعتين أن الأسباب التي ساقتها لم تكن وحدها المانعة من تسجيل ما تحفظ، وكان دليلي على ذلك: بقاؤها طيلة ثلاث ساعات دون أن يلحظ عليها الدارس أية علامة دالة على الانشغال بشيء بينما بدا عليها الاهتمام بمتابعة الحوار الدائر حول السيرة.
لا شك أن تعامل الباحث الذكر (= الشخص الغريب) مع النساء في مواقع متعددة تحكمه قيم وتقاليد اجتماعية راسخة، تحول دون استكشاف الجامعين الميدانيين (الذكور) لمأثورات النساء. ففي زيارتي إلى منزل الحاج محمد علي بعزبة الزهري قرب جبل قاو النواورة، ذكر ابنه الأكبر أن أمه وخالتيه يعرفن أبا زيد أكثر من أبيه. وبطريقة ما، حمل الابن الكاميرا إلى داخل الدار كي يقلن شيئًا مما يحفظن، ثم عاد بعد أقل من نصف ساعة قائلاً بأنهن يخجلن مواصلة الكلام. وعندما عدت لأخلو إلى الأشرطة المسجلة، استنتجت أن إحداهن تؤدي مربعات السيرة الهلالية بطلاقة، حتى قاطعتها أخرى بأداء مقطوعات من العديد (المراثي الشعبية).
أفضت هذه المواقف الميدانية إلى عدد من الاستنتاجات، أبرزها ضرورة تمكين الباحثات الميدانيات في مجال المأثورات الشعبية من الخوض في مثل هذه التجارب، حيث يكون بمقدور الباحثة التعامل مباشرة مع النساء، فمن شأن ذلك اكتشاف الكثير من النتائج الخاصة بمدى صلة النساء بالهلالية. وبالتأكيد، فإن هناك ضرورة قصوى للاعتماد على الباحثات – وليس الباحثين – في معالجة مثل هذه المشكلات الميدانية. والأحرى: فريق متكامل قادر على مواجهة عثرات التجارب الميدانية الفردية.
مرت سنوات على لقائي الأول بالسيدة رتيبة فرغلي رفاعي (1996)، أجريت خلالها تجارب ميدانية في مواقع متعددة خارج مصر (الأردن 1999 و 2000، تونس 2006 و2008 و2009، الجزائر 2007 و 2008)، ازدادت معها مساحة تعلمي واكتشافي في هذا المضمار، وأدركت الدور المحوري – والمتواري في الوقت نفسه – للنساء في عملية حفظ السيرة الهلالية وروايتها وتلقي الرجال عنهن، على نحو ما ذكر لي شاب من الأردن استمع إلى حكايات السيرة الهلالية كاملة من جدته. كما أكد لي الشاعر الشعبي التونسي مصطفى عبيد (خال عَزَيِّزْ) أن كل ما يحفظه من أشعار الهلاليين تلقاه عن النساء في قرى متعددة من ولاية نابل (الوطن القبلي) شمالي شرق تونس.
