موقع أرنتروبوس

نماذج من الأعمال الكولونيالية حول كيفية استعمار الجزائر (ج2)

Un couple algerien et un couple francais (pied noir) se croisent dans une rue d’Alger, annees 1920 ©Delius/Leemage

نماذج من الأعمال الكولونيالية حول كيفية استعمار الجزائر (ج2)

جمال معتوق

 

في مسألة المرأة والزواج والاستعمار:

تعد قضية المرأة والزواج من القضايا الهامة، بل المصيرية بالنسبة لازدهار واستمرار المستعمرة، كما أن الزواج حتى تلك الفترة التي كتب فيه بيلسيه هذا العمل، كان من أهم المؤسسات الاجتماعية، بل مؤسسة تسمح ببناء المجتمع٬ وهذا من خلال تزويده بالأفراد والعمل على تنشئتهم وفق المعايير والنظم السائدة. اليوم وإن كان الزواج كمؤسسة  قد تراجع بشكل كبير وفقد قوته وقيمته، فهذا راجع بالدرجة الأولى إلى التغير الاجتماعي والثقافي الذي عرفته ولا تزال المجتمعات الأوربية وعلى رأسها فرنسا، وظهور مؤسسات بديلة لمؤسسة الزواج٬ وخصوصا تراجع دور المؤسسة الدينية.

وحول موضوع المرأة والزواج في تلك الفترة وأهميتها في تعزيز وتقوية المستعمر، نجد Pellissier يقول: “يبقى النظر في جانب مهم جدا من المسألة، وهو النساء. الزواج، وهو حقيقة (قضية) جدية، قد يكون هناك خطر في التسرع في الأمر، لن يكون إجباريا حتى المرحلة الثانية، ولكنه سيكون اختياريا، ويجب تشجيعه بالنسبة لعائلاتهم -أي الكولون- والذين سوف يحصلون على حصة -دعم- مضعفة من المعونة.[1]

وفي نفس السياق٬ نجده يواصل شرحه حول الكيفيات التي بفضلها يمكن الحصول على امرأة، زوجة في المستعمرة، فيقول: “بالنسبة لوسائل تجنيد النساء، ظهرت أمامنا عدة وسائل وكيفيات: أولا: سيحدث أن العديد من المعمرين العسكريين، الذين يرون بأنهم قد استطاعوا أن يحصلوا على مراكز جيدة سوف ينادون  -يطلبون من- أولئك النساء اللواتي ربطتهم بهن مشاعر قديمة، الجزائر ليست بعيدة عن فرنسا والرحلة التي تفضلها الدولة، لن تكون طويلة ولا صعبة، أولئك الذين لن تحدد الذاكرة اختيارهم، يستطيعون منذ اللحظة العثور على رفيقات” في الجزائر، إما ضمن الطبقة العاملة، التي ازدادت بشكل كبير في المدن، أو ضمن عائلات المعمرين الذين استقروا بساحل الجزائر العاصمة، أو في ديار الأيتام. وسائل أخرى تعرض على العقل. لكننا في الحقيقة لا نجرؤ على الاقتراب منها في الوقت الحاضر…”[2]

حسب الكاتب هناك العديد من الطرق والكيفيات للحصول على زوجة، ومن بين هذه الطرق، البحث ضمن المعارف القديمة على شريك الحياة بالنسبة للمعمر (colon)، أو ضمن العاملات وأسر الطبقة العاملة وما أكثرهم، أو حتى على مستوى العائلات المقيمة في الساحل من عاصمة الجزائر، وأخيرا وليس أخيرا من بين الأيتام. المهم بالنسبة للباحث هو أن يكون هذا المعمر مستقر وله أسرة تساعده على هذا الاستقرار والطمأنينة النفسية في المستعمرة.

النظام الاستعماري العسكري، كما أعرفه: لن يكون له الصفة الحصرية. لا أنكر أن الاستعمار المدني لمنطقة الساحل قد أحرز بعض التقدم، إلا أنني لم أكن أفكر في أنه من الجيد الاستمرار في العمل في هذا الاتجاه، خاصة من خلال التغلغل في مداخل المستعمرة، أنني اعترف بأنها -المستعمرة- بفضل جهود جنودنا على ما هي اليوم من استقرار ووجود.

بالنسبة للاستعمار الحر والتلقائي، الذي اعتقد أنه عاجز جذريا في حد ذاته، من ممكن أنه بعد إنشاء الاستعمار من طرف الدولة، فإنه يأخذ، بفضله، التنمية في بعض المناطق ٬زيادة على ذلك، لا يوجد ما يعارض محاولة الرأسماليين في صنع  العجائب التي وعدوا بها، بشرط أن لا نبرم معهم صفقات خادعة وأن لا يأتوا إلى إفريقيا من أجل استغلال الفلاح وقتل الملكية الصغيرة.” [3]

نلاحظ من خلال هذا الكلام أن “بيلسييه” يفضل الاستعمار العسكري على جميع الأشكال الأخرى، إلا أنه لا يرى مانعا من وجود الأنواع الأخرى كالاستعمار المدني والحر٬ وهما شكلان قد يساهمان في تطوير وحماية المستعمرة. من جهة أخرى نجده لا يعارض الذين طلبوا بجلب كبار الرأسماليين إلى الجزائر من أجل توسيع الاستعمار والاستغلال الأمثل للخيرات، بشرط أن هؤلاء الرأسماليين يطورون البلاد وأن لا يكتفوا بخدمة مصالحهم المادية ونهب الخيرات واستغلال العمال الضعفاء.

نلاحظ بعد عرضنا لأهم الأفكار التي نادي بها المفكر والسياسي والضابط العسكري الفرنسي “ادموند بيليسييه” في كتابه “بعض الكلمات عن الاستعمار العسكري في الجزائر” أن هذا الرجل كان من كبار المناصرين للتوسع الاستعماري العسكري في الجزائر، كما أنه من الأوائل ممن نظروا للمسألة الكولونيالية.

لقد حاول “بيليسيه” جاهدا، تطبيق أفكاره السانسيمونية على مستعمرة الجزائر وذلك من خلال كيفية تنظيم هذه العملية٬ وخاصة بناء جيش المعمرين ٬وإيقاف التكاليف  المستعمرة ٬المادية والمعنوية٬ التي كانت تدفعها فرنسا . كان ينادي إلى أن تتحول المستعمرة إلى الخزان لمد فرنسا بالرجال والخيرات. يبقى كذلك أن هذا المفكر والسياسي الكولونيالي كان من كبار المناصرين للاستعمار العسكري على حساب الاستعمار المدني.

 

ثانيا: شارل بيكو: Charles Picot: استعمار الجزائرColonisation de l’Algérie سنة 1848

في هذا المبحث سنحاول عرض أهم ما جاء من أفكار متعلقة بمسألة الاستعمار في الجزائر من طرف شارل “بيكو” Picot في كتابه الذي يحمل عنوان: استعمار الجزائر Colonisation de l’Algérie والذي تم نشره سنة 1848 و أهداه للدوق دومال D’Aumale

يبدأ الباحث ورجل القانون “بيكو” Picot في تحليله وعرضه الخاص بقضية الاستعمار في الجزائر وما هي الكيفية أو الطريقة الأمثل لهذا الأخير قائلا: “يطرح الجميع في فرنسا هذا السؤال الذي له أهمية كبيرة في الوقت الحالي و هو  ” ما هو أفضل نظام استعماري ؟”[4]

يسجل أن هناك تباين كبير في المواقف حول هذه المسألة وأن الكل يحاول إرضاء الطرف الآخر بالكيفية أو الطريقة التي يراها هو الأمثل والأحسن بالنسبة للاستعمار، وعليه نجده يقول في هذا الشأن “كم هي كثيرة  التباينات بين الإجابات المقدمة وكذلك فيما يخض محاولاتنا التطبيقية ! يسارع البعض إلى دعم النظم الاستعمارية القديمة: حيث نجد من بينهم من يفضل الطريقة الاستعمار عند الإغريق، بينما الأغلبية تميل إلى الطريقة التي اتبعها الرومان وبمثابرة في استعماره، البعض الآخر، على العكس من ذلك متحمس للطرق الاستعمارية الحديثة، الاستعماري الانجليزي، والاستعمار الروسي.

الأنسب هو ترك جانبا هذه المناقشات التي ينخرط فيها المرء حول هذه الأنظمة الاستعمارية المختلفة، والتي يمكن أن يكون لها فوائد نسبية، ولكن بالتأكيد لا تتناسب مع العبقرية الفرنسية.”[5]

يواصل “بيكو” Picot تحليله لموضوع الاستعمار فيقول: “دعونا نحدد السؤال المطروح ولنسأل أنفسنا: ” ما هو النظام الاستعماري الذي من المحتمل أن يتجدر، والذي هو في نفس الوقت الأكثر فائدة للوطن الأم والذي يكلفه الأقل من الوقت والمال والدم ؟”[6]

مهما بسطنا السؤال، فإنه يظل مع ذلك غامضا ومجردا للغاية، وذلك راجع للتسرع في الإجابة على مثل هذا النوع من الأسئلة. إننا نخلق أنظمة حقيقية، أنني نبني نظريات بدون أساس، نظريات أكثر مجازفة وشراسة، دعونا نخرج من سحابة التجريد ونسأل أنفسنا مرة أخرى: “ما هو أفضل نظام استعماري في بلد كهذا ؟! ولنأخذ مثال الجزائر، ونطرح السؤال هكذا: “ما هو أحسن نظام استعماري في الجزائر بالنسبة لفرنسا؟”[7]