4 – تدعوني جملة هذه التجارب الميدانية المفعمة بالاكتشاف المدهش إلى التفكير في مقاربات منهجية جديدة تمكننا من تحليل الأدوار الاجتماعية والرمزية للنساء داخل نص الهلالية وخارجها، واكتناه صوت النساء الذي قاومت به المرأة هيمنة الرجل على اللغة، والنظر إلى فضاء السيرة بوصفه فضاء للبطلات (خضرة، شيحة، الجازية، الناعسة، هولة، بازلة، واطفة، عزيزة، سعدة، شمعة،… إلخ). ومثلما أشار يوسف كامبل إلى أن الثقافات القديمة عامة (ومنها الحضارة المصرية القديمة) تجعل الأنثى خالقة للحياة، وتجعل الذكر خادمًا للحياة 39، فحسبي أن سيرة بني هلال هي حكاية من خلق النساء وإبداعهن كحال “ألف ليلة وليلة”، فكثير من المشاهد في سيرة بني هلال لا تزال تحتل النساء بطولتها على نحو فريد لا نظير له في التراث العربي برمته، إلا في “ألف ليلة وليلة”، بينما يمثل الرجال حراسًا للسيرة الهلالية ورواة ومؤدين لها، على نحو أتاح لهم حرية صوغها في أشكال شعرية تتسم بالفحولة كالمربع والموال، يذكرنا ذلك بقول عبدالحميد الكاتب: “خير الكلام ما كان لفظه فحلاً، ومعناه بكرًا”، وكأنه بذلك يعلن – حسب تعبير عبدالله الغذامي – عن قسمة ثقافية يأخذ فيها الرجل أخطر ما في اللغة، وهو “اللفظ”، وللمرأة المعنى، هذه القسمة أفضت إلى قسمة أخرى أخذ فيها الرجل “الكتابة” واحتكرها لنفسه، وترك للمرأة “الحكي”، مما أدى إلى إحكام الرجل السيطرة على الفكر اللغوي والثقافي، وعلى كتابة التاريخ من منظوره الذي يرى فيه نفسه صانعًا للتاريخ 40.
الهوامش
* مدرس الأدب الشعبي المساعد ، أكاديمية الفنون، القاهرة.
1. في عامي 1992 و 1993، قمت بتسجيل عدد من النصوص الأدبية الشفهية كأغاني الحج، والعديد (المراثي الشعبية)، وأغاني الطهور (ختان الذكور)، وأغاني الخطبة والزواج، وبعض الحواديت والحكايات الشعبية. كل هذه النصوص المتنوعة التي اعتدنا أن يؤديها النساء، سجلتها من رجل اسمه حسين عبدالعاطي، ولد بقرية “البطاخ”، مركز المراغة محافظة سوهاج (جنوبي مصر)، وعاش في مدينة “أبوتيج” بمحافظة أسيوط. وهو نفسه الرجل الذي شاهدته في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، وهو يتزيَّا بزي النساء ويؤدي المشاهد التمثيلية – المترافق معها الغناء والرقص – أمام الرجال في الأفراح (الأعراس). انظر نموذجًا لهذه النصوص منشورًا في: أغاني لحج (الحنون، الزيارة العودة)، جمع وتدوين: محمد حسن عبد الحافظ، الفنون الشعبية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، العدد (50) يناير- مارس 1996.
2. بول زومتور، مدخل إلى الشعر الشفاهي، ترجمة: وليد الخشاب، دار شرقيات، القاهرة، 1999، ص 86، 87.
3. أحمد مرسي، مقدمة في الفولكلور، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، القاهرة، 1995، ص 211.
4. زومتور، مرجع سبق ذكره، ص 87.
5. أحمد شمس الدين الحجاجي، مولد البطل في السير الشعبية، دار الهلال، القاهرة، 1991، ص 22.
** شاعر من أسيوط.
*** الاسم: رتيبة فرغلي رفاعي. الكنية: أم ثابت. السن: 75 سنة. محل الميلاد: قرية النخيلة، مركز أبوتيج، محافظة أسيوط. الإقامة: قرية النخيلة، مركز أبوتيج، محافظة أسيوط. الحالة الاجتماعية: أرملة منذ عام 1999 حتى وفاتها عام 2004، لها ثلاثة أولاد وبنت.
6. إِزَّيِّك: كييف حالك.
6. أم سابت: أم ثابت.
7. الصحه عاطله: عاطلة ؛ أي متدهورة.
8. حول: سنة؛ عام.
9. تعبر الراوية عن مشكلة ثأرية بين عائلتها وعائلة أخرى في القرية.
10. سيدنا القضب: سيدنا القطب؛ المقصود به شخصية الخضر، عليه السلام (اعتاد الناس أن يصلوا عليه حين ذكره، وسمعتهم في قرى أسيوط يرددون: سلام ورحمة الله وبركاته، حين يذكر اسم الخضر، لاعتقادهم في حضوره لحظة ذكره).