يضيف بيكو قائلا: “السؤال مطروح بهذه الكيفية، من وجهة نظره الحقيقية، يسمح لنا بالقول بأننا قد قمنا بخطوة كبيرة نحو الحل الجيد والمناسب، نحن نرى في الواقع أنه لا ينبغي أن نكون شغوفين بصفة عمياء بأساليب الاستعمار التي طبقتها الشعوب القديمة، وأنه سيكون من الخطير جدا إتباع نموذج الشعوب الحديثة.[8]

نلاحظ هنا أن هذا الباحث والمنظر الكولونيالي يسعى جاهدا للوصول إلى أنسب طريقة لاستعمار الجزائر، أي طريقة غير مكلفة لبلده فرنسا، كما أنه لا يريد الاعتماد على الطرق أو النظم الاستعمارية التي طبقتها الشعوب القديمة، يريد حلول وطرق فرنسية ، أي الاعتماد على العبقرية الفرنسية من جهة وكذلك على واقع المستعمرات من جهة أخرى.

رغم كل هذه التوضيحات إلا أن “بيكو” Picot يصرح:

“السؤال يبقى رغم ذلك معقدا، إنه يحتوي على موضوعين رئيسيين يجب فحصهما، ومعرفة جيدا خباياهما قبل اتخاذ قرار في مسألة ذات أهمية كبيرة بالنسبة لمستقبل فرنسا، دعونا نفحص، من ناحية، ما تتطلبه مسألة استعمار الجزائر، ومن ناحية أخرى، ما هو الهدف  الذي تسعى فرنسا تحقيقه، وما هي الوسائل الأسهل والأسرع لتحقيق هذا الهدف٬ وبطريقة مفيدة”.[9]

يسعى بعد ذلك الباحث “بيكو” Picot الإجابة على هذه التساؤلات الثلاثة ويقول بالنسبة إلى قضية ما يستلزم لاستعمار الجزائر: “معرفة ما يستلزم استعمار الجزائر ؟ أي معرفة :1 – ما هي الاحتياجات التي تكشف عنها في هذا البلد ؟

2-ما هي الأخطار التي تهدد المستعمرة وكيفية تفاديها ؟[10]

فيما يخص الاحتياجات نجده يقول: لأن المسلمين -أتباع محمد- لا يزرعون كثيرا وكون القبائل يجعلون الأرض تنتج فقط ما هو ضروري بالنسبة لاحتياجاتهم الخاصة، يجب  أن القول: إما أنه لا يوجد حماس فيما يخص الزراعة عند العرب من أجل إطعامهم، أو لان التربة التي احتلتها فرنسا خصبة جدا، يجب أن نقول أن استعمار الجزائر هو أصلا وقبل كل شيء فلاحة الأرض.[11]

هكذا٬ نقطة مهمة وأساسية، تتمثل في معرفة أنه يجب بالنسبة للجزائر معمرون يكرسون أنفسهم بحماس لخدمة الأرض: من الضروري وجود فلاحين، مربين للمواشي، مزارعي الكروم، باختصار، فإن تراب الجزائر، الذي هو الآن غير مزروع في أغلب الأماكن تقريبا، وبالتالي فهو غير كافي لإنتاج الغذاء الضروري لسد احتياجات السكان، يجب -هذا التراب- أن يزرع بكيفية ذكية ومستمرة، حتى ينتج كمية من المواد الغذائية تتعدى احتياجات السكان الذين يتزايد عددهم باستمرار.”[12]

الحل رقم واحد بالنسبة لمهمة الاستعمار في الجزائر يكمن حسب المفكر والإيديولوجي الكولونيالي “بيكو” Picot في إعادة الاعتبار للنشاط الفلاحي والزراعي في الجزائر. الأرض هي الحل لضمان الحاجيات المتزايدة للسكان سواء الفرنسيين أو المعمرين، ولهذا فهو ينصح بالزراعة وتربية المواشي وعقلنة النشاط الفلاحي.

بعد هذا نجده يتساءل بكيفية تهكمية عمن هم الكولون أو المعمرين الأوربيين الوافدين على الجزائر؟  فيقول: “الناس الذين يذهبون للإقامة في الجزائر هل يلبون هذه الحاجة؟ ألف مرة لا، حتى الآن رأينا رجالا يتهافتون على هذا البلد، بعيدا عن كونهم لائقين لتأسيس مستعمرة ناشئة، سيكونون وراء إحداث الفوضى والارتباك في مستعمرة مزدهرة بالفعل، نحن نرى الوصول إلى هناك كما كان موعد، من عدة بلدان اروربية، حشد من المغامرين والمضاربين، وللأسف الكل مرحب بهم”.[13]

الآن أنا أتساءل هل من المغامرين، المكونين من مجموعة حقيرة من الرجال، بدون جنسية وعديمي الأخلاق والذين رؤوسهم مملوءة بالأحلام المظلمة والخيالية، هل مع هؤلاء يمكننا جعل الاستعمار ينشط على الطريق المزدهر الذي نريده ؟ لا ليس مع هؤلاء المشاغبين والفوضويين ، ولكن مع رجال متخلقين ومثابرين في العمل، يمكننا انجاز النقد المنشود”.[14]

ثم يعطينا أكثر توضيحا ومعلومات حول من يذهبون إلى الجزائر من معمرين أوربيين فيقول: “عندما يذهب المضاربون إلى الجزائر مع بعض الأموال القليلة لمضعفاتها بقروض ربوية، يستثمرون أموالهم عند الأربعة عشر، في الثلاثين، في الخمسين وحتى المائة في المائة، والذين يضمنون دفع رأس المال والربا، مع تغطية الرهون العقارية لهذه المباني التي كانت ذات يوم مجانية؛ إن مثل هؤلاء المضاربين يفسدون الثقة ويهددون قواعد الاستعمار الضعيفة ويستنزفون كل الطاقات.

هذه آفات يجب على المشاعر الفرنسية المتفقة مع الدين، أن تطردها من الجزائر”[15]

نلاحظ هنا مدى اهتمام هذا الباحث بمصالح بلاده فرنسا وحرصه على الدفاع عنها ضد أطماع المضاربين الوافدين من باقي الدول الأوربية إلى المستعمرة الجزائر. يطلب من فرنسا بطرد هؤلاء المغامرين الذين لن تجني معهم فرنسا شيء سوى المشاكل.

يوصل “بيكو” Picot كلامه قائلا: “قبل الانتقال إلى الأخطار التي تهدد المستعمرة، يجب أن نقول بعض الكلمات عن نظام يستحق بعض الثناء، لكنه لا يلبى جميع الاحتياجات، نظرا لهيمنة فكرة المخاطر التي يتعرض لها المعمرين (الكولون)، من طرف الأهالي٬ نجد أحد ألمع ماريشالات فرنسا، يقترح الاستعمار عن طريق فيالق عسكرية، مكونة من جنود قد انهوا خدمتهم العسكرية . بصرف النظر عن الحقيقة٬ أن هذا الوضع لم يكن مناسب للزواج -تكوين الأسر -، إلا أنه كذلك لا يستجيب للاحتياجات الحقيقية. في الواقع وكما قلنا، في الجزائر الاستعمار هو الزراعة”.[16]

يعرض “بيكو” فكرة تقدم بها احد الماريشالات في الجيش الفرنسي ٬وهي إرغام بعض الجنود الذين أنهوا خدمتهم العسكرية بالاستثمار في الجزائر والاستقرار بهذه المستعمرة، و تقديك لهم إغراءات و تحفيزات مادية. وهي فكرة قد أشار إليهم العديد من المنظرين من السانسمونيين وكذلك فورييه وأنصاره، دون أن ننسى توكفيل و غيره من المنظرين الكولونياليين٬ إلا أن لم يتم الاتفاق على هذه الأفكار. فقد تم  جلب المعمرين من أقطار أوربا وفرنسا وإعطائهم الأراضي والدعم المادي بالإضافة إلى ضمان الحماية لهم عن طريق إنشاء الثكنات العسكرية الصغيرة والكبيرة الحجم٬ عوضا من تشجيع الجنود على الاستقرار في الجزائر بعد انتهاء  مدة الجندية.

كذلك نجده يرفض فكرة استبدال المعمرين المدنيين بالعساكر كون هؤلاء يفتقرون إلى أدنى المعارف حول النشاط الفلاحي والزراعي٬ وكذلك تربية المواشي. كما أن هذا التحول من جندي إلى فلاح أو مزارع يفقدهم الملكات العسكرية.