11. دخلو حدانا: دخلوا عندنا.
12. الأقطاب: جمع قطب ؛ وهُوَّ الولي.
13. أنا دلوختِ هاديب لكم من الأول: أنا الآن هاجيب (سآتي) بالقصة من أولها.
14. الدماعه: الجماعة.
15. يتهوو حواليه: يروحون عن أنفسهم حوله.
16. عبد المديد: عبدالمجيد.
17. يديب: يجيب؛ يأتي بـ.
18. ويوَرِّيْهُمْ اللي حاصل معاهم: ويريهم (يصور لهم) الأحداث التي مروا بها.
19. دكك: جمع دكة، وهي مقعد خشبي مثل المصطبة ذو مساند.
20. الوادب: الواجب؛ واجب الضيافة.
21. للساعة وحده: حتي الساعة الواحدة.
22. أبَّا: أبقي؛ أكون.
23. أصن: أستمع بإنصات.
24. استنط للكلام: أنصت إلى الكلام.
25. زودة: زوجة.
26. من عضا النبي: من نسل النبي.
27. لمالك: حتى؛ إلى أن.
28. اتوقفت: توقف حملها.
29. أنون النسوان: وجع النساء، خاصة في الحمل والولادة.
30. دلوقت: في هذا الوقت؛ الآن.
31. البتاتي: جمع بتية، وهي إناء معدني لحفظ الماء وغيره. الشعل: الشئ. ومثيل هذه الكلمة: البتاع. البلاليص: جمع بلاص. آنية فخارية لنقل الماء، أو حفظ الجبن أو العسل … إلخ.
32. مشوهره: وصف للمرأة التي أصابتها المشاهرة، والمشاهرة معتقد مصري يتمثل في حدوث إعاقة مؤقتة أو مزمنة تصيب العروس خلال الشهر الأول من زفافها، أو الأم حديثة الولادة. وللمشاهرة أسماء وأنواع مختلفة، بحسب نوعية العمل السحري الذي أصاب المرأة. ومن ثم، يأخذ ” فك ” هذا العمل أشكالاً مختلفة، بحسب السبب الذي أدي إلى المشاهرة. ويتصور هذا الاعتقاد أن الأم حديثة الولادة تكون معرضة هي وطفلها لمس الشياطين، ولعل هذا المصطلح (المشاهرة) مستعار من عدم انتظام الدورة الشهرية للنساء اللواتي يعانين من مشكلات في الإنجاب، مما شكل اعتقادًا بأن السر وراء إصابتهن هو في تعرضهن لقوى سحرية من جانب الكائنات فوق الطبيعية، مما يستلزم القيام بعدد من طقوس الاسترضاء لإزالة هذه القوى… (يُراجع: فارس خضر، بعض ملامح التغير في عادات الموت، رسالة ماجستير، المعهد العالي للفنون الشعبية، أكاديمية الفنون، 2002).
33. بتيه: أداة؛ وعاء معدني من الصاج أو الصفيح أو الألومنيوم لحمل الماء ونقله.
34. بلاص: آنية من الفخار لنقل الماء، أو لحفظ الجبن أو العسل.
35. مقلت: نظرت مليًّا.
36. ناكته عينها فيه: نكت الشيء غرسه ووضعه بإحكام. المعنى: نظرت إليه باستغراق، وركزت نظرها عليه. ومن التعبيرات المصرية الدارجة المشابهة: حطت عينها عليه، ويقولون منكوت أي مغروس وثابت.
**** شاعر رباب من مدينة ساحل سليم محافظة أسيوط، توفي عام 2000 عن 75 عامًا.
37. يِدَّوَّزْ: يتزوج.
38. دمال النبي: جمال النبي.
39. راجع: محمد حسن عبد الحافظ (محررًا)، المرأة المصرية ومآزق الفعل السياسي في مصر، مركز قضايا المرأة المصرية، القاهرة، 1998.
40.عبدالله محمد الغذامي، المرأة واللغة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الثالثة، 2006، ص 7.