وختاما لهذا المطلب نجده يقول: ” وبالتالي، فإن المطلوب في الجزائر هم مستوطنون حقيقيون، رجال قادرون في جميع الحالات على حرث الأرض بمهارة بواسطة المحراث والدور، رجال يعرف كيفية تربية القطعان الجميلة، على هذا الشرط فقط، ستجعل فرنسا من الجزائر أرض خصبة، وتولد الوفرة هناك، وتشهد ازدهارا متزايدا لمستعمراتها هناك”.[17]

بعد هذا ينتقل “بيكو” Picot إلى المخاطر التي تهدد الاستعمار الفرنسي في الجزائر، فنجده يقول: “المخاطر التي تهدد المستعمرة بشكل رئيسي هم اثنان، من ناحية، المناخ نفسه، ومن ناحية أخرى كراهية السكان الأصليين للمسيحيين والأجانب”[18]

وحول مخاطر المناخ الجزائري يقول بيكو: “إن مناخ الجزائر سوف يعرض الفرنسيين دائما لمخاطر جسيمة، إن الأعمال العظيمة التي أنجزتها الحكومة الفرنسية أو قامت بها لتصريف مياه المستنقعات ولتطهير المستعمرة  سوف تقلل بلا شك من هذه المخاطر ، ولكنها لن تقضي عليها بصفة نهائية.”[19]

وحول كيفية مواجهة تحديات المناخ الجزائري والمخاطر التي تفتك بالمعمرين والجنود الفرنسيين، نجد “بيكو” Picot يواصل تقديم شروحا ته، حيث فيقول: “ستتوقف مخاطر المناخ على مستقبل المستعمرة، إذا أرسلنا معمرين يتراوح سنهم ما بين الثمانية عشر والخمسة العشرين عاما، إذا كانوا ينتمون إلى أسر فقيرة، وقد اعتادوا بالفعل على الفلاحة وسوء الأحوال الجوية في المواسم المختلفة. الشباب الذين هم في هذه الأعمار نجدهم يتميزون بالقوة، ومثل هذا النوع من الرجال، الأقوياء بالفعل وذوي الأيدي الخشنة، سينتصرون بسهولة على المخاطر، وسوف يعتادون عليها تماما في النهاية. لقد تربوا على العمل في الحقول، فلن يطولوا في تبني النشاط الزراعي الأنسب للجزائر.  هؤلاء المستعمرون المولدون من عائلات فقيرة، سيحصلون بسهولة بفضل الزراعة على الرفاهية والتي سيسعون على زيادتها -تحسينها -٬والتي ستساهم بقوة في تخفيف الألم الذي يعاني منه المرء في مكان بعيد -الغربة -عن الوطن الأصلي والأسرة.”[20]

نلاحظ أن هذا المفكر قد فكر بعقلانية وذكاء في كيفية مواجهة المخاطر الناجمة عن المناخ في المستعمرة، ولذا فهو يقترح على بلده فرنسا، إرسال المعمرين شباب إلى الجزائر٬  و أن لا يتعدى أعمارهم الخمسة والعشرين سنة وأن لا يكونوا أصغر من ثمانية عشر سنة وهذا حتى يستطيعوا التكيف مع الأحوال المناخية والبيئية لهذه المستعمرة. كما أنه يطلب من بلده أن يكونوا هؤلاء المعمرين الجدد من الفقراء والمتحكمين في النشاط الزراعي والفلاحي وهذا حتى يمكن لهم ضمان نجاح التوسع الاستعماري الفرنسي في الجزائر والاستفادة من الأراضي الزراعية وكل ما تحتويه هذه المستعمرة من خيرات.

لم يتوقف “بيكو” عند هذا الاقتراح بل نجده يضيف اقتراح آخر وهو: “لا تزال هناك طريقة أخرى للتخفيف من الندم والأسف المرير للمعمرين: هذه الوسيلة تتمثل في لم شمل أولئك الذين ولدوا في نفس المنطقة، الذين ولدوا في نفس المحافظة، وبقدر الإمكان٬ أولئك الذين هم من نفس الدائرة، ومن نفس البلدة،، ومن نفس الكانتون Canton. أنه من سوء فهم الطبيعة البشرية تماما تجاهل مدى تأثير المجتمع الأصلي على معنويات وصحة وسعادة الأشخاص البعيدين عن الرابطة الأسرية. سيساهم هذا المجتمع الأصلي بقوة في ربط المعمرين -المستعمرين -إلى الأبد بشكل أوثق للبلد الأم، وسوف يساهم بقوة في تحقيق العدالة والأخوة بينهم. ستنتج هذه الأخوة بدورها أعظم المزايا وسيكون المستعمرون -المعمرون -أكثر حرصا على مساعدة بعضهم البعض والدفاع عن بعضهم البعض. علاوة على ذلك فإن هذا المجتمع الأصلي – من المعمرين – سقيم، إذا جاز التعبير، علاقات جماعية بينهم وبين آبائهم الذين بقوا في فرنسا، إذا كانوا سعداء، فسوف يوحدون جهودهم لمضاعفة الهجرة المفيدة حقا للمستعمرة، ولتسهيل الزيجات التي سوف تمنح المعمرين الفرنسيين والسكان الأصليين.”[21]

وحول المخاطر الأخرى التي تهدد المستعمرة واستقرارها، أو بالأحرى الوجود الاستعماري الفرنسي٬ يقول “بيكو” Picot: “دعونا نرى الآن الأخطار التي تهدد المستعمرة من جانب العرب.

ستستمر كراهية السكان الأصليين ضد المستعمرين لفترة طويلة، لأنها إذا صح التعبير، وطنية ودينية، ربما ستحتفظ دائما بجذورها العميقة، ولن تسمح -الكراهية -أبدا بالاتحاد أو الانصهار الكامل بين الفرنسي والعربي، بين المسيحي وأتباع محمد.[22]

ومع ذلك فمن المؤكد أنه يمكن تخفيف الكراهية بشكل كبير. يجب بالضرورة أن نتخذ كل الوسائل الممكنة لتهدئة مشاعر الكراهية لدى العرب. من الضروري أيضا، اتخاذ كافة التدابير الكفيلة بحماية المستعمرين من انتقام السكان الأصليين.[23]

بعد الوقف عن مصدر الخطر والتهديد للوجود الاستعماري الفرنسي في الجزائر والمتمثل في السكان الأصليين وبالخصوص العرب والدين الإسلامي، ينتقل هذا الباحث إلى تفسير أسباب هذه الكراهية اتجاه الفرنسيين والمسيحيين من طرف العرب المسلمين وخاصة كيفية التعامل مع هذه المشكلة التي تقف في طريق فرنسا بالجزائر، فيقول: “هذه هي الوسائل التي يمكن من خلالها تخفيف كراهية السكان الأصليين.

عندما الحكومة الفرنسية تفكر في إنشاء مستعمرة صغيرة في مقاطعة ما، يجب أن تبدأ أولا بالتواصل مع شيوخ القبائل للتفاهم معهم لتحديد سويا، على أساس الاحتياجات الحقيقية للسكان الأصليين، الأراضي التي يجب الاحتفاظ بها بشكل عادل، والأراضي التي يجب أن تنتمي للمستعمرة. بعد وضع هذا التنظيم والاتفاق حوله، وتحديد الكانتونات المحجوزة للمستعمرة، من المفيد للغاية أن أنشأ المستعمرة يتم وفق الاحتياجات الأساسية والرعاية السعيدة. ولذلك فإنه من الضروري، أن يقوم الحاكم العام للجزائر بإشراك الأمير الذي هو بمثابة الضامن الكبير لنجاح عملية الاستعمار والتعمير٬ بتثبيت المعمرين بشكل علني ٬ بحضور القبائل المجاورة٬ المجتمعين لهذا الغرض .[24]

وحول دور هذا الحاكم العام والمتمثل في شخص الأمير الذي يمثل الدولة الفرنسية نجد “بيكو” Picot يقول: ” يخفف من مخاوف السكان الأصليين بالقول لهم: إن الرجال الذين يجلبهم إليهم – المعمرين – هم أناس مجتهدون وعادلون، ليس لديهم ما يخشونه منهم، لا على ممتلكاتهم ولا على حريتهم المدنية والدينية، – أن المستعمرين بعملهم الدؤوب سيزيدون من خصوبة الأرض وجودة المحاصيل، وبهذا سيزيد من الوفرة التي ترجع بالفائدة على الجميع وتساهم في سعادتهم، – يجب على السكان الأصليين أن لا ينظروا إلى المعمرين كأعداء، بل كإخوة – وأن للجميع مصلحة مشتركة وهي الحماية والاتحاد ضد الأعداء المشتركين الذين سيأتون لتخريب المحاصيل وسرقة القطعان.”[25]

يواصل توصياته، فيقول بعد ذلك، من الضروري أن يتحد المستعمرين (المعمرين) والسكان الأصليون بكيفية صريحة، وأن يلتزموا بشكل متبادل باحترام الأشخاص والممتلكات، وحماية بعضهم البعض، وجمع قواهم للدفاع عن بعضهم البعض ضد الأعداء المشتركين.[26]

وحتى يتم تنفيذ هذه الإجراءات والقضاء على الكراهية والمواجهة ٬يقول “بيكو”  Picot أخيرا، يجب أن نسن قوانين صارمة للغاية ضد أولئك الذين تسول لهم نفسهم في المستقبل انتهاك العهود المبرمة.

بالنسبة لكافة الناس، جدية الالتزامات، هي الضامن الكبير والأساسي لتنفيذها، ولكن خاصة مع العرب حيث تصبح أساسية”.[27]

وحول كيفية ربح السكان الأصليين وتفادي هجمات العرب، يقول “بيكو” Picot،: “للتصالح بصفة قوية مع السكان الأصليين، يجب أن يكون المستعمرون – المعمرون – جديين في العمل، وكذلك بلا شك إذا تم الحرص على اختيار الرجال المناسبين للزراعة، وإذا كانت لديهم إمكانيات للحصول على الرفاهية بفضل العمل.

فالمثال عن العامل الذكي و المثابر للمستعمرين سوف لن يتأخر في دفع العرب إلى الاقتداء به وتقليده. هؤلاء يمتلكون الآن مساحات صغيرة -أقل -من مساحات المعمرين، سوف يسعون من خلال النشاط الزراعي، إلى زراعة أفضل ودائمة، والزيادة في المداخل والثروة وكذا سعادتهم.”[28]

نلاحظ من خلال هذا الكلام أن “بيكو” ينتظر الكثير من الزراعة والنشاط الفلاحي في المستعمرة٬ حيث يعد هذا النشاط الوحيد الكفيل بإحداث التغيير والتقارب بين كل من المعمرين والسكان الأصليين. كما أنه يرفض جلب من هب ودب من الأوربيين إلى مستعمرة الجزائر، بل يطلب بانتقاء فقط الشباب ذو الخبرة والميل للنشاط الزراعي والفلاحي. وأن تصدى الأبواب في وجه المغامرين والطفيليين، الذين لا يفكرون في خدمة المستعمرة ومصالح فرنسا بقدر ما يفكرون في الثراء وخدمة مصالحهم الشخصية.

ولهذا نجده يقترح ما أسماه بالحلول العملية وهي العمل الزراعي والفلاحي لتقريب المعمرين من السكان الأصليين. يعتقد أنه بإمكان فرنسا أن تربح السكان الأصليين في الجزائر من خلال تحسين أوضاعهم المعيشية، متناسيا أن حب الوطن  يمر قبل البطن، وأن الجزائري لا يفرط في أرضه مهما كان الثمن أو التضحيات.

وحول كيفية اقتداء السكان الأصليين بالمعمرين، نجده يقول: “ومع ذلك تجدر الإشارة إلى أنه ليس فقط من خلال عملهم، ولكن أيضا من خلال سلوكهم الأخلاقي والديني، سيتمكن – المعمرون – من التوفيق بين التقدير والثقة وبعض الصداقة للسكان الأصليين، إذا كانوا فعلا عادلين ومنصفين ٬ومن خلال سلوكهم الأخلاقي والديني، فسوف يحدث اتحاد متين بينهم وبين العرب”.[29]

بعد هذا يختم هذا المبحث الخاص بمعنى “الاستعمار” والاستيطان وكيفية إدارته وشروط نجاحه في المستعمرة بالانتقال إلى حماية المعمرين والمستعمرة من السكان الأصليين العرب، قائلا: “لمنع مثل هذه المصائب وحماية المستعمرين – المعمرين – وممتلكاتهم من كراهية السكان الأصليين، يجب أن تكون المستعمرة قوية بما يكفي لحماية نفسها من أي هجوم، هذا ما سيحدث، من ناحية، إذا كان كل المستعمرين مسلحين ومنضبطين.

يواصل “بيكو” Picot كلامه، قائلا: على الرغم من استخدام كل هذه الوسائل التي هي في حد ذاتها مناسبة جدا لإقامة علاقات دائمة أساسها الإحسان والصداقة بين الرجال إلا انه لا ينبغي أن يعتقد بصفة عمياء، إنها ستمنع أي شكل من أشكال التمرد أو الانتقام من جانب السكان الأصليين. على الرغم من العهود والمواثيق، على الرغم من الاستسلام الذي قدمه الأمير عبد القادر والذي يعد بمثابة حدث مشجع لتطور العمل الاستعماري، إلا أنه لا يزال يتعين على الحكومة أن تراقب بصفة دائمة، ويقظة مصير المعمرين – المستعمرين – لأنه إذا رآهم العرب أعزل فسيكون هناك سبب للخوف من أن يرتكبوا في حقهم بعض أعمال التعصب التي لا يمكن نسيانها، أو بعض المذابح المروعة.”[30]

نلاحظ من خلال هذا الكلام مدى حقد هذا الباحث والسياسي على العرب وعدم الثقة فيهم، حيث يصفهم بناقضي العهود، والتعصب والاعتداء على الأفراد العزل. وهي مجرد أكاذيب فالعرب وخاصة الجزائريين هم أناس يحترمون من يحترمهم ولا يعرفون التعصب والهمجية التي تكلم عنها.

فالأجدر كان بهذا الباحث أن يكون منصفا في أحكامه وخاصة وأنه من الذين كانوا من السباقين في القدوم إلى الجزائر، مباشرة بعد احتلالها، وقد رأى بأم أعينه ماذا فعل الجيش الفرنسي وضباطه بالسكان العزل من مجازر وتدمير للبنية التحتية للبلاد.

يضيف بيكو: ” لمنع حدوث مثل هذه المصائب وحماية المعمرين وممتلكاتهم من كراهية السكان الأصليين٬ يجب أن تكون كل مستعمرة قوية بما فيه الكفاية لحماية نفسها من أي هجوم. هذا ما سيحدث إذا كان كل المعمرين مسلحين ومنضبطين ومدربين على فن الحرب (القتال)٬ من ناحية أخرى ٬ إذا كانوا مجمعين على شكل وحدات يتراوح عدد الواحدة منها٬ أربعة إلى ستة ألاف ٬ حسب ما تتطلب حالة المستعمرة الصغيرة والمسافة التي يمكن أن تأتي منها المساعدة.  وبهذه الطريقة لن يحتاج المعمرون إلى قوات لتحميهم٬ وبالتالي ستنخفض النفقات التي كانت تتكبدها فرنسا للحفظ على جيش كبير في الجزائر. بل يصبح من الممكن تجنيد القوات الأزمة من بين المعمرين الفرنسيين والتي يحتاج إليها الحاكم العام. “.[31]

بعدما تعرفنا عن معنى الاستعمار عند “بيكو” وما هي العوائق التي تقف في طريقه والمتمثلة في المناخ وطبيعة التضاريس من جهة وكراهية السكان الأصليين للأجانب وبالخصوص الفرنسيين والمسيحيين، يقترح علينا كما رأينا سابقا هذا الباحث والسياسي الكولونيالي من أجل الحفاظ على المستعمرة وازدهارها، استصلاح الأراضي واستغلالها في النشاط الفلاحي والزراعي مع جلب شباب يحب الزراعة وتربية المواشي وهذا لتعمير المستعمرة بدلا من إقدام المغامرين والانتهازيين من أوربا الذين همهم الوحيد هو الكسب.

وفيما يخص القضاء على المخاطر، فهذا حسب رأي “بيكو” Picot لن يتم إلا بتلبية حاجات السكان سواء الأوربيين أو العرب، والعمل على تقريب هؤلاء وزرع المحبة فيما بينهم.

كما إن الباحث يطلب بعدم الثقة العمياء في السكان الأصليين٬ والعمل على إحداث وحدات دفاع متكونة من الكولون مدججة بالأسلحة ومدربه على فنون القتال وهذا لضمان الأمن وحماية الأرواح والممتلكات ضد هجمات العرب.

وهي نفس الفكرة التي وجدنها عند العديد من المنظرين الاستعماريين ٬ من أمثال توكفيل أتباع فورييهFourier و كذلك الأب انفنتانPère Enfantin  زعيم السانسيمونية بعد وفاة مؤسسها. الكل يطالب بالسماح للمعمرين بتكوين وحدات دفاع ذاتي ضد ما أسموه هجمات واعتداءات العرب. بالإضافة على مراقبة نشاطات وأعمال المعمرين في الجزائر حتى لا يكونوا دولة موازية لفرنسا في الجزائر.

تبقى أعمال ‘’بيكو” من أكثر الأعمال المساندة للمشروع الاستعماري التوسعي الفرنسي في الجزائر٬ وهذا لما قدمه من أراء ومقاربات في هذا الباب.

 

الهوامش:

[1] Ibid ,p. 15

[2]–  Ibid ,p.15

[3]– Ibid , p. p. 16 – 17

[4]-Jean-Bonaventure-Charles Picot: colonisation de l’Algérie، Moquet Libraire-éditeur، Paris 1848,p.01

[5]– Ibid, p. 01

[6] – Ibid, p. 2

[7]–  Ibid, p. 2

[8]–  Ibid, p. 2

[9] -Ibid, p. 2

[10]– Ibid, p .p.2 – 3

[11] -Ibid, p. 3

[12] – Ibid, p. 3

[13]–  Ibid, p. 3

[14] – Ibid, p. p .3 – 4

[15] – Ibid, p. 4

[16]–  Ibid, p .p. 4 – 5

[17] – Ibid, p. 5

[18] – Ibid, p. 5

[19]– Ibid, p. 6

[20]–  Ibid, p .06

[21] – Ibid, p. p. 06 – 07

[22]–  Ibid, p. 7

[23]  -Ibid, p. 8

[24] – Ibid, p. 8

[25] – Ibid, p. 8

[26]– Ibid, p. 8

[27] – Ibid, p. 8

[28]–  Ibid, p. 8

[29]– Ibid, p. 9

[30]–  Ibid, p. 9

[31]– Ibid, p. 9

Exit mobile